![]() |
9 - 7 |
|
كروان السودان الراحل |
||
بقلم : صلاح الباشا... الدوحة |
مصطفي سيد احمد والغناء للوطن |
من العوامل
الأساسية التي جعلت الكروان الراحل مصطفي
سيد احمد يلتقط الكلمات الجميلة هي أنه قد
كان يمتلك موهبة فائقة ويسكب في القصيدة
جهداً لحنياً متميزاً ويوثقها في كاسيتات
قبل رحيله حيث أنه كان يعرف أن معاناته ستكون
نهايتها الرحيل في أية لحظة ، فالراحل كان يقرض الشعر منذ زمن
مبكر ، نعم ... كان مصطفي عليه رحمة الله يكتب
شعراً جميلاً قبل أن يظهر في كل الإجهزة في
منتصف السبعينات ، وقد تمثل ذلك في تلك
الرائعة التي كانت بمثابة مدخل للغناء ، أو
كما نسميها في السودان (
رمية) باللغة الفصحي ، وبعدها تأتي باللغة
الدارجة أغنيته الخالدة ( غدّار دموعك ما
بتفيد ) ، حيث كتب مصطفي في المدخل يقول : لا
تنبش الماضي البعيد ألم
تكن يوماً لقلبي.. واقعاً
مجهولا لا
تنكأ الجُرح القديمَ فإنني
ودعتُ ليلاً .. مظلماً
وثقيلا وحملتُ
روحي في فؤادٍ نازفٍ ما
زال يحمل نصفهُ مشلولاً وخلعتُ
أثواب الحداد أما
كفي إذ صار قلبك في
الهوي ضِلـّيلاً حيث
تتواصل تلك القصيدة ليبدع الكروان في الترنم
بها كالموشحات الأندلسية ، ثم يدخل بالغناء
في الأغنية المعروفة ( غدار دموعك) التي يقال
أن شقيقه الأكبر الراحل المقبول سيد احمد
المقبول قد بدأ في كتابتها ولكنه لم يكملها ،
ثم أكملها مصطفي فيما بعد عقب وفاة أخيه حين
كان يقول فيها: غدّار
دموعك مابتفيد لي
زول حواسّو إتحجرت جرّب
معاك كل السبل إيديهو
ليك ما قصرت حطمت
في قلبو الأمل كل
الأماني الخدّرت كلماتو
ليك ضاعت عبس لا
قدّمت .. لا أخّرت ما
كنا وقت الليل يطول تشرق
نجوموا وتنكتم ما
كنا.... ويطل
شعاع.. يكشف قناع والظُلمه
ترحل وتنهزم وجفونها
.. من طول السهر تلبس
وشاح .. حُرقه وألم نستبشر
اليوم الجديد ونقول
تعود .. إنت العشم كيف
العشم وكتين يموت والغصة
تطعن في الحلق كيف
الحنين وكتين يهز لي
زول بعيد .. مابتلحق
عاشت تلك الأغنية بكل مفردات الأسي التي
تطغي عليها قد عاشت مجداً طويلاً في منتصف
سبعينيات القرن الماضي ، حيث كانت بداية
موفقة جداً للكروان الراحل في ساحة الغناء
في السودان ، ذلك ... لأنها كانت تحتوي علي
مفردات حزن بائن وحسرة واضحة ، وقد أتت
متوافقة مع تراث وعادات وأحاسيس شعب السودان
في ميله الشديد لهذا اللون من فنون الغناء
والذي له ملامح غناء ( المناحات) المنتشر في
التراث الغنائي بالسودان .
وفي غربته القليلة بالدوحة قبل رحيله
فيها أتت الأغنيات الرمزية المثيرة ، فهناك (
عم عبدالرحيم) الشهيرة التي كتبها الشاعر (
حميد) وقد كانت تحمل في جوفها كل لغة (
الشايقية) بمفردات نطقها اليت تقلب الهاء (
ياءً) كما نعلم ، وهي ذات طعم لذيذ ونكهة
جميلة ، وهناك أغنية شهيق لعاكف خيري ،
وأيضاً (لمحتك) للأستاذ عبدالقادر الكتيابي
في بدايات مصطفي الأولي ، ثم ( علي بابك) وهي
من أجمل ما تغني به الكروان في سنواته
الأخيرة لأنها ذات مضامين جديدة ، وقد وةجدت
نفسي كثيراً مع لحن ومفردات هذه الأغنية
التي ظللتُ أسمعها بإستمرار ومداومة شبه
يومية سواء في التسجيل أو في شريط فيديو حفل
الكروان الراحل الشهير الذي أقامه قبل وفاته
بقليل في فندق شيراتون الدوحة بدولة قطر،
ولنري ماهو الشيء الذي وجده مصطفي وشاعرها
علي ذلك الباب: علي
بابك .. نهارات
الصبر واقفات بداية
الدنيا .. هن واقفات وكم
ولهان.. وكم طاير بعد
نبّت جناحو وراك لملم
.. حَر ندامتو خُطاك قطع
شامة هواك .. من قلبو إلا
هواك... نبت تاني علي
بابك.. وقف تاني الغمائم
.. شاقي غصن الليل
وهي
فعلاً فيها كثافة حزن أيضاً بائنة ـ فإن قلنا
أنها رمزية ، فبلا بد من أن نسأل ، ترمز لماذا
؟؟ ولقد وصلتُ أخيراً إلي بعض قناعة ربما
أكون محقاً فيها أو لا أكون، وهي أن الشاعر
ربما كان يعلم بأن مصطفي سيد احمد حينذاك كان
يعاني قسوة آلام الفشل الكلوي بعد فشل زراعة
الكلية لأول مرة في موسكو ثم حضر إلي الدوحة -
وهذه القصة سوف نسردها في الحلقة الأخيرة من
هذه الأضواء - و ربما أراد شاعرها أن يرثي
مصطفي ، لأنه ربما كان يشعر بأن نهايته قد
أزفت ، وقد قيل أن مصطفي أيضاً كان يجد نفسه
كثيراً مع تلك الأغنية وكان يؤديها بكمية
حُزن هائلة وكان لحنها أيضاً في غاية الهدوء
ولا ضجيج لسرعة الإيقاعات في ذلك اللحن،
ونواصل مفرداتها : مسافر
فيها وحداني وبدون
جنحين يغنِّيك..
الهناء المافي يغنيلك..
رهافة حِسّو ويفني
.. علي جديد آمالو ويحلم
.. بالشتاء الدافيء علي
بابك .. نبت تاني وقدُر
ما يمشي.. في
نور الزمن خطوات يلاقي..
خطي السنين واقفات يلاقي
هواك .. نبت تاني وعلي
بابك.. وقف تاني وملأ
الساحات يرحمك
الله يا مصطفي ، فستظل إبداعاتك كما الجبال
الراسيات في مسيرة تاريخ الفنون والآداب
السودانية كلها علي الإطلاق ، إذ لا يمكن أن
يأتي إنسان في ظل ظروف الكروان الراحل وعلي
مدي أربع سنوات فقط قضاها متعالجاً بالدوحة
أن يقوم بتأليف أكثر من مائة لحن عاطفي ووطني
ورمزي يتحدث عن كل معاناة أهل بلاده وشوقهم
للحياة المرفهة الرغدة، وقد
وجد معظم شباب شعراء السودان الوطنيين في
الكروان الراحل كل آمالاهم في أن يقوم
بتوصيل رسائلهم الشعرية إلي شعب السودان في
كل مكان من هذا الكون الواسع. ونتوقف
قليلاً عند مفردات قصيدة الشاعر الصادق
الرضي التي تغني بها الكروان وهي التي
إشتهرت تحت عنوان ( غناء العُزلة ضد العُزلة)
حيث يقول مطلعها: الحزن
لا يتخير الدمع ثياباً كي
يسمي بالقواميس بكاء هو
شيء يتعري .. من
فتات الروح يعبر
من نوافير الدم الكبري ويخرج
من حدود المادة السوداء الحزن
فينا كائنُُ .. يمشي علي ساقين
فالكروان الرحل مصطفي سيد أحمد كان يفهم
ويعرف دوره الوطني جيداً ، لذلك فإن شعب
السودان لايزال يقدّر تماماً كل تلك الأعمال
الإبداعية التي أتت وهي ترسم لوحات للوطن
تبرز فيها إصالة شعب السودان وصبره ، وقوة
تحمله ، ثم تعرض تلك الأعمال الفنية أيضاَ
كمية الوجد العفيف الذي ظل شعراء السودان
يحيلون به ظلمات الليل الداكن الطويل إلي
صباحات جديدة مشرقة يظللها الأمل بأن
المستقبل لا بد أن ينحاز لمصلحة هذه
الجماهيرالصابرة التيظلت تضرب أروع الأمثلة
في التمسك بحقها المشروع حتي بدأت تهب عليها
رياح الحرية التي إنتزعتها إنتزاعاً
متمهلاً بعد زوال تلك القبضة الحديدة
الستالينية البالغة القسوة والتي وبإذن
المولي عز وجل لن تعود أدبياتها بكل
سلوكياتها السياسية الظالمة إلي ساحة العمل
الوطني مرة أخري ، فالجماهيرقد أعادت بعض
حقها بمجاهداتها وبإسنانها الحادة القاطعة
، فكان مصطفي سيد احمد يأمل في تحقق كل تلك
الإيجابيات يوماً ما ، ولكن القدر لم يمهله
ليري آثار ونتائج آماله التي كتبها شعراؤه
بتلك المكنونات الإبداعية التي كانت تدعو
إلي كل قيم الخير والجمال لشعب بلاده. ونواصل
الأضواء حول إبداعات الكروان الراحل في
الحلقة القادمة،،،، |
الصفحة8-9 | الصفحة 6-9 |