كان عاصم أكبر أخوته.....يعمل ومن الأجر يصرف على أخوته الصغار بعد أن مات والدهم .... هكذا أصبح عاصم كل شيء بالنسبة لأسرته ...فأصبح اعتماد كل أفراد الأسرة من بعد الله عليه......وبعد أن جمع قليلا من النقود ....قرر تنفيذ حلمه .... الذهاب إلى الخرطوم بحثا عن العمل بالخرطوم فشظف العيش وكثرة الأمراض وعدم توفر صحة البيئة وعدم توفر ابسط حقوق الإنسان بالريف جعلت لزاما عليه السفر من إلى الخرطوم لمقابلة المصاريف اليومية خاصة أن معظم إخوته ما زالوا طلابا بالمدارس .... وخطيبته كذلك كانت تعد الليالي والأيام ليسافر خطيبها إلى الخرطوم فيوفر لها مهرها وتكاليف الزواج وأثاث منزل الزوجية....الجميع عرف أن عاصم غدا مسافر إلى الخرطوم ....فيودع عاصم في تلك الليلة جميع أهل البلدة ..وفي الصباح ألقى نظرة طويلة لأهله والديار ..نظرات الوداع ...ويسافر عاصم ....وقبل المغيب ..... تأتي الأخبار بأن هناك حادث مميت وقع في الطريق بين حافلة وبوكس ...ومات جميع الركاب بالمركبتين ......يخيم الحزن على وجوه الناس ...أين وقع الحادث ...ومتى ....وما هي أسماء الركاب المتوفين....أسئلة كثيرة تدور في أذهان أهل البلدة وخاصة الأسر التي سافر منها احد أفرادها صبيحة ذلك اليوم...و لا إجابة....... وبعد منتصف الليل في ذلك المساء وقبل الفجر بقليل ......تأتي سيارة تشق صمت البلدة وتشق ظلمة البسطاء بنورها الساطع ....وتتوجه مباشرة إلى منزل أهل عاصم... .....ويتناقل الجيران الخبر ....خبر السيارة التي جاءت في هذا الوقت وتحمل صندوقا خشبيا في الخلف.... وتقوم الأم وأبناؤها ....وأعمام عاصم وأخواله وعماته وخالاته...تجمدت أعصابهم ...رائحة الموت في الأجواء...الجميع ينظر إلى هذه العربة التي تشق هذا الظلام وفي هذا الوقت المتأخر من الليل والصندوق الذي بداخلها....ويستعدل السائق لتقف السيارة بمؤخرتها عند مدخل الصالون.... صمت...وجوم..تجمد ..... والأعصاب تكاد تتمزق وتكاد تنفجر الأوردة من كثرة الضغوط ....فينزل السائق ...يلا ...يلا يا جماعة صلوا على النبي..... كلنا يد واحدة ....يلا ...يلا ...
لا أحد يريد أن يتقدم ...تسمرت الأقدام على الأرض ....لا أحد يصدق أن عاصم الشاب المكافح أمل أسرته وجميع أهل البلدة يغادرهم اليوم في الصباح ويأتيهم جنازة مسجاة ....لا حراك ولا كلام ....الكل تسمر وتجمد في مكانه ....هذه إرادة الله ...ويظل السائق ينادي وينادي يلا يا جماعة ....يلا
يلاكم ننزل الثلاجة دي ....رسلها ليكم ولدكم عاصم من الخرطوم بعد ما وصل طوالي ....وحلفني ما تنوم عندي...ولازم تفرحوا بيها الليلة دي قبل الصباح....وثاني شيء تنزيلها عندكم مباشرة يمنع ضياعها....
ملعون أبو الثلاجة....دخلتَ فينا خيفة لا يعلم مداها إلا الله....
وظلت الثلاجة ...في صندوقها
لا أحد يقربها....والعروس بعد إفاقتها من الغيبوبة رفضت أن تدخلها بيتها... وهكذا الثلاجة كتب عليها العيش بينهم بلا تشغيل وضمنت بذلك عدم التأثر بانقطاع الكهرباء وتذبذبات التيار...
المفضلات