مأساة عكرمة

 

بقلم / أحمد محمد المبارك 

 

خرج كعادته بعد أن قبل طفليه وزوجته مستبشراً ضحوكاً نحو محطة الحافلات ليتجه نحو مدرسة مدني الثانوية ليمنح الطلاب بعضاً من الأحاديث النبوية والدروس الفقهية لعلها تعينهم على هذا الزمن العجيب وكان يسلم يمينا ويسارا على الجيران الأصدقاء ، يلاعب الأطفال بائعي الخضار والألبان ، هرولت الحافلة مسرعة قاطعة الفيافي من حي الرياض شرق مدينة مدني موازياً لمدينة حنتوب الجميلة وسائق الحافلة يزمجر مع صوت عصام محمد نور (( ظلموني الناس وتجنو علي)) والبعض الآخر متجهم من هذا الصباح الجديد .
في مكان آخر في المدينة يغلق شارع رئيسي بسرداق كبير من أشهر المحلات الموجودة بالمدينة ورجال الشرطة والأمن يحملون الحلويات والأزهار ويستقبلون الناس بأصوات الرصاص ورائحة البارود والمغنيات والمنشدون والمداحون يتراقصون طرباً لأن واليهم تزوج.
وفي ليلة أخرى نرى الوالي في مشهد حزين وسعيد في نفس اللحظة حيث تملأ دموع الفرح عينية ويكاد أن يغمى عليه لأن فريق الهلال العظيم فاز على حرس الحدود في كأس العرب وطبعاً قام والينا بتقديم كل ما يملك وما لا يملك مبعثراً الدنانير على رؤوس طمبل وهيثم وآخرين .
خرج عكرمة بعد انتهاء يوم من الدراسة تفاكر وتباحث مع طلابه عن مصارف الزكاة وأركان الحج والصيام ، كان سعيداً ومحبوباً بين كل التلاميذ والمدرسين ودعهم بابتسامة على أمل اللقاء في اليوم التالي واتجه لموقف الحافلات بعد أن أشترى بعض الحلوى والخضروات لأولاده وزوجته الذين ينتظرون عودته على فارغ الصبر عند الباب ، زمجر السائق كعادته مع صوت ندى القلعة وصديق سرحان والركاب بين مضطجر وآخر يتلصص على جريدة أحدهم يطالع أخبار انتصار الهلال أوهزيمة أهلي مدني وآخر متشاغل برسالة على جواله من إحدى المعجبات وبعضهم تمالكه النعاس من مجهود يوم طويل ودار حوار
السائق : ياخي الكندراني ده مالو ؟
أحد الشيوخ : والله السواق ده شلكلو ما بيعرف
أحدى الجامعين : الحكومة ذاتها مفروض تصلح الكبري
المساعد : الحكومة دي ما استاش
شابة : ياخي انت ما تتجاوز الشاحنة دي
تفتحت اسارير السائق وجمع كل قواه وحاول تخطي الكندراني وتعالت أدخنة البنزين وتعالت ولكن لم يفلح في تخطيه والكل داخل الحافلة يترقب الموعد العجيب ولا يدرون أن هناك من يتدبر الأمور بحكمة متناهية ، حينها شعر سائق الشاحنة بمحاولات الحافلة المسكينة من تخطيها وغضب كثيرا ولكزه لكزة صغيرة حنينة بذيله الطويل كتمساح هائج لكنها لم تكن حنينة تعالت الحافلة وكسرت الحاجز وتلوت كثعبان جريح في الجو سبع لفات بل ثمان لا بل عشر مرات ، دفعة قوية وكزة عنيفة تلاشت أحلام المساعد السائق ، طفلي عكرمة ، زوجته ، أهل حي الرياض انتظروا ثلاثة ليال ليخرج الجميع من أعماق البحر الهائج المترامي اللئيم لم يخرج أحد .. لم يظهر أحد كأن شيئاً لم يكن
فاق الوالي من شهر العسل على سماع النبأ العظيم كل المدينة الجميلة كانت فوق الكبرى بعد نصف ساعة من الخبر الكل يبحث عن منقذ عن ( ود الفتلي ) عن أحد الفلاتة العظام المنقذين بكت المدينة ناحت الحكومة العسكر الجنود سائقو الركشات الأمجاد الدفارات بائعات الكسرة الفول والتسالي الشيوخ الصوفية المدرسين أه بكوه كثيرا المدرسين التلاميذ المارة ...
من هنا تبدأ الحكاية وحكاية العريس .. المتفرج كغيره من المواطنين يشرّع كما يشّع العامة
جيبوا حبال
كلمو ود الفتلي
ود الفتلي مات من زمان يا والينا
جيبوا مراكب
كلمو الري والحفريات
تعالت صيحات أطفال عكرمة وهم بين مكضبون الشينة ومصدقين عسى أن يكون عكرمة من دون هذه الحافلة اللعينة ، أحد العاملين بالري اشار بضرورة ارسال رافعة وحيدة من زمن جدي مدني السني والوالي هاج وماج
طوالي كلمو عم حسين سواق الرافعة يجي الآن
وجا عم حسين وصلت الرافعة بعد جهد جهيد لأعلى الكبرى مكان الحادث
اجتهد عم حسين في كيفية وضع الرافعة واستغرق الموضوع ساعات بين المنظرين و الحاذقين والمتململين وآخيرا تمكن من رفع الحافلة قليلاً عن سطح النهر ولم يتمكن أكثر من ذلك وكثر الحديث واللغط والعجن من الوالي والعسكر والموجودين حاولوا الكثير مع عم حسين وبعد مجهود كبير تمكن أن يرفعها حتى مستوى الكبرى هنا ظهرت الجثث متراكمة فوق بعضها البعض هلل البعض وتعالت دموع الآخرين
يا عم حسين لف يمين
يمين شنو يسار
لا لا خليك شوية
ياجماعة يمين أحسن لانه الرافع يمين
ما مشكلة يمين أو شمال
آخيرا اهتدي عم حسين ولف يمين ،
اصدمت الحافلة بقوة بالسياج
لم يستطع عم حسين السيطرة على الرافعة
سقطت الحافلة مرة أخرى على النيل
تناثرت الجثث كالفراشات
منظر عجيب مشهد مريب حزين مبكي
تلاشت تناثرت أحلام الطفلتين الزوجات الأمهات الأباء الحبيبات الناس ود الفتلي
والوالي يفكر في حرس الحدود في هيثم مصطفى في الوداد المغربي
انتشر الخبر بسرعة عم كل المدن
توافدات الأهالي من بقاع البلاد
أهلنا من الشمالية شمروا سواعدهم خلعلوا جلابيبهم وشالاتهم ونزلو النهر
أخرجو كل ما لديهم من خبرة في انقاذ الأرواح
وقالوا للوالي والعسكر تنحو اذهبوا وشجعوا ما شئتم من الأندية
خذوا رافعتكم خذو ود الفتلي عم حسين
جاء فتية الشمالية بسلك شائك محمل بأكياس من الرمل وأمسكوا بدفتي النهر على مركبين مركب من اليمين ومركب من الشمال والسلك بين الضفتين وانزلو السلك لقاع النهر مكان الحادث ثم قاموا برفع السلك خرجت خمس ، ست ، عشر جثث بل ست وعشرون جثة أخرجوها هؤلاء العظام مرة مرتين ثلاث مرات مشهد فانتزي حزين مبكي مفرح مقلق احتاج لنجدت انزور لاسامة انور عكاشة لمصطفى سيد أحمد أو حميد
صفق الناس الحاضرون بكت الامهات بكى الزوجات الآنسات طفلي عكرمة زوجته
بكيت كثيراُ ،، بكيت عكرمة بكيت مدينة جميلة برافعة وحيدة لا تغني ولاتسمن من جوع من لنا لاطفالنا لزوجاتنا أمهاتنا المنتظرات على شرفات المنازل .








 

 

راسل الكاتب