إيه يا صحراء التيه

بقلم / عمر حسن غلام الله 

 

-         تممت على زيت العربية ومويتها؟

-          أيوه، كلو تمام

-          يللا توكلنا على الله

وأدار عبد الباقي مفتاح السيارة ووزن المرايات وأشعل الأنوار، وتدحرجت السيارة من أمام المنزل صوب الشارع العام، ثم ما لبثت ان كانت في أطراف امدرمان، وقليلاً قليلاً بدأ العمران في الابتعاد إلى الوراء وظهرت جبال كرري، ثم غطى الغبار على خلفية المنظر الذي تركناه وراءنا- امدرمان- رغم أن الصباح أنار الكون الفسيح، فلم أعد أنظر في المرايا الجانبية، بل تركز بصري على الرمال الممتدة أمامي إلى ما لا نهاية.

حين ارتفعت شمس الضحى على يميني معلنة مناخ الصحراء القاسي أنزلت الستارة الجانبية على الشباك ، ولكن لم تمض هنيهة حتى سخنت الكابينة إذ أن الستارة كانت مصنوعة من قماش الخيمة فمنعت الهواء تماماً، فاضطررت لرفع الستارة ووضعت الجريدة التي كنت أتصفحها على جانب وجهي الأيمن اتقي بها أشعة الشمس الصحراوية، واستعضت عن قراءة الجريدة بالونسة مع عبد الباقي.

وبما ان السيارة كانت من نوع لاندروفر فقد تجاوزنا خور ابو ضلوع بالسلامة ساعد في ذلك جدارة عبد الباقي، وأطمأننا إلى بقية الطريق، فخور أبو ضلوع هو بعبع السائقين والمسافرين عبر الطريق الصحراوي لشمال السودان، فكثيراً ما يأخذ منهم عبوره ساعات طوال ومجهود جبار، ولا تمر مركبة إلا غرزت في رماله واضطروا لوضع (الصاجات) أمام عجلاتها، يأخذونها من وراء العجل ليضعونها أمامه في حركة متكررة دائبة ومرهقة، حتى ان هناك سائقين وعمال شغلهم الذي يترزقون منه قيادة السيارات بدلاً عن سائقيها لعبور خور ابو ضلوع هذا.

جلسنا في أحد المقاهي بعد خور ابو ضلوع نحتمي قليلاً من شمس منتصف نهار الصحراء الكبرى، نأكل ونشرب ونسقي السيارة ونتمم على الزيت والماء وخلافه، ثم واصلنا رحلتنا عبر كثبان الرمال والتلال الصخرية، وقبيل المغيب فقط أمسكت الشمس عن إرسال سهامها النارية، ثم مالت نحو الغرب فاندست وراء الجبال كأنها شاخت فلم تعد تحارب في الميدان لأن أسنة سهامها قد بردت وتحتاج لسن، ثم ما لبثت ان هربت كلية تاركة الميدان لجحافل الظلام.

وهبت نسمة باردة مؤذنة بانتصار الليل على النهار. ثم سرنا قسطا من الليل وتوقفنا لنستريح قليلا، وفرشنا البساط على الأرض ، وبسبب الإرهاق والاستيقاظ المبكر قبيل فجر ذلك اليوم، والنسمات العليلة النقية، لم نستطع مقاومة النوم، ويبدو ان المنطقة ليس بها هوام ولا دواب ولا وحوش، فلم يعكر نومنا شئ حتى أيقظتنا أشعة الشمس، ها قد استعادت الشمس زمام الأمور بعد راحة واستجمام، وها قد عدنا إلى شواظها ترسلها إلينا سهاماً حادة.

تلفتنا حولنا نستكشف المكان الذي قضينا فيه الليل، بحر لا ساحل له من الرمال البيضاء، كثبان وراءها كثبان وراءها كثبان،

-         انت عارف يا هاشم، نحن ما طاشين!

-         طاشين؟

-         أيوه طاشين عديل كده

-         كيف عرفت

-         ما دام مافي أي أثر لحيوان واللا حشره، يبقى نحن بعيدين شديد من النيل، ما لاحظت إننا نمنا طول الليل بدون ما يصحينا صوت حيوان أو قرصة حشره؟

-         لا حول ولا قوة إلا بالله، والعمل؟

-         لم يجب عبد الباقي بل ظل ساهما لبعض الوقت ثم بدأ ينظر يمنة ويسرة وأمامه وخلفه، ولكن المنظر كان متشابهاً ،

-         طيب يا عبد الباقي بالبديهة كده، نحن أصلا غرب النيل، يعني المفروض نتجه شرقا عشان نصل للنيل، أو شمالا عشان نصل لكورتي أو الدبة، وما دام الشمس كده يبقى ده الشرق، يللا دور العربية خلينا نتجه شرق.

ظللنا طوال النهار نضرب في صحراء التيه تلك بغير هدى، وكلما مر الوقت كلما زاد اليأس في أنفسنا ونقص الماء والطعام. وجاء الليل، فاسترحنا من لهيب الشمس، وقلنا لعلنا نعرف الاهتداء بالنجوم، وجلسنا قسماً كبيراً من الليل نحاول معرفة الاتجاهات من مواقع النجوم، ولكن يبدو أن المدنية منعت تعلمنا لفراسة الأجداد، فلم نفلح في الاستفادة من النجوم، ونمنا، وكان منامي قلقاً متوتراً مليئاً بالكوابيس.

وتكرر السيناريو في اليوم الثالث كذلك، ونفد الطعام، وبقي قليل من الماء، وانقضى النهار وجاء الليل، صعدنا في أعلى كثيب رملي لعلنا نرى ضوء سيارة أو نار في مضارب أعراب، ولكن يبدو أننا في بقعة قصية لا ندري إن كنا في السودان أو في مصر أو في ليبيا أو في تشاد.

وفي اليوم الرابع نفد الماء، فاضطررنا لشرب ماء الراديتور، ولأننا حرمنا السيارة من مائها فلم تعد صالحة للسير بسبب ارتفاع حرارة الماكينة، ولأن اليأس بلغ حده في نفوسنا، فقد قررنا البقاء في مكاننا لعل أهل قريتنا النافعاب الذين لديهم خبر سفرنا إليهم يستبطئون وصولنا فيتصلون بأهل الخرطوم يسألون عنا، ولعل الخبر يأتيهم بأننا سافرنا منذ أربعة أيام فيستنتجون ما ألم بنا، فيبعثون في أثرنا.

          - أقول لك يا هاشم، ما دام فينا باقي مروه، وفيه باقي مويه في الراديتور، حقو نحفر قبورنا قبل ما مروتنا تكمل والعطش يحمينا نعمل حاجة!

وقع قوله على نفسي وقع الصاعقة، رغم أنني لم استبعد الموت، فكل الدلائل تشير إلى قرب آجالنا- والأعمار بيد الله- لكن أن نحفر قبورنا بأيدينا، هذا شئ مخيف.. لم أجبه، وكأنني لم أسمعه، ومر شريط حياتي أمامي، وتذكرت ابنتي فانتحبت حتى جفت دموعي- إن كانت ثمة دموع-

وفي المساء بعد أن برد الجو بدأ عبد الباقي بالفعل في حفر قبره، لقد تعلم الشجاعة والواقعية من عمله في الجيش، إذ كان جندياً في سلاح الإشارة،

          لو كان فيه دبايب وعقارب كنت أكلتها، لكن الظاهر انو العقارب والدبايب ما لقت حاجه تاكلها فماتت واندفنت، أو إنها ما وصلت أصلا للمنطقة دي..

أصبح علينا اليوم الخامس ولم يظهر من يبحث عنا، فاقتصدنا كثيراً في ماء الراديتور الصدئ، ولكن في نهاية اليوم لم يبق منه شئ، وبما أن ليل الصحراء بارد حتى في عز الصيف، فقد قضينا الليلة دون أن نحس بعطش، ولكن ريقنا نشف من الخوف، بحثنا في الليل عن أي أثر لنباتات صحراوية علنا نرطب بها شفاهنا في يوم غد- كما يفعل الكاوبوي- ولكن لم نجد شئ. اقتنعت بفكرة عبد الباقي فبدأت في حفر قبري، مستغلاً برودة الليل، ولإشعال نفسي بشيء عن التفكير في انتظار الموت، حتى لو كان هذا الشيء هو حفر قبري.

أصبح علينا اليوم السادس وكلما مرت الساعات اشتد وهج الشمس وبدأ العطش يأخذ منا ما تبقى من حيوية، وأحسسنا بالموت يدنو منا رويداً رويدا، ، اقترح عبد الباقي أن نمسح جلدنا بالبنزين لكي يعطينا شئ من البرودة ، وقد فعلنا، لكن كان لا بد من الاستمرار في مسح البنزين طوال الوقت، لأننا ما إن نتوقف حتى نحس بسخونة شديدة وحرقان في الجلد.

-         شامي ريحة الدعاش دي يا عبد الباقي؟

-          دعاش شنو يا زول، دي تهيؤات ساكت، أنا قبلك شميت ريحة عواسة حلو مر، وسمعت كركبة التلج وسط الكركدي في جك القزاز.

وبعد عناء وإعياء وعطش شديد أدركنا الليل، وكان لا بد من الاستسلام للموت، فرقد عبد الباقي في قبره وترددت كثيراً قبل النزول إلى قبري. واطبق صمت مخيف، لم يعد لنا قدرة على الكلام، هل يدل صمت أحدنا على فراقه الدنيا؟ أم فقط على عدم قدرته على الكلام؟ فجأة تكلم عبد الباقي:

-         جاتني فكرة

-         قول

-         نعمل حريقه

-         حريقة شنو يا زول انت بديت تهلوس واللا شنو؟

-         لا، نعمل حريقه عشان النار أو الدخان تلفت نظر الناس البفتشو علينا- لو فيه ناس بفتشو علينا فعلاً- أو على الأقل لو فيه عرب، حتى لو على بعد مئات الكيلومترات ممكن يشوفوا النار ويفهموا الحاصل أو يجو حب استطلاع ساكت، بس المشكلة نعمل حريقه بشنو، هنا لا في حطب لا شجر ولا أي حاجة.

-         والله فكرة، إيه رأيك نولع اللستك الاسبير؟

أعطتنا هذه الفكرة دفعة قوية ونشاط جسماني فأنزلنا اللستك من مكانه- وكما لعبنا ونحن أطفال بالترتار- فعلنا بهذا اللستك فأوصلناه إلى قمة أعلى قوز حولنا، وعملنا على تفريغ الهواء منه، ثم خلعت الفانيله الداخلية من على جسمي وأشعلت فيها النار ثم وضعتها فوق اللستك (طبعاً لم نستخدم البنزين لإشعال النار حفاظاً عليه لنبرد به جلودنا)، وبعد قليل كانت عندنا نار عظيمة بدخان كثيف، جلسنا قليلا قرب النار ثم نزلنا من على القوز.

لم يدم النشاط الذي تولد نتيجة لفكرة الحريق طويلاً، إذ همدت أجسامنا مرة أخرى، ودخلنا إلى قبورنا، إذ لا بد مما ليس منه بد، فإذا لم تأتي النار بأحد فأقلها أن (نستر) جثثنا بعد موتنا، فنضعها في القبر ونحن أحياء لتقوم الرياح بتكملة باقي (مراسم الدفن).

كنت من حين لآخر أنادي على عبد الباقي من قبري لأطمئن انه ما زال على قيد الحياة، وهو كذلك، وناديته مره فلم يرد عليَ فكررت النداء فلم يرد عليّ فانتابني رعب ويأس وحزن لا مثيل له، وأيقنت أن أمر الله قد حصل، ولم يتبق لي دموع لأبكي بها، فقد جفت كل السوائل التي بجسمي، ولكن العبرة أتعبتني وسدت حلقي. وبقيت على هذا الحال زمن لم استطع حسابه، شهر أو دهر ، ساعة أو دقيقة.

 - هاشم،

كدت أطير من الفرح لسماع صوت عبد الباقي، ولكن قلت في نفسي ربما هذه هلاويس الموشك على الموت، وان هذا الصوت مجرد خيال كتخيلي أنى أشم رائحة الدعاش.

-         هاشم، أنا شايف نور في السماء

-         الحمد لله انك حي، نور شنو يا زول، انت ما قلت قبيل دي هلاويس، وبعدين دي نار اللستك العملناها

-         لا ، نار اللستك ورانا وده جاي من قدامنا، ونار اللستك حمراء وده نور ابيض، صحيح عيوني عمشن لكن النور ظاهر في الأفق

نهضت بعد جهد خارج قبري، وفعلاً رأيت في الأفق ضوء يشبه ضوء السيارة، ونهض عبد الباقي، ورويداً رويداً بدأ يقترب النور، وفعلاً بدأنا نسمع صوت سيارة، وأخيراً وقفت السيارة حيث كنا، ولم أعي بشيء بعد ذلك.

أفاقوني برش الماء على وجهي، وبللوا شفاهي قبل أن يعطوني جرعة ماء واحدة، تعمدوا أن تكون جرعة واحدة في الكوز حتى لا يقتلني الماء (بدل الظمأ). نعم لقد كانوا أهلي حقيقة وليس تهيؤات.. عبأوا سيارتي بالبنزين وساقها أحدهم، وحملونا بسيارتهم إلى مستشفى مروي حيث قضينا هناك ثلاثة أيام قبل أن نستطيع الوقوف على أرجلنا.

إيه يا صحراء التيه.. وداعاً.

جدة السعودية

 

راسل الكاتب

محراب الآداب والفنون