خلال سهرة عن ود مدني بخيمة الصحفيين
مؤتمر الخريجين هو الذي صنع السودان الحديث
نظمت طيبة للإعلام «طيبة برس» ضمن برنامجها الرمضاني في خيمة الصحافيين بنادي الضباط بالخرطوم، سهرة رمضانية حول مدينة ود مدني، في مستهل برنامج يتناول المدن في عطائها للسودان، ويتقصي اهم ملامحها، وما اضافته.
وأدار الندوة الصحافي محمد غلامابي الذي تناول في المقدمة ما امتازت به ود مدني من عطاء وتفوق في كثير من مناحي الحياة.
وقد تناول مجذوب عيدروس نشأة المدينة على يد الشيخ محمد بن مدني بن دشين قاضي العدالة، والذي يقول عنه صاحب كتاب الطبقات محمد النورين ضيف الله الجعلي «كان واحد زمانه في الورع والزهد والصدق مع الله، وعلى ذلك يعقد إجماع الأمة. وإن الكلام عليه في فصلين، الأول في ثناء العارفين عليه، وانه من اهل هذا الشأن، والثاني في بدء أمره واخلاقه واتباعه للكتاب والسنة». وقد قال الشيخ فرح ود تكتوك:
وين دشين قاضي العدالة
الما بميل بالضلالة
نســـله نعـم الســـلالة
الاوقدوا نار الرسالة
ولعل هذا يفسر الذي يجري في مدني التي يتعطر ليلها باريج حلقات القرآن، وحلقات المديح والذكر المنتشرة في الزوايا والمساجد والدور مما يلقي ضوءاً على هذه النشأة الدينية للمدينة.
واستمرت مدني التي نشأت في حوالي 9841م، وكنا قد دعونا في عام 9891م إلى الاحتفال بمرور خمسة قرون على المدينة، الا ان هذا لم يحدث للتعقيدات المعروفة في تاريخ السودان التي حدثت في ذلك العام. ولما جاء اسماعيل باشا ابن محمد علي باشا غازياً، واستولى على سنار قرر اتخاذ ود مدني عاصمة للسودان، وهذا يفسر وجود عدد كبير من ذوي الأصول المغربية والكردية والالبانية «الأرناؤوط» والمصريين والاتراك والشراكسة والشوام وغيرهم. وقد استقر الكثيرون من هؤلاء في المدينة وما حولها. ولعل هذا يفسر ما حدث من تمازج بين هذه الجماعات والسكان المحليين في الجزيرة.
واستمر هذا التفاعل في ظل الحكم التركي المصري، وفي فترة المهدية كان أحمد السني مسؤولا عن توفير المؤن لجيوش المهدية المقاتلة في مختلف أنحاء السودان، وحتى معركة كرري، وهناك تفاصيل منتشرة في عدد من المراجع تحتاج إلى من يلملم اطرافها.. ورغم جهود التوثيق التي قام بها نفر كريم من العلماء والكتاب نذكر منهم الشيخ مبارك شاطوط.. ود. عبد الرحيم سالم الحسن عميد كلية الهندسة بجامعة الخرطوم سابقاً.. ود. محمد التيجاني أحمد الجعلي، والأستاذ أحمد جبارة في كتيبه تاريخ ود مدني ومشروع الجزيرة، إلا أن الأمر يتطلب أولاً تيسير الكتب التي ذكرناها، وإعادة طباعة ما نفد منها، ونشر المخطوطات التي تحتوي على مذكرات رجال ساهموا في صنع التاريخ السوداني.. وكذلك لا بد من الإشارة إلى المقالات التي كتبها الاستاذ أحمد الفضل أحمد في التوثيق لحركة الفن في ود مدني في صحيفة «الصحافة» وفي إذاعة ود مدني.
ثم طاف مجذوب عيدروس على ما كتبه المؤرخ محمد عبد الرحيم في كتابه «الصراع المسلح على الوحدة في السودان» من أن علي عبد اللطيف قد كون جمعية اللواء الأبيض في ود مدني عام 2291م، وان من اوائل من انضموا اليها الشاعر علي المساح الذي تم اعتقاله من قبل سلطات الاستعمار البريطاني لأشعاره الساخرة من الحكام الإنجليز.. وهذا موقف متميز لشاعر بقامة علي المساح.
وفي عام 5291م قامت في ود مدني حملة لجمع التبرعات لثورة الريف المغربي بقيادة الأمير عبد الكريم الخطابي ضد الاستعمار الفرنسي والاسباني في المغرب.
ومن جمعية ود مدني الأدبية انبثقت فكرة قيام مؤتمر الخريجين في عام 6391م التي تولى الدعوة اليها الأستاذ أحمد خير المحامي، وقد خرجت مبادرات عديدة من هذه الجمعية منها فكرة المهرجان الادبي الاول الذي اقيم عام 9391 في مدني، ثم انتقلت الشعلة إلى الخرطوم وام درمان وحواضر السودان الاخرى.. وفكرة يوم التعليم التي تبناها المؤتمر، ومن خلالها قامت المدارس الأهلية التي استطاع بها المؤتمر نشر التعليم والوعي في ربوع السودان اضعاف ما فعل المستعمر.. وكذلك يوم السودان الرياضي الذي كان أشبه ما يكون بأولمبياد مصغر.
ومن مؤتمر الخريجين انبثقت الأحزاب السياسية، وقامت الحركة الوطنية التي قادت البلاد الى الحرب والاستقلال.
وتطرق مجذوب إلى مدرسة ود مدني الاميرية المتوسطة، وهي المدرسة التي تعلم فيها الرئيس إسماعيل الأزهري، والرئيس اللواء محمد نجيب وميخائيل عندوم رئيس مجلس الثورة في إثيوبيا والمشير جعفر نميري. والفريق علي علي عامر قائد القيادة العربية المتحدة الذي زار المدرسة في عام 6691م. ومن طلابها ايضاً مأمون بحيري. وتناول دور مدرسة حنتوب الثانوية التي احتضنت قيادات العمل السياسي بالسودان وخارجه.
وأشار إلى أن قيادات الأحزاب في ود مدني كانت دائماً على مستوى المسؤولية، فكان في حزب الامة الامير محمد عبد الرحمن نقد الله وكان شخصية محترمة ومقدرة من الجميع، وكان هناك في الحركة الاتحادية الطيب عبد الرحيم أبو عيسى والمهندس خضر عمر وهو الذي دعا عند الاستقلال الى تسمية الجمهورية الوليدة بجمهورية سنار.. ومن أبناء ود مدني المفكر والسياسي بابكر كرار خاصة في مجال الدعوة الى الاشتراكية الإسلامية والتضامن مع حركة المد القومي في المنطقة العربية.. وكذلك كان هناك وجود مميز للإخوان الجمهوريين.. سعيد شائب وجلال الطيب والمهندس عبد الرحمن عساكر وأمين صديق، وغيرهم.. وكذلك كانت في الجزيرة حركة يسارية نشطة. ولا يمكن عزل ود مدني عن محيطها المتمثل في مشروع الجزيرة، والجزيرة هي العمود الفقري للسودان، ومن خلال جهود المزارعين تمت عمليات التنمية في السودان، وتم الصرف على التعليم والصحة وإقامة المؤسسات والمشاريع الاخرى.
وتناول الحديث بعد ذلك الأستاذ صلاح الباشا الذي أشار إلى الفقر الذي تعيشه ود مدني والجزيرة الآن نتيجة لبعض السياسات وما أصاب المشروع من تدهور.. وقال إنهم من أسرة نزحت من الزيداب الى الجزيرة لأن الانجليز قد بدأوا في زراعة القطن هناك، ولما شعروا بأن الرقعة الزراعية في الزيداب غير كافية انتقلوا الى الجزيرة، وكانت الفكرة ان مصانع النسيج في ليڤربول ولانكشير في حاجة الى القطن الذي كانت انجلترار تستورده من اماكن اخرى.. وقامت بانشاء الشركة الزراعية التي تحولت فيما بعد الى مجلس ادارة مشروع الجزيرة.
وتحدث صلاح الباشا عن الفن والفنانين في مدني، وأشار إلى شعراء الغناء: علي المساح، كباشي حسونة، بدوي بانقا، والى ان الاستاذ فضل الله محمد قد كتب الاغنيات الاولى للفنان محمد الامين وهو بعد طالب في مدني الثانوية، ثم بعد اكتوبر كتب اناشيده: المجد للآلاف تهدر في الشوارع كالسيول، والمتاريس، الأمر الذي ألهم شاعراً شاباً آنذاك هو الاستاذ هاشم صديق ليكتب ملحمة أكتوبر الخالدة، وقال إن محمد الأمين قد اقنعه الشاعر محمد علي جبارة بالانتقال الى الخرطوم وهو صاحب اغنياته الاولى.
وتطرق الحديث إلى دور الفنان حسن الباشا رئيس اتحاد فناني الجزيرة الذي دافع عن حقوق اهل الفن في مدني.
وعاد مجذوب عيدروس مرة أخرى لتقديم بعض الاضاءات حول رابطة أدباء الجزيرة «9591م» التي ضمت عدداً من الاسماء منهم الشاعر والناقد محمد عبد الحي، والناقد صديق محيسي، والبروفيسور عصام البوشي، والراحلان عمر محمد الحاج وعبد الرحيم زيادة.. وجاءت رابطة الجزيرة للآداب والفنون في عام 3791م وكانت برئاسة الاستاذ محمد الحاج محمد صالح وضمت عدداً من الكتاب والفنانين منهم: عبد الحليم سر الختم، بابكر صديق، محمد محيي الدين، عبد العظيم عبد القادر، المترجم السر خضر سيد أحمد، ومن شهود هذه الأمسية: علي مؤمن ومحمد الفاتح يوسف أبو عاقلة.
وأشار أيضاً الى ان الكاتب رؤوف مسعد «المقيم الآن في هولندا» قد كتب روايات ضمنها رؤيته لمدينة ود مدني التي درس في مدرستها المصرية مدرسة «الاتحاد»، وقد زار المدينة قبل خمس سنوات تقريباً وتحدث عن التدهور الذي اصاب المدينة التي كانت آية في الجمال والنظافة والحضارة. وتطرق أيضاً الى ان عبقرية الكاشف غذتها معرفة موسيقية استقاها من اصدقائه الذين كانوا بمثابة الفرقة الموسيقية، وهم المهندس محمود جادين وكيل وزارة الري، فيما بعد، وأستاذنا الأمين محمد احمد كعورة «مدير مدني الثانوية ثم حنتوب وأمين عام الجامعة الاسلامية وعالم الفلك المعروف»، والمهندس عبد الرحمن أحمد عساكر والمهندس عثمان أبو بكر رجب، وقد كانوا أعضاءً في جمعية الموسيقى بكلية غردون.. وأشار إلى قائد فرقة موسيقى بوليس النيل الأزرق كودي الذي تتلمذ على يديه الاستاذ محمد آدم المنصوري والراحل الأستاذ جمعة جابر، ومحمد قسم الله المليجي.
وفي هذا المناخ جاء محمد الأمين الذي تعلم العود على يد الأستاذ السر محمد فضل، وكان هناك ايضاً المعلم الفنان علي إبراهيم علي الذي التحق فيما بعد بمعهد الموسيقى والمسرح.. وأشار الى ريادة الفنان احمد سالم في مجال التشكيل، وقد نظم اول معارضه في بدايات الخمسينيات من القرن الماضي.
كما اشار الى نبوغ الفنان الراحل ابراهيم خان من حي الدباغة حتى انطلاقته في السينما والمسلسلات التلفزيونية من العاصمة المصرية القاهرة التي استقر بها منذ بدايات ستينيات القرن العشرين. والفنان محمد مسكين وأغنيته المشهورة «من أرض المحنة».
وتحدث صلاح الباشا عن ضرورة هجرة الفنانين من مدني إلى الخرطوم باعتبارها مركزاً للاضواء وصناعة النجوم، وان ابراهيم الكاشف قد ادرك هذا منذ عام 9391م وقبل انشاء الاذاعة السودانية، وان بدايات الخمسينيات قد شهدت ظهور عدد من الفنانين المميزين: محجوب عثمان، ورمضان حسن، والشاب عمر أحمد صاحب أغنية «كان بدري عليك»، والطاؤوس، والأغنيتان لعبد الرحمن الريح. وكذلك هجرة محمد الأمين وأبو عركي البخيت، وان الفنان عمر جعفر قد تأخر في القدوم الى الخرطوم رغم امكانياته بوصفه مطرباً.
وقد جرت مناقشات وإضافات لما قيل، وتحدث الاستاذ علي مؤمن عن ضرورة التوثيق لمدارس كالنهر والبندر، وأفاض في الحديث عن رابطة الجزيرة للآداب والفنون وما قدمته في خدمة الثقافة السودانية. وتحدث الأستاذ محمد أحمد الطيب شيخ العرب عن الرياضة في مدني وعبقرية بعض لاعبيها كبادي وبابكر سانتو، وقد تناول عدد من المتحدثين هذا التميز الكروي في مدينة أنجبت ابراهومة الكبير وأبناء سانتو «عبده، بابكر، الفاضل»، وحموري أخوان، وكوري أخوان، وسمير صالح والإسيد وقلة أخوان وغيرهم.
كما تطرقت الأحاديث والمداخلات إلى نبذ سكان ود مدني للعنصرية والتعصب، وانها ظلت مدينة مفتوحة للآخرين دون عقد أو حساسيات، ويميزها هذا التماسك الاجتماعي والتمازج بين روح العصر وقيم الريف. وكانت الخلاصة ان هذا المزيج البشري قد تجانس في هذا المكان ليقدم تجربة إنسانية رفيعة.
وتخللت الأمسية فواصل غنائية للفنان عمر جعفر الذي يسير على خطى هادئة ووئيدة في درب التأليف.
وخلصت الندوة إلى أن الجزيرة ومشروعها وإنسانها وعطاءه ضروري لكي يبقى السودان قوياً متماسكاً، وأن عطاء الجزيرة ظل بلا حدود للسودان كله طيلة عقود، وأن مجتمعها لم يعرف التعصب والعنصرية.
المفضلات