قصيدة النثر بين الرفض والقبول

 

  للشاعر : قصي مجدي سليم

 

 (محاولة للإسهام في حل المشكل)

 

ظهر العقاد في التلفزيون القومي لجمهورية مصر العربية وقال بصوت واضح وعال لحد أن يسمع الصم ، وينبه الغافل : ( الشعر الحر ده مش شعر ،الشعر الحر ده كلام فارغ ) .

و في موقف موازي لموقف العقاد هذا ، تبناه أستاذنا ، أستاذ الأجيال ، بروفيسور عبد الله الطيب

في الرد على أصحاب مدرسة الشعر الحر وعلى رأسهم الأستاذ الشاعر المرحوم محمد عبد الحي

وكما قامت الدنيا ولم تقعد في مصر فعلت الدنيا نفس الفعلة في السودان .

وكان رأي العقاد و (ود السادة المجاذيب ) واضحا جليا ، فالِشعر هو ما يوزن ويقفى وفق أوزان الخليل

 (مفاعل مفاعل، تفاعيل تفاعيل الخ الخ ) ..

والشعر ما كانت قافيته منتظمة في الصدر والعجز وهو الشيء الذي أسماه من يخالفوهم تهكما

         (الشعر أبو ضلفتين ) إشارة إلى أبواب الدولاب .

و كان رد الآخرين بان الشعر العربي مر بعدة أطوار ففي البدء(أي عصر الشعر الجاهلي ) كان الشعر يبدأ بوصف الحبيبة أو البكاء على الأطلال حتى عهد أبو نواس الذي قام بتغيير هذا الأمر .

و لكن هذه الحجة كانت واهية جدا ورد عليها الآخرين ببساطة : هذا في جانب الأغراض الشعرية ، ونحن لم نحدد الأغراض ، ولم ندعو لذلك.

وبدأت المشكلة تضح ، هي مشكلة شكل ليس إلا وهذا واضح .

كان في جانب التمسك بالقديم أساتذة كبار وعلى رأسهم الأستاذ عبد الله الطيب وكان في الجانب الآخر من لا يقل عنهم علما وحكما .. محمد عبد الحي ، علي عبد القيوم ومصطفى سند الخ

ويبدو أن الشعر الحر بحكم الزمن قد انتصر ، وهو ألان ما يقرأ اكثر من غيره

بل ويدرس في المدارس الحكومية أيضا .

وهدأت الزوبعة بل يبدو أنها توقفت تماما .

ثم ...

كان لقاء قدمته قناة أبو ظبي مع الأستاذ مصطفى سند ، وكنت مارا في طريقي بالصدفة فوجدته قد بدأ .. فوقفت .. ثم جلست .. ثم دهشت ..

كان الأستاذ سند يقول (وبالنص)

(( أنا ضد القصيدة النثرية ولا اعتبرها قصيدة من أساسه ، على العموم من يريد أن يتماهى فليتماهى ولكني ضد هذا الشكل ))

ضحكت ... أي والله ضحكت .. هكذا تماما هاهاهاههاهاهاهاهاهاهاهاهاهاهاهاهاها

ووقفت لمدة وأنا غير مصدق لنفسي .. هل هذا سند حقا ..

وعلمت أن الزوبعة لم تمت لان الإشكال قد حل ، بل ماتت لان من كانوا يتمسكون بالرأي الآخر ويدافعون عنه بعلم ومنطق قد ماتوا .

ونحن هنا ـ على التحقيق ـ أمام أربعة قضايا

1/ الشعر

2/ الشعر الحر

3/ القصيدة النثرية

4/ المدارس الفنية

وفي وجهة نظري فان الإشكال كله  لا أساس له ولقد اسهم الجانبين بنفس القدر على تضخيمه وتصويره وكأنه كارثة .. من جهة الطرف الأول كارثة تمس شكل أدبي محدد له تاريخه الطويل و أسسه ونظمه ، ومن جهة الطرف الثاني كارثة تحاول أن تطيح بالتجديد وتحاول أن تبقي على الجمود والتحجر .

الشعر

الشعر هو حقا ما يوزن ويصرف وله قافية وله صدر وعجز  . وهو لون أدبي جميل يمكنك فيه أن تصور ابلغ العبارات والكلمات بأقل التركيبات اللفظية ، ويمكنك أيضا أن تستعين بالبلاغة اللغوية من علوم البيان والبديع والمعاني . دون التقيد بغرض محدد أو قضية محددة ويمكنك أن تكتب ما تشاء والحكم يبقى على من يتذوق .

والشعر فن . والفنون سبعة وهي

الموسيقى والدراما والغناء والرقص والنحت والمعمار والسينما .

ولكل من هذه السبعة فنون مجموعة من الفنون تنضم إليها

فالموسيقى مثلا تضم التأليف والعزف والتوزيع الخ

ومن هذه الفنون انبثقت أفرع كادت أن تصبح عنصرا منفصلا بذاته كما فعلت السينما مثلا

ومن الدراما خرجت الآداب ، فالدراما في الأصل هي عبارة عن مسرحيات مكتوبة

ولقد كانت المسرحيات تكتب ( وحتى ظهور فيكتور هيجو رائد المدرسة الواقعية)

بلغة شعرية بحتة .

ومن المسرحية الشعرية خرجت المسرحية الحوارية ثم الرواية ثم القصة ثم القصة القصيرة ولم يدعي أحد انه قد قفل الباب من وراء كل ذلك ...

قد يعترض أحد بأن هذا السرد إنما يؤرخ لتاريخ الفنون الأوروبي  ولا دخل للشعر العربي في هذا ، وهذا رأي يبدو وجيها دون الإمعان فيه ، ولكن حقائق الأشياء تقول إن الفن لغة عالمية ، ونحن نشهد الآن كيف أن كل العالم اصبح يتذوق الفنون والثقافات المختلفة ويدرسها ، ولكننا لن نستطيع أن ننكر أيضا أن أوروبا قد قطعت شوطا (تعدى درجة القياس ) في مجال الفنون وان المناهج الأوروبية في الفنون أضحت لا تعد ولا تحصى  . والشعر العربي قد مر ـ باعتراف الكل ـ بما يسمى

عصر اضمحلال الشعر وهو العصر العثماني وعصر المماليك حتى مجيء البارودي وشوقي والتجاني وحافظ ... أصحاب النهضة الشعرية العربية

وهذا الازدهار قد أثرت فيه الثقافة الأوروبية أيما تأثير فشوقي مما لا شك فيه تأثر بشكسبير بل حاول مجاراته في كثير من مسرحياته (مصرع كليوباترا) مثلا..

بل إن كل أصحاب النهضة العربية في كل المجالات تأثروا بالنهضة الأوروبية وهذا هو المطلوب بالضرورة .

إذن ..

الشعر هو فرع من الأدب  له قواعده و أسسه وهذا ما لا شك فيه عندي .

ولكنه لا يولد إشكال البتة وهذا ما سنتوصل إليه بعد قليل .

الشعر الحر

أُختلف حول مَنْ كتب أول قصيدة حرة! ما بين(نازك الملائكة ، وبدر شاكر السياب)

ولكن وعلى العموم فان كاتبها كان قد تأثر بذيوع وانتشار هذا الشكل في أوروبا،

ثم انه أحس برغبة شديدة أن يكتب بهذا الشكل، ثم انه تملكته حالة إبداعية كبرى جعلته لا يستطيع أن ينفك من الكتابة ، ثم انه كتب . أي انه مر بكل ما يمر به الفنان

من معرفة ورغبة وتوتر ودافع ثم انه قدم شكله الجديد . وعند ظهور هذا الشكل وتسميته بأنه ( شعر حر) كانت المعارضة جاهزة له من قبل الأستاذ الجليل العقاد فقال بأنه ليس بـ(شعر ) وهنا تبرز المغالطة الكبرى بوضوح لكل من يرى فمن قال للأستاذ الفاضل من أساسه أن هذا الشكل هو (شعر ) لم يقم أحد ممن كتبوا هذا الشكل بتبويبه ضمن الشعر بل قال وبوضوح انه ( شعر حر) واعتقد أن الفرق واضح تماما بين اختلاف الحالتين كما هو أوضح بين المسميين .

وبدلا من أن يقوم أصحاب هذه المدرسة بدحض تلك بهذه ، ذهبوا هم أنفسهم لمغالطات لا معنى لها ، بل عندوا وقالوا ـ والكلام على لسان فاروق جويده معقبا على رأي العقاد الذي قاله في تلفازهم القومي ـ ( العقاد نفسه كان صاحب ثورة تجديدية في الشعر ، والشعر الحر.. شعر. وشعر جميل ) وبدلا من أن يرفض الرد على كلام العقاد ـ لأنه نفى منفي أساسا ، ونحن جميعا نعلم ما هو حكم نفي النفي ـ دخل هو أيضا في مغالطة لا داعي ولا لزوم لها .

الشعر الحر أو شعر التفعيلة هو أيضا له وزن وإيقاع (كل الفنون لها إيقاع حتى النحت والمعمار والرسم) وينتهي بقافية في بعض الأحيان ولكن ليس بالضرورة ذلك وللقصيدة عدة أوزان أو وزن واحد هو باختصار حرية بين التعدد والتفرد . أي حرية مقيدة .

وهو شكل أدبي جميل يمكنك فيه أن تعرض قضايا متعددة في قصيدة واحدة كما يمكنك أن تدخل مفردات محرمة على الشعر ولكنها غير محرمة على الشعر الحر كما يمكنك أن تستعمل فيه مدارس (اللا عقل) (تعبيرية سريالية عبثية الخ)

الشيء الذي لا تستطيعه (إلى حد ما) مع الشعر وهذا لضيق المساحة الممنوحة ما بين البيت والبيت ( أي الصدر والعجز الأول والصدر والعجز الثاني ) هو على العموم اكثر تحركا من صاحبه الشعر (وان كنت اعتقد بأن الإبداع في الشعر يظهر أكثر منه في الشعر الحر وهذا لضيق المساحة الممنوحة ، وفي رأيي أن المبدع أساسا هو من يقدر على إدهاشك ) .

القصيدة النثرية

وهذه هي ما نريد في الأساس (أنظر إلى العنوان الرئيسي) ولكن كان لا بد لنا من التطرق لكل ما ذكرنا وهذا للتماس الواضح بين هذه الأشكال الفنية .

القصيدة النثرية هي(روح شعرية في صيغة نثرية) فهي قطعة نثرية تُؤلفْ فيها أساليب متعددة وحالات متغيرة وإيقاع ثابت في نهاية الأمر . ربما يكون الكلام المكتوب غير مفهوم لكثير من الناس ولكن هذا ليس بمدعاة لأنه باطل (كما قال سند)

فيحكى أن أبو تمام كان يلقي قصيدة لجمع فقال أحدهم

ـ لم تقل ما لا يفهم؟!

فرد عليه قائلا

ـ ولم لا تفهم ما يقال !

 أنا اتفق مع سند أن هنالك بعض القصائد لا تفهم البتة بل اشك أن من كتبها يفهمها

ولكن هذا لا يجعلني أن احكم على فرع أدبي كامل بأنه كلام فارغ والغريب أن أكون قد وجهت لي هذه  التهمة ظلما من قبل وذقت فيها ما ذقت ثم أتي بعد هذا والصقها بغيري فهل هذا من عبث الأقدار أم انه الزمن يعيد نفسه بصورة مريرة؟؟؟؟؟؟

هل لأن هنالك كاتب قصة تافه يعني هذا أن ماركيز تافه وان القصة ليست أدبا ولا فنا؟؟ { مالكم كيف تحكمون} ؟! .

هل لان هنالك من يتماهى ويقول ما لا تفهمه يعني أن من قال:

{لو كنت فارسا لعبأت نشابي بالفرح وصوبت نحو البشرية جمعاء .. لا أخطئ أحدا

  لو كنت ملاك موت لصعدت عاليا وهويت على الأرض أدق عنقي }

هذا الكلام ـ هل يمكن أن يكون فارغا ـ . هل يمكن أن يكون من كتبه يلهو بالعقول ويكتب ما لا يفهم أم عندها نقول لك (لم لا تفهم ما يكتب)!!.

والقصيدة النثرية ليست هي الشعر ولا هي الشعر الحر ويجب على الجميع (من يكتبها ومن يرفضها ) أن يعلموا أنها شكل أدبي قائم بذاته و الآن اصبح لدينا المسرحية ، الرواية ، القصة ، القصة القصيرة ، الشعر ، الشعر الحر ، القصيدة النثرية ، القصة القصيرة جدا... هذا بالإضافة للمقال والخطاب والخطبة . ولا زلنا ننتظر أن يخر ج لون جديد فلم يظهر خاتم النبوة الكتابية بعد . ولم تكتب أي صفحة أخيرة في أي علم بعد . ولم يدعي أحد المعرفة المطلقة بعد . وكفانا أن نجعل هوانا حكما على الأذواق العامة وتحجيما للعلم والمعرفة والذوق .

                                         سؤال

 

                              (( هل كل ما يكتبه سند ... يفهم؟؟!!)).

 

 

 

المدارس الفنية

يبدو أننا لا زلنا في بداية الدرج ، ومن الواضح جدا أننا نعيش في كل حياتنا على القشور ، وما يهمني الآن هو أننا نعيش على قشور المفاهيم الفنية فنحن نعد السريلة مثلا عبارة عن كلام غير مفهوم  أو لوحة نكثر فيها التلطيخ  أو مسرحية تجعل الجمهور يحكون بخروجهم منها قول الشاعر (دخلوا الدنيا فقراء، وكما دخلوا ، منها خرجوا) الخ..

ونعد العبث انه (عبث) . وهكذا ... دواليك ...

وهذا فهم ليس خاطئ فحسب بل وخطير جدا ولكن وللأسف انه الفهم السائد من (الكوة في السودان إلى وادي حميثرا بمصر )

والفن على التحقيق ما هو إلا رسالة فكرية جمالية .

والمدارس الفنية متعددة ولكل منها قصة تحكي سر وجودها ، وأول مدرسة وجدت على الأرض هي الكلاسيكية البدائية ـ عند البعض ـ أو الكلاسيكية الأولى .

ثم(الكلاسيكية العائدة ، الرومانسية ، الطبيعية ، الواقعية ،الواقعية الجديدة ،الملحمية الرمزية ، السريالية ، العبثية ، التجريبية ، ولن نقفل القوس عن قصد

 هذه المدارس ليست حصرا ولا ترتيبا ولكني أردت أن اسرد اكبر عدد تسعفني الذاكرة بتذكره .

ولكل مدرسة رائد أو عدة رواد فرائد الرومانسية هو شكسبيرـ نحن نتكلم عن الأدب طبعا ـ ورائد الواقعية فكتور هيجو ومن رواد العبثية البير كامو وهكذا

ولم يقم أحد هؤلاء بتسمية مدرسته التي ينتمي إليها من قبل أن يكتب بها بل أن شكسبير لم يكن يدرك حتى مماته انه ينتمي لمدرسة تسمى الرومانسية، فالرومانسيين الذين أتوا من بعده هم من قاموا بِعَدِهِ منهم . إن المدارس الفنية تعتمد في أساسها التكويني على التجريب والزمن هو الحكم على استمرارها أو توقفها ولم نشهد مدرسة نشأت دون معارضة ولم نشهد مدرسة توقفت عن العمل حتى ألان .

كل المدارس لاقت ما لاقت من نقد وهجوم ولكنها كلها تعمل حتى الآن في كل أفرع الأدب فلا زال هنالك كتاب كلاسيكيون كما أن هنالك واقعيون كما هنالك عبثيون الخ

ولا يستطيع أحد الآن أن يقول بان السريالية (كلام فارغ ) أو أن الرمزية مدرسة لا معنى لها . ولكنه يمكن أن ينتقد عملا سرياليا لعلة أخرى أما أن ينتقده لصفته فقط فهذا إما جهل بالمدرسة نفسها أو جهل بعملية التجديد .

والمدرسة هي أسلوب لطرح الفكرة التي تنشدها .

أي أنها المنهج المتبع .. ولكل منهج شروط وقواعد

وهذا حديث آخر

                                                                   أواصل 

قصي مجدي سليم

القاهرة /22مايو2003

 

راسل الكاتب

محراب الآداب والفنون