شراب مالح

 

 

  للقاص :عبد الباسط آدم مر يود

 

     وقف الرجل أمامي بزيه الذي يميزه واعرفه جيدا ,كمداهمة الأقدار , لقد أخذني علي حين غرة واقفل علي كل مدارك التصرف كالهروب والزوغان ,اندهشت واندهش الإسفلت تحتي  إلا أن من حولي ابتسموا شامتين.

- هيا أوراقك

كادت أن تنخلع دواخلي بل سرت الرعشة فاجتاحتني ,أدركت مدى الهلع الذي قادتني له قدماي, حيث إن المكان مشهور بتمترس من أمثال الواقف أمامي وسمي بمثلث الرعب من الأقواس إلى سوق الحوت فسوق الظلام ,ها قد غالبت عقلي وارتدت المصيدة إذ تنازعتني رغبتي الملحاحة في شراء هدايا العيد لامي واخوتي الصغار والحبيبة, تلك التي تدثرت بها الآن فكان لابد أن امشي علي الجمر لأرسل لهم الهدايا, المحلات  تعصف بالغالي والنفيس من مختلف البضائع ولمبات النيون أغرقت المكان في فوضي الألوان الصارخة التي ازدانت بها الردهات والممرات الضيقة التي تزدحم بغابات من الأرجل والسيقان تعانق فوضي الأغنيات المنبعثة من كل مكان.

كادت أن تخترق عيني الرجل الذي حرمني متعة التبضع وهاهو قد  يسلبني حريتي ويبادرني بنبرة حادة حاقدة:

- كنك يالزف تبهت في هكي..... بقولك أوراقك

وضعت أكياس الهدايا التي احملها وكانت بداخلها حبيبتي تتنهد, فأخرجت جواز سفري الأخضر وكان الوطن بداخله ممزقا متشرزما, أدخلت في وسطه الإقامة السارية المفعول تسلمهما الرجل دون أن يتفحصهما, أشار علي أن اصحبه، وحينما هم باقتيادي زفتني العيون الشامتة ورقص الفرح السادي فيها وحط بحلقي حنق وغيظ دشرتهما في وجه الرجل:

- سيادتك إقامتي سارية

- لا يا خويا مانبوكم لا بإقامة ولا بدونها هيا حتعدوا بلادكم

امسك بتلابيبي دافعا إياي أمامه شاهرا سلاحه الناري حاولت التقاط أكياس الهدايا ولكن دفعته لي قد بعثرتها ثم داس عليها بحذائه الثقيل فتصدعت دواخلي وأنا اسمع صوت تكسرها, اقتادني الرجل بعنف طفح علي وجهه, اقتادني إلى حيث تركن سيارة لاندكروزر بصندوق حديدي محكم الإغلاق إلا من فتحة عليا كفتحات الزنازين.

الشارع طافح بالمارة والبائعين الذين اخترقتني نظراتهم الشامتة الحانقة وثمت نظرات التقطت هداياي المبعثرة, دفعني الرجل المستأسد بعنف اكثر إلى داخل السيارة وتناثر آخر ما تبقي من أشيائي محتضنا الرصيف فتقطعت نياط قلبي وعم الغبن حنا ياي المقهورة وصرت قطعة لحم فاسد تتفتت مهترئة، وحذاء الحبيبة يتدحرج ثائرا علي الرصيف وثوب الوالدة يتمدد طويلا تشبثت نظراتي بهما قبل أن يصطك باب السيارة وتحلق عصافير حريتي خارجه.

          مرحب سلام, كانت همهمة بالتحية لمن بالداخل, ميزتهم مجموعة من بني جلدتي طفت عليهم بعيني, ورؤيتي تقاسي فقر الضوء وشعرت بالاختناق وخياشيمي تتنفس رائحة العرق المختلط برائحة الأجساد البشرية ممتزجا بدخان السجائر الكثيف والكل ينفث غيظه وغليانه دخانا ازرقا, اقبض بشدة علي عقب سيجارتي وتخرج زفراتي وتأوهاتي خيط طويل يتلوي مشكلا سحابةٌ من الدخان, (كنت أتمنى أن اختبئ في علبة سجائري أو أن اندس بين طيات محفظتي), لا يهمني مدي انزعاج جاري الذي أبدى تململا واضحا من ذلك وأنا ادري استحالة أن ينطق أحدٌ هنا  ببنت شفة, طافت بخاطري حكاوي عن استخدام هؤلاء لأساليب بشعة تجاه من يعتقلونهم من الأجانب كالصعق الكهربائي والفلق والجلوس علي فم الزجاج الفارغ, يا للهول كيف احكي لحبيبتي عن التشويه الذي يعتريني- إذ لا سمح الله أجلسوني في زجاجه- ليتها تكون بلاستيكية كأن تكون من الكولا الأمريكية فهي رحيمة, وإذا فلقت ربما يجف ماء الولد مني وتنتهي حتمية رغبتي في حبيبتي علي الأقل من جانبها, وللازدحام فإني انفث دخان سيجارتي في كل الوجوه المعتمة المقهورة وأنا أجلس مقرفصا, يأتي الضوء أشعة متقاطعة فوق الرؤوس المحنية من فتحة السيارة العلوية.

اشد ما ضايقني اهتزاز السيارة العنيف عندما اجتازت منحنيات ومنعرجات الطريق فتضاربت الأجساد وتلاقت الرؤوس دون وعي,  وفي إحدى الهزات كدت أن أطفئ سيجارتي في جسدٍ تأوه ونظر إلى بأسى:

-  مش حرام، دا وقت تدخين أطفئ قرفك دا

-        آسف معليش

 وربت علي كتفه

كان الصمت يغازلنا والوجوم يرقص هازئاً بيننا والحنق والغيظ يشتعلان نيراناً تلتهم ألسنتها كل دواعي الانتماءات القومية ( شعب واحد لا شعبين من مراكش للبحرين)، وتكذب كل المقولات التي حفظناها عن الوحدة والقومية.

انطلقت السيارة بسرعةٍ جنونية وصافرتها متموسقة بإيقاع رتيب مع لون إشارتها الحمراء, تجعل الأخريات يفسحن لها الطريق رعبا, وهي ترتاد شوارع المدينة الساحلية, لقد أيقنت دون أدنى شكٍ أننا مساقون إلى ذاك السجن حيث يجمع فيه الأفارقة هذه الأيام لترحيلهم ويستعاض عنهم بعماله عربية أصيلة، ولكن توقف السيارة المفاجئ كذب ظني، وسمعت الباب يفتح بعنف والشرطي شاهراً سلاحه

- هيا صبوا لوطه أيديكم فوق رويساتكم هيا بسرعة.

تدافعنا إلى الخارج خوفا فتزاحمنا وتصادمنا عند الباب والرجل يصرخ ويلكزنا بطرف سلاحه الحاد, حينما وطأت قدماي الأرض تبينت المكان بناظري, ها نحن قبالة البحر تماما وأمواجه تصطخب وتنتهي مستسلمة عند الشاطئ فتفرغ الأصداف والزبد الإسفنجي والطحالب المخضرة وكثير من الفوارغ, لفحتني زخات الرطوبة العالية وشعرت بليونة الأرض اسفل قدماي اللتان بدأتا تغوصان, اصطففنا صفاً, أجلسنا القرفصاء وعيوننا تعانق الأمواج العاتية وقلوبنا فزعة، الأيدي فوق الرؤوس وخلفنا الشرطي الذي رفع التمام.

- تمام خمستاشر سعادتك كلهم سوادين

تقدم نحونا الشرطي بدأ في تفتيشنا  وتلمع في كتفيه نجمتين فتكومت بجانبه الساعات ورزم الأوراق المالية وبعض الأشياء الثمينة وبانتهاء مهمته اصدر أوامره إلينا

- هيا اسلحوا دبشكم  وعدوا علي المية

أصابنا الوجوم وكسي  الاندهاش الوجوه السمراء  لغرابة الطلب فتلكأنا في التنفيذ، فاختلطت غرابة الطلب بوحشية المعاملة فحرك الشرطي الآخر سلاحه الناري خلفنا..

- هيا اسلحوا

شرعنا في خلع ملابسنا فتكومت هي الأخرى بجوار أشيائنا الثمينة والتي عز علينا فراقها وعمل الرجلين فينا ركلاً

- هيا تنضفوا من ها اللبظ  لبظتوا علينا بلادنا قلنالكم عدوا ماتبوا تعدوا لكن حتعدوا

جمعت أشتات غضبي المتفجر وقذفته في وجهيهما

- نحن مغادرون ومعظمنا يحمل تذاكره

- هيا هيا فكنا من هالدوه أدخلوا الميه

وعملا فينا كل إمكانياتهم السادية أجبرانا علي مصادمة تيار البحر العاتي ولكنه كان حنونا رؤوما دافئا شعرت به وهو يحملني إلى البعيد فملأت صدري بزفراته وسافرت فيه إلى تخوم الوطن .

تقدمنا استقبلتنا مياه البحر الضحلة وغاصت أرجلنا في الأوحال والطحالب المخضرة تلونها وبقايا الفضلات والروث يبعث بالتقزز, تتقادم نحونا الأمواج العاتية فتتكسر مرتطمة بالأجساد النحيلة السمراء والشرطيان عند الشاطئ يتبادلان الضحكات بتلذذ ويصدران أوامرهما

- هيا مازال عدوا

حينما تأكدا من غوصنا إلى لجة المياه الزرقاء التي أوشكت أن تكون لنا سماء , عكفا علي ملابسنا يلتقطان منها كل غالي ونفيس، وحملا كل ما تجمع لهما من الأشياء الثمينة والدينارات، وقبل أن تحملهما العربة رفع أحدهما صوته عاليا ونحن نتأرجح فوق الأمواج المالحة والزبد يلاصق أفواهنا

: باهي  باهي هيا تنظفوا

ثم القيا ما تبقي من حاجياتنا في المياه الضحلة الخضراء واختفت سيارتهما في لمح البصر, صارعت الأمواج في طريق عودتي للشاطئ، والمياه دخلت في جوفي شرابا مالحا مرا مرارة المعاناة والغصة التي قبضت حلقي، ها قد ضاعت تحويشة العمر وهدايا الأحباب وساعة يدي الثمينة

جررت أقدام الخيبة مبتلا عطرتني عفونة الشاطئ برائحتها السمكية، عبرت الرصيف، قابلتني عيون المارة الشامتين والأسى يكتنفني أدندن حزنا:

- وطني وإن شغلت بالخلد عنه * نازعتني إليه في الخلد نفسي.

عبد الباسط آدم مر يود
بنغازي  27 أكتوبر 1995

 

راسل الكاتب

محراب الآداب والفنون