9 - 3

كروان السودان الراحل

بقلم : صلاح الباشا... الدوحة

    مصطفي سيد احمد والغناء للوطن

    إن الراحل الكروان مصطفي سيد أحمد كقيمه إبداعية، ستظل إبداعاته تفرض نفسها فرضاً علي مفاصل هذا الزمان وربما مفاصل كل الأزمنة القادمة ، مما يستوجب علي الأجهزة الإعلامية بالخرطوم ( ألا تضرب طناش) من تناول ذكري هذه القيمه الإبداعية ،وأن تقترب أكثر من أحاسيس الناس ومن حبهم وتقديرهم لرموزهم الفنية القومية حتي تكبر وتكبر تلك الأجهزة ( القومية) في نظر أهل السودان الأوفياء طالما كانت الأجهزة ملكاً لهم أجمعين، تلك الأجهزة التي ظلت تزخر بالإعلاميين الجدد وببقية القدامي ، فنحن نثمن ونقدر دوماً الدور المتألق الذي ظلت تقوم به الميديا السودانية بمختلف أشكالها الرسمية والخاصة من وقت لآخر في رحلة تواصلها مع الجماهير بعيداً عن ( المزاج الشخصي)0فالراحل الكروان قد دخل تاريخ الفنون السودانية المضيئة بجديته وبروعة أعماله المتميزة التي لم تعرف الإبتذال مطلقاً، ولكل ذلك فهي لن تخرج أبداً من ذاكرة التاريخ الفني السوداني ، فقد أصبح مصطفي سيد أحمد واحداً من العلامات الفنية في تاريخ الغناء العطفي والوطني بالسودان، مما يستوجب الإهتمام الإعلامي والنقدي لكل أعماله0

   ثم تأتي هنا الشاعرة الأستاذة ( نجاة عثمان محمد سعيد) لتكتب ما ظل يغرد به الكروان من مفردات جديدة أيضاً حين قالت في ( الزمن الفلاني) :

لمان يجي الزمن الفلاني

سمانا.. بتقطـِّر مطر درِّي..

وتمازج برتكاني

برموش غيم أرجواني

ندمن الضحك المعافي

ونحيا بالفرح.. المورّد

ياسميني..وأُقحواني

    كانت ( نجاة) بذلك تخاطب في الكروان الراحل جدية ما ظل يطرحه من ألحان شجية ، وكانت بذلك ترفع من روحه المعنوية وهو يعاني الأمرّين ( مرارة الإغتراب.. ومرارة المرض اللعين) ، ولذلك كله .. كانت مفردات الشاعرة نجاة تعتبر محطة للإستراحة ، وقد إرتاح فيها الكروان الراحل ليواصل بعدها الدندنة بكل ماهو رائع حين يواصل أداء ذلك الطرح الجديد الذي كتبته الشاعرة نجاة عثمان :

يا حبيبنا.. تحيا في حلم الترابله

في العلاقات المعاني

في البقاسي.. شقا المسافه

عايشه في داخلو.. ويعاني

لما يتحقق زماني

بيشرق .. الفجر الحقيقه

والصباح الأبيضاني

    كانت تلك هي نجاة عثمان المتألقة بكلماتها الأنيقة التي ربما كانت تعبرتعبيراً مشروعاً عن بنات جيلها الطاهر والواثق من نفسه تماماً ،وهو أيضاً جيل له ظروف معاناته المتعددة 0

 ثم نري طرحاً آخراً لشاعرنا وصديقنا المتفرد العجيب والمكافح مع الغلابه في مهاجرهم وهو الأستاذ مدني يوسف النخلي ، لنري  ماذا قال أخي الحبيب مدني الذي كم وكم سعدتُ حقاً بلقائه في الدوحة وأنا القادم الجديد إليها فهو إبن مدينتي ( ودمدني السني) المبدعة والذي لم أكن أعرفه قبل ذهابي إلي الدوحة، فقد ظل يحكي لنا .. يحكي ويحكي عن حياة الكروان مصطفي وعن تفاصيل معاناته وأفراحه أيضاً في الدوحة .. ولازلت أستمع لحكاوي مدني النخلي وكأنني كنت ملازماً للكروان وسنرد بعض منها في الحلقة الأخيرة من هذه السلسلة0 وصدقوني .. أنني لم أره .. لم أشاهد مصطفي سيد أحمد حتي رحيله إذ كنت بالسودان حينما أتي هو إلي الدوحة ، وكنت أيضاً مقيماً لإثني عشر عاماً في جده عندما ظهر الراحل في ساحة الغناء بالسودان في نهاية سبعينيات القرن الماضي ولكنني ظللت علي الدوام متابعاً لمسيرته الإبداعية بإنتباه تام ، وكنت في السعودية مواظبا علي متابعة إبداعاته الأولي التي كنا نتحصل عليها من إستريو الخرطوم في حي البخاريه في جده أو إستريو البغداديه في شارع محمد بن عبدالوهاب المؤدي إلي باب مكه في جده وقد كانت أغنياته الأولي ( غدار دموعك ، وعارفني منك) ثم إعادة توزيع رائعة عبدالدافع عثمان ( مرت الأيام)  لملحنها الأستاذ المعلم عربي ، وكذلك إعادة توزيع ( شقا الأيام) التي يتغني بها حمد الريح ، وأيضاً أغنية ( رسائل) للكاشف : إنت أكتب لي وأنا أكتب ليك0

   كتب مدني النخلي في ديوانه(كل النجوم ) حين قدم فيه سيرته للقاريْ00 كتب بكل بساطة جملة واحدة في ثلاثة أسطر فقط في غلاف الكتيب، ولكنها تمتليء بكل ماهو جميل حيث قال:

((ذلك المسكون بالغربة والشوق والإنتظار... مدني النخلي .. يكتب الشعر- والشعر الغنائي بكثافة - ليبقي قلبه المثقل بالهموم.. مضخه للفرح 00في زمن اللافرح.))

   كتب مدني النخلي لرفيقه الكروان ليتغني بأجمل ماقيل في العشق الجميل .. قال مدني النخلي في إحداها حين كان يغرد بها الكروان كثيراً مع نفسه.. وللناس أيضاً:

واقف براك.. والهم عصف

ريحاً كسح.. زهرة صباك

ليلاً فتح شرفة وجع..

قمراً رحل .. فارق سماك

واقف براك..

ومطر الحُزن.. عاود هطل

جدد عذاب الأرصفه

ضي المصابيح البعيد

أتعب عيونك.. وإنطفي

 لمتين .. مواعيدك سراب

والريد شقا00وحُرقه وجفا

   كنت أقول دائماً أن وجود هذا الكروان الراحل في الغربه ، وقد ظل يعاني مايعاني ، ولم يتوقف عن الإبداع ولو للحظه واحده في حياته .. كان لهذا الوجود خارج الوطن آثاره التي تمددت لتأتي بأجمل ما كتبه شعراء الداخل وأيضاً شعراء الخارج ، فكانت مفردات قصائد شعرائه لا تبتعد كثيراً عن معاناة الإغتراب وآثاره المباشرة في طريقة تفكير الشاعر المغترب  التي يستلهمها من مجمل معاناة مجتمع المغتربين التي لا يشعر بها إلا من إغترب، إنها معاناة متجددة ليس لها نهاية ، ونقول هنا للتنفيذيين داخل السودان من خبراء المالية القدامي والجدد أيضاً الذين وضعوا الضرائب علي كاهل المغتربين ( الغلابه في معظمهم) سيظل هذا العيب وتبعاته يلازمهم حتي يوم القيامة فليسامحهم الله في هذا الإستلاب ( غير الشرعي) للرزق المحدود جداً من أفواه كل أطفال المغتربين في مختلف الحقب الماضية وحتي اللحظة  0

 فلقد ظل شعراء الكروان الراحل داخل الوطن  يعيشون وجدانياً نفس أحاسيس من هم خارج الوطن ، وربما كان توارد الخواطر في كتابة الشعر هو الذي أضفي علي مفردات الشعراء كل هذا الكم الهائل من تلك الرياحين التي كتبوها في لحظات تجلي وقد رأيناها قد إتضحت كثيراً عندما أضاف إليها الكروان الراحل تلك الأنغام والألحان الشجيه ، حيث كانت تخرج في أجمل صورها بذلك الصوت الملائكي المتفرد .

  وهنا يكتب له  الشاعر عبدالعال السيد من غربته بالسعودية بزهرة يانعة تغني بها الكروان وسكنت في وجدان الجماهير بمثل سكونها المستديم في سجل التاريخ الخاص بأعمال الراحل:

 الدنيا ليل.. غربه ومطر

وطرب حزين ..

رجّع تقاسيم الوتر

شرب الزمن فرح السنين

والباقي.. هدّاه السهر

ياروح غناي..

الغربه ملـّت من شقاي

وا غربتي.. وبقيت براي

حاضن أساي

الوحشه ملت .. من أساي ووحدتي

لا غنوه لا موال 00يبدل حسرتي

غير الدموع الملهمة

الغربه.. مُره ومؤلمه

  وهنا أو أن أشير إلي شيء ، وهو أنني قد ظللت أستلم  عدة رسائل إليكترونية مؤخراً من عدة شباب في هذا العالم الواسع لا أعرفهم ، ولكن كانت أهمها تلك التي وصلتني من فتاة سودانية بالخرطوم لها إهتمامات إبداعية وهي من جيل التقنية الحديثة وقد ظلت كغيرها تطالع مساهماتنا ومساهمات غيرنا المنشورة في بعض المواقع السودانية الأدبية علي الإنترنت لمقالاتنا في بعض الجهد الذي نكتبه عن جماليات إبداعات بعض مبدعي بلادنا ، حيث قالت: يقول المثل السوداني ( بعد التعديل) - أن بطن الإغتراب بطرانه- فهي إما أن تلد إبداعاً أو000تلد إبداعاً (برضو) ، ولم نكن ندري أن الإغتراب يفجر مثل هذه الطاقات الإبداعية ولم نحس مطلقاً بجمال كتابات أشعار وألحان مبدعي السودان إلا بعد أن ظللنا نتابع القراءة الجديدة لتلك الأعمال (إنتهي)0 وبالطبع أرسلت لها الرد علي هذا الإطراء الجميل الذي أتي دافئاً من داخل السودان عبر الإنترنت ، وحمدت الله علي نعمة هذه التقنية المتقدمة التي أتت بهذا التواصل السريع000إننا فعلاً نعيش عصر العولمة وتمدد المعلومات 0

 وهنا أود أن أشير إلي تلك المواقع الإبداعية السودانية علي الإنترنت وهي ( الغابة والصحراء، ومجلة مشاعل اللتين يصدرهما المهندس هواري حمدان هجو ورفاقه من السعودية وهو من أبناء قرية ودكري بريفي المسلمية ، وأيضاً موقع ودمدني الإبداعي الذي أسسه المبدع أبوبكر المبارك بالسعودية أيضاً ، ثم سودانايل التي ولدت عملاقاً بطرحها اليومي للحدث من قلب الخرطوم عبر الإنترنت)0وهي مواقع تحتوي علي الكثير من أعمال أدبائنا ومبدعينا وحتي طريقة إخراجها علي (الويب) فيه تقنية جميلة ، بما في ذلك صور وأعمال الكروان الراحل التي أصبحت قاسماً مشتركاً في كل مواقع الإنترنت السودانية:-

شعراء الغابة والصحراء            www.sudanpoem.8k.com

مجلة مشاعل الثقافية الشهرية           www.mashael.8k.com

ودمدني الجميله ثقافية إجتماعية    www.wadmadani.com

صحيفة سودانايل اليومية من الخرطوم                                      www.sudanile.com

 

  ونحن عندما نتذكر هذا الإنسان .. مصطفي سيد احمد في ذكري رحيله في يناير من كل عام .. نتذكر كل الدور الإبداعي الذي خلفه وراءه ثم رحل ، رحل دون أن يحقق أمنيته في العودة الهانئة إلي تلك الديار الرحبه بأهلها 0نعم.... يظل هاجس كل الناس .. هو الحبيبه الوطن.. هو حب وعُشق ووجد وهموم كل أهل السودان الأوفياء ، تلك الحبيبه .. هي العُشق المستديم .. هي كل هذا وذاك .... نعم الوطن الذي نري ملامحه في كل خفقه من خفقات قلوبنا .. وقد تركه معظم صفوة أهله إلي مهاجرقريبة وأخري بعيدة .. (بعيده شديد) ، ولا أمل في العودة .. تركه بعض شبابه المواكب للتقنية المتجددة في كل لحظة ، والمتفتح إلي حضارات تكنولوجيه تستصعب العوده بعدها إلي ضفاف النيل الخالد ..وياخسارة 00لينتهي بذلك قانون (توارث وتواصل الخبرات) داخل السودان ، ومن هنا تبدأ الكارثة 00 وهل ياتري قد إستغفر الله تعالي أصحاب فكرة تنفيذ وإخراج قانون الإحالة للصالح العام بمثلما إستغفروه مؤخراً أصحاب إبتكار بيوت الأشباح ، والتي لن تنسي بسهولة وستظل واحدة من أسوأ الفترات في تاريخ السودان الحديث وغير قابلة للتجميل مطلقاً 0

 نتوقف هنا ، لنواصل الرحلة .. رحلة عطاء الكروان مصطفي سيد أحمد ومجمل شعرائه المبدعين ، ذلك العطاءالذي سيظل محفوراً في ذاكرة الزمن ، فإلي الحلقة القادمة0  

 

الصفحة 4-9 الصفحة 2-9

 

راسل الكاتب

معلومات عن الكاتب