في ذكري رحيل قمر الجزيرة 

 

  للكاتب : صلاح الباشا... الدوحة

 

  هاهي السنون تجري ... خمس سنوات هي في عمر الزمان تمر كلمح البصر ، لكن عندما يكون في الأمر رحيل قمر بأكمله من نطاق مساحة جغرافية بحجم الوطن كله  و نراه قد إشتهر عبر السنين الطوال بكثافة إسهامه في الشأن الثقافي .. وتفرده في الشأن الرياضي .. وكثافة أدائه .. هذا القمر الذي كان مضيئاً ومتوهجاً دوماً لأربعة عقود من الزمان في سماء المدينة .. مدينة الأحلام ( ودمدني ) .. كان قمراً يضيء دنيا الحياة الإجتماعية فيها.. فكانت تتكاثف جهوده كل لحظة من لحظات عمره ليضع تراثاً ثقافياً ورياضياً وإجتماعياً لم تخطئه العين مطلقاً طوال حياته العامرة بكل جميل وبكل خير . ونحن إذ نذكره رغم زحمة الحياة فإن الرابع عشر من مايو في كل عام يمثل لنا ولأصدقائه في كل الدنيا – وهمُ كثـر – محطة حزينة تتجدد فيها الذكريات .. ولكنها تحتضن حزمة دعاء للراحل بأن يتغمده الله برحمته بقدرما ما كانت حياته زاخرة بحسن المعشر وحسن التعامل الإجتماعي الراقي والحميم والصادق ... ( والدين المعاملة ) .

أما إذا مررنا مروراً عابراً وسريعاً عند محطات منجزات الراحل الضخم جدا بولاية الجزيرة بودمدني .. فإننا نجد أنفسنا أمام عطاء كبير وغزير لذلك المثقف والرقم الإجتماعي الكبير والفنان المبدع الذي رحل عن دنيانا بمدينة ودمدني في أمسية الأربعاء الحزينة 14/5/1997م .. الراحل المقيم حسن الباشا .

   وفي حقيقة الأمر لم يخطر ببالي وأنا أكتب عن كل منجزات أهل الإبداع في بلادي بكثافة بائنة خلال السنوات الماضية في عدة مواقع وصحف سودانية وعربية وإليكترونية .. لم يخطر ببالي أن أكتب عنه يوما ما .. عن أخي الكبير الراحل حسن الباشا .. لكنني – والله يشهد علي ذلك – ظللت أستلم في كل مرة عدة رسائل وعدة مكالمات وعدة مناقشات شفهية من أبناء ودمدني الأوفياء في كل الدنيا في أنني لماذا لا أكتب عنه – عن اخي الراحل – وكنت في كل مرة أكتفي بما يذكره الناس عنه بكل خير في كل مرة ، لأن الشهادة في هذه الحالة ( تكون مجروحة ) كما يقول المثل عندنا بالسودان لأنها شهادة من داخل أهل  البيت .. بيت الراحل الضخم حسن الباشا .. غير أنني قد إستلمت رسالة  إليكترونية مؤخراً من شخصية لم يسبق لي مقابلتها في يوم من الأيام وقد وجد عنواني الإليكتروني في صحيفة الخرطوم ذات مرة فأرسل لي بأنه كان صديقاً لصيقا وحميماً لأخي الراحل حسن الباشا منذ بداية ستينيات القرن الماضي حين كان هذا الشخص طالباً في حنتوب الثانوية وكان دائم الزيارات لمنزلنا ببركات بودمدني قبل عقود طويلة من الزمان مرافقاً لواحد من الطلاب له علاقة قرابة مع أصهار الراحل المقيم حسن الباشا ، ثم توطدت العلاقة فيما بعد بينهما .. قال لي هذا الشخص وهو الأستاذ ( عبدالله علقم) الخبير والمقيم حالياً بمدينة جدة بالسعودية بأنه قد قرأ حديثي عن الراحل الضخم جداً الفريق إبراهيم أحمد عبدالكريم وقد ذكر لي بأنه قد إنفعل بالمقال ذاك .. ولكنه قد تذكر وقتها راحل ضخم جدا – آخر – وهو الأستاذ الفنان حسن الباشا .. وقد خاطب الرجل ( علقم ) فينا أشياء عديدة إستفزت مشاعري التي أبت في الماضي أن تكتب عنه  .. عن اخي الراحل .. ولكنني هذه المرة بعد تلك الرسالة  تملكني شعور غريب وقوي جدا لم أستطع منه فكاكاً في أن أكتب قليلا جداً عن هذا القمر الذي رحل .. فهاهو الرابع عشر من مايو قد أطل ليوافق الذكري الخامسه لرحيله عن دنيانا . لم يطاوعني يراعي في البدايه عن الكتابه .. فكيف أكتب عن واحد من داخل مساحات بيتي .. عن واحد شهدت له الجزيرة بمنجزات إجتماعية عديدة تركها خلفه ورحل بكل هدوء .. فقد جال بخاطري شريط من الذكريات ، منها القديم ومنها المتجدد  ومنها الجديد .. ففي المجال الرياضي قد ترأس الرجل إدارة نادي بركات الإجتماعي الرياضي لسنوات طوال بمشروع الجزيرة .. كما عمل في عدة لجان بأندية ودمدني .. وكان لصيقاً بكل إدارات الأندية الرياضية .. فقد زامل وصادق الجيل القديم من الرياضيين بالمدينة : إبراهيم كرار وأمين عبدالله الفكي وعابدين عبد الرحمن الحكم الدولي .. وعزت أبوالعلا وعبدالعظيم عبد الرؤوف .. ثم كان صديقا وفيا لكل الأجيال الجديدة في إدارات الأندية ولاعبي الكرة .. تعددت صداقاته التي قام بتوظيفها لمصلحة الفن بالجزيرة .. فهاهو منذ أكثر من ثلاثين عاما يؤسس أول وأكبر دار لإتحاد فناني الجزيرة بودمدني وقد ترأس مجلس إدارة نادي إتحاد الفنانين منذ تأسيسه حتي رحيله ..كان الراحل محبا للفن والفنانين .. وقد شهدت داره ميلاد العديد من الأعمال الإبداعية والنقاشات الأدبية .. فهاهو ذاك الفتي ( فضل الله محمد ) يأتي بالجديد من أشعاره وهو لايزال طالباً بعد بكلية الحقوق بجامعة الخرطوم .. فيطلع عليها الراحل حسن الباشا ويشدو بها صديقه الفنان محمد الأمين .. فكم شهدت دارنا ببركات ميلاد عدة أعمال خالدة   الحب والظروف – الجريده -  الموعد – أربعة سنين.. وغيرها وغيرها .. ثم يزوره صديقه ابو عركي البخيت برفقة الراحل الجميل حسن محمد أحمد الموظف الأسبق بمشروع الجزيرة  آنذاك قادمين من مدني إلي بركات لقضاء أمسية أو نهارية بدار الراحل حسن الباشا وتكون الجلسه هي ميلاد ( بوعدك يا ذاتي يا أقرب قريبه) التي كتبها له  فضل الله محمد أيضاً .. وكم كان محمد مسكين يغرد كثيراً عنده ( من أرض المحنة ومن قلب الجزيرة .. برسل للمسافر أشواقي الكثيرة ) ، وهاهو الشاعر الراحل الكبير ( بدوي بانقا ) يلقي علي مسامعنا بدارنا ونحن في بداية حياة الطلب نسترق السمع من شباك الصالون والجميع يكونون في حضرة الأدب والراحل حسن الباشا  يناقشه في لازمة أو في مقطع .. وقد نري الموسيقار علي إبراهيم علي يمسك بأوتار عوده ليحركه فيشدو بإبداعات الفن الجميل ( وصف الخنتيلا) .. ثم يأتي الراحل الظريف أيضا رمضان زائد ليساهم في إحياء أفراح البيت .. بيت صديقه حسن الباشا بتلك الروائع     ( أنا ليتني زهرٌ  في خدك الناير)

وكنا نشهد إبداعات ملوك الكمنجات من مبدعي ودمدني وهم الآن يبدع معظمهم بالعاصمة للوطن كله .. إسماعيل يحي.. الحبر سليم.. عذ الدين فضل الله .. محمد مليجي.. عبدالعزيز كيرتس.. حسين عبدالله .. يوسف فضل الله .. دكتور الفاتح حسين .. الرشيد عوض وأحمد عوض صمام أمان أوركسترا الراحل علي آلة الأكورديون.. وكيف ننسي جلسات الإجتماعيات الراقية دوماً مع صديقه الأستاذ أمير التلب الذي كان مديراً لمسرح الجزيرة لسنوات طوال حين كانا يحملان هموم مهرجانات الإبداع في المدينة سوياً لسنوات طوال .

    وحتي جيل الشباب من مبدعي المدينة الجدد كان الراحل حسن الباشا يهيء لهم متسعاً من الفرص لكي يشدون بإبداعاتهم .. فكان عبدالعزيز المبارك .. ومحمد سلام .. وكان الرشيد كسلا.. وكان الأخوين علي وفتاح السقيد. وكان جمال الشاعر وصلاح وأمين جميل .. وعباس جزيرة . وحيدر الرفاعي ومحمود أبو الكيلك  .. وكان  الحاج الشيخ وعصام شرحبيل وفايز مليجي .. حتي جيل عصام محمد نور وأحمد طابت . فقد رأيناه وقد كنا صغاراً يأتي لنا بعمالقة الفن من الخرطوم لإحياء الحفلات المسرحية بودمدني وببركات .. أتي بمحمد وردي لأول مرة في عام 1960م ثم بالكابلي وإبن الباديه ( صديقه الذي كان يؤدي الراحل معظم أعماله بذات مخارج الصوت وطبقته) .. أتي لنا بعمالقة الفن الشعبي أيضاً : عوض الكريم عبدالله وبادي محمد الطيب .

  وهنا لا ننسي ذكريات تكريمه من رئاسة الجمهورية في عام 1984م بمنحه الوسام الذهبي في مهرجان الإبداع الثقافي بمسرح الجزيرة حين قام  الراحل حسن الباشا  بالإشراف علي إنجاح فعاليات المهرجان بالكامل حين كلفه بذلك العمل حاكم الأقليم الأوسط وقتها وصديقه رجل المنجزات التاريخية ( العم عبدالرحيم محمود ) أطال الله في عمره والذي شهد عصره قيام أكبر تجمع صناعي بالسودان بعد الخرطوم بحري وهي المدينة الصناعية بمارنجان التي تتصدرها مجموعة مصانع شرف العالمية للنسيج والمطاحن ومعاصر الزيوت .. وقد شهدت إحدي فعاليات  المهرجان بمسرح الجزيرة ليلة وفاء لفنان ودمدني الراحل رمضان حسن حين شدا بأغنياته معظم فناني الجزيرة الذين حضروا من العاصمة .. تغني بأغنيات رمضان حسن في ليلة الوفاء تلك : أبو الأمين ( أنا سكنتوا قلبي ) وتغني الكروان الراحل مصطفي سيد أحمد ( الأمان الأمان من فتقات عيونك) وتغني حسن الباشا ( أشكو ليك يا ربي) .

  ونحن إذ نتذكر الراحل المقيم ( حسن الباشا ) نشعر بأننا لم نوفيه حقه مثلما ظل يذكرها لي دائماً صديقنا محمد شيخ العرب من جده وآخرون في رسائلهم لنا دائماً .. لكننا نكتفي بهذا القدر .. تاركين سجل الذكريات الطيبة تنداح دوائرها في مخيلة أصدقائه القدامي من جيل الشيوخ ومن الجيل الجديد من جيل الشباب .. ليبقي  الراحل ساكناً بكل هدوء داخل وجدان أهله في ودمدني الجميلة.. وهاهو إبنه المهندس أمير قد رزقه الله تعالي بمولود كان لا بد من أن يعيد به تاريخ أبيه الراحل .. لذا فقد حمل الحفيد الجديد إسم  الجد الراحل المقيم (حسن الباشا ) .. عليه الرحمة ... وإلي اللقاء ،،،

 

 

راسل الكاتب