لست بارعا في الكتابة ولكني سأرص تفاصيل أحداث مضى عليها زمن قد تسعفني الذكرة لاسحضار بعض منها
بس خلوا نفسكم طويل معاي ...
************************************************** *******************************
لسوء الطالع فقد تم تعيني في مكان المدعو برعي والذي لا أعرف عنه غير أسمه إلى يومنا هذا وحادثته
الشهيرة التي تم فصله بها وتعيني مكانه ...
كانت حادة جداً تلك المسئولة عن شئون العاملين بالقسم .. قاسية حد الرعب .. فظة التعامل ..
الموسم صيفاً الواحدة بعد الظهر وكنت آخر من يقف في الطابور وأعلنت بعدي مسئولة شئون
العاملين وبنرفزة حادة قائلة : فلينتظر البقية في الخارج، ونكتفي حالياً بهذا العدد الواقف .. رائحة
أنفاسكم لا تطاق والدنيا حر .. والمكتب صغير .. وكلكم كدا أنا ما عارفه حيعينوكم في أي مكان
وإلا يوزعوكم كلكم لقسم النسيج .. أما عندنا هنا في قسم التجهيز محتاجين عامل واحد فقط .
وبدأت المقابلات مع هذه المرعبة ..
يلا أنت أو ل واحد ما تتلفت زي الرايحة ليك حاجة جيب ملفك .. تنظر إلى الملف وتقلب أوراقه
بسرعة يا خوي ملفك ده ناقص حاجات كثيرة أمش خلصه وتعال بكرة .. يأخذ ملفه وينصرف .
هاه أنت البعده وتعلق بكتابة سريعة على غلاف ملفه وتمده له بسرعة .. يستلم ملفه ثم يخرج مستاءً
يبدو أنها حولته إلى قسم النسيج هذا القسم غير المرغوب من قبل العمال لكثرة هدير الماكينات فيه
ووردياته المتواصلة على مدار الأربعة وعشرين ساعة ..
هاه بعده .. ويسعل بحده أمام طاولتها فتنهره قائلة : يا خوي أنت بحالتك دي ما بتنفع معانا هنا
أمشي ربنا يرزقك في مكان ثاني لأنوا بحالتك دي يمكن تموت لينا هنا من أول يوم .
وأنا أطول عنقي متخللاً الصف لا حول لله ولا قوى إلا با لله يبدو لي أن الموظفة دي متخيله نفسها
مسئولة شئون العالمين وليس شئون العاملين وكأن أرزاق الخلق بيدها .. ومعاها دكترة كمان.. كم
واحد و دوري يقرب وربك يستر .
وتواصل الموظفة وبصوتها الحاد تنادي هاه البعده .. تلقي نظرة سريعة على ملفه يا أبوي أنت كشف
طبي ما عندك بعدين ورقة الإدارة الصفراء وين أنت متخيل الموضوع فوضة ولا شنو .. خلص ورقك
وتعال بكره .. ولا أقول لك .. ما تجي لأنو احتمال ضعيف تحصل فرصة هنا تاني .. يحمل ملفه
ويستدير مالئاً رئتيه بنفس طويل ثم يخرجه عند مخرج باب المكتب الذي صفقه خلفه بحرقة ..
إلى أن جاء دوري .. والحمد الله فمن كثرة تعودي على العمل في الإجازات الصيفية من صغري
وعملي مع العمال في مواسم الزراعة .. كنت ثابتاً أمامها لم تخيفني نظراتها المتفحصة التي مسحتني بها
من رأسي حتى جزمتي التي عفا عليها الدهر .. وكان ملفي مطمئنا ليس به نواقص .. وبدأت تسألني
بلهجة أقرب للتحري منها للمعاينة ..
هل امتحنت للشهادة السودانية ؟
قلت : نعم .
وأين كنت تعمل آخر مرة ؟
يا لغرابة هذه الموظفة كل الأوراق التي أمامها تجيب عن كل أسئلتها الممجوجة هذه .
قلت : كنت أعمل عمل مؤقت في اتحاد المزارعين .
وماذا كنت تعمل ؟
قلت : كنت أعمل منظم حملا الإنتاج .
وهل كان لك مكتب خاص ؟
والآن قد وصلت ما وصلت من الضيق .. قلت : نعم كان لي مكتب بحجم مكتبك هذا ثلاثة مرات
وكان به مكيف وكان به تلفون خاص .. وكانت لي ساعية تدعى الخالة "رب جود" وكنت أدعها
فقط تجلس ساعات العمل ولا أكلفها بأي شيء وذلك لأنها كانت محترمة وكبيرة في السن و كان
...وقاطعتني هي هذه المرة ...وترسم على وجهها ابتسامة .. يا الهي أنها تبتسم وعلى ما أعتقد والله
أعلم أن تكون قد ضلت هذه الابتسامة إلى ملامحها الطريق ..قائلة خلاص يكفي .. يكفي هذا .. أن
ملفك جيد وأوراقك مكتملة ولك خبرات .. ولكن أخبرني من أين تعرف المهندس إبراهيم .. وهنا
تغيرت ملامحي فما كنت أريد لأن يتدخل المهندس إبراهيم ليتوسط لي للعمل ..
قلت : أعرفه نعم .
قالت : الآن تم اختيارك ستعمل في خانة المدعو برعي وإنشاء الله تطلع ود ناس على الأق و الشكل
ما يخدعنا فيك وما تطلع زي أخونا .
قلت لها : وماذا فعل برعي ؟ اختلس مال ؟
قالت : وهي تضحك وأنا مندهش أنها تضحك برغم حدتها .. أختلس شنو كمان أنت ياخوي مفتكر
حتتعين مسئول خزينة ولا شنو ..
قلت : طيب غاب بدون إذن .. لفح توب ملايات أو قماش من المصنع ؟
قاطعتني قائلة : ياريت .
قلت : وهذه المرة لنفسي متمتماً طيب يا ربي المصيبة ده عمل شنو ؟
وأجابتني قائلة : ده عمل عمله جبانه .. دخل حمامات النساء خلف وحده من البنات وبي يا لطيف
حتى قدروا العمال ومشرفين الوردية يكسروا الباب وبنت الناس قربت تموت من الخلعة ..
لا حول الله ولا قوى ده ود باطل قلتها منفعلاً ده كان بعد ما تفصله تفصلوا رقبته كمان ..
وفجأة تغير مسئولة شئون العاملين ملامحها وتنظر إلى غاضبة أنت يا خوي حا تصحبني ولا شنو .. يلا
.. يلا أتحرك .. خلي يوروك موقعك ويسلموك الماكينة وما تحرك هنا ولا هنا لغاية ما أجيب لك
جدول وردياتك ...
وكان بعدها بنصف ساعة قد مسح أسمي الذي ولدت به والذي حكى لي أبي عليه رحمة الله أنه ذبح
لي كبشين أقرنين لإعلانه كاسم يحمله شخصي الضعيف .. وصار أسمي "عامل الجيقر" بفتح الجيم
والقاف والجيقر هذه إحدى ماكينات قسم التجهيز .. وهذا باعتباره القسم الختامي في مصانع الغزل
والنسيج حيث تأتي إليه المنسوجات والمصنوعات من ملايات وأقمشة وغيره ليتم تجهيزها وتغليفها
وتحضيرها لتكون جاهزة للعملاء .. وكانت الجيقر ماكينة متخصصة في إنتاج الشاش الطبي ... شاش
الله والرسول الواحد ده .. والكان بيكون وسخ الشفخانات والمراكز الصحية والمستشفيات زمان
وكان بيتلفي منه في أي شبتاك بيت لفة ولا لفتين ثلاثة في شكلة رولة مغلفة بروق ظهري والذي
أصبح أغلى من الذهب عيار مائة وأربعة وعشرين .. ولمعرفة عيارات الذهب هذه موقف طريف
فكان لي خال أحبه جداً فعاد ذات مرة من بلاد الاغتراب وكانت زوجته بنت أحدى صياغ الذهب
المشهورين .. فذهبت معه لزيارة أقاربها وكان لهم بنت جميلة حاجة مبالغة .. ولما خرجنا قلت لخالي
لماذا لا تخطب لي هذه البنت فما كان منه إلا أن مسك إذني وراح يقلبها داخلاً وباطناً فقلت له ماذا
تفعل قال لي أبحث علني أجد أن على أذنك عيار 124 أو على الأقل عيار 118 .. فانتبهت حينها
وأعدت النظر في طلبي وضحكنا كثيراً ..
فلنعد للشاش ولا زال عالقاً بمخيلتي ذلك المشهد حينما علا صوت السكاليب بالمستشفى لإعلان
وفاة إحداهن في غرفة الولادة والتي رفض السادة الأطباء قبول هذه الحالة في بدايتها لعدم توفر
الشاش فكان على الواحدة منهن أن عندما تأتي لمقابلة الطبيب أو لحجز نمرة في العيادة الخارجية يجب
أن يكون معها شاشها قبل أن تفعل ذلك .. فأخذ الشاش ما أخذ من جولته في تلك الأيام وأذكر أن
الناس سخرية اقترحوا أن يكون الشاش ضمن الأشياء المهمة في شنطة العروس مثله مثل المانكير مثل
علبة الماكياج وهكذا نحن شعب غريب .. تزده ألماً يزدك سخرية .. تزده عوزاً يزدك أبداعاً تزده
غضباً يريك شارعاً واسعاً من غضبه وبالمقابل تصبح كل الأمكنة ضيقة بمن تمتعوا برحابتها ....
سبحان الله هذا الشاش التافه والذي أعمل أنا على إنتاجه في ماكينة "الجيقر" .. فكان سرعان ما
تعلمت خطوات تجهيز الشاش ليصبح قابلاً للتصديق عليه من وزارة الصحة .. والتي كان في ذلك
الوقت يغنون لها دلالاً "وزارة الصحة يصحوها تصحى وتنقلب على صحفة" ..وكانت تأتيني رولات
الشاش من قسم النسيج بعد أن يتم غسلها لإذابة النشا في ماكينة الغسيل وكان عامل ماكينة الغسيل
صديقي فيما بعد عوض الله والذي كان وقتها يكبرني بضعف عمري وكان شاباً مهذباً من الذين لم
تعطهم غربتهم في بلاد المهجر غير الشقاء فعاد إدراجه ليجد أن لا مكان له غير غياهب مصانع
النسيج وكان بشوشاً صاحب لحية سوداء كثة يطلق لها العنان فيحملها طويلة أمام صدره بمقدار ما
يحمل من هموم في داخله النضيف .. وكان لي وله الكثير من النوادر والطرف .. وكان عمال القسم
الجيلي عامل ماكينة المكوى وصلاح وخالد وتماضر واحلام عمال الميكب وفلاح وأيوب عمال
ماكينة التلوين .. وغيرهم من العمال كانوا يهنئوني بشدة على عملي في ماكينة "الجيقر" حتى خيل لي
أنني عينت مشرف وردية وليس عامل ماكينة .. والحق يقال أنه كان لعملي بماكينة "الجيقر" طعم
خاص فكنت أشعر حقيقة أنني أقدم شيء لأمتي إذ صدقي حدثي ولم تمت النساء في المستشفيات لعدم
توفر الشاش .. فعلمني المشرف جيمس الجنوبي والذي كان سبباً في تركي للعمل والصديق عامر
طريقة العمل على ماكينة "الجيقر" وخطواتها ومهمتها وأهميتها بالنسبة للمصنع ..
يتبع >>
المفضلات