البيت .. الحلم

بقلم / عمر حسن غلام الله 

 

لبس أبي جلبابه ووضع المظروف الغالي داخل جيبه وتأكد أنه وصل الى قاع الجيب، وتحسسه عدة مرات قبل أن يصل باب الحوش، وأمي وراءه توصيه أن يركب تاكسي بدل البصات حتى لا ينشله أولاد الحرام، وأوصته أن يركز جيداً وهو يوقع العقد- عقد شراء البيت- وألا ينسى أن يأخذ معه حسين وعبد المجيد ليشهدوا على العقد، فهم معروفون في السوق ومأمونون.. كل هذا ويد أبي تتحسس المظروف (أبو مية جنيه).. تلك المائة التي جمعها أبي خلال مسيرة عمله في وزارة الري، مضافاً إليها ما وصله بالأمس من الشمالية نصيبه من ثمن محصول البلح الذي تم بيعه في هذا الموسم.. وحصيلة ثمن ذهب أمي الذي ورثته عن أمها وذاك الذي أهداه إياها أبي في عرسها، والذي بيع أيضاً، ليكتمل ثمن البيت الذي سيأوينا بعد تقاعد أبي عن العمل ونزع البيت الحكومي منا..
رغم أن أمي أقنعتني بأن أؤجل موضوع خزانة الكتب التي رغبت في الحصول عليها إلى حين- لأن البيت أهم- ولكن ما زلت ممتعضاً من هذا التأجيل، فكتبي على الأرفف يعلوها التراب، وتحت المراتب.. ولكن البيت أهم، هذا ما ظللنا نسمعه طيلة سنين طويلة كلما أردنا شيئاً أو رغبنا في حيازة شئ، ثم طمأنت نفسي بأن العقبة الكأداء قد أزيحت ابتداء من اليوم، فعقب شراء البيت لن يكون هناك عذر لتأجيل شراء خزانة الكتب والاشتراك في النادي الرياضي، وشراء كتب آجاثا كريستي وروايات أحسان عبد القدوس وسلسلة جيمس بوند..
لاحظت أن حركة أمي في البيت غير عادية، فهي تدخل وتخرج من غرفة الى غرفة ومن المطبخ الى الحوش ثم الى المطبخ مرة أخرى، ثم تفتح باب الحوش وتنظر الى الشارع- رغم أن أبي قد اختفى من الشارع منذ فترة ليست بالقصيرة، ومؤكد أنه لم يعد بعد- وتحدث كل هذه الحركة في أوقات متقاربة جداً، وهي متوترة، وتتغير تعابير وجهها باستمرار، فمرة هي مبتسمة ومرة مغضنة الجبين مكفهرة، مرة تغني ومرة تمدح ومرة تدعو، ويبدو ان موضوع شراء البيت هو السبب وراء هذه الحركة الكثيرة.. حاولت أن أشغلها بالحديث معها، ولكنها كانت ترد عليّ باقتضاب وبالها مشغول عني..
ويبدو أن التوتر قد انتقل إليّ أنا أيضاً، فقررت أن أخرج وأمشي قليلاً لعلي أفرغ شحنات التوتر تلك، وخارج البيت قررت أن أذهب الى صديقي عبد الواحد.. جلسنا نلعب الورق (كونكان 14) فما أحسسنا بالزمن، وفجأة تذكرت أبي والبيت وأمي القلقة، فقفلت راجعاً الى حيث نسكن، طيلة الطريق وأنا أحس بإحساس مبهم، شئ ما في صدري، شعور غير مريح، شئ أشبه بالخوف، ولكن خوف من لا شئ، خوف من نوع غريب غامض..
ما إن دلفت إلى داخل الحوش حتى أدركت أن شيئاً ما قد حدث.. شئ غير سار.. وجدت أبي وقد بدأت عليه فجأة علامات الكبر، يرقد في عنقريب بدون لحاف- يبدو أنه لم ينتظر حتى يضعوا اللحاف- ورأيت أمي تضع راحتي كفيها على رأسها وتحيط بساعديها جانبي وجهها، وعيناها جاحظتان وهي تحملق في أبي، وسمعت نهنهة فالتفت فإذا اختي تضع وجهها على حجرها وتنتحب.. ماذا جرى؟ لم استطع أن أسأل هذا السؤال، أو بالأحرى لم اتجرأ على السؤال.. فخوفي من الإجابة حبسني..
- أبوك نشلوه يا ولدي!
طلعت هذه الجملة حشرجة من أمي، بالكاد سمعتها، وبالكاد فهمتها، ولكني لم استوعبها..
- قلتي شنو يا أمي؟
- قروش البيت اتنشلت من ابوك.. المية جنيه..
- كلها؟
وكأني بهذا السؤال اترك لنفسي المجال لاستيعاب ما حدث، لكن يبدو أن عقلي توقف عن العمل.. خزانة الكتب، روايات ارسين لوبين، الاشتراك في النادي الرياضي.. كل هذه ضاعت؟ كل أحلامي تبخرت؟ أين نذهب بعد أن ينزعوا مننا البيت الحكومي؟ حتى مصوغات أمي ضاعت منها إلى الأبد؟
قضيت الليل ما أنا بنائم ولا أنا بمستيقظ، كوابيس وقلق ونوم متقطع، وبين اليقظة والكوابيس سمعت صرخة أمي، فقفزت من السرير قبل أن افتح عيوني، فاصطدمت بالترابيزه الموجوده امام السرير وسقطت أرضاً، ونهضت واقفاً وجريت الى مصدر الصرخة فوجدت أمي تقف أمام ابي المضجع في سريره وفمه مرتخٍ جانبه الأيمن، وهو يحاول أن يتكلم ولكن يبدو أنه عاجز عن الكلام.. فبدأ يؤشر بيده اليسرى- وهو لم يكن أيسر- فجرت عيني الى يده اليمنى فوجدتها لا حراك بها.. لقد أصيب أبي بشلل نصفي..

***

بدأت بعود واحد من قصب السكر يقطعه لي بائع القصب بالجملة الى أربع أو خمس قصبات صغيره أبيعها عند باب بيتنا، ثم أصبحت أشتري ربطه كاملة من القصب استأجر حماراً لنقلها الى أمام بيتنا، فقد أصبح لي زبائن كثر، وفي المساء استجلب ربطة أخرى لأبيع القصب أمام السينما، كان ريع بيع القصب يكفي معيشة أهلي بالكاد، لذلك كان لابد من تغيير مسار حياتي، فلا مجال لأن أدرس الجامعة، لذا بعد نجاحي في امتحان الشهادة الثانوية بتفوق قدمت لكلية الشرطة- الشرطة وليس الجيش- فلابد لي من تأديب النشالين والحراميه، أليسوا هم السبب في وفاة والدي؟ أليسوا هم السبب في تغيير مجرى حياتي وحرماني من دخول كلية الهندسة التي أهلني مجموعي لدخولها؟ أليسوا هم السبب في حرماني من قراءة قصصي المفضلة من (روايات عالمية) والقصص البوليسية لآجاثا كريستي، والروايات العاطفية لمحمد عبد الحليم؟ أليسوا هم السبب في جعلي (بائع قصب سكر) بدلاً عن التحاقي بالنادي الرياضي الذي أحبه؟ لابد من الثأر منهم، يوماً ما سأعرف من نشل أبي وسأقتص منه.
وآثار جريمة هؤلاء الجبناء تعدت المسائل المادية والدراسية الى عمق المسائل العاطفية، فقد أجبرني احترافي لبيع القصب أن أنأى بنفسي عن (الحنان)، وحتى عندما اكتسيت البدلة العسكرية ولمعت على كتفي النجوم التي لفتت أنظار حسان الحي، لم آذن لقلبي أن ينفتح لاحداهن، فالهدف الأوحد هو شراء البيت- ذاك الهدف الذي أودى بحياة أبي- ولأجله كنت أقبل نقلي الى مناطق الشدة، ففيها استطيع أن أوفر أكبر جزء من راتبي، ومنها استطيع جلب ما يمكن بيعه في المدينة، فقد اتقنت التجارة بدءاً من قصب السكر مروراً بخشب الدمازين وأبنوس الجنوب وعسل الغرب وبلح الشمال ومهملات ميناء بورسودان..
تعلقت بي سابنا (هكذا كان يلقبها أبناء الحي)، ولكني كنت في شغل شاغل عنها، ويبدو أنها اعتبرت تشاغلي عنها نوعاً من (التقل) المتعمد، فزادت من تعلقها وولهها بي.. كانت بالفعل جميلة ورقيقة، ولا غرو ان أطلق عليها شباب الحي هذا الإسم، ووصفني أصحابي بأنني إما أعمى أو مجنون أن أترك مثل هذا الغزال يفلت من بين يدي، وتمنوا لو نالوا حتى نظرة من عينيها أو بسمة من ثغرها.. قلت لهم- ولها- أن مشواري ما زال طويلاً، قالت سانتظرك، قلت حرام أن أظلمك واجعلك تنتظرينني سنين لا أعرف كم سيكون عددها.. وانتظرت وطال انتظارها- او هكذا خيل إليها عندما تقدم لها المغترب- فجاءتني تخبرني بأمر هذا الخاطب، فباركت لها، فدمعت عيناها، ثم هربت من أمامي.. وتزوجته.. ودمعت عيناي.. لأول مرة منذ وفاة أبي..
كله يهون في سبيل تحقيق حلم أبي الذي رحل بسببه، وحلم أمي الذي باتت تنتظره مني، وحانت اللحظة السعيدة، فقد كافأني أحد التجار الكبار بمبلغ محترم لمجهوداتي في إعادة مسروقات قيّمة له، فأضفتها لما تجمع لدي من مال طيلة السنوات السابقة من بيع منتجات الأقاليم، واخذت سلفة من البنك، وأكملت ثمن البيت، مائة مليون جنيه.. لم أعد أدري هل أنا سعيد أم حزين؟ سعيد لأنني حققت حلم الأسرة، وحزين لأن هذا البيت دفع ثمنه ابي عمره، ولأنه أخذ مني أحلى أيام العمر.. فترة الصبا والشباب.

***

عدت من مكتب المحامي بعقد شراء البيت، وقبل أن أصل الى باب البيت الذي نسكنه ناداني أحدهم، فالتفت، فإذا به أحد سكان الحي المجاور لحيّنا، فسلم عليّ ثم سلمني مظروف، نظرت في المظروف فوجدت أنه معنون الى أبي – رحمه الله- فعقدت الدهشه لساني، ولم انطق ببنت شفه، ونظرت الى الرجل نظرة استغاثة أن يُفهمني ما ذاك المظروف ومن أرسل لأبي رسالة وأبي قد فارق الدنيا منذ أمد بعيد..
شرح لي أنهم قد هدموا البيت الذي اشتروه ليعيدوا بناءه فوجدوا داخل الجدار علبة حديدية فتحوها ووجدوا بداخلها هذا المظروف، فقرأوا الإسم على المظروف وعرفوا أنه يخص والدي..
فتحت المظروف.. واخرجت محتواه.. إشعار تحويل مبلغ عشرة جنيهات من بوستة كورتي الى بوستة ود مدني، و.. مبلغ مائة جنيه..
شعرت بدوار، أمسكني الرجل، لحقت باب بيتنا بالكاد، استندت عليه، أعدت فحص المظروف ومحتوياته، لم أستطع رؤية شئ، كانت غشاوة تمنعني، بل كانت دموع ترقرقت في عيني.. لماذا يظهر هذا المظروف الآن؟ في هذا اليوم بالتحديد، وفي هذه اللحظة بالذات التي تسلمت فيها أوراق البيت؟ البيت الذي كان من المفروض ان نشتريه منذ عقدين من الزمان- أو يزيد- لولا هذا النشال المجرم.
وزاد الرجل توضيحاً بأنهم كانوا قد اشتروا هذا البيت منذ مدة، والذي يبدو أن مالكه السابق لم يكن يسكنه، بل كان يؤجره لأحدهم، وربما أن المستأجر الذي عاصر تلك الأحداث- المؤلمة لنا- هو من خبأ المظروف في الجدار.. فهو بلا شك من نشل أبي، وقضى عليه، وأرمل أمي، ويتّمنا، وقضى على طموحاتي.. ثم ترك الزمن يأكل تلك المائة جنيه دونه.. نعم تذكرت الآن من كان يسكن ذلك البيت في تلك الفترة، إنه بالفعل لم يكن ذو سمعة طيبة، ولم يمهله العمر ليستفيد من غنيمته الكبيرة، لقد لحق بأبي الى دار الآخرة قبل أن يستخرج كنزه المسروق، فتركه للزمن ليصبح مجرد أوراق ملونه لا تساوي حتى (حلاوه كرمله).. مائة جنيه كانت كافية لشراء بيت الأسرة، اختزلت في اوراق لا قيمة لها، لقد كانت كالمائة مليون التي اشتريت بها البيت اليوم، ولقد كانت أهم من كل ملايين الدنيا، لأنها كانت ستبقي حياة أبي- استغفر الله العظيم، استغفر الله العظيم..
وانتبهت للرجل يردد معي استغفر الله العظيم، استغفر الله العظيم ..

(نشرت بجريدة "الصحافة" الصادرة يوم الجمعة 11/8/2006م)



 

 

 

راسل الكاتب

محراب الآداب والفنون