الغلطة

بقلم : نشأت الامام

 

قال عنه وزير الخارجية المغربي الأديب محمد بن عيسى, في الكتاب الذي أصدره أصدقاء الطيب صالح بمناسبة عيد ميلاده السبعين: (أسميه سيدي الطيب كما نسمي الأولياء الصالحين في المغرب, أجالسه كلما التقيه مجالسة المريدين, كل شيء لدى الطيب صالح ملفوف بالحشمة والتقشف ونكران الذات, انه ولي وصالح حتى بدون عمامة)..

وها هو صالح يحط أخيراً في الخرطوم ناثراً عبيراً ينثال أدباً وفكراً, يضوع خبرات وشذى, متنقلاً كعصفور من بيدر لآخر, جاعلاً بيننا والدهشة إلفة وحميمية, ونحن نراه ونسمعه..

وفي الندوة التي نظمتها الزميلة (صحيفة الرأي العام) و-كالعادة- تحت رعاية عاصمة الثقافة, تأملت هذا المبدع الرقم في سماء الابداع العالمي, كان كثير التأمل حد الصمت, ودقيق الكلام حد الهمس, وكأن اللغة تستعطفه وتستجديه أن ينطقها, فما أن يهم بالحديث حتى تأتيه منقادة تجرجر أذيالها, فيأخذها –على غير اكتراث- ناحتاً منها أروع الأفكار.

لفت نظري خلال الندوة مساجلة لطيفة بين صالح ود. غازي صلاح الدين, مخاضها كان رأي الطيب صالح, إذ ذكر أن دخول العرب لأوروبا كان (غلطة) لازالت ترمي بظلالها على الأمة العربية حتى الآن.

أذهلتني الجرأة في إبدأ مثل هذا الرأي, وأدهشني أكثر اختزاله لعشر قرون من التاريخ والسياسية في عبارة موجزة, تحلل الواقع السياسي الراهن بناءاً على التراكمات المعرفية للماضي..

فجميعنا يعلم أنه منذ القرن الحادي عشر أخذت أوروبا تتململ في ثوبها الاقطاعي والكنسي الضيق, إذ يعتبر هذا القرن من أهم القرون في تاريخ الأوروبي, إذ كان عصر المغامرة والاكتشاف والحروب الصليبية أي أنه كان عصر اكتشاف الآخر.

كان العرب يمثلون هذا (الآخر) بالنسبة لأوروبا, وقد استخدم الأوربيون كلمة (عرب) وكلمة (مسلمون) باعتبارهما مترادفين يدلان على الجنس أو العرف, وأصبح العرب يمثلون (الآخر) الحاضر الغائب دائماً, فهو العدو المخيف والمكروه, وهو الجار المتحضر والمحسود في الأندلس وصقلية والمنطقة العربية, وعلى الرغم من هذا –أو لربما بسبب هذا- بدأت محاولات متناقضة لضرب هذا الآخر.

فبدأت سلسلة لا تنقضي من الحروبات بدأت بالحروب الكاثوليكية في الأندلس والحروب الصليبية في الشرق العربي, وحروبات نشهدها حتى الآن.

والطيب صالح ربما كان يشير اشارة خفية للانقاذ في بداية عهدها, وذلك حينما تحدث مشيرأ الى ان العرب وقبل ان يوطدوا سلطانهم في الاندلس حاولوا غزو فرنسا, ومن هناك بدأ الانهيار والاندحار.. اذ انه يرى ضرورة ان يبدأ التماسك من الداخل ومن ثم يبدأ الانطلاق نحو الآخر.

والآن هو بيننا بكل زخمه المعرفي, ولا ادري لماذا ربطت بينه وبين لجنة الدستور المزمع انعقادها لاجازة دستور السودان, وهو كما قال الأديب المغربي, كل شيء لدى الطيب قوامه التقشف ونكران الذات, وأرى أن الطيب وأمثاله أحق من الكثيرين الذين يحاولون الدخول في هذه اللجنة, لا لشيء سوى وضع الدستور بما يتوافق مع مصالحهم الخاصة, وتحديد حصصهم في كعكة الوطن..!!



 

نشأت الامام

 

راسل الكاتب