الطفل في اقماطه
 

بقلم القاص: مبارك الصادق
تقديم
/ عمر حسن غلام الله 

 

حالما تلقيت النبأ وأنا بالكاد أفرغ من تسويك اسناني وبأنفاسي تعبق رائحة المعجون العاطرة، شخصت الى دارهم ولم أعبأ بصيحات اختي "اشرب الشاي.. اشرب الشاي يا مجنون!"
ولكني وبجنوني ذاك انفلت لا ألوي على شئ.
رذاذ الضحكات يتناثر في فضاء الساحة.. حركة نساء دائبة.
كانت الشمس تتسكع على مرج الصباح.. والغرفة مسدلة الستائر.. وأزيز المروحة خافت الرنين.. وضوع العطر عالي الصوت المبهج.
ما توانيت.. دلفت.. في موكيت الغرفة الوثير بنعلي سرت.. ما تلفت.. النساء الفاغرات الأفواه بهن لم أعبأ.. يسعين نحوي يقدمن لي الأخبزة والحلوى.. يظنني جئت أملأ جيوبي بأخبزتهن الملونة!
كان مخدعها في ركن الغرفة يبدو في مهابة الجلال.. وعلى رأسها طبق من البراتيل ملون الضفائر، يتلاصف في وهج الضوء الخافت.. والشاش الأبيض يفترش مساحة الطبق في وقار رزين.
وبالتجلة كلها والإحترام الوقور وضع على ذلك البرتال الكتاب العظيم.. ثم السيف الصقيل في قرابه الأحمر، وسيوره المدلاة.
شخصت اليها وهي في مخدعها ذاك.. ناظرة اليّ كاتمة فرحتها المنطلقة.. خاضعة لطقوسهم، وأنا أجدها حلوة المنسم.. جميلة الميسم!
النساء حولي يتحدث عن جرأتي وفضولي.. اقتربت منها.. منه.. أرسلت يدي كشفت عنه الغطاء.. يا الله.. كم هو جميل؟؟ كم هو صغير.. مغمض العينين كان.. مغمض الكفين كان.. يلتقم حلمة الثدي الوافر.. انظر الى الثدي العاري العامر.. عظيم الامتلاء.. عروقه الخضراء النافرة.. الدهشة تكسو نظراتي.. الدوامة تدور بي.. الشيماء.. خضرة العروق النافرة مثل مياه الكونية العميقة الاخضرار.. الأصداف واللؤلؤ والمحار.. تنكرني العطور الباذخة..
أنظر إليها اللحظة كأني لم أرها من قبل، تزداد تألقاً وبهجة مترفة. أنظر الى عينيها الكاحلتين، العميقتين كما البحيرة.. ثم أعود لأرنو الى الطفل.. يا الله..
لنفسي أقول: كم هو جميل.. إنه يشبهها تماماً.. أقترب منه.. ألثمه في جبينه.. تروح يدها تسافر في شعري الأكرت.. تداعبه.. أستنيم لدغدغة أصابعها الجائشة.. تغمرني عطورها الناعسة. أود لو أني أتدثر في تلك الأقماط.. فاحتشد بحلمي.. أنصت الى همسات قميصها الشفاف.. أتملى خطوط الطول والعرض.. "جوديسيا" التضاريس.. أرخبيل الروح الهيمان.. ثم أروح أنظر الى ذلك المخلوق.. في ساعده تميمة.. في يده الأخرى ودعات وسكسك.. ثم خرزة كبيرة خضراء اللون.. وعلى صينية دائرية حبات ملونة من أصداف وسوميت.. وعظام فقارية لأسماك.. وسبحة من يسر.. وسعفة لدنة وجريدة من نخل خضراء، وفال وبشريات مقبلات! النساء الموجودات يستغربن وقفتي وتأملي.. بل انبهاري وشرودي.. وأنا بهن غير معنٍ.. فقط تفعمني اللحظة.
نوم الطفل الهادئ.. ألق السكينة البادي.. رفيف طيوف السعادة المؤتلقة.. اريج الطيوب السابحة.. تعابير الوجوه المفعمة بالحنان الوثير. أروح أغمض عيني.. أتوهم الزمان والمكان.. الانطلاق.. وسائد الأحلام.. عسل المساءات الخضيلة.. نداء الشوق المتأجج.
آه.. لماذا تخرجني لغة الطفولة، وأنا الذي أريد الانفلات من قبضتها.. لا أحفل بارتباكي اتنشق مزيجاً من مشاعر الخوف واللذة.. تردان في داخلي أراجيح الشهيق والزفير.. الإقبال والإدبار.. الجفوة والنشوة.. المشاعر الشفيفة.. أتملى تقاطيعي.. تغيرات جمة تعروني.
دلفت ذات مساء أبيض الى دارنا تستأذن لي:
"وحيدة أنا.. وأخاف ظلمة الليالي وزوار الليل.. وأبونا في مأمورية تطول بضعة أيام نريده أن يكون رجل البيت الحامي.."
وملتفتة اليّ ومردفة: من حسن حظك ستجد من يذاكر لك!! أحمل كراساتي وأشيائي وأنا أكاد أطير.. رغم أن البيت في الجوار.. وأنا في الهزيع الأخير من الطفولة.
وهكذا توالت الأيام.. والحلم يشرئب.. والقلب لا يهدأ.. ويطول الانتظار.. أحدق على نافذة الوقت.. أين بوح السحاب الهامي؟؟ أين تدفقات النزيف المداري؟؟ يا طبقة الأزون والاحتباس الحراري!!
ما هذا النثيث الذي يتآكلني؟؟ ما هذه الإحساسات التي تنتابني؟؟ ما هذه المشاعر التي تتلبسني؟؟ أأظل هكذا لا أجد تفسيراً لهذا الذي يعروني؟؟
تتداخل الحروف في كراساتي وأنا أسترق النظر.. أضيق بقلقي.. أتناعس.. جدد نشاطك تقول.. أدخل اغسل التكلس من جسد الأشرئباب العجول.. أغطس في عطر الصابون ليداعب جسدك حفيف الماء الفاتر ورذاذه المنثال عبر الصنبور.. كيف التوافق بين الإنثيال والاحتباس؟؟ با بتلاتي المتلفة بين الواحب والمستحيل.. يا عرقي المتفصد عبر مسام التوقد والاشتهاء.. يا جهد المدارة المبذول.. يا صبري الذي عيل.. يا وجعي المتجدد.. يا إفراز الروائح الغريبة.. يا نظرات الضراعة المريبة.. إني أكاد أجن.. بمن ألوذ ليعيد إليّ هدوئي وسكينتي؟؟
الآن أحس بأن جولات من الملح قد غادرتني.. أكاد أرف في سديم الجو المنتعش برغوة الصابون العطير..
لعلك ارتحت الآن أيها الصغير المشاغب من تعب النهارات التي لا تفتر بين الجري والطراد والدافوري؟؟ فأين الاستذكار؟
يتناثر الماء في جسدي.. أفزع الى البشكير الأزرق ألف به جسدي.. أدلف الى الردهة.. المرايا الصقيلة تعطيني صورتي.. أمد يدي الى قواريرها أمس عطورها.. أرجل شعري.. يحملني العطر الى أجواز علوية.. ترف أجنحتي على أثير الزمن الجانح.. يتسع المدى.. الآفاق الأرجوانية.. الأقواس القزحية.. الأطياف السماوية.. تشكل المرائي والألوان.. خضرة اليخضور.. والدوامات العميقة تأخذني الى مداها الأعمق.. استكفي في دهاليزها الخبيئة.
تتركني وتمضي.. رذاذ الماء ينساب من الصنبور.. الصابون يذيع سره العاطر.. أسمعها تدندن بلحنها الأثير.. الصدى والماء يحملان روعة الصوت الدافئ الملتاع في شجوه الشاجي.
تأتي نضرة متألقة.. يلتصق ثوبها البرتقالي بناعم الجسد البض.. تقتحمها نظراتي.. تستغرب اضطرابي ولهوجتي البادية.
تدلف الى المرآة الكبيرة.. تجلس الى كرسيها.. تروح تمشط شعرها الأثيث.. تلتفت فجأة الى ناحيتي.. تضبطني وأنا استرق النظر الشهواني اليها.. تقول وهي شبه غاضبة، وما هي بالغاضبة: أيها الهباش.. من أذن لك باستعمال هذا العطر؟
لم أرد.. هي نفسها ما كانت تنتظر رداً.. أكملت تسريحها.. مسحت جسدها بطيوبها.. صارت أكثر طيبوبة عندما ألقت على وجهها بعض ما عنّ لها من مساحيقها.
حين جاءت ثانية كدت أشهق.. كان شكلها مختلفاً.. قالت وهي لا تكاد تنظر اليّ "اني ذاهبة لأنام.. اطفئ التلفاز حالما تتعب!!"
أولم أتعب حتى الآن؟؟ تظنين؟؟
قلت: "أين غطائي؟؟ اني في الفرجة زاهد!!"
سبحت الغرفة في الظلام.. وفي فضاءاتها سبحت شلالات العطور تذيع أسراراها.. والنوم شط المزار.. والفكر يسافر بي نحو البعيد.. الى جزر عميقة الغور.. أروح ألوب وأدور.. بفكر آحادي المنحى.. الحلقة المفرغة.. الدوامة المتلفة.. الدرويش وهو في عمق الدائرة يلف بقدمه الواحدة.. أسقط في بئر الردى والتردد وأنا بانتظار سيارة يدلون دلوهم فيصيح صائحهم حين يشرق الصباح يا بشراي هذا غلام طيب!!
يا برهة في ذاك الزمان الخضيل حين قامت تسير نحوي في بطيئ خطواتها.. يا شجوى الذي ما ونى.. يا ضربات قلبي المتسارعة.. صبراً جزيلاً.. ها هي آتية لتحملك الى عرش الدهشة والبهاء.. لتمنحك بادرة اللذة والجنون.. لتغدق عليك سخي عطائها- لتحملك الى أرض القرنفل والحبهان.. اللحظة سيبدأ الخط الفاصل بين الكائن الجديد والطفل الذي كان..
ستهتز الأرض وستربو وتنبت من كل زوج بهيج..
الخضرة الهانئة.. اللحظة المانعة.. هاهي قد دنت وتدلت.. أقبلت صوبي.. أخيراً أخيراً.. هاهي حيالي قد وقفت.. ظلت واقفة لبرهة من الزمن.. أكانت تتأمل نومتي الهادئة؟؟ أم تراها حائرة وخائفة؟؟ أم هي مترددة واجفة؟؟
أقبلي ولا تراع إن قلبي إليك اشد هيجاً و احتداما.. فإلى ما هذا الوقوف الى ما؟؟
وأخيراً هاهي اسدلت عليّ الغطاء.. لم تتركني للبرد.. يا للحنان الوثير.. يا للقلب الكبير.. تسدل عليّ الغطاء وهذا الليل هو الآخر قد أسدل علي ستائره وغلق أبوابه وأهداني الى السهر؟؟ وهي لم تقل لي هيت لك!!
وهكذا انقضت الليالي.. بين المد الجاسر والجزر الحاسر.. وأنا تلتهمني رغائبي.. ووحش الأليال الذي يحرك ذيوله، ويكشر عن نابه..
لم أعد أذهب الى دارها بعد أن عاد صاحبها.. بل لم أعد اراها حتى إلا لماما وعلى البعد.. وفي المرات القليلة التي رأيتها عن قرب بدت أكثر تفتحاً وتألقاً. وازداد لدي ذلك الشئ الذي لا أعرف أن أسميه، ولا أعرف له تفسيراً كل ما رأيتها.. حتى أن أقراني تجاسروا يسألونني عن حقيقة أمري!
دلفت الى دارها في تلك الصباحية غب المطر.. لأرجع بكتاب لي كنت قد تركته هناك.. كان الجو غائماً ورطباً.. وثمة أدخنة ناعمة تنسرب من اتجاه المطبخ النائي.. وصاحبها كنت قد لمحته قد خرج.. أصدرت صوتاً خافتاً وأنا أرسل التحية.. نادتني تعال الى هنا ايها الطفل المشاغب.. لقد جئت في الوقت تماماً!!
كانت مستسلمة لأدخنة الطلح العاطرة، والعرق يتفصد عبر مسام جسدها العاري فيما هي تجول بعينيها يمنة ويسرة للتفادى الأدخنة اللطيفة.. اقشعر بدني.. وتقافز ذلك الشئ في داخلي.. رأتني في قمة تعبي واضطرابي، فما زادت على أن قالت اعطني كوباً من الماء أيها المجنون! فظللت في وقوفي كأني لم أسمع الذي قالت.
ألا تسمعني؟ قلت لك اني عطشى.. وانك جئت في الوقت لتعطيني الماء، فهات أسقني واترك هذا التبله!!
ناولتها ما طلبت.. وانسللت جارياً أبكي!!
والآن ما زال رذاذ الضحكات يتناثر في فضاء الساحة.. والنساء في حركة دائبة.. والشمس كانت تتسكع على مرج الصباح، والغرفة مسدلة الستائر.. وأزيز المروحة خافت الرنين.. وضوع العطر عالي الصوت المبهج.. وأنا ما زلت أنظر الى الطفل في أقماطه.. في ما كانت يدها الخضيبة الناعمة تواصل مداعبة شعري الأكرت!!

القاص: مبارك الصادق
* قاص وروائي وناقد، من مؤسسي رابطة سنار الأدبية وظل رئيساً لها لعدة دورات، وانتقل الى مدينة ود مدني لظروف العمل. نشر انتاجه في معظم الصحف والمجلات السودانية وبعض المجلات العربية. أصدر مجموعته القصصية الأولى في عام 1979م بعنوان "السير في الليالي المطيرة" وقد أثارت ضجة نقدية هائلة لمغايرتها لما هو سائد. في عام 2003 نشر روايته الأولى بعنوان "إمرأة من حليب البلابل" التي قابلها النقاد باحتفاء ظاهر. له تحت الطبع: زمان الوصل (رواية)، اختلاجات الشبح الأخيرة (رواية)، الحلم والمسافة (رواية)، مواسم الحصاد (مجموعة قصصية)، موسى والعصا (مجموعة قصصية)، قراءات في القصة والرواية والشعر (دراسات)..

 

راسل الكاتب

محراب الآداب والفنون