....
كدت أطير فزعا عندما رأيتها و أنا أعبر الطريق الرابط بين ( الداوديات ) و ( أسيف ) في تلك الساعة المتأخرة من ليل ( مراكش ) الغامض , لم تأبه لفزعي بل هي لم تشعر بتواجدي حتى , مطرقة إلى الأرض كانت كمن يبحث عن شئ ضيعه , ينسدل نحو الأرض شعرها منافسا الظلام في تعتيم ملامح وجهها .
استحضرت كل ما أحفظ من القرآن مبتدءا بآية الكرسي من بعد البسملة حتى خرج صوتي متحشرجا :
إنس أم جان
التفتت ناحيتي , تبارك الله في ما خلق , بدا وجهها مثل قمر انقشع من بين سحابتين حوله من الضوء هاله فزاد اندهاشي فأعدت السؤال :
إنس أم جان ؟؟؟
رأيت على وجهها أثر ابتسامة , هي ابتسامة غريبة بل هي بعض ابتسامة ,,
قالت : أتقصد شيطان
قلت : أعلم أن الشيطان يحرقه القرآن و قد قرأت كل ما تيسر لي منه
قاطعتني : و أنا لا أزال هنا , فما أنا بشيطان إذن ..
دنوت منها فبانت ملامحها الجميلة أكثر وبدا جمال قوامها رغم تقر فصها على الأرض و الذي أظهر انحناء فخذيها و ما علاهما من خصر ضيق ..
: من أنت و ماذا تفعلين هنا في مثل هذا الوقت ؟؟؟
قالت : اسمي جميلة و لا أدري بقية الإجابات
قلت : قولي إذن ماذا تفعلين في حياتك غير قطع الطريق آخر الليل على شاب مسكين مثلي
و أضحكتها إشارتي حتى بدا بياض أسنانها و أردفت :
أنا أدرس اللغة العربية بجامعة القاضي عياض
قلت : لا تكذبي فأنا أدرس بنفس الجامعة ولا يمكن ألا ألحظ كل هذا الجمال و حصاد الجمال مهنتي
قالت : أراك تشبه ( مصطفى سعيد ) فهل أتيت غازيا مثله
قلت : أنتم تدرسون الطيب صالح إذن يا للروعة
و تسامرنا جل الليل ثم افترقنا على موعد في نفس المكان و على ذات التوقيت في اليوم التالي و انتظرتها حتى صعدت عتبات منزلها الذي يتوسط الميدان الفاصل بين الحيين المغربيين القديمين و عجبت أني لم ألحظ من قبل هذا المنزل الذي يتوسط الميدان وحيدا .
عند انتصاف الليل سحبت آخر نفسين من السيجارة الملفوفة التي ناولني إياها ( عباس ) بعد أن مرت على بقية الشلة , وانتبهت فجأة أن موعد لقائي مع ( جميلة ) قد حان فقذفت على الطاولة ما تبقي على يدي من ورق ( الكوتشينة ) و خرجت دون أن القي بالا للسباب الذي كاله لي ( عباس ) فقد كنا نلعب كثنائي .
يا بنت الناس أنا فقير و دراهم يومي معدوده
إنما عندي قلب كبير بحر شطآنه ممدوده
أحب هذه الأغنية و كنت أنتوي إسماعها جميلة لأثبت لها أني أجيد الاستماع لغنائهم فظللت أرددها و أنا أقترب من مكان موعدها و لكن يبدو أني قد رفعت صوتي أعلى مما ينبغي فانتهرني العساس :
من هناك من هناك
فوقفت له ولاحظت أن العساس يحتل نفس المكان الذي كنت أجلس فيه بالأمس مع ( جميلة )
قال العساس : هل تسكن هنا , لا , فانا أعرف كل السكان هنا
قلت : لا ولكن يبدو أني سأقابلك كثيرا هنا يا سيدي العساس
قال في لهجة حاد ه : ماذا تقصد
قلت : لا شئ فقط أنا كنت البارحة ..... و قصصت عليه كل القصة ( لعن الله تلك السيجارة )
: ولكن طال عمرك يا رجل العسة أين كنت البارحة ؟؟؟
قال متهكما : هنا في نفس المكان وقد أكون أنا جميلة ,, ثم غلظ صوته فجأة : أيها الغبي أتحسبني غبي أنظر إلى الميدان هل ترى بيتا , بل هل ترى بناء غير تلك العريش ., و جرني العساس جرا نحو العريش فما رأيت سوى سبيل ماء كتب عليه بالخط الأندلسي
وقف لروح المرحومة جميلة بنت عابد
ظللت أصيح : كاذب أنت أيها الشيطان و أمسكت بتلابيبه حتى كدت أمزق جلبابه الصوفي ذا اللون البني الداكن
كاذب ,, كاذب ,,, وسقطت بلا وعي ,,
أفقت على صوت والدي يتحدث إلى العساس الذي تغير شكله , هو الآن يلبس بالطو من القطن الأبيض ويخاطبه أبي : كيف حاله اليوم يا دكتور ؟؟
: يردد نفس القصة , يبدو أن جميله ما هي إلا حلم يسكن عقله
استجمعت كل قواي لأصيح
العساس شيطان كاذب , العساس شيطان كاذب , و أنا جميلة
المفضلات