كانت السيارة الفخمة تتهادي علي مهل في الشارع المحاصر علي ضفتيه بالقاذورات وجيوش المتسولين والأطفال المشردين ومعاقي الحروب وغيرها، كانت ثمة موسيقي أجنبية حالمة تخرج من جهاز التسجيل فتبدو العربة من الداخل كأنها تتمايل مع الأنغام،والزجاج المظلل يحجب شمس الخرطوم اللافحة عن بلوغ من بالداخل ولكنه لايحجب رؤيتهم لمن وما هو بالخارج،كان الوسيلة جالساً وحيدا ممسكا بمقود السيارة بأصابع رشيقة ناعمة يحسبها من يراها أصابع أنثي ولا يتخيل أبدا وجود صلة بينها وبين تلك الجثة الضخمة خلف المقود لذلك الرجل الذي يزحف نحو الستين، كان الوسيلة مشغولا بإجراء عمليات حسابية معقدة للعائد المتوقع للمشروع الذي أنهي لمساته الأخيرة قبل قليل(مشروع أرض الخير) الذي باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ،أبتسم ابتسامة صغيرة وهو ينظر إلي لحيته الصغيرة في مرآة السيارة حين تذكر تلك الابتسامة الذئبية لشريكه الوزير وهو يوقع علي الأوراق ويدفع بها الي مدير مكتبه الثعلبي الملامح، كانت الابتسامة تعني الكثير،عاد الوسيلة الي الواقع منزعجا حين لمح أحد المعاقين يعبر الشارع فجأة دون اكتراث، لعنه في سره، ورفع قدمه تدريجيا عن دواسة الوقود وداس علي الفرامل، لم تستجب الفرامل، داس عليها ثانية، لكنها لم تستجب، كانت المسافة قد ضاقت بينه وبين المعاق أنحرف بالسيارة يمنة فتفاداه بالكاد ثم أعاد السيارة الي الشارع مرة أخري،جرب الفرامل ثانية بلا فائدة فأنتابه قلق حقيقي،حاول تهدئة السرعة فلم تستجب دواسة الوقود لتعليماته، بات القلق هلعا،انطلقت العربة لاتلوي علي شئ، ظل يجاهد خلف المقود محاولا تفادى إصطدامات وشيكة بين الفينة والأخرى، يميل يمنة ثم يسرة، يدوس علي الفرامل مرارا بلاجدوى ،فالعربة صمت أذنيها عن تعليماته،أغلق المحرك بالمفتاح لكن الماكينة ظلت تهدر بلا توقف كأنه لم يفعل شيئاً ارتسم علي وجهه فزع مماثل للفزع الذي رآه علي وجوه المارة الذين غازلتهم السيارة وكادت تدهسهم،ركز جهده علي التحكم باتجاهات السير فقد كان ذلك هو الأمر الوحيد المقبول عندها،واصل الالتفاف يمنة ويسرة حتي تمكن بالخروج بالعربة من المدينة الي طريق المرور السريع، لم تتوقف العربة، ظلت الماكينة تهدر وكأنها تضحك ضحكة شريرة قاسية هازئة منه، لعن نفسه علنا حين تذكر أنه أعتاد منذ أن بات عنصرا حكوميا فاعلا ان يملأ خزان عربته الخاصة من وقود الحكومة حتي يسيل خارجا ويتدفق ، هدرت العربة وظلت تنهب الطريق كأنها تطوي سجادة عن الأرض،قال لنفسه: أي شيطان هذا الذي سكنها وأمسك بها من قرونها ؟! بزغت في ذاكرته صورة أهل الكمبو الذين كان وراء إخلائهم منه بغية بيعه الي مستثمر قادم علي متن طائرة من بلاد تموت من النفط حيتانها، تري هل هو كجورهم الذي يمسك بالعربة من قرونها الآن؟! هل هذا صوت الماكينة أم صوت طبولهم وهم يرقصون رقصة حرب بدائية ويتمتمون بتعاويذ سحرية ليحترق ويتفحم في سيارته؟!.....بكي بصوت مسموع وحاول عبثا التحرر من حزام الأمان ليقفز من السيارة المسرعة، لكن الحزام بات عصيا على أياديه بات ممسكا به بقوة كأنه جزء أصيل من مؤامرة إحراقه حياً الافتراضية، بكي وأخذ يتمتم بما يحفظ وماتبقي في ذاكرته من آيات القران في هلع جعل الكلمات تختلط،ازدادت السرعة وعلا هدير الماكينة، غشيته سكينة مفاجئة فسكن في مكانه واشتعلت ذاكرته بالصور المتدفقة، مر أمام عينيه شريط حياته كاملاً في تلك اللحظات، أدرك في الحين واللحظة فقط أنه طوال حياته كان عربة بلا مكابح، بلد وزراً غاضباً من بلدوزرات البلدية التي تجيد الاستئساد على الفقراء وبيوتهم الطينية وتقف عاجزة أمام القصورالمنهوبة أرضاً وعمارةً وسيارات راضعات من وقود الحكومة بلا حساب،لمعت في شاشة ذاكرته توسلات تلك الفتاة التي ألقي بها فقرها تحت عجلاته، داس عليها بلا رحمة،كان أصماً وأعميً ووحشا لاقيود ولامكابح له حينها،شراستها لم تزده إلا شراسةوشهوة،يتذكر لحظة انكسارها وسكونها الذي يشابه سكون الموتي،أتراها هي التي تمسك بالعربة من قرونها الآن؟!تتابعت وجوه كثيرة في شاشته:وجوه اولئك الذين أعدموا بناء علي تقرير كذوب عكف ليال علي نسجه من خياله مضيفا اليه وقائع تقود الي أعدام حمامة غشيت مورد ماء في وقت وردت الماء فيه خيول يشتبه أنها للأعداء، ثم وجه ذلك الخمسيني الذي أنتحرفي بيت مستأجر لأنه لفق له تهمة رشوة حتي يزيحه من الطريق حين بات سدا أمام نهر أحلامه،ثم لمع في الشاشة وجه ذلك الموظف الذي كتب فيه مالم يكتب مالك في الخمر فظل يتنقل مجبرا بين المدن والقري بغية إجباره علي الإستقالة، كانت حقائب الرجل التي ملت الرحيل فيما يبدو هي التي منعت المكابح العمل، فصرخ الوسيلة متوسلاً: (إعطني فرصة سيدي وستعود حقائبك الي مكانها، سأكذب نفسي علنا،...) كان صوت المحرك أعلي متخذا شكل ضحكة طويلة هازئة، يغيب وجه الموظف حامل حقائب الرحيل ويملأ الشاشة وجه ذلك الذي دس له الوسيلة مجموعة محترمة من قناديل البنقو في حقيبته وأردفها ببلاغ من مجهول حادب علي الوطن ،فبات الرجل محكوم مؤبد كاذب في سجن لانوافذ فيه. وتتابعت الصور والوجوه والقصص فصرخ الوسيلة بجنون: (حكمت المحكمة عليك بالسجن المؤبد في جوف الطريق....حكمت المحكمة عليك بالتأمل العميق بلا رفيق في عربة بلا مكابح علي طول الطريق) ثم أخذ يقهقه بلا توقف ولامكابح...كانت العربة تسير الآن بجنون متجهة الي الضفة الأخرى بصيدها الثمين، كانت الموسيقي الاجنبية وبرودة جهاز التكييف يختلطان مع قهقهة لاتتوقف، بغتة ارتفعت العربة عن الأرض تدريجيا، لملمت عجلاتها كما تفعل الطائرات عند الإقلاع ووثبت كقطة ماكرة صوب الهاوية علي جانب الطريق، ثم دوي الإنفجار، وتصاعد اللهب. .
صلاح الدين سرالختم علي
8/9 مارس 2013
مروي/الخرطوم
المفضلات