ومضى الفاضل.. سعيداً

بقلم : نشأت الامام

 

ومضى الفاضل.. سعيداً


كإنطفاء المصابيح في ليلة

ضل عنها النهار

تستريح الهموم على جسد

أطفأته الرياح

غارقاً في بحار التجلي

كما الروح حين يشف الحجاب

كان محضاً من الروح.. طيفاً سرى

ومضة في سماء الدروب

لمحة من سراب..

محمد جميل


كان نحيلاً دقيقاً، ضئيل الجسد واسع الصدر كبير القلب، عظيم الهمة جميل الروح، ذو عزم متين، وهذه الأخيرة مما هيأت له أن يتبوأ هذا المكان القصي في أفئدة معجبيه، الذين التفوا حوله لخمسين عاماً أو يزيد، وهو يقدم لهم من لدنه واحات خضراء تلوذ بها أرواحهم.. تخلصهم من الرتابة.. وتمنيهم ببعث بعض من أحلام منقرضة أو على وشك ذلك..

عانى من الضيق.. في اليد والنفس، وكثير من عذابات الزمان وأوجاعه، لكنه امتص كل ذلك في صبر وأناة، مفرزاً شهداً وفرحاً وابتسامة.. وأشياء أخرى تنفع الناس، وكان كفاحه في أن يجعل للمسرح حضوراً يليق به، كثيراً ما يغريه بأن يبذل أكثر.. لذا لم يتوقف أبداً..

كان مؤمناً أن للفن وظيفة فكرية واجتماعية وجمالية يجب النهوض بها، لذا جاءت مسرحياته تخاطب ذواتنا وأفئدتنا في محاولة بحثية دؤوبة عن مكامن الجمال فيها، وبعثاً لمكارم الأخلاق، وللقيم السودانية الأصيلة، والتي تشبه «العجب» السوداني ابن البلد «الطيب الضكران» والذي قدمه في أكثر من عمل بنفس الشخصية، لكن مع مواكبة التتطور والحراك الاجتماعي المتسارع بين كل حقبة وأخرى..

يقال أن الوصول إلى القمة سهل، لكن من الصعوبة بمكان المحافظة عليها.. إذن فلنحاول أن نتخيل مقدار الصعوبة والمشاق التي تكبدها الأستاذ الفاضل سعيد وهو يعتلي القمة لنصف قرن من الزمان!!

خمسون عاماً لم يكل أو يمل.. خمسون عاماً وهو يمسح -بيده- العرق عن جبينه، ويحاول -بروحه- أن يمسح الأحزان عنا.. خمسون عاماً بين نهارات قائظة، وليالٍ قارسة البرودة، وبعض من أمسيات خريفية.. كلها كانت تشهد على ابداع ومثابرة هذا الرجل المتفرد..

لم تنل منه السنوات سوى مزيداً من الابتسامات، وكثيراً من الرغبة والتصميم والتحدي.. ارتكازه كان على إرث ضخم من التراث السوداني، وبحر مترامي السواحل من المعرفة.. وقلب نابض بحب الآخرين..

مضى الفاضل سعيداً.. وهو على خشبة المسرح، يؤدي رقصته الأخيرة في تبتل ناسك عند المحراب..

مضى كالطيف.. وها هي قطعة الأرض التي اشتراها من حر ماله لتصبح مسرحاً يحمل اسمه، تنادي الوفاء فينا..

فهل من مجيب..؟ لنكرم هذا المبدع الذي صعدت روحه إلى بارئها وهي تحاول أن تسرق بسمة وتطبعها على شفاهنا على الرغم من مرارات الزمن..

 


 

نشأت الامام

 

راسل الكاتب