العيد في مدني

 

 بقلم :   محمد شيخ العرب

وطني وأن شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي

           أعود للسودان لأستعيد بعض الذكريات وبعضاً من الود والدفء ، ذلك الدفء الذي افتقدته لسنوات ست ولو تركتها لعنان المشاعر وحساب السنين لأصبحن (60) .

          عندما اعتليت الطائرة المتجهة إلي الخرطوم ، وجدت على متنها البروفيسور الحبيب عباس الكارب والمحاسب النابه خالد متوكل ، وشأني شأن الجميع ، يدفعنا الشوق قبل الخاطر فشرعنا في الحديث عن الوطن نتحدث عن همومه ، تلك الهموم التي يتهمنا أهلنا بأننا قد انسخلنا عنها ، وهي لعمري لفرية نتبرأ منها ، وهم لا يدرون مرارة الغربة وما تنتاب أبناءهم من احباطات ، ولكن رغم ذلك ظل الأبناء محافظين على التواصل والود ، والدعم المعنوي والمادي ، كل هذه الصور تسيطر على خاطري ووجداني .

          وغرقت في أحلامي ولا شيء يسيطر غير ( ود مدني ) وأهلها الطيبين ، وفجأة انتبهت لصوت قائد الطائرة ينبه بأن الطائرة سوف تحط في مطار الخرطوم الدولي ، ولامست الطائرة أرض الوطن ، وكانت لحظات التاريخ في صالة المطار شعرت بإشراقة لا حدود لها ، وجوه ناضرة ، لسعيها راضية ، رجال الجمارك كانوا في أريحية مع العائدين ، خرجت من المطار بعد أن قابلت المحامي ذائع الصيت ، التيجاني الكارب ، وصديقي ميرغني أحمد ميرغني الذي كان بانتظاري .

          دخلت لأول مرة جهاز شؤون العاملين بالخارج ، وكانت دهشتي كبيرة ، أن الصرح لجميل وفخم ، الإجراءات كانت في منتهى السرعة والشفافية ، وليت الجهاز نشر إعلانا  بالصحف المحلية ، يشير فيه بأن العمل أثناء أيام العيد متوافر للمغتربين ، حتى يتحاشوا الزحام البشري بعد العيد .. وذهبت إلي السوق الشعبي متجهاً لمدينتي ، مدينة الحب والجمال ، وتحرك ذلك البص الأبهة ومررنا بمبنى ضخم ، وسألت من يشاركني مقعد البص عن هذا الصرح الكبير فقال ، إنها مدينة ( جياد الصناعية ) بين المدينة الصناعية وسكن العاملين جسر كبير تراه العين المجردة من الوهلة الأولى ، ومنيت النفس بزيارته ولكن عامل الزمن كان اسرع ، ويا ليت وزارة السياحة الناشئة نظمت رحلات للمغتربين لزيارة هذا الصرح الكبير ، ودخلت مدني باكياً وخرجت منها باكياً كما وصفها الأديبان الكبيران محمد أحمد محجوب ، ود. محمد عبد الحليم في كتابيهما ( موت دنيا )  وأنطلق بي التاكسي ، ولفتت نظري سيارات صغيرة الحجم تسمى ( الركشة ـ وأمجاد ) يسوقها صبيان بين السادسة عشرة والعشرين ، وقطع سائق التاكسي تفكيري قائلاً بأن ( رقشة ) قد انقلبت وبها أربعة شباب من ود مدني وأن زورق بحري قد أبتلعه النيل وفي جوفه أطفال صغار ، وتوقعت وأنا مار بمبنى الحكومة أن أرى الأعلام منكسة حداداً على هؤلاء الصغار ، وهتفت داخلي أين رجال مدينة الحب والوفاء ( رجال المؤتمر ـ حسان محمد الأمين ـ بابكر كرار ـ المساح ومحمد عبد الحي ـ شيخ العرب وابوزيد أحمد ـ ود شاطوط  و العركيين ومدني السني ) وأه يا مدني !!

          قضيت عشرة أيام بمدينة الحب والجمال وهالني ما رأيت من تصدع في أحيائها القديمة ( ود ازرق ـ القسم الأول ـ بانت ـ الدباغة وحتى الدرجة الأولى ) ، لم أجد شيئاً سرني غير تلك الطيبة والوداعة التي يتحلى بها أهل ود مدني الطيبين ، ان كانت هذه الانطباعات سلبية إلا أن هناك جوانب إيجابية يمكن إجمالها في الآتي :

-    ظهور بعض المباني الشاهقة الجميلة ، وانتظام في الكهرباء ، وقد يعزى ذلك لفصل الشتاء الجميل بالسودان والملاريا اللعينة قد قلت بعض الشيء .

سعدت بزيارتين الأولى لاستاذنا ( سعيد الطيب الشائب ) الذي رحل قبل اسابيع وبالرغم من أنه كان مريضاً بالملاريا اللعينة إلا انه استقبلني بحفاوة بالغة ، ومنيت النفس بأن اجرى معه حواراً وخاصة بعد فك الحظر عن الحزب الجمهوري ، وسعيد للذين لا يعرفونه بحر من المعلومات والكرم الفياض ، والثانية لزميلتي وأختي ( ليلي أحمد سعيد ) وزيرة الصحة بود مدني وان كان طابع الزيارة شخصياً ألا اننا تحدثنا عن هموم الوطن ، وبصفة خاصة عن ذلك التدهور المريع في صحة البيئة بود مدني وكانت زيارة ناجحة بكل المقاييس .

     غادرت ود مدني فجراً ودموعي أغزر من دموع المحجوب ود. عبد الحليم ودخلت الخرطوم عند الفجر يرسل أشعة لاذوردية ، وللخرطوم جمال خفي يعرفه أهلها ، رغم ذلك التدهور الواضح الذي يعبث بالمدينة ، والكل في حالة حركة ، ماسحو الأحذية ، وغاسلو السيارات الفارهة ، والموظف والعامل ، والتاجر ، كل يحمل رزما من الأوراق النقدية ، أموال تدور وتدور ، إلي أين تدور لا أحد يأتيك بإجابة علمية ، يقولون المهم إنها تدور ، وذهبت لأحبابي بجريدة ( الخرطوم ) وهناك فضل الله ( أبو وائل ) ما زال محتفظاً بشبابه رغم السنين ، ( والباقر ) هاشاً باشاً ، والصحفي النابه ( فيصل محمد صالح ) ومبروك والهلالابي المتعصب معتصم ـ وصديقنا دسوقي ، ولم أمن النفس بمقابلة ( الدكتورين ـ دقش ـ مرتضى الغالي ) واخيراً المرأة المناضلة التي تعمل من خلف الكواليس ( ابتسام عفان ) وكان يوماً حافلاً بالعمل والود والذكريات .

     دلفت منها إلي صديق العمر سيد أحمد خليفة الذي يشرف على جريدته القديمة الجديدة ( الوطن ) وما زالت تسبب الصداع للبعض وكعادته نصب لي وليمة ضمت أهل الصحافة والفكر كان من ضمنهم ( الحاج وراق ) د. عصام محجوب ، أبو العزائم ، د. عروة ، وعادل سيد أحمد ، كانت من أجمل أيامي بالخرطوم حفلت بهذه الوجوه الباسمة والنقاش الثر المفيد ، وفي اليوم التالي عدت إلي ( جدة ) .

 

 

راسل الكاتب