بين «العندليب» و«أمير الشرق»

بقلم : نشأت الامام

 


لا يختلف اثنان في أن (اخوتنا) المصريين يمجدون عظماءهم بطريقة تجعل منهم مثالاً ليس في مصر فحسب، بل على نطاق الوطن العربي بأكمله، ولعل الدراما هي المرآة التي تعكس صور الماضي لتجعل منه حاضراً نعيش مع أبطاله ونشاركهم فيه أحلامهم وآلامهم وحياتهم، فيصبحون جزءاً من الوجدان الجمعي للأمة..

ودونما استرسال مفرط في هذه الأعمال المقدمة سواء كانت مسلسلات أو أفلاماً، نحاول أن نأخذ مثالاً مما قدم هذا العام، وهو مسلسل العندليب، الذي أنتجته مؤسسة «العدل جروب» وهي المؤسسة التي رعت اختيار العندليب في مسابقة نظمت من قبل برعاية قناة «ام بي سي» وشهدنا كيف تمت تصفية المتسابقين في حلقات من الترقب، حتى تم اختيار النجم شادي شامل لتتم بعد ذلك رعايته وتأهيله وتدريبه حتى يتسنى له القيام بهذا العمل الضخم والذي يجسد فيه شخصية أعظم مطرب عربي في القرن الماضي..

والمسلسل تناول الحقبة التاريخية التي عاشها عبد الحليم بكل تداعياتها وفي كل جوانبها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لذا فان الاعداد لهذا العمل تطلب الكثير من الجهد والعرق وبذل المال لتجاوز أية هنات تاريخية، فالمختصون الذين استعان بهم المنتج جسدوا مختلف التخصصات، وعرض عليهم المسلسل وأعيدت كتابة بعض الأشياء التي رأوا أنها تحيد -ولو قليلاً- عما حدث فعلاً، لذا خرج العمل بهذا البريق الآسر الذي يكاد يخطف الألباب، معيداً إلى الواقع الفني العربي سيرة الفنان عبد الحليم حافظ، وبث هذه السيرة في أجيال ولدت بعد رحيله..

قادنا لكل ما أسلفنا بعض من أخبار وردتنا عن سير العمل في الانتاج السوداني لمسلسل «أمير الشرق» بأيدٍ مصرية، وأسف عميم اعترانا من تخبط يعانيه المسلسل هناك، مما يجعلنا نكاد ندق الرأس في «الحيط» حسرة على أكثر من 2 مليون دولار تم انفاقها هناك والعمل يتوكأ على أخطاء لا تعد ولا تحصى،

استعرضنا الكيفية والاستعداد اللذين تم بهما انجاز المسلسل المصري (العندليب) الذي عرض في رمضان لهذا العام، واستطاع منتجو العمل انتاج مسلسل بمواصفات حرفية عالية، ومحاولات حثيثة لتقديم عمل يداني الواقع وأجوائه في تلك الحقبة التي شهدت حياة المطرب العربي الأشهر عبد الحليم حافظ..

واستبشرنا خيراً مطلع هذا العام ونحن نسمع أخباراً عن نية صادقة في انتاج مسلسل سوداني يجسد حياة البطل عثمان دقنة (1840-1925م) أحد قواد الثورة المهدية، والذي كُني بأمير الشرق، ولعل استبشارنا كان مرده الامكانات الضخمة التي تحدث عن توفيرها القائمون على هذا العمل، اذ أن علة الانتاج الدرامي عندنا تكمن في ضيق ذات اليد، وهذه العقبة ان تم تجاوزها فحتماً سيقطع العمل شوطاً بعيداً في النجاح..

لكن بعضاً من تخبط لايزال يرمي بظلال محبطة على سير العمل في مسلسل «أمير الشرق» والذي تتم هذه الأيام عملية التصوير له، فبدءاً باختيار البطل الذي سيجسد شخصية عثمان دقنة، وكان مرشحاً لهذا الدور الفنان المصري الكبير كمال أبو رية لكنه اعتذر، وتم اختيار أحمد عبد العزيز، واعتذر أيضاً لنفس سبب أبو ريه وهو عدم الاتفاق على الأجر، إذ أنهما الاثنان يعدان من فناني الصف الأول في مصر، وأخيراً وقع الاختيار على الفنان جمال عبد الناصر وربما موافقة جمال تجعلنا نصل لترتيبه في صفوف الفنانين المصريين..

وان كان ثمة اعتراض على اختيار الممثل، فليس لأن الممثل مصري أو غيره، فقد رأينا السوري جمال سليمان يقوم بدور البطولة في مسلسل من صميم الحياة المصرية في مسلسل «حدائق الشيطان» ونجح في ذلك للحد البعيد، لكن اعتراضنا على الكيفية التي تم بها اختيار الممثل، وعن المعايير التي حددت وجوده، بعيداً عن الجانب المادي، لأننا نرى أن اختيار الشخصيات التاريخية في المسلسلات الناجحة يتم بدقة متناهية، وبكثير من التمحيص والدراسة، فـ«العندليب» مثلاً تابعنا الجهد الذي بذل في اختياره، وأدوار تاريخية أخرى يراعى فيها تقريب الشبه للحد البعيد، واتقان دور الشخصية بمعايشتها عن قرب، وهذا ما لا نراه متوافراً في الممثل المصري جمال عبد الناصر..

ونأتي للسيناريو الذي كتبه محمد خليل الزهار عن القصة التي قام باعدادها مصطفى أحمد الخليفة، وهو سيناريو لم يكتمل حتى بعد بدء التصوير، وأدى ذلك إلى اعتذار بعض الفنانين السودانيين عن تقديم أدوار لا يعرفون مآلات خواتيمها، ولا أدري لِمَ العجلة في انجاز عمل بهذه الضخامة، دون تروٍ أو تأنٍ يتيح قراءة النص ومطابقته وعرضه على المختصين في مختلف المجالات حتى يجاز ومن ثم يعطى كل ممثل دوره الذي سيؤديه؟ وهذه العجلة ولقلة المادة المكتوبة وندرتها عن تلك المرحلة التاريخية، نخشى أن يتم تجاوز لبعض الثوابت التاريخية جراء الاستعجال في اكمال العمل، دون منح الوقت الكافي لتجويده..

وأخيراً وربما ليس آخراً، الاستديو الذي تم فيه تصوير العمل، فهو ستديو لم تكتمل فيه عمليات الصيانة على الوجه الأكمل، وذكر لي أحد المشاركين في العمل أن أصوات السيارات كان تتصل إلى داخل الاستديو، فأوقف المخرج التصوير أكثر من مرة لمتابعة صيانة الخلل، وبعد عمل أكثر من صيانة للاستديو، لايزال بعض الاصوات تصل، لكن ابتدأ التصوير رغماً عن ذلك!!

سادتي.. قديماً قال المتنبي:

ولم أر في عيوب الناس عيباً

كنقص القادرين عن التمام

ولا نرى نحن عيباً مثل بذل ما يفوق المليوني دولار على عمل له أبعاده التاريخية والسياسية، وعدم اكمال هذا الانفاق بنذر يسير يساعد على سد الثغرات التي ربما تأتي جراء تجاهل بعض التفاصيل التي يمكن تلافيها الآن، فما قدر لهذا العمل من الامكانات حتى الآن ربما يعد الأضخم محلياً، فلا أقل من تجويده بالصورة التي تشرفنا، وتجعلنا ننحني امتناناً لكل من أسهم في اخراج هذا العمل بالوجه الصحيح..

ونأمل أن يتم تدارك ما يمكن، حتى تصبح مثل هذه التجارب اضافة للعمل الدرامي السوداني لا خصماً على بعض من اشراقات هنا وهناك تومض بها درامتنا من حين لآخر..


 

نشأت الامام

 

راسل الكاتب