خلف الأسوار العالية

 للقاصة : رانيا مأمون

 

الجدار مرتفعاً عالياً جداً بالنسبة لقاماتهم القصيرة وصلباً سميكاً أملس يصعب على أجسادهم النحيلة تسلقه ...
دائماً ما كانوا يجابهون بالسباب واللّعان والزجر والوعيد من حارس تلك السرايا الذى لا ينسى سلاحه أبداً ويظلُ ممسكاً به على الدوام .. واقفاً كان أم جالساً .. غافياً أو فاتحاً أعينه التى تشبه عيون الثعالب راسماً تلك النظرة المتحفزة المتوثبة حتى ظنوا أن سلاحه هذا وُلد معه كرجله أو يّدِه أو أذنيه مكملاً لأعضائه وربما ، مميزاً لشخصيته التى سُورت بجدار قاس من الخوف فى نفوسهم يصعب إختراقه ...

لا يستطيع أحد من أهل البلدة أن يقدّر عمر هذا المبنى الذى يحبون أن يطلقوا عليه السرايا .. فمنذ أن وعوا وعرفوا ووعى وعرف أباؤهم وربما أجدادهم .. وهو كما هو .. لا أحد يعلم متى شُيّد وما الغرض منه وفيما يستخدم ... لا أحد يعلم شيئاً وكأنهم ناموا ذات ليلة نوماً عميقاً هانئاً بعد أداء واجباتهم العادية والليلية وغير العادية وغير ليلية ليتفاجئوا فى الصباح بهذا البناء الضخم الجميل الساحر بأحجاره الملونة وأنواره المضيئة ليلاً بكثافة شاملة مساحة واسعة حول البناء الواقع وحيداً فى الركن البعيد من البلدة وكأنه نبت هكذا عملاقاً من جوف الأرض ...

كثيراً ما سمعوا من الكبار سناً الحكايا عن هذه السرايا .. فمنهم من يزعم أنها مقبرة لمن يلقى حتفه فى الإعتقال ومن يصرّ على كثرة الحديث بالحق أو بالباطل .. ومنهم من يعتقد أنها مركز أبحاث يُنتج فيه بشراً بمواصفات خاصة أهمها أن لا يقول لا أبداً ولا يعرف معناها ويجزم هؤلاء أنهم رأوا إنتاج هذا المركز من البشر ذوى المواصفات الخاصة .. وبعض الكبار من أهل البلدة يظن أنها مصنع سلاح أو طائرات أو صواريخ ... إختلفوا فى حكاياهم وإتفق كلهم فى شىء واحد أن هذا المبنى خطير خطيرٌ جداً ولا يجب الإقتراب منه ..

زاد الفضول لدى الصغار والأشقياء من الصغار لرؤية ما وراء الجدار العالى .. كانوا يتجمعون وينقسمون مجموعات ، مجموعة لتشغل الحارس وتشاغبه .. مجموعة لجلب الأدوات وتجهيزها والأخرى للتنفيذ .. أحضروا قضيباً صلباً ومطرقة قوية لفتح ثقب يتيح لهم رؤية ما بالداخل ، ولكن الجدار صلب قاسى .. إنثنى القضيب وفشلت المحاولة ... أحضروا سُلّماً حسبوه طويلاً ليتسلقوا عليه ولكنه تسبب فى كسر قدم أحدهم .. فخافوا من التكرار ..

إنتبه أحدهم يوماً إلى الشجرة العالية الضخمة التى تقف على مسافة ليست بعيدة من السور.. قال بفرح :

- يمكننا أن نرى من على الشجرة .. سأتسلق عليها ..!

فرحوا وتدافعوا وصاحوا : سنساعدك

إنحنى أحدهم وطلع على كتفيه آخر .. وآخر وآخر إلى أن اصبحوا سُلماُ من الأجساد ساعده على التسلق بمشقة أقل ..

أصبح كل المبنى تحت ناظريه فرأى وصُدم لما رأى .. لم يكن مركزاً أو مصنعاً أو حتى مقبرة لمَنْ يُكثر الحديث .. كان عبارة عن مبنى فى الوسط مطلى باللون الأبيض .. الباب مفتوحاً هاهو يلمح الأرض عارية من كل شىء وزاوية لشىء مسطح ربما كان سريراً أو منضدة لا يدرِ ولم يستطع التمييز لبعد المسافة .. أما ما يحيط بالمبنى والمساحة التى تقع أمام ناظريه معبّرة عن قُبحها بوضوح ، فهى مجرد خراب ملىء بأوراق الأشجار الصفراء المتساقطة وأكياس النايلون وأخشاب وحجارة وأوراق كثيرة يحركها الهواء فتطير من جهة إلى أخرى و.. و.. و.. وكلباً ضخماً ينبش فى تلةٍ من القمامة باحثاً عن رزقه ...!

 رانيا مأمون

 

 

راسل الكاتب

محراب الآداب والفنون