بسم الله الرحمن الرحيم
التوثيق لمدينة ودمدني ... سيدة المدائن
نبذة تاريخية عن مدينة ودمدني:-
تقع مدينة ودمدني عاصمة ولاية الجزيرة بين خطي عرض وطول 14 . 19 درجة شمالاً و 31 . 33 درجة شرقاً وتتميز بموقعها الجغرافي في وسط السودان حيث تقع على الضفة اليسرى من النيل الأزرق وعلى مسافة 186 كلم جنوب الخرطوم، وتعتبر منطقة التقاء طرق حيث تربط مابين الخرطوم وبقية ولايات السودان المختلفة وميناء السودان الأول ببورسودان وطبيعة الأرض فيها ذات سطح مستو ذي انحدار هادئ من الجنوب الى الشمال وتبلغ المساحة الكلية لمدينة ودمدني حوالي 50 كلم مربعا ويبلغ عدد السكان 700 ألف نسمة تقريباً (2004).
تعتبر مدينة ودمدني من اقدم اربع مدن في السودان ويرجع تاريخها الى نهاية النصف الاول من القرن السادس عشر الميلادي في عهد مملكة الفونج (السلطنة الزرقاء 1508-1820) التي بلغ فيها مؤسسها الشيخ محمد مدني السنى عمرا ألم فيه بعلوم الدين .. فقد سميت مدينة ودمدني منسوبة له وكان جده القاضي (دشين) الذي سمى بقاضي العدالة جاء سائحا من منطقة الجزيرة العربية عن طريق مصر ووادي حلفا وقد ولاه الشيخ عجيب بامر الملك (دكين) قاضيا على اربجي وقد قال فيه الشيخ فرح ودتكتوك:
ود دشين قاضي العدالة الما يميل للضلالــــة
نسله نعــــم السلالـــــــة الاوقدوا نار الرسالة
ويرجع نسب الشيخ محمد مدني السني الى قبيلة العقلين .. وهو محمد بن مدني بن دشين بن احمد بن نضر بن ابراهيم بن سلام بن رقم بن مكرم بن الحاج بن محمد بن احمد بن علي بن ابراهيم بن جعفر بن محمد بن احمد بن اسحاق بن حسن بن عقيل بن ابي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم، استقر في مكان الضريح المعلوم اليوم بعد ان نظف الارض من الشوك والاشجار واسس اول حلقة قرآن واول حلقة علم في الفقه المالكي الذي نبغ فيه نبوغاً ملحوظاً وسرعان مالتف حوله اعداد كبيرة من طلاب العلم من داخل السودان وخارجه، وقد استهوت هذه المنطقة بعض القبائل العربية وخصوصا قبائل العوامرة، والدباسين والكواهلة .. وتقول بعض المصادر ان المغاربة اول من هاجر الى ودمدني ونسبوها الى مؤسسها الشيخ محمد مدني السني والكلمة ليست ود ولكنها واد في لهجة اهل المغرب العربي .. وقد زارها المؤرخ اليوناني (جيوفاني) في القرن السابع عشر وكتب عنها .. ويروي انها سميت بودمدني لان الطالب عندما يسال الى اين يذهب فيقول الى ودمدني .. كان حي المدنيين اول احياء المدينة وكان يسكنه الدارسون والمريدون، وقد انتشرت فيها انذاك حرفة صناعة المراكب الشراعية الى جانب الصناعات المحلية كدباغة الجلود والاحذية والعناقريب.
فعلى مدى تلك الفترة استطاعت ودمدني ان تحقق طفرة في النمو الا انه لم يقم بها اي نوع من الحكم حتى عام 1820 في عهد خورشيد باشا حينما تم اختيارها عاصمة للسودان في فترة الحكم التركي وتم تعيين قاضيين في المدينة كما جعلوها مركزاً لحامية تركية تمهيدا لغزو سنار وفازوغلي، وانتهت اهمية المدينة كقاعدة عسكرية بعد مقتل اسماعيل باشا، واستمرت على حالها الى ان سقطت الحكومة التركية على يد الامام المجاهد محمد احمد المهدي .. واختارت المهدية ود الصوفي واليا على المنطقة التي تقع بين قرية الرميلة غرب الخرطوم حتى سنار واتخذ ودمدني عاصمة لولايته.
في فترة الحكم الثنائي الانجليزي والمصري اتخذت مدينة الكاملين عاصمة لمديرية الجزيرة في يوم 8 مارس 1903 ... وكانت مدينة ودمدني مركزاً تابعا لمديرية سنار وكانت العاصمة مدينة سنجة .. ثم نقل مركز الادارة العمومية من مدينة سنار لمدينة ودمدني في 20 ابريل 1903 حيث صارت عاصمة لمديرية سنار، وفي اول يناير 1906 تم نقل مدينة ومركز ودمدني من مديرية سنار لمديرية النيل الازرق وصارت مدينة ودمدني عاصمة لمديرة النيل الازرق واضيفت لها مديرية الجزيرة.
واخذت مدينة ودمدني شكلها الاساسي بعد دخول الانجليز اليها عام 1898 حيث اعيد تنظيمها فاخذت شكل المدينة الاستعمارية حيث اخذ تقاطع الشوارع شكل العلم الانجليزي ولازال هذا الطابع مسيطرا على هيكلها العام كما هو في اغلب مدن السودان الكبيرة.
شهدت مدينة ودمدني في فترة الحكم التركي والثنائي نشاطاً تجارياً كبيراً وحلت بالمدينة اعداد كبيرة من المهاجرين تجار وحرفيين وموظفين بالبلاد من داخل السودان وخارجه من الاجناس المسلمة وغير المسلمة ونذكر من تلك الاجناس ذات الاديان المختلفة الانجليز والاتراك والاقباط والشوام والاحباش واليهود والاغاريق واليمنيين والايطالين والهنود والمجراب والانرؤط والارمن والمغاربة والمجوس والمصريين ونحوهم من الاجناس الافريقية الاخرى .. فقد كان الجو روحيا لكل الناس وعلى مختلف عقائدهم وعبادتهم ليكونوا نسيج ودمدني الثقافي الاجتماعي الحالي.
وخلال العشرين الاوائل من عام 1900 اقيمت محطة السكة الحديد والمتستشفى الذي كان وحدة عسكرية تابعة للقوات البريطانية ومباني رئاسة المديرية والمحاكم والبوستة والجامع الكبير وامتداد شارع النيل، وباكتمال الخط الحديدي لمدينة الابيض في 27 فبراير 1912 ولشرق السودان عام 1928 اصبحت ودمدني مركزاً تجارياً هاماً، كان يستقبل يومياً عشرات القبائل والقوافل المحملة بحاصدات السودان، واستعادت اهميتها الاقتصادية بقيام مشروع الجزيرة، وضمت ايضا رئاسة هيئة البحوث الزراعية ورئاسة وزارة الري حيث توسعت حركة الاداء الحكومي نسبة للتطور الانمائي والاجتماعي.
وفي العقود الاخيرة من القرن العشرين شهدت طفرة في مجال التعليم والصناعات حيث تم تشييد عدد كبير من المدارس كما تم افتتاح جامعة الجزيرة وغيرها من الكليات العلمية المختلفة، كما شهدت قيام صناعة الغزل والنسيج وصناعة الجلود والصابون والزيوت والحلويات والالبان وغيرها من الصناعات الاخرى.
ونجد ان مدينة ودمدني غلب الطابع الصوفي، وظلت منذ نشاتها مكانا مرتبطا بالدين وشعائره، وقد كان لقرب المدينة من ابي حراز حيث الطرق الصوفية اثراً كبيراً فكانت الزيارات المتواصلة بين المشايخ، وقد وضع الشيخ عبدالسيد محمد بخيت اللبنة الاولى للطرق الصوفية بودمدني، ومن اشهر شيوخ الطرق الصوفية محمد عبدالرحمن شاطوط، والشيخ عثمان زياد.
اما في مجال الثقافة والاعلام فهي سابقة في هذا المجال فقد شهدت ودمدني قيام الجمعية الادبية من بداية الثلاثينات وفيها تم اقتراح قيام مؤتمر الخريجين عام 1937 وقد تبنت هذه الجميعة ايضا قيام المهرجان الادبي الاول في السودان بمدينة ودمدني عام 1938 وتكونت ايضا رابطة ادباء الجزيرة والتي كان من اعلامعا الشاعر المعروف د. محمد عبدالحي ثم في السبعينات رابطة الجزيرة للآداب والفنون وقد شهدت ودمدني طفرة كبرى بافتتاح مسرح الجزيرة في 1961 وتلفزيون الجزيرة في عام 1972 واذاعة ودمدني في يناير 1985، وفي عام 1991 تم افتتاح المجمع الثقافي بودمدني.
اما في مجال الفن والابداع نجد الفنان ابراهيم الكاشف، عوض الجاك،الخيرعثمان، محجوب عثمان، محمد احمد الشبلي، رمضان حسن، رمضان زايد، احمد عمر، محمد مسكين، محمد الامين، ابوعركي البخيت، عبدالعزيز المبارك، ثنائي الجزيرة، علي السقيد، الفاتح السقيد، صديق متولي، صديق سرحان، عصام محمد نور، عادل هارون وغيرهم .. وفي مجال الموسيقى نجد في فترة الثلاثينات والاربعينات عازف الكمان ميشيل تيروز وهو كان يعمل نجاراً ويسكن منطقة السكة حديد، وانور الحلاق (سوري الجنسية) ومن الموسيقيين ايضا علي الحويرص، محمود محمد جادين، عبدالرحمن البوشي، الطيب الكارب، محمد ابوبكر، عبدالمنعم عبدالسلام، عثمان ابوبكر، عبدالرحمن البوشي، عبدالله عقارب، الاستاذ محمد الامين كيعورة، جرجس عياد، مصطفى درويش، سعدالله عبدالله، علي قسم الله، دبلي، بدر التهامي، وامتداد لهم احمد عباس، صلاح درويش، واولاد اللميجي، عثمان النو، محمد عجاج، د.الفاتح حسين، وفي مجال المسرح فرقة النيل الازرق، والمكي وودحبوبة المسرحية، والمسرح المتجول، كما قدمت المدينة الممثل العربي الكبير ابراهيم خان، ولاح في سماء الشعر شعراء كثر منهم الشاعر الغنائي علي المساح ومدثر البوشي والشاعر عبدالرحيم مكنش والهادي احمد يوسف، ومرغني عشرية وغيرهم، وفي مجال الفن التشكيلي بابكر صديق، د.راشد دياب، مكرم نسيم، احمد سالم، وجميع هؤلاء المبدعين وغيرهم قدموا الكثير لمجمتع ودمدني في زمان كان يفتقد فيه الكثير من مرافق الثقافة واسباب الترفيه.
ومن رواد العمل الوطني نذكر الاستاذ احمد خير المحامي صاحب فكرة الجمعية الادبية ومؤتمر الخريجين والشيخ مدثر البوشي عملاق الحركة الوطنية والشيخ احمد بيومي رائد المشروع الاسلامي وبابكر كرار الداعية الاسلامي الذي وهب حياته كلها للدعوة الاسلامية في المحيطين الداخلي والخارجي والامير المجاهد عبدالرحمن نقدالله صاحب الثوابت في الثورة المهدية فكرا وموقفاً والشيخ ابوزيد احمد رائد التعليم الاهلي بودمدني والدكتور النور شمس الدين الشافعي من الرعيل الاول من الاطباء بودمدني ومأمون بحيري اول وزير مالية سوداني يوقع على العملة السودانية وغيرها، وان كنا حاولنا تفصيلا للمبدعين الذين انجبتهم ودمدني في مجالات شتى فان المجال ليضيق دون ذكرهم مجتمعين ونكتفيى بهذه الاشارات العابرة لهؤلاء العباقرة دون قصد الاهمال او الاغفال لمن اسهم في الماضي العريق والتاريخ المجيد للمدينة وللسودان بتراثه ميراثه من توثيق وتطوير.
من المشاهير الذين تلقوا تعليمهم بمدينة ودمدني نذكر منهم الرئيس اسماعيل الازهري والرئيس المصري محمد نجيب وشقيقه اللواء علي نجيب والفريق علي علي عامر قائد القيادة العربية الموحدة في الستينات واللواء امان عندوم الرئيس الاسبق لاثيوبيا بعد انهيار امبراطورية هيلاسلاسي والرئيس الاسبق جعفر محمد نميري والشريف حسين الهندي الزعيم الاتحادي واشهر وزير مالية في السودان وكثيرون من قادة الفكر والسياسة.
هذه هي ودمدني التي قصدها الناس من كل مكان وتعايشوا مع اهلها وربطت بينهم الصلات الطبية والعريقة وصارت قبلة انظار قرى الجزيرة باسرها ومحط الرجال الوافدين عبرها واليها من داخل السودان وخارجه، فكان الترابط بين القريب والحبيب.
نقلاً عن كتاب ودمدني (كرة القدم خلال مائة عام 1900-2000)
للمؤلف عبدالعزيز حسن فضل البصير.
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ ربنا لاتؤخذنا إن نسينا أو أخطأنا﴾
صدق الله العظيم
المفضلات