شهادة الدكتورة خالدة زاهر في كتاب د. فاطمة بابكر محمود، "المرأة الأفريقية بين الإرث والحداثة"*



في كتابها "المرأة الأفريقية بين الإرث والحداثة"، خصصت الدكتورة فاطمة بابكر محمود فصلاً، تحت عنوان "شهادات طليعيات سودانيات"، يتضمن شهادات حية عن واقع وتحديات الحركة النسائية السودانية، وقد كانت شهادة الدكتورة خالدة زاهر أول هذه الإفادات.

كانت الأسئلة الموجهة من الدكتورة فاطمة بابكر للإجابة عليها هي:

• أين أنتِ من الخطاب التحرري للمرأة؟

• ما هي نشاطاتك التي عبرت وتعبرين بها عن انحيازك لتحرر المرأة؟

• هل انضممت للاتحاد النسائي، أم لم تنضمي له؟ هل انضممت ثم استقلت؟ هل انضممت وفتر حماسك؟ ولماذا؟

• ما رأيك في الفكر النسائي الغربي؟

• هل هناك علاقة بينه وبين الدعوة لتحرر المرأة في أفريقيا والسودان؟

• هل تؤمنين بوجود، أو بإمكانية وجود حركة نسوية دولية عالمية؟

• ما رأيك في الخطاب النسوي في السودان الآن تحت ظل نظام الجبهة القومية الإسلامية؟

• ما هي أهم المحاور أو المكونات النظرية لتحرر المرأة السودانية في نظرك؟

• كيف ترين مستقبل الحركة النسائية السودانية؟

• من أنت كامرأة؟


فيما يلي تعريف المؤلفة بالدكتورة خالدة زاهر، تليه مباشرة الشهادة التي أدلت بها:




خالدة زاهر الساداتي


من مواليد أمدرمان العام 1926. تلقت تعليمها في مدارس الإرسالية، ثم التحقت لدراسة الثانوي العالي بمدرسة الاتحاد الثانوية للبنات بالخرطوم. تخرجت من مدرسة كتشنر الطبية كأول طبيبة سودانية، في العام 1952. نالت دراسات عليا في كل من سلوفاكيا والمملكة المتحدة، حيث تخصصت في طب الأطفال. كانت آخر وظيفة لها هي مديرة قسم أمراض الأطفال في رئاسة وزارة الصحة. قضت كل حياتها العملية في السودان إلى أن أحيلت للمعاش في العام 1986. أسست مع فاطمة طالب أول تنظيم نسائي في المنطقة في العام 1947. كانت أول امرأة سودانية تعتقل لأسباب سياسية عند مشاركتها في حملة الاحتجاجات على "الجمعية التشريعية" العام 1948. رائدة من رواد الحركة النسائية السودانية والأفريقية، وأول امرأة تلتحق بعضوية الحزب الشيوعي السوداني.



لم يعد الخطاب التحرري الآن كما كان عليه قبل 50 عاماً من هذا القرن وهو يشرف على نهايته. بالنسبة لنا في السودان بعد الحرب العالمية الثانية ومع حركات التحرر من الاستعمار الغربي وإشراك المرأة بفاعلية في هذه الحركات، بدأت المرأة تنتظر إلى نفسها ووضعها الذي لم يتغير كثيراً ولذلك بدأت بالمناداة بالمساواة، الخروج للعمل، التحرر الاقتصادي، التحرر من التقاليد البالية. أما الآن، فقد تغير الوضع إلى حدٍ ما في نواحٍ كثيرة، فالخروج من المنزل، والتعليم والتحرر الاقتصادي أصبحت نسبياً مسلمات، كحق الانتخاب والالتحاق ببعض الوظائف العليا. ومع ذلك لا زالت المرأة في العالم عامة وفي السودان خاصة ترزح تحت نير التخلف والجهل والقوانين المجحفة التي استحدثتها هذه الحكومة. لذلك أرى أنه لا بد من تغيير الخطاب التحرري للمرأة والأسلوب الذي تعالج به مشاكل اليوم. إن المرأة تضيع الساعات منها في العمل المنزلي، البحث عن الماء والوقود، العمل المرهق في المزرعة، تدهور صحة الأمهات والأطفال مع التدهور العام في الصحة عموماً للشعب، الحرب ومعاناة النساء والأطفال. وهناك العديد من المشاكل الأخرى. لذلك يجب أن يعاد النظر في الخطاب التحرري للمرأة ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين.



لا أدري بالضبط متى بدأت أشعر بأن المرأة مضطهدة وكيف يمكن للتعبير والسخط على ذلك الاضطهاد، وأنه لا بد من عمل شيء. ولحسن حظي، فإن استمراري في التعليم ودخولي الجامعة في الخرطوم (كلية الطب) أعطاني فرصة لم تتوفر لكثير من بنات جيلي، وتعبيراً عن ذلك الإحساس بدأنا أول حركة نسائية عام 1947 مع الأستاذة فاطمة طالب إسماعيل رحمة الله عليها، ومعنا مجموعة من الفتيات والصديقات وأسميناها "جمعية الفتيات الثقافية". وكان أول بند في الدستور هو بث الوعي القومي وسط النساء والتعليم؟ لذلك بدأنا عملنا في المدارس المسائية للنساء. كان هذا مع اشتداد الحركة الوطنية والمطالبة بالاستقلال. ولكن الرابطة لم تستمر أكثر من أربع سنوات، والسبب عدم الخبرة، وقلة التجربة، وصغر سن القائمات بها، والتقاليد المقيدة لحركة النساء ثم الخلافات التي بدأت بين الأحزاب وانعكست على المرأة كذلك.


نعم انضممت للاتحاد النسائي، بل كنت إحدى المؤسسات اللاتي حضرن أول اجتماع تأسيسي للاتحاد في أواخر عام 1951، وتكون الاتحاد النسائي في يناير كانون الثاني 1952. ولم استقل ولم يفتر حماسي إلى اليوم ولم يقل إيماني به مع كل ما عاناه الاتحاد من انقسامات، وربما أخطاء، وتعطيل مستمر من السلطة. وأتمنى من الشابات في "الاتحاد النسائي" أن يعدن النظر في موقفهن من الاتحاد، وتحديث الخطاب التحرري، مع نقد السلبيات وذكر الإيجابيات التي لولاها لما وصلت المرأة السودانية إلى ما وصلت إليه الآن.


لا أدري كيف أحدد موقفي من الفكر النسائي الغربي. لقد قرأت الكثير عن الحركات النسوية في الغرب، وعن حركت الفيمنيزم Feminism ولا زلت أقرأ. وقد أعجبت ببعض منها. وهناك أشياء لا زلت أستغرب لها. نحن نساء أفريقيا بالذات، نختلف عن نساء الغرب والعرب في الشرق الأوسط، نحن نتمتع بحرية فطرية أكثر، ونشارك في العمل اليومي، ونتمتع باحترام الرجل أكثر. ليس لأننا نساء، ولكن لأننا شريكات أولاً. طبعاً هناك الكثير من عدم المساواة والكثير من الاضطهاد الذي تعاني منه المرأة الأفريقية، ولكن ما يحدث للمرأة في الغرب يدعو إلى العجب. وبعد ما حدث في الغرب من التغييرات الاجتماعية بعد الثورة الصناعية، والحربين الأولى والثانية، وحصولهن على الحقوق السياسية والاقتصادية إلى حدٍ ما، لا زلنا لا يتمتعن بالمساواة الكاملة في الحياة العامة نسبياً. وربما كان اختلاف الثقافة، والعادات والتقاليد، والدين، والاختلاف بين ثقافتهم التي تقوم على الفردية وثقافتنا التي تقوم على الجماعة، كل هذه الأشياء مجتمعة تزيد من الفوارق بيننا وبينهم على ما أظن. إن نساء الغرب يعانين من ما أسميه "عقدة الديكور"، إذ لا زالت وسائل الإعلام تتعامل مع النساء بهذا المفهوم، وإن العلاقة تقوم على الجنس وليس على العلاقة الإنسانية. ثم إن نقل الفكر النسائي الغربي الذي يريد الغرب نقله يقوم على الاستخفاف patronisation وليس على الندية ومعرفتنا بما ينسابنا. ولذلك لا أرى أن هناك علاقة بين الفكر النسائي الغربي وبين الدعوة لتحرر المرأة في أفريقيا، لأن نظرة الوصاية التي تنظر بها المرأة الغربية ليست مقبولة منا. وكما قلت، إن أولوياتها مختلفة، والخلفية مختلفة. نحن لا زلنا نبحث عن الأمان من الحرب والجوع والمرض والتخلص من الحكومات العسكرية. صحيح أن المرأة الأفريقية تشارك في العمل في الخارج والداخل، ولكنها لا تتمتع بالمساواة ولا بالمشاركة في اتخاذ القرار. إن النساء في الغرب يعشن في استقرار، في مجتمعات تمتلك الثروة والعلم والتكنولوجيا، وإن ما يفعله إعلامهم لا علاقة له بواقع الحياة في أفريقيا. ولذلك، فإن المثل "ما حك جلدك مثل ظفرك" ينطبق على الحركات النسائية في أفريقيا عموماً والسودان خصوصاً.


إن الحركة النسوية السودانية حركة أصيلة تنبعث من وجداننا نحن السودانيات تحت ظروفنا الخاصة الحسنة منها والسيئة. وقد تمكنا عبر نضالنا الطويل أن نواصل العلم والوعي للنساء السودانيات، وبهذه الروح تمكنا من أن تكون حركتنا من الحركات الأولى في تكوين "اتحاد النساء الأفريقي". إن ما بيننا وبين الحركات الأفريقية أكثر مما بيننا وبين الحركات الغربية من ناحية الثقافة والعادات والتقاليد. ولكن ظروف موضوعية كثيرة جعلت اتصالنا بالغرب أكثر من اتصالنا بأفريقيا.


ربما أمكن وجود حركة نسائية دولية. لقد حضرت منبر المرأة في العام 1985 في نيروبي، عاصمة كينيا. وفي ذلك المهرجان الضخم الذي أقامته الأمم المتحدة بنهاية عقد المرأة، كنت أؤمن إيماناً تاماً بأن المرأة وصلت للقمة، ولكن حدثت ضربة فظيعة من الخلف للحركة النسائية العالمية. هناك دائماً أمل في المستقبل ألا تتولى الحركة النسائية في الغرب الوصاية على الحركات الأفريقية والنسوية الأخرى وتنقل أفكارها للأخريات. لا مانع لدينا لأخذ بعض تجاربهن للاستفادة منها وعدم تكرار أخطائهن، ولكن من دون وصاية.


إن الخطاب النسوي تحت نظام الجبهة القومية الإسلامية في السودان تراجع إلى الخلف، مثلما تراجع كل شئ في السودان. لقد فقدت المرأة السودانية حتى الحريات التقليدية الموروثة من الثقافة السودانية، وأصبحت ترزح تحت ضغوط دينية مستوردة من دول متخلفة لم تعكس يوماً تطلعات الشعب السوداني ولا المرأة السودانية. إن حال التجهيل وعدم الوعي الذي تفرضه هذه الشلة على الناس لا بد أن ينجلي قريباً، وقريباً جداً.



إن أهم المحاور النظرية لتحرر المرأة السودانية هي: أولاً: التعليم وبث الوعي بمطالبهن. لقد سبب الجهل الكثير من المشاكل. وتسببت قلة المعرفة في الإيمان بالدجل والشعوذة وقبول كل ما يقال لهن. ثانياً: الاستقلال الاقتصادي. فكلما اعتمدت المرأة على الرجل اقتصادياً، كلما رضيت بكل أنواع الاضطهاد. ثالثاً: الاتجاه إلى المرأة في الريف، فقد ظللنا على مدى نصف قرن تقريباً، ونحن نركز على عملنا في المدن ونناقش قضية المرأة من وجهة نظر نساء الحضر، بينما نجد أن 85 بالمائة من النساء يعشن في الريف والقرى الصغيرة على مستوى القطر. ولهؤلاء مشاكل تختلف تمام الاختلاف عن نساء المدن. إن هؤلاء النسوة يقضين يومهن في جلب الماء والوقود وصنع الطعام والعناية بالأطفال، ولا تتوفر لهن حبة أسبرين حينما تصاب الواحدة منهن بصداع، أو تجد القابلة المدربة لكي تساعدها في الولادة، أو الممرضة أو الزائرة الصحية، ناهيك عن الطبيب. لا بد أن تكون أولوياتها مختلفة.


لقد درجنا نحن من نسمي أنفسنا "رائدات" الحركة النسوية السودانية على أن نتحدث عن "الاتحاد النسائي" ونشير إشارة عابرة إلى "رابطة الفتيات الثقافية" ـ التي هي في الحقيقة أول تنظيم نسائي ـ وما تمخض عنها من انقسام جمعية "النهضة النسائية"، ثم اندثار الجمعية وقيام "الاتحاد النسائي"، ثم الانقسامات والتكوينات الأخرى للحركة النسائية، مثل "الجبهة النسائية" وكثير من التنظيمات النسائية الإسلامية. إن كل ذلك يصب في تاريخ الحركة النسائية. بل وحتى الحركات والهيئات التي تكونت في زمن حكم عبود أو "اتحاد نساء السودان"، في عهد نميري، كل ذلك برهن على وجود حركة واسعة وسط النساء، سواءً كانت مستقلة، أو تحت عباءة السلطة. وكلٌ لها تأثيرها مهما صغر. لذلك أرجو من كل من يتصدى لكي يؤرخ للحركة النسوية السودانية أن لا ينسى ذلك. إني أرى أن الحركة النسائية قوية الجذور. ومع أنها تعرضت لكثير من الاضطهاد والتوقيف، إلا أنها لم تمُت، بل ازدادت قوة تحت كل المسميات. لذا، أرى أن الساحة مفتوحة وتسع جميع النظريات، وكما يقول المثل السوداني "الحشاش يملأ شبكته"، والمستقبل للجميع.


من أنا؟ أنا امرأة سودانية عادية أحبت وطنها وحبتها الحياة بظروف غير عادية بمقاييس زمان: أسرة متعلمة وواعية سياسياً، ووالد مثقف وقارئ ووطني غيور، وأم مع أنها لم تذهب إلى مدرسة، لكنها واعية. وبعد ذلك زوج مثقف ومحب. ووجدت الجو الذي ساعدني على أن أقدم ما قدرت عليه في خدمة بنات وطني والحمد لله.





* د. فاطمة بابكر محمود، "المرأة الأفريقية بين الإرث والحداثة"، دار كيمبردج للنشر، 1995