مدني :المدينة كما يروي عنها الفنان السني دفع الله
للأمكنة والمدن شجن قديم.. والأمكنة كالنساء لها عشاقها الكبار والبعض يغنى في المكان صوفيه وعشقاً حتى يكون هو المكان نفسه، كماركيز والطيب صالح ومحفوظ الذين خلدت الامكنة بإبداعهم ونقشوا أسماءهم في جدران الأمكنة.. والفنان هو الأقدر على رؤية المكان المألوف بزوايا غير مألوفة والفنان السني دفع الله، عاشق مستهام بواد مدني تحب المدينة من حكاياه ويفيض طفولة وهو يحكي متدفقاً عن واد مدني.. لم نحاوره بل جلسنا في معيته نصغي ونتأمل، وهو حوار قديم امتد بيننا من دمشق إلى الخرطوم.
* صرخة الميلاد:
يقول الفنان السني دفع الله، ولدت في بيوت الري المجاورة للسكة حديد بمدني جنوب المنزل كلية المعلمات وغربه شركة النور والموية، وتحد المدرسة المجاورة ترعة المياه الموصولة بالكنار الرئيسي لمشروع الجزيرة حتى بيت الحاكم لتسقى حديقته. الحاكم كان في الماضي المفتش الانجليزي ثم صار سودانياً بعد الاستقلال هو مدير الورشة 114 التي توجد بها الناقلات الثقيلة وتخيل أن هذه الترع موصولة بالأحياء المشجرة.. ففي هذا المناخ ولدت واتذكر قضبان السكة حديد الكثيرة وكان خيالنا يقودنا أن الحصحاص يمكن ان يقلب القطار.
* مشوار الحياة اليوماتي:
منذ أن تفتحت على الحياة، وجدت أمي تعمل قابلة وزائرة صحية مثلها مثل والدي تخرج للعمل في مصلحة الري والدي كان قيافة - اكتسبت منو هذه الوسامة - أمي كانت تلبس البوريه الأبيض مثلها مثل المفتشات الانجليزيات وغنوا لهما أغنية تمتم:
ست ستونه الخمري لونها
باصات الري يا الجننتونا
ففي هذا المناخ وأنا لم أكن أتكلم إلاّ في السنة الثانية من المدرسة بسلاسة.. السكة حديد كانت تعني عندي بوابة للحلم.. والدي كان يعمل صباحاً في الري ومساء بالسينما سينما «الخواجه ليكوس»، وكانت ليلة رهيبة جداً.. دخلت السينما قبل المدرسة وعندما دخلت المدرسة صارت الأسرة تحدد لي أيام معينة في الأسبوع.
* تعلمت الحكي من السينما:
صرت أُحب المدرسة لأنني كنت أُمثل وأحكي ما أشاهده في السينما ومثلت قصة «الراهب والنمر» من كتاب المطالعة ودور الراهب فيه مبالغة في الأداء فقال الأستاذ صفقوا له. سينما الخواجه قبل أن تدخلها بها Central الحلواني وهو مكان يلتقي فيه الرياضيون، أمامه مصلى صغير لجمهور السينما وموظفيها السينما مبنية على كل الحرف الانجليزي "V" وقوس من النيون مكتوب عليه سينما ود مدني باللغتين العربية والانجليزية. صالة السينما بها شباكان للتذاكر واطارات معلقة لبوسترات الأفلام. الكراسي حديد أخضر وحبل والكرسي الذي جلست فيه وأنا طفل هو ذات الكرسي شاهدت فيه «عرس الزين الذي مثلت فيه شخصية «سيف الدين» هذا الشخص سيف الدين، يحبه الطيب صالح لأنه شخصية حقيقية، ومن السينما عرفت كولومبس قبل كتب المدرسة وفعلاً السينما هي مدرسة افريقيا المسائية كما قال عثمان سمبين.
* المكتبة الوطنية:
تعلمنا من أساتذتنا حب الكتاب، وكنا نذهب لمكتبة العم عيسى وكنت أُوفر مصاريف الفطور لشراء المجلات (ميكي، الوطواط، سمير). نشتري المجلات في فسحة الفطور ومن هذه المحطة صرنا نعرف كيف نقتني الكتب. هذا قادنا إلى مكتبات أخرى في واد مدني هي مكتبة «الفجر» ومدني Bookshop وفي المدارس كانت المكتبة المدرسية بالاشتراك الشهري.
* رحلة الملجة:
نجمع فلوس كل أولاد الحلة بعد أن انتقلنا من حي الري إلى الدرجة الثانية،ونمشي فوج نشتري البطيخ ونأكله.. وفي الطريق كانت مدني مليئة بصناديق قمامة مكتوب عليها حافظوا على نظافة مدينتكم. نضع قشر البطيخ في هذه الصناديق والملجة ترتبط في ذكرياتنا بأطفال الطبالي، والعنكوليب يرتبط بالطبلية وهي بدايات باكرة للاعتماد على الذات.
* دوران سباق الخيل
نذهب للسباحة في هذا المكان في شكل مجموعات من أبناء الحي، والدوران أصابنا بالبلهارسيا والحمد لله ما جينا زمن عبد الحليم حافظ العلاج متوفر ولكنه قاسي.. أهم شئ في الخريف بعد ان ينشف المطر تتشقق الأرض نمشي فيها حفاة، تصدر أصوات موسيقية بأقدامنا الصغيرة.
* الدباغة:
كانت مصنع وسوق للجلود، وهو من الأحياء الشعبية العريقة في واد مدني، ومنذ أن تأسست واد مدني عرف هذا الحي فن الزخارف الشعبية وكنا في أعياد الأضحى نذهب بالجلود لهذا المكان..
* مدرسة النهر:
كانت مشرفة على النيل الأزرق. كنا معجبين باسمها ومدرسة البندر من أميز المدارس في واد مدني جوار مدرسة النهر الجامع الكبير، وحوله مجاذيب كثر وأحدهم يسكن في شجرة جميز. هذه الشجرة احترقت ودارت حول احتراقها ملابسات صوفية اشبه بتلك الكرامات التي تحدث في طبقات ود ضيف الله.
* معارض الزهور:
أقيم في مدني منذ العام 1903 معرض زهور وهو معرض مستمر حتى الآن. كل المكاتب فيها زهور «وينكا» وهي من الزهور السودانية التي يجب أن نحتفى بها وصارت أشبه بالزهرة الحكومية لأنها تزهر طيلة العام وواحدة من أحلامنا أن نحتفي في كل خريف بزهرة.. في بيت الخال في الحي البريطاني كانت البيوت المبستنة تدخل ضمن المسابقات.. بعد الخريف كانت السعدة تنبت زهرة بيضاء هي الزهرة الشعبية، وهي رمز للخريف الزهرة الثانية هي زهرة السنمكة جنوب الدرجة الثانية حتى المنطقة الصناعية، ولها علاقة بالطب البديل ومن أجملها الورد الانجليزي.. أما الجهنمية فتوجد عادة في سياج الدور والمكاتب الحكومية. والاشجار في واد مدني لها سحر احداها (تسمى لهيب الليل) وأخرى تسمى (دقن الباشا) وأشجار النيم وأشجار الغاردينيا البيضاء.
* ناس السوق:
شاهدت وأنا طفل أسرة عبد الرحيم الأمين تذهب بعمود الغداء في دكان الأقمشة، وجميع ناس السوق بأكلون معاً في حميمية وتواصل. دكان الحلواني فيه الباسطة وفيه بقالات كبيرة Supermarket أبو شمس. الأجبان المستوردة والخبز بأنواعه كالخبز الفرنسي والانجليزي وأجملها الخبز الشمسي فيه «ردة» تعطيه طعما ونكهة . واسماعيل ازهري شجع بعض الطهاة المصريين لتغيير شكل الافران وصناعة الخبز، وأهم ما فيه انه خال من «البروميد» في سوق واد مدني كان الهنود يتاجرون في الاقمشة والاكسسوارات بجانب الارمن والشوام والاقباط، وكانوا يمثلون سوق مدني الحديث، والبعض دكاكينهم مكان تجمع للرياضيين والفنانين والادباء. في مدني ايضا مطابع كروت الدعوات وبوسترات السينما، بجانب المطاعم الشهيرة مطعم (ابو ظريفة) للفول ومطعم (كشك) و(مكاوي) ملك الفول ولعيبة الكرة يتجمعون في العديد من هذه الامكنة، واشهرها «ود الحاج» في الصياغ وشجرة الاستاذ محمد عز الدين جوار حديقة واد مدني، وكل المثقفين يلتقون في هذا المكان.
* مواسم التصوف:
ميدان المولد في بانت واحد من أعرق الميادين واجملها لانه واسع، بجانب الزوايا ومراكز الحياة الصوفية ومدني السني هو صاحب القبة، وود شاطوط وسعدابي.. والجمهوريون في مدني عرفوا بالإنشاد العرفاني ورمزهم سعيد شايب. والانشاد العرفاني تشارك فيه اصوات جميلة جدا وعندما تنتقل من مدني الى ابو حراز اكبر مراكز الصوفية، وفيها الشيخ ود كنان وغيره من الاولياء المقبورين بأرضها الطاهرة.مدني منفتحة على الاخرين وجمعت الناس بعد ان كوّنها الشيخ مدني السني، وبعد ان صارت عاصمة جمعت الناس من كل السودان، وبعد المشروع جمعت ناس من كل افريقيا هذا المزيج جعل اهل مدني لا يعرفون الجهوية.
*نجوم في سماء المدينة:
لغناء الكاشف نكهة خاصة عند اهل مدني، فالكاشف بالنسبة لشعب مدني ليس مطربا وانما شخص يجدون فيه بعض ملامحهم، وذكرياتهم مطبوعة على صوت الكاشف ليس الكاشف وحده بل حتى من يكتب للكاشف الغناء ... الشاعر علي المساح يعرف اهل واد مدني المساح الشاعر، وايضا الرياضي المطبوع وصاحب الطرفة الظريف خفيف الظل. ولم تتوقف مدني عطاء في ساحة الفن عند ابراهيم الكاشف، بل اخرجت للسودان عركي، محمد الامين، رمضان حسن، محمد مسكين، الخير عثمان، محجوب عثمان، وثنائي الجزيرة، ولثنائي الجزيرة مكانة خاصة فهما لم يغادراها الى العاصمة بل ظلا جزءا من حياة الناس في مدني، وجزءا من مناسباتهم الاجتماعية يشاركان الناس افراحهم «وكانت ايام سعيدة» ولاتزال مدني تعطي حتى جيل عصام محمد نور.* يابا سعدابي الفوقو الشجر كابيبعد ان تنتهي احتفالات المولد الرسمية في ميدان بانت، تنتقل الى سعدابي في حي العشير قريبا من النيل الازرق، والواقع ان مزار الشيخ سعدابي محاط فعلا كما جاء في الاغنية بأشجار ملتفة فوق قوس القبة كما قالت المغنية الشعبية:
يا يابا سعدابي
الفوقو الشجر كابي
أنا بسجل اعجابي
* الشيخ مدني السني:
أسس المدينة قبل الفونج على ايام العصر المسيحي، وسمي بالسني لاتباعه نهج الكتاب والسنة النبوية المطهرة، وتعد قبة الشيخ السني معلما معماريا وروحيا في واد مدني.* زاوية الشيخ عبد السيد:
في حي المدنيين يأتيها المريدون من كل مناطق الجزيرة والشيخ عبد السيد كان يركب على دابة عليها مفرش من جلد النمر، ثم يضع السرج وهذه اشارات الفرسان وأهل الخوارق.
* أحياء مبدعة:
من أعرق الأحياء في واد مدني حي ود أزرق، وهو الحي الذي اخرج للناس ابراهيم الكاشف ومحمد الامين، وفي طرفه تسكن عائلة البحيرية، ومنهم الرقم الاقتصادي الكبير مأمون بحيري وابراهومة الكبير لاعب كرة القدم الاشهر، الذي لعب في الاتحاد مدني ومريخ العاصمة وقطر والفريق القومي، وشقيقه حمد النيل لاعب الاتحاد والهلال واهلي القاهرة وقطر، ومنهم انبثقت فرقة ود أزرق في الستينيات في احياء الحفلات، وفي لعب دور المسحراتية بالرق والطبلة.
صحيفة الصحافة
المفضلات