9 - 6

كروان السودان الراحل

بقلم : صلاح الباشا... الدوحة

    مصطفي سيد احمد والغناء للوطن

     أنتج الكروان فنياً في سنواته الأخيرة معظم الأعمال الشعرية الرمزية الراقية التي كتبها إبن (نوري) المقيم بالسعودية محمد الحسن سالم ( حُميد) ، ذلك الشايقي الذي كتب شعراً كثيفاً يحمل بين جوانحه كل الحب للحبيبة ( الوطن) ، وقد كتبه فأتي يفيض بكل ألوان الجمال المتناثرة هناك كحبات اللؤلؤ في السودان الغالي ، السودان الوطن الحدادي مدادي كما قالها محجوب شريف ذات يوم. فقد تغني الكروان للحبيبة الوطن من أشعار المبدع ( حُميد) لطيبة التي نخالها فتاة سودانية تستحق مفردات الوجد ، ولكن تصبح (طيبة) الأغنية والأهزوجة هي كل أرض السودان بلا إستثناء:

كل ماتباعد بينا عوارض

كل ماهواك ياطيبه مكنـِّي

تلد الغربه.. القـُرب الواحد

وبيك أسمِّي الشوق.. وأكنـّي

لما أفوتك من دون خاطر

أو دون خاطر مني تفوتي

بلقي حبايب في كل حته

وكل بيوت الفـُقرا بيوتي

 ولعلنا في تلك الأبيات نلاحظ أن الأشواق قد إستبدت بالشاعر في حراكه وصراعه المرير مع آلام الغربه وتيارات الأشواق للحبيبه ( البلد) ، وهو هنا يعبر عن كل تراكمات المعاناة التي تمددت في ساحة الوطن ، ولذلك فقد كان الكروان لها ، فأنجز لحناً متنوع المقاطع والنقلات الإيقاعية لأغنية (طيبة ) ، وبالتالي فإن الشاعرحميد حين كتبها فإنه كان علي ثقة بأن الكروان سيبذل قصاري جهده ليسمعها الناس بتلك الترانيم الشجية ، لتتواصل المفردات الطيبه حين يصف أطفال السودان الذين ضغطهم حزام الفقر وقسوة ومظالم ما يسمي بتحرير الإقتصاد وقد هدّ المرض أجسادهم تماماً فيقول في ذلك:

تبن الشوق الصبرو.. مصوبر

للأرياف الكم وفتني

للأطفال الناشفة ضلوعها

ونازفه .. بغني

أطمِّن روعها.. وأهدِّي دموعها

ببسمة بكره.. اللاها تمني

ولامصنوعه

للأطفال الناشفه ضلوعها

ونازفه ... بغني

أغني لشعبي.. ومين يمنعني

أغني لقلبي .. إذا لوّعني

واريت غنواتي .. في ناس شغاله

تكون سنداله..وعود طوريه

ضراع رجّاله.. كتاب اطفالا

وجملة بالها.. المامكريه

بَقـّت فالا.. وسدّت مالا

في ليلة الدُخله.. علي أسمَى قضيه

 وتتواصل تلك الملحمة التي تحكي عن قضايا أمة وتعكس هموم شعب ، ممزوجة بمعاناة الأطفال الناشفه ضلوعها.

     ومن ذات الأفق .. أفق الغربه المؤلم ، يطل علينا أيضاً دكتور بشري الفاضل من مهجره بمدينة جده ليكتب للكروان عملاً فيه كثافة وجد وزحمة عُشق وحزمة أشواق ومعاناة جيل بأكمله ،  عمل شعري  رفيع وفيه مفردات أيضاً جديدة ، فهي تأتي وقد كساها جمال التعبير المرهف ، فيختلط الوطن بالعشق النبيل ، فكانت تلك الأغنية الرشيقة:

نفسي في داخلِك أعاين

 وأروي روحي وأشوف منابعك

الصحرا ء في عينيّ  تتواثب جناين

ماخده صوتِك من جداول

وشايله صورتِك من كهارب

مولداً .. ميدانو حافل

كل ما يصبح تجيهو الناس جحافل

ياسلام.. ياسلام

****

   ألم نقل أن لغة شعراء السودان قد دخلت في تطور رمزي جديد ، ألم نلحظ فيها أن الشعر قد إمتزج بقضايا الناس الأساسية وقضاياهم العاطفية في نفس الوقت ، وبذلك نكون نحن شعباً متفرداً في التعبير تحت أكثر الظروف صعوبة عن أشواقنا للحبيبة ( الفتاة) والحبيبة( الوطن) حتي أصبحنا لانفرق بين الإثنين ، وهذا هو جمال الإبداع السوداني المتميز، ولذلك فقد سكن هذا الغناء الرفيع داخل كل بيت في السودان الماهل الواسع ، بل في كل المهاجر التي وصلها السودانيون إبتدا ءً من براري كندا وحتي نيوزيلندا . 

  وتتواصل إبداعات د. بشري الفاضل مع أنغام الكروان في ذلك اللحن الرشيق لنري كيف تتم مخاطبة (مشروع الشوق) ممزوجاً بمعاناة الناس في الشوارع:

لما تعبـُري في الشوارع

شوفي كيف الناس تصارع

شوفي كيف.. شوفي كيف

ناس تطفـّر... وناس تدفـّر

في البشابي علي نجومِك

وفي البـِخُب.. كايس تخومِك

وكل زول .. من عند سُلافك

لا.. لا.. قال دايرلو.. كاس

ياسلام .. يا سلام

  ثم تدخل القصيدة في مسار آخر ، وتنتقل إلي أرقي درجات العُشق  ، وكان الكروان يترجم تلك المفردات العجيبة ويكسبها لحناً رهيفاً يخاطب مشاعر الناس بتلك الترددات الكورالية حيث تقول الكلمات هنا:

مرة طربان .. شلت صوتِك

شان أغني

وقلت آه ياليل وآه

آه وآه .. ياليل  وآه

إنتِ أول .. وإنتِ تاني

وإنتِ تالت.. وإنتِ رابع

نافره زي صيد الخلا

وساقيه زي نبع المنابع

وقلتِ لي .. غناي خلاص

ياسلام.. ياسلام

    ولازال لتلك الأغنية الرشيقة بقية من جمال وقد إختتم بها الشاعر د. بشري الفاضل لوحته لتكتمل زينتها ، حيث نري  وصفه لعيون الحبيب بتوظيفه ملامح فرحة أهل السودان بقدوم الضيف ،  وفرحته أيضاً بجمال خلق الأصحاب وحسن معشرهم ، فكان بذلك يرسم لوحة إبداعية في عملية الربط بين فرحتنا بقدوم ضيوفنا ، بطريقة لم يتم طرقها من قبل في لغة الشعر الغنائي ، ولنري ذلك:

حلوة عينيك... زي صحابي

عنيدة كيف!!

تشبه شريحتين من شبابي

وزي عنب طول معتق ..في الخوابي

وسمحه.. زي ماتقول

ضيوفاً .. دقوا بابي

وفرحي بيهم سال ملأ

حتي الكبابي

       ولا نريد هنا أن نضيف أي تعليق عن هذا الجمال الذي أظهره لنا الكروان الراحل.

أما إذا تحدثنا عن أجمل ماكتبه شعراء السودان للكروان من داخل الوطن ، فإننا يجب أن نتوقف طويلاً لنتأمل مفردات ذلك الشاعر الذي ظل علي الدوام يعبر عن هموم (الغبش) منذ أن بدأ كتابة الشعر ، فهو بلاشك مزارعي الملامح والنشأة ،  نتوقف عند إبن الجزيرة الشاعر محمد طه القدال المشهور شعبياً بالسودان بشعره المنتمي لقضايا جماهير الريف السوداني حين كتب تلك التي كم كان يغرد بها ذلك الكروان الراحل مصطفي سيد احمد :

بقول غنوات.. واقول غنوات

في البلد البسير جنياتها .. لي قدّام

وللولد البتل ضرعاتو

في العرضه..

ويطير في الداره .. صقريه

ولو السمحه .. تلت إيد

ومدّت إيد

يقوم شايلاهو .. هاشميه

  وهنا يحكي المبدع القدال عن تراث شعب وتقاليد أمة وأعراف مجتمع لم تتزح في يوم من الأيام عن أدبيات أهل السودان ، لما في ذلك من عراقة ظل يحكيها الشاعر القدال وهو يثق تماماً بان الكروان الراحل سيخرجها للناس في أحلي الثياب اللحنية ذات التطريب العالي ، وقد فعلها الكروان ، حيث وضع لها لحناً إنتقل فيه كعادته إلي عدة إيقاعات حتي تأخذ المفردات وضعها تماماً لتسكن داخل خيال شعب السودان ، وتتواصل مفرداتها :

يا سمحاتنا هو لبلب

ويا قمحاتنا هو لبلب

ويا اللوز الفتق في الوادي

هو لبلب

ويا البحر الطمح مدّادي

هو لبلب

ويا حجواتنا .. يا صلواتنا

هو لبلب

سألتك بالذي ركز الأرض معبد

وسوّي الفاس عليها مقام

سألتك بي حشا الأمُّات

ودمعاتنا

سألتك بي كبيداتِن

ودعواتنا

شليل وين راح

يكون ضُل الخريف فاتنا

شليل وين راح

وزي برق السماك

الجابها دُغشيه

وزي زغرودة البطن الكباريه

مرق من شامة القمرا

ومقدم بالعديل يبرا

تعالوا أبشروا .. يا جنيات

شليل ماراح

شليل مافات

شليل عند المسورو حِرق

بقالو حصاد

شليل فوق التقانت قام..

خدار.. وبلاد

ثم تستمر القصيدة الملحمة في مسارها العجيب ذاك لتبرز كل مجاهدات مزارعي السودان  حيث تزدحم الأغنية بمفردات ربما لا يعرفها إلا من كان قريباً من مجتمع المزارعين ويعرف جيداً (الونسة المهنية) لذلك المجتمع الذي تأتي مجاهداته بكل خير الزراعة لشعب السودان ، فإذا نجح الموسم إنبسط الشعب ومزارعوه ، وإن فشلت الزراعة فإن ذلك المزارع ( الغلبان) يتحمل هو فقط حجم الخسائر ، خاصة إن كانت وراء عملياته الزراعية ذلك الشبح المخيف وهي ( المرابحات الإسلامية) العالية الفائدة  بواسطة بعض البنوك الشرهة التي أفقرت شعب السودان تماماً وإغتني منها قلة قليلة يكسوها طمع الدنيا ونعيمها الزائل للدرجة التي أعمت قلوبهم وأبصارهم ، فيصبح المزارع المسكين ومعه كل أملاكه في خبر كان.

وتستمر إعمال الكروان في أداء دورها الخالد في حركة الفنون والإبداع بالسودان ، وإلي الحلقة القادمة ،،،، 

 

الصفحة7-9 الصفحة 5-9

 

راسل الكاتب

معلومات عن الكاتب