الأرملة البتول

بقلم / عمر حسن غلام الله 

 

-        محاسن قالوا خطبوها

-        الخطبها منو؟

-        خطبها ود عمها، عبيد

-        والعرس متين؟

-        بعد شهرين

 

ومضى الشهران في الاستعداد للعرس، طحنوا القمح والعيش والدخن، دقوا البهارات، عملوا الخبيز والكعك، وشاركت القرية بنسائها ورجالها في تجهيز كل ذلك، ودخلت العروس في معسكر مغلق لا يدخله إلا صويحباتها وخبيرات الدخان والدلكه وما شاكلهما وما شابههما،

وعندما كان يوم العرس خرجت محاسن وكأنها ليست محاسن المغبشه المزرقه التي كانت نحله في بيت أهلها، تنظف وتغسل وتشارك في موسم الحصاد، خرجت من المعسكر المغلق صفراء اللون من الدخان، لامعة ملساء رجراجة، رقصت رقصة العروس فأذهلت بنات جنسها، لم يكن يتصورن ان هذه الفتاة الحازمة الوقور يمكن ان تجيد الرقص هكذا، ولا أن يكون ذلك الجسد النشيط العملي يتمايل مع نقرات الدلوكه بهذه الخفة والرشاقة والدلال والليونة والمرونة.

دخل عبيد بعروسته وقضى اسبوعاً كاملاً في صومعته العسلية، معسكر آخر مغلق يحسده عليه كل الشباب، وخرجا من المعسكر الحلو ليمارسا حياتهما العادية، ومر شهر فشهران ثم ثلاثة، وبدأ السؤال التقليدي:

-        ما بقيتوا تلاتة؟

-        قولي بسم الله، نحن يا دوب لينا تلاتة شهور

وعندما مرت ستة أشهر، وتكرر السؤال من أطراف متعدده منها والدتها واخواتها، كانت محاسن تجيب بأن الوقت ما زال باكراً، ولكن عندما مرت سنة كاملة، اختلفت الاجابة:

-        كلو بأمر الله، لما ربنا يريد بيحصل

-        ما تمشوا المدينة تشوفوا ليكم دكتور

-        يا اخواني ما فات شئ لسه، يا دوب مرت سنة على عرسنا

وبدأت محاسن تتضايق من هذا السؤال الذي اعتبرته تدخلاً غير مرغوب فيه من الآخرين، ولكن لم تتضايق من أمها، فأمها يهمها أمرها وتريد الاطمئنان على بنتها خاصة وانه مرت سنتان على زواجها دون ان ترزق ابنتها بمولود يملأ البيت حيوية وبهجة، هنا أصرت عليها أمها بالذهاب للمدينة لمقابلة طبيب، فذهبت هي وعبيد للمدينة وعادا بعد عدة أيام،

-        قال ليكم شنو الدكتور؟

-        قال ما عندنا شئ يمنع الحمل، وكلو بأمر الله يا أمي

-        ونعم بالله يا بنتي

زالت تلك النضارة التي ظهرت بها محاسن ايام العرس، وعادت محاسن الغبشاء الناشفه، وزال كل الشحم والنعومة والدلال، تكد في البيت وفي الحقل، وتجامل في القرية وتخدم في المناسبات، لكنها اصبحت كثيرة الصمت، قليلة الضحك.

وبعد مضي السنة الثالثة وبعدما تزوج خلال تلك الفترة الكثير من بنات القرية وشبابها، ورزق جميعهم بالذرية، قلّب ذلك المواجع في نفس ام محاسن، وبدأت أم عبيد تلح على ولدها بالزواج من أخرى لعل الله يرزقه بالذرية، ولكن عبيد لم يستجب لها..

ومضت سبع سنوات ولم يتغير شئ.

ومات عبيد.

وقضت محاسن عدتها، وخرجت تمارس عملها المعتاد في الحقل وفي البيت وفي القرية..

****

-        ما عندكم لينا عزباء نعرسها بعد المرحومة؟

-        والله يا محمود مافي غير محاسن، لكن اظن عندها مشكلة في الولاده

-        يا زول مافي مشكلة، كلو بأمر الله ، كان جانا منها جنى فخير وبركة، وإن ما جا كمان الله كريم..

ولم تمض أياما قلائل على هذا الحوار حتى كان قد تحدد يوم العقد، ثم تم العقد بعد صلاة الجمعة في مسجد القرية، وبما ان كلاهما – العريس والعروس- كانا ثيبين، فلم تكن هناك أية مراسم بعد العقد سوى عزومة الغداء، بل بعد ان جهزت العروس زفت لعريسها في بيت أهلها – حسب عادات أهل القرية- حيث ستقضي السبوع ثم تنتقل مع زوجها الى بيته.

خرج العريس بعد زمن قصير من الغرفة التي خصصت لدخلته وهو يردد:

-        الشئ بت

ولسرعة كلامه ولهاثه سمعها الآخرون- الذين كانوا لا يزالون يعيدون ترتيب البيت وينظفونه ويغسلون الأواني، ويجهزون ما يمكن تجهيزه لفطور العريس في الصبحية بعد انفضاض المهنئين والمعزومين- سمعوها (الشبت) ما عدا ام العروس

-        الشبت؟

-        لا، يعني هي بت

-        هبت؟

-        لا ، يعني المره ما مره ، بت، يعني فتاه

-        فتاه كيفن عاد؟

وهمست ام العروس

-        يا محمود يا ولدي، كدي الكلام ده خليهو هسع

ورغم الفرحة الغامرة التي اجتاحت محمود بهذه المفاجأة السعيدة، إلا انه رضخ لمطالب الأم، ولكن في مجتمع القرية الصغير تنتشر الأخبار – خاصة مثل هذا الخبر- انتشار النار في الهشيم، إذ ما ان اصبح الصباح حتى كانت القرية كلها تعرف حكاية الأرملة العذراء..

-        سبعة سنين وهي صابرة؟

-        مسكين والله ، مات بحسرتو

-        مسكين هو واللا مسكينة هي الكامدة المغسة سبعة سنين

-        ما عشان ود عمها انت كمان

-        والله بت فارسه، منو الزيها في الزمن دا

-        والله محمود بختو، لقاها،

-   مش لقاها لانو عرسها عزباء طلعت بت وبس، كمان لقاها لانها بت مافي متيلها، بت اخلاقها عاليه ، ده حيطمنوا على أسرار بيتو وخصوصياتو آخر اطمئنان..

-        هسع هي رضت يكتبوها في العقد (ثيب) عشان تستر ود عمها حتى بعد موتو

-        دي الأصالة، كمان الشريعة ليها بالظاهر

 

بعد عام ونيف كانت محاسن أم لتؤام ..

 

راسل الكاتب

محراب الآداب والفنون