عمر خيري :عاقل وحيد في خضم من المجانين
بقلم النور حمد
((ن والقلم وما يسطرون* ما أنت بنعمة ربك بمجنون* وإن لك لأجرا غير ممنون* وإنك لعلى خلق عظيم))
صدق الله العظيم
كتب حسن موسى، في ورقته التي قدمها، أمام ندوة الثقافة والتنمية التي نظمها مركز الدراسات السودانية في القاهرة مؤخرا:
((فالحداثة في تعريفها الابتدائي، تتلخص في السعي الواعي الحتمي المتقدم نحو مجتمع الوفرة، والرفاه المادي، والروحي، لكل الناس، بدون فرز. وهو أمر ممكن اليوم، لو قبل القابضون على مفاتيح السلطة، والثروة إعادة توزيعها بالعدل بين الناس !!! وأصر على علامات التعجب، لآن هذه الفكرة البسيطة، فكرة العدل، صارت اليوم في زمن ما بعد الحداثة (بوست مدرنزم)، صارت فكرة تثير العجب في خواطر الجميع، المستبعَدين، والمستبعِدين معا! وربما كانت قيمة حداثتنا المرتجلة، من واقع المباصرة البراغماتية الآنية، تتلخص في قدرتها على الطعن في مبدأ الحداثة الغربية الإستبعادية، ونقدها، وتقويمها، بحيث تتأهل لاستيعابنا جميعا، شرقيين كنا أم غربيين، على شروط العدل، والحرية((.. انتهى نص حسن موسى
وأريد أن أخرج بحديث حسن موسى الشيق، والمبصر في آن معا، من السياق الذي وضعه فيه، وهو سياق تقويم الحداثة الغربية الإستبعادية. إلى سياق آخر، مرتبط بالسياق الذي كتب فيه حسن موسى. ويتعلق بما أسماه الأستاذ محمود محمد طه، في أدبياته، بـ "عقل المعاش"، و"عقل المعاد". وذلك مبحث من المباحث البكر، الشيقة، التي طرقها الأستاذ محمود، وتحتاج إلى زورات. ليس هذا مجالها. المهم، سيطرة عقل المعاش، على الطور الراهن، من بني البشر، هو الذي جعل كبار فطاحلة، وجهابذة، وأحبار، ما بعد الحداثة، يستغربون، من فكرة العدل البسيطة، التي أشار إليها حسن موسى. وهي فكرة، تندرج في حيز البداهات الابتدائية. غير أن تكريس الرأسمالية للأنانية، وتشويهها للطبيعة البشرية، وما غرسته في خلق الله، من عدم المبالاة بمصائر الآخرين. إضافة على عدم القدرة، على رؤية الحقيقة البسيطة، المتمثلة في أن سعادتنا الشخصية، مرتبطة، شرطيا، لدى التحليل الحاذق، بسعادة الآخرين. كل هذه، وكثير غيرها، مما لا يتسع المجال لذكره، جعلت من فكرة العدل البسيطة، والبديهية، فكرة جد مستغربة، بل، ومخيفة، حتى لدى الأكثرية، المتعلمة، ممن يسعدهم أن يُحسبوا، ويُحشروا، في زمرة المستنيرين.
وربما سأل سائل، ما علاقة هذا كله، بالتشكيلي الراحل، عمر خيري؟ والجواب هو، أن عمر خيري قام بنسف عقل معاشه، منذ زمان طويل، وأراح نفسه، مما يرهق به الناس، عادة، أنفسهم، وبلا طائل. جرى تأويل الأستاذ محمود، للآية: (( ويسألونك عن الجبال، قل ينسفها ربي نسفا)) أن الجبال، هي عقول المعاش. وقال الأستاذ محمود، أن عقل المعاش، عقل جبان، وخائف، وحريص. أما عقل المعاد فعلى عكسه تماما. المهم، في الأمر، أن تحقيق العدل ينتظر، ظهور نسل جديد من البشر. ولن تقوم بنسف عقول المعاش شركات مقاولات بالطبع. وإنما سينسف كل واحد منا، عقل معاشه، بنفسه. فنسف عقول المعاش، متنبأ به، ومبشر به، ولا مناص من حدوثه، في المستقبل. حينذاك، يدخل الناس عهد إنسانيتهم. وحينذاك، تصبح الاشتراكية، والمساواة الاجتماعية، أمرا بديهيا. ولربما عجب الناس حينئذ، كيف أن قرونا طويلة مضت، قبل أن يتوصلوا إلى تجسيد مثل تلك الحقيقة البسيطة. وهي أن العدل، مطلوب إنسانيا، وأنه ممكن التحقيق. ولن يتم على حساب أحد. فهو شرط، من شروط اكتمال إنسانيتنا. سيعجب الناس وقتها، كيف أنهم عجزوا من تجسيد تلك الحقيقة البسيطة، لقرون، وقرون، وهم الذين غزوا الفضاء، ونشروا "الإنترنت"، وقهروا الزمان، والمكان.
الشاهد، أن عمر خيري، قام بنسف عقل معاشه، بنفسه. وكان بذلك، واحدا من رواد هذا الفن المستقبلي الرفيع. ونسفه لعقل معاشه، هو الذي فتح عالمه الداخلي، على تلكم الرحاب الفسيحة المدهشة، التي نراها في تصاويره. أخرج عمر خيري نفسه، من قبضة الزمان والمكان، فهما ليسا سوى بعض من تجسيدات، وإسقاطات عقل المعاش. وبذلك، تمكن عمر خيري، من أن يعيش، حرا، كريما، موفور الكرامة. مثل عمر خيرى، لا يُحزن لموته، ولا يُبكى على قبره. فهو قد عرف كيف يتصل بحقيقة الوجود الأصيلة الخفية ،الواحدة. تلك الحقيقة البسيطة الناصعة، التي جهلها كثير من أدعياء المعرفة. اطمأن عمر خيري إلى قلب الوجود الحي، النابض، وركن إليه، وسكن. وذلك ما جعل ريشته تسيل إبداعا، لا تأتأة فيه، ولا توقف، ولا فترات استجمام. وهذا هو الذي جعله، مستغنيا عن كل ما يزيد عن "قنينة حبر شيني، ولوحة أبلكاش، وسندوتش" كما تفضل عبد الله بولا بوصفه.
لقد أنجز، عمر خيري، كل ما أراد إنجازه في هذا الحياة. ونحن عندما نحزن عليه، ونبكيه، إنما نبكي خيباتنا الشخصية، ليس إلا. الرسومات التي خلفها عمر خيري، تساوي من حيث الكمية، إنتاج مائة منا. أما من حيث النوع، فذاك شأن آخر. أنا شخصيا لا يسرح خيالي، ولا ترتفع ذبذبة روحي، أمام أي عمل فني، بمثل ما يحدث لي، وأنا أتأمل أعمال عمر خيري المدهشة. أعمال عمر خيري، تخاطب وعي المشاهد، بلغة بالغة القوة. هي تحملك إلى داخل تلافيفها المبهجة، قسرا. وعندي أن سر قوتها، يكمن في إمتاعها، وبساطتها. في لوحاته، النابضة، الموحية، يفرض عليك عمر خيري، عالمه، ورؤيته. فيخرجك من عالمك، ورؤيتك. ولا تملك، إلا أن تستسلم له. وهل يستبى النفوس مؤثرٌ، مثل متعة ثرة يغريك، ويغويك بها، خيال مجنح فسيح متصل، اتصالا عضويا، بمنابع الأنس والمسرة ؟ أما أصالة عمر خيري، فهي تتحدث عن نفسها. وأنا شخصيا، لم أعرف فنانا سودانيا واحدا، يضاهي عمر خيري أصالة في طرائقه، ومعالجاته.
هل عاش عمر خيري زمنا كزمننا؟ أو هل ضمته أماكن، مثل التي تضمنا، وتحتوينا، وتقيدنا؟ لا أظن ذلك أبدا. لقد عاش عمر خيري عمرا، أطول من عمر نوح، إذا نحن حسبنا العمر بالكيفية التي يعاش بها، وليس بعدد السنوات. وما أظن أن عمر خيري كان سيهتم، لو تبنت أعماله كبريات متاحف العالم، وكبريات دور العرض فيه. خرج عمر خيري عن التأطير كلية، وتحرر تماما من القوالب التي تصيغ فيها، مثل تلك المؤسسات الربحية، طالبي الجاه عندها. ولسوف تصل أعمال عمر خيري إلى تلك المؤسسات، يوما ما، وسيلمع اسمه. غير أن ذلك كله، يبقى في نهاية الأمر، من الحطام الذي تخطته روح عمر خيري السامقة. "فالصقر يعلو وحده، وتلوذ بالسفح الرخم".
قرأت ردود عمر خيري على الإستبيان الذي نشره حسن موسى، في جهنم العدد الماضي. جاء في الإستبيان في مجال المهنة، سؤال عن أي مهن أخرى شغلها؟ وملأ عمر خيري الخانة المعطاة لهذا السؤال بقوله: مستقبلا سوف أشغل مكانا قديما، التزم به ويلتزم بي عما قريب. وحين ملأ خانة السؤال، ما إذا كان قد تلقى تدريبا نظاميا في الرسم، وأين؟ أجاب بقوله: درست في كليات كثيرة، دراسات أكاديمية وافية. كما قمت بنفس الدور في التدريس العام. ثم ذكر من الكليات التي درس بها، كلية الملك جورج، بإنجلترا، واسكنككر، وقال، أن مناهج الكلية متشعبة، ومتقدمة بخلاف نظيراتها. المعروف أن عمر خيري، لم يخرج من السودان، ولم يدرس في كلية خارج السودان. غير أنني أصدق عمر خيري، في كل ما قاله. فمن قال، أن الأمور لا تتم، إلا بالطرق التي اعتدنا عليها؟
لا فرق بين رسومات عمر خيري، وحديثه الذي كتبه في ذلك الإستبيان. وتلك واحدة، من علامات صدقه، وأصالته. يتحدث عمر خيري، بنفس الأسلوب الذي يرسم به، ويرسم بنفس الأسلوب الذي يتحدث به. كنت أزوره، مع حسن موسى ومحمود عمر بأستديو التلوين، الخاص بطلاب السنة الرابعة، بكلية الفنون بدعوات ملحاحة، كريمة، من الأخ، خلف الله عبود ـ وقد أشار حسن موسى، إلى تلك الزيارات، في عدد جهنم الماضي ـ لم أحظ بسماع عمر خيري يتحدث، إلا قليلا جدا، ولم يكن حديثه فيها كلها، موجها إلي، وإنما إلى طرف ثالث. لقد وقفت خلف ظهره، مرات كثيرة، أتفرج عليه، وهو يرسم عوالمه المدهشة، ولم يتسن لي شرف الحديث، إليه مباشرة أبدا. والحق أنني ما أحسست يوما واحدا، أنني بحاجة، إلى التحدث معه. ما كان يردني منه من خلال لوحاته، كان أكثر من كاف، لشفاء رغبتي الأكيدة، في التواصل معه.
عمر خيري، من أعقل الناس الذين عرفتهم في حياتي. فهو قد عرف الدور الذي سيلعبه في هذا الحياة. عرف ذلك من وقت مبكر. وقد التزم ذلك الدور، أصرم ما يكون الالتزام. لم يسع إلى أي وظيفة حكومية، أو غير حكومية. ولم يمارس القلق الذي نمارسه، نطًا من مهنة لمهنة، ومن مكان لآخر. لم يغادر مدينتيه، الخرطوم، وأمدرمان، وعالمه الفسيح، الذي خلقه لنفسه فيهما، إلا وهو محمولا إلى القبر. ظل على التزامه، وعلى العهد الذي قطعه على نفسه. عاش راهبا في محراب فنه. لم يأخذ من الدنيا، سوى "زاد الراكب"، كما يقول المتصوفة. ومما يجدر ذكره في شأن عمر خيري، أنه، مع غزارة الإنتاج، والانغماس الدائم في وسط مواد الرسم، ومعداته، ظل على الدوام، نظيفا، أنيقا، حليقا، وكأنه موظف في بنك. عاش عمر خيري حياة، خصبة، طويلة، عريضة، عميقة. وظل مصدرا ثرا، يهب البهجة، والأنس للكثيرين. وما أغلى الأنس، في هذا الزمان الموحش. غرس عمر خيري راية الإبداع، ثم حرسها، متفيئًا ظلها، وظل على نسكه ذاك، حتى أخذ صاحب الوديعة وديعته. فسلام على عمر خيري في الخالدين.
[/color][/size]
المفضلات