طه أحمد كرار

 

  بقلم : مبارك محمد المبارك

 

كان الأستاذ المرحوم / طه أحمد كرار الضلع الثالث في مثلث الإبداع والفنون البرنامج التلفزيوني الناجح الذي يبث من تلفزيون الجزيرة في بداية الثمانينات ، ولنجاحه الباهر تم بثه من تلفزيون الجزيرة لتلفزيون السودان ليشاهده كل سكان السودان قاطبة .

إن الأساتذة الإجلاء عبد الحليم سر الختم وبابكر صديق والمرحوم طه كرار كانوا جميعاً مبدعين ولهم إسهامات في مجالات مختلفة فكان عبد الحليم سر الختم في مجال الأدب والآن يتبوأ مركزاً مرموقاً بوزارة التربية وبابكر صديق نبغ في تخصصه الرسم بالكلمات والفنون وآدابها والآن يقدم عبر شاشة تلفزيون السودان أنجح البرامج ( أصوات وأنامل ) وأكثرها إبداعاً وتخصصاً ويكاد يكون البرنامج الوحيد في الفضائيات العربية الذي يهتم بهذا الجانب الإبداعي .

  والضلع الثالث الأديب المرهف المرحوم طه كرار الذي كان عالماً باللغة العربية وأسرارها وعندما يكتب يكتب النثر الرصين السلس بجمالياته .

          في أيام الدراسة بمصر كان دائماً متتبع ينابيع الثقافة في الأندية الثقافية والمنابر المختلفة في هذا المجال حيث تكتظ القاهرة آنذاك بإرهاصات الشعر الحر أو شعر التفعيلة وعاش الصراع بين العمالقة وأجيال الشباب الجدد ، وقرأ المعركة التي دارت بين عباس محمود العقاد والشاعر عبد المعطي حجازي حيث حول العقاد ديوانه مدينة بلا قلب من لجنة الشعر التي كان يرأسها إلي لجنة النثر . وكان له رأي صريح في الصراع الدائر آنذاك عند مقابلته للأستاذ محي الدين فارس و قال له : العقاد عاوز يذبح الشعر الحديث .

          كان يداوم على ندوات رابطة الحديث كل يوم ثلاثاء وندوة العقاد كل يوم جمعة وندوات جمعية الشبان المسلمين التي يرأسها صالح حرب وندوات الشبان المسيحيين التي يشرف عليها الشاعر خالد الجرنوسي . في القاهرة تفرق للعلم والدراسة وتفوق في مجاله الذي عشقه وعاد للسودان متشبعاً بالعلم أكثر حيوية وأنخرط في مجال التدريس غرس في طلبته المثل العليا وعلمهم كيف يكون الإنسان إنساناً ، وعمل  في مدارس مختلفة في السودان الحبيب لكن مدينة ود مدني التي أحبها وأخلص لها عمل بها كثيراً خاصة مدرسة المؤتمر الثانوية بنين و درس اللغة العربية  للمراحل النهائية بكل فن مما جعل الممتحنين للشهادة من المدارس الأخري بنين وبنات يحرصون لحضور حصة الأدب  في كتاب  ( شوقي ضيف   ) .

          ساهم المرحوم مساهمة فعالة في صياغة الأحداث قبل استقلال السودان 1956م مع طوفان الطلبة وكان فرحاً لا تكاد تسعه الدنيا واختلطت ضحكاته مع ضحكات الطلبة الذين كان يموج بهم نادي دنقلا يوم الاستقلال .

          كان له دور بارز في الحركة الرياضية المدرسية وفي عهده كانت مدرسة المؤتمر الأولى في النشاط الكروي على مستوي السودان وكان يقودها اللاعب الفذ حمد دفع الله لاعب أهلي مدني وعصام كورنه الذي أنتقل لاتحاد مدني ثم أنتقلا للهلال العاصمي    .

كان الأستاذ طيب الله ثراه مهتماً بفلاحة البساتين والأشجار وفي عهده أصبحت المدرسة مخضرة بكل أنواع الزهور والأشجار الظليلة .

          ولدوره الكبير في الأدب والفنون بعد جمع ديوان البنأ اصدر الرئيس السابق نميري قراراً بتعينه ملحقاً ثقافياً بسفارة السودان في العراق فملأ مكانته بجدارة ووثق العلائق بينه وبين رجالات الفكر والأدب في العراق وكان له حضور قوي في كل مهرجانات المربد وأحتشد للاحتفاء بوفود السودان الأدبية والإتصال بهم فكان أحد الوجوه المشرقة للسودان في الخارج وله مكتبة ضخمة وتعمق في دراسة الحضارة العباسية بالوقوف عليها في مظانها الأصلية وارتشاف ينابيعها الصافية ، وكان مهتماً بالأدب الإنجليزي لا يفارق المكتبات العامة خاصة مكتبة المجلس البريطاني في بغداد .

      يستقبلك مبتسماً عندما تزوره  بمكتبة في بغداد يسألك عن فلان وفلان  ومنزله الكائن بحي المنصور يكثر فيه الضيوف لرحابة صدره وحسن إستقباله هو وأسرته الكريمة ،  وتعامل مع مشاكل الطلاب بكل حنكه برغم إختلافاتهم السياسية في  فترة الديمقراطية الثالثة والأحزاب في 1985م – 1989م وتعامل مع مشكلة اغتيال الطالب السوداني المستقل / بالموصل الطيب الأمين النورابي مما أدى لإستقالات الطلبة السودانيين المستقلون من الجامعات والمعاهد العراقية في الموصل  وأربيل والبصرة وبغداد  عام 1987م  وذلك  بتسفير الطلاب إلي السودان واستيعاب البعض بالجامعات السودانية والبعض الآخر بالجماهيرية الليبية .

    ظل الأستاذ الأديب طه كرار بعد عودته من العراق أكثر تألقاً في الشعر والأدب يقدم محاضرات في المركز  الثقافي بمدني في مناسبات مختلفة  وواصل العمل بوزارة التربية والتعليم في مدني كبير موجهي اللغة العربية ، لكن المرض لم يمهله طويلاً وعاني معه كثيراً حيث بترت رجله  ومع ذلك كان هاشاً باشاً مبتسماً في وجه زواره ومودعيه ، أتذكر بعثت له برسالة مؤاسياً له في مصابه ببتر رجله ومع ذلك رد لي برسالة أبوية حانية موصياً بأن أقابل أحد تلاميذه لمساعدتي في إيجاد إقامة وعمل بالمملكة العربية السعودية ، خاتماً رسالته بأن لا ننساه من صالح الدعوات ولا سيما في تلك الأماكن الطيبة الطاهرة ، ظل هكذا حتى  لبى نداء ربه في 17/4/1994م وخرج سكان مدني جميعاً في موكب مهيب  يتقدمهم قادة العمل الحكومي والتنفيذي بولاية الجزيرة لوداع ابنها البار لمثواه الأخير ، وبعث أخي أحمد برسالة في هذا الشأن يقول فيها ..... عذراً هذه المرة سيبدأ الخطاب بلا تحايا وبلا حب ... وسيظل الشوق سجيناً والحنين حبيساً بين الضلوع وسيكون الكلم ذا ملمع دامع ... حيث ترقرق الدمع أرجاء المدينة ... وسيقفز الحزن إلي أعلى مداه ...... ولان السودانيين وكما قال بعضهم ( يحسنون الموت ) وبقلوب ملئوها الحزن حتى فاض .... وخرجت النساء يولولن أنحاء المدينة ... والأطفال يدعو بدعوى الجاهلية ... اختار الله وكان الاختيار صعباً علينا الأستاذ الجليل طه أحمد كرار وكفى .

بكائي عليه من فؤاد مفجع

ومن مقلة ما شوهدت قط باكية

بكائي على ذاك الشباب الذي ذوى

واغصانه تختال في الروض نامية

تبينت فيه الخلد يوم رأيته

وما بان لي أن المنية آتيــــــــــــــه   

 يواصل الحديث : كنا هناك كل من يحمل في قلبه حباً لهذه المدينة .... وكل عاشق للفن والأدب كل قطاعات الشعب مثقفين وعمال ..... تتبين الأوجه لاتجد  سوى الحزن والآلآم .... والصبر .... والحب لذاك الملاك الراحل ... خرجت المدينة عن بكرة أبيها لوداعه وكأنها تودع ود مدني السني .... فهذا علم آخر ينزوى ......وتلبس المدينة ثوب الحداد .

وشهدت أيام العزاء تجمع كل الأدباء من جميع مدن السودان ،  وتبارى الأدباء بسرد تاريخه الناصع  وكان أول المتحدثين الأستاذ محمد عثمان عووضة وتلاه الشيخ  والعالم الأستاذ أبو قناية  ثم الأستاذ محمد صالح ولفيف من المتحدثين وتضمنت الكلمات مزيداً من الدموع سوى من المتحدثين أو المستعمين وبعد ذلك انفض السامر وتفرق الناس ، وهكذا حال الدنيا .... وكما قال الشاعر المتنبى :

                   ما كنت آمل قبل نعشك

                                                أن أرى رضوي على أيدي الرجال تسير

   له الرحمة والمغفرة .

 

 

راسل الكاتب