صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 25 من 38

الموضوع: مذكرات من نسيج

     
  1. #1
    عضو فضي
    Array
    تاريخ التسجيل
    Nov 2004
    المشاركات
    1,395

    مذكرات من نسيج

    لست بارعا في الكتابة ولكني سأرص تفاصيل أحداث مضى عليها زمن قد تسعفني الذكرة لاسحضار بعض منها
    بس خلوا نفسكم طويل معاي ...

    ************************************************** *******************************
    لسوء الطالع فقد تم تعيني في مكان المدعو برعي والذي لا أعرف عنه غير أسمه إلى يومنا هذا وحادثته

    الشهيرة التي تم فصله بها وتعيني مكانه ...

    كانت حادة جداً تلك المسئولة عن شئون العاملين بالقسم .. قاسية حد الرعب .. فظة التعامل ..

    الموسم صيفاً الواحدة بعد الظهر وكنت آخر من يقف في الطابور وأعلنت بعدي مسئولة شئون

    العاملين وبنرفزة حادة قائلة : فلينتظر البقية في الخارج، ونكتفي حالياً بهذا العدد الواقف .. رائحة

    أنفاسكم لا تطاق والدنيا حر .. والمكتب صغير .. وكلكم كدا أنا ما عارفه حيعينوكم في أي مكان

    وإلا يوزعوكم كلكم لقسم النسيج .. أما عندنا هنا في قسم التجهيز محتاجين عامل واحد فقط .

    وبدأت المقابلات مع هذه المرعبة ..

    يلا أنت أو ل واحد ما تتلفت زي الرايحة ليك حاجة جيب ملفك .. تنظر إلى الملف وتقلب أوراقه

    بسرعة يا خوي ملفك ده ناقص حاجات كثيرة أمش خلصه وتعال بكرة .. يأخذ ملفه وينصرف .

    هاه أنت البعده وتعلق بكتابة سريعة على غلاف ملفه وتمده له بسرعة .. يستلم ملفه ثم يخرج مستاءً

    يبدو أنها حولته إلى قسم النسيج هذا القسم غير المرغوب من قبل العمال لكثرة هدير الماكينات فيه

    ووردياته المتواصلة على مدار الأربعة وعشرين ساعة ..

    هاه بعده .. ويسعل بحده أمام طاولتها فتنهره قائلة : يا خوي أنت بحالتك دي ما بتنفع معانا هنا

    أمشي ربنا يرزقك في مكان ثاني لأنوا بحالتك دي يمكن تموت لينا هنا من أول يوم .


    وأنا أطول عنقي متخللاً الصف لا حول لله ولا قوى إلا با لله يبدو لي أن الموظفة دي متخيله نفسها

    مسئولة شئون العالمين وليس شئون العاملين وكأن أرزاق الخلق بيدها .. ومعاها دكترة كمان.. كم

    واحد و دوري يقرب وربك يستر .

    وتواصل الموظفة وبصوتها الحاد تنادي هاه البعده .. تلقي نظرة سريعة على ملفه يا أبوي أنت كشف


    طبي ما عندك بعدين ورقة الإدارة الصفراء وين أنت متخيل الموضوع فوضة ولا شنو .. خلص ورقك

    وتعال بكره .. ولا أقول لك .. ما تجي لأنو احتمال ضعيف تحصل فرصة هنا تاني .. يحمل ملفه

    ويستدير مالئاً رئتيه بنفس طويل ثم يخرجه عند مخرج باب المكتب الذي صفقه خلفه بحرقة ..

    إلى أن جاء دوري .. والحمد الله فمن كثرة تعودي على العمل في الإجازات الصيفية من صغري

    وعملي مع العمال في مواسم الزراعة .. كنت ثابتاً أمامها لم تخيفني نظراتها المتفحصة التي مسحتني بها

    من رأسي حتى جزمتي التي عفا عليها الدهر .. وكان ملفي مطمئنا ليس به نواقص .. وبدأت تسألني

    بلهجة أقرب للتحري منها للمعاينة ..

    هل امتحنت للشهادة السودانية ؟

    قلت : نعم .

    وأين كنت تعمل آخر مرة ؟

    يا لغرابة هذه الموظفة كل الأوراق التي أمامها تجيب عن كل أسئلتها الممجوجة هذه .

    قلت : كنت أعمل عمل مؤقت في اتحاد المزارعين .

    وماذا كنت تعمل ؟

    قلت : كنت أعمل منظم حملا الإنتاج .

    وهل كان لك مكتب خاص ؟

    والآن قد وصلت ما وصلت من الضيق .. قلت : نعم كان لي مكتب بحجم مكتبك هذا ثلاثة مرات

    وكان به مكيف وكان به تلفون خاص .. وكانت لي ساعية تدعى الخالة "رب جود" وكنت أدعها

    فقط تجلس ساعات العمل ولا أكلفها بأي شيء وذلك لأنها كانت محترمة وكبيرة في السن و كان

    ...وقاطعتني هي هذه المرة ...وترسم على وجهها ابتسامة .. يا الهي أنها تبتسم وعلى ما أعتقد والله

    أعلم أن تكون قد ضلت هذه الابتسامة إلى ملامحها الطريق ..قائلة خلاص يكفي .. يكفي هذا .. أن

    ملفك جيد وأوراقك مكتملة ولك خبرات .. ولكن أخبرني من أين تعرف المهندس إبراهيم .. وهنا

    تغيرت ملامحي فما كنت أريد لأن يتدخل المهندس إبراهيم ليتوسط لي للعمل ..

    قلت : أعرفه نعم .

    قالت : الآن تم اختيارك ستعمل في خانة المدعو برعي وإنشاء الله تطلع ود ناس على الأق و الشكل

    ما يخدعنا فيك وما تطلع زي أخونا .


    قلت لها : وماذا فعل برعي ؟ اختلس مال ؟

    قالت : وهي تضحك وأنا مندهش أنها تضحك برغم حدتها .. أختلس شنو كمان أنت ياخوي مفتكر

    حتتعين مسئول خزينة ولا شنو ..

    قلت : طيب غاب بدون إذن .. لفح توب ملايات أو قماش من المصنع ؟

    قاطعتني قائلة : ياريت .

    قلت : وهذه المرة لنفسي متمتماً طيب يا ربي المصيبة ده عمل شنو ؟

    وأجابتني قائلة : ده عمل عمله جبانه .. دخل حمامات النساء خلف وحده من البنات وبي يا لطيف

    حتى قدروا العمال ومشرفين الوردية يكسروا الباب وبنت الناس قربت تموت من الخلعة ..

    لا حول الله ولا قوى ده ود باطل قلتها منفعلاً ده كان بعد ما تفصله تفصلوا رقبته كمان ..

    وفجأة تغير مسئولة شئون العاملين ملامحها وتنظر إلى غاضبة أنت يا خوي حا تصحبني ولا شنو .. يلا

    .. يلا أتحرك .. خلي يوروك موقعك ويسلموك الماكينة وما تحرك هنا ولا هنا لغاية ما أجيب لك

    جدول وردياتك ...

    وكان بعدها بنصف ساعة قد مسح أسمي الذي ولدت به والذي حكى لي أبي عليه رحمة الله أنه ذبح

    لي كبشين أقرنين لإعلانه كاسم يحمله شخصي الضعيف .. وصار أسمي "عامل الجيقر" بفتح الجيم

    والقاف والجيقر هذه إحدى ماكينات قسم التجهيز .. وهذا باعتباره القسم الختامي في مصانع الغزل

    والنسيج حيث تأتي إليه المنسوجات والمصنوعات من ملايات وأقمشة وغيره ليتم تجهيزها وتغليفها

    وتحضيرها لتكون جاهزة للعملاء .. وكانت الجيقر ماكينة متخصصة في إنتاج الشاش الطبي ... شاش

    الله والرسول الواحد ده .. والكان بيكون وسخ الشفخانات والمراكز الصحية والمستشفيات زمان

    وكان بيتلفي منه في أي شبتاك بيت لفة ولا لفتين ثلاثة في شكلة رولة مغلفة بروق ظهري والذي

    أصبح أغلى من الذهب عيار مائة وأربعة وعشرين .. ولمعرفة عيارات الذهب هذه موقف طريف

    فكان لي خال أحبه جداً فعاد ذات مرة من بلاد الاغتراب وكانت زوجته بنت أحدى صياغ الذهب

    المشهورين .. فذهبت معه لزيارة أقاربها وكان لهم بنت جميلة حاجة مبالغة .. ولما خرجنا قلت لخالي

    لماذا لا تخطب لي هذه البنت فما كان منه إلا أن مسك إذني وراح يقلبها داخلاً وباطناً فقلت له ماذا

    تفعل قال لي أبحث علني أجد أن على أذنك عيار 124 أو على الأقل عيار 118 .. فانتبهت حينها

    وأعدت النظر في طلبي وضحكنا كثيراً ..

    فلنعد للشاش ولا زال عالقاً بمخيلتي ذلك المشهد حينما علا صوت السكاليب بالمستشفى لإعلان

    وفاة إحداهن في غرفة الولادة والتي رفض السادة الأطباء قبول هذه الحالة في بدايتها لعدم توفر

    الشاش فكان على الواحدة منهن أن عندما تأتي لمقابلة الطبيب أو لحجز نمرة في العيادة الخارجية يجب

    أن يكون معها شاشها قبل أن تفعل ذلك .. فأخذ الشاش ما أخذ من جولته في تلك الأيام وأذكر أن

    الناس سخرية اقترحوا أن يكون الشاش ضمن الأشياء المهمة في شنطة العروس مثله مثل المانكير مثل

    علبة الماكياج وهكذا نحن شعب غريب .. تزده ألماً يزدك سخرية .. تزده عوزاً يزدك أبداعاً تزده

    غضباً يريك شارعاً واسعاً من غضبه وبالمقابل تصبح كل الأمكنة ضيقة بمن تمتعوا برحابتها ....

    سبحان الله هذا الشاش التافه والذي أعمل أنا على إنتاجه في ماكينة "الجيقر" .. فكان سرعان ما

    تعلمت خطوات تجهيز الشاش ليصبح قابلاً للتصديق عليه من وزارة الصحة .. والتي كان في ذلك

    الوقت يغنون لها دلالاً "وزارة الصحة يصحوها تصحى وتنقلب على صحفة" ..وكانت تأتيني رولات

    الشاش من قسم النسيج بعد أن يتم غسلها لإذابة النشا في ماكينة الغسيل وكان عامل ماكينة الغسيل

    صديقي فيما بعد عوض الله والذي كان وقتها يكبرني بضعف عمري وكان شاباً مهذباً من الذين لم

    تعطهم غربتهم في بلاد المهجر غير الشقاء فعاد إدراجه ليجد أن لا مكان له غير غياهب مصانع

    النسيج وكان بشوشاً صاحب لحية سوداء كثة يطلق لها العنان فيحملها طويلة أمام صدره بمقدار ما

    يحمل من هموم في داخله النضيف .. وكان لي وله الكثير من النوادر والطرف .. وكان عمال القسم

    الجيلي عامل ماكينة المكوى وصلاح وخالد وتماضر واحلام عمال الميكب وفلاح وأيوب عمال

    ماكينة التلوين .. وغيرهم من العمال كانوا يهنئوني بشدة على عملي في ماكينة "الجيقر" حتى خيل لي

    أنني عينت مشرف وردية وليس عامل ماكينة .. والحق يقال أنه كان لعملي بماكينة "الجيقر" طعم

    خاص فكنت أشعر حقيقة أنني أقدم شيء لأمتي إذ صدقي حدثي ولم تمت النساء في المستشفيات لعدم
    توفر الشاش .. فعلمني المشرف جيمس الجنوبي والذي كان سبباً في تركي للعمل والصديق عامر

    طريقة العمل على ماكينة "الجيقر" وخطواتها ومهمتها وأهميتها بالنسبة للمصنع ..


    يتبع >>

    وما كنت حزين لما افوتك وسط الفقراء بيوت الطين ...
  2.  
  3. #2
    عضو برونزي
    Array
    تاريخ التسجيل
    Sep 2004
    الدولة
    الدرجه الثانيه
    المشاركات
    970

    والله يا سوباوي شفقتنا عديييييييييييييييل كده عليك الله كملها لينا كلها
    واخيرا اهنيك علي الاسلوب الجميل

  4.  
  5. #3
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية الزمن المريح
    تاريخ التسجيل
    Dec 2004
    الدولة
    مدنى المدنيين
    المشاركات
    855

    يا سلام يا سوباوى
    القصة جميلة جدا و السرد رائع ،،
    و الشوق لتكملتها شديد جدا ،،،
    و بصراحة يا سوباوى دخلت على الموضوع و قرأته كله ،، بشوق و لهفة ،، على بطلنا سوباوى ،،، انشاء الله الموضوع انتهى على خير ،،،

    نتمنى ان يرى الجزء الثانى النور قريب ،،،

    لك مليون سلام و تحية ،، ود الجنقر ،،،،




    أبوحنيفة
  6.  
  7. #4
    عضو فضي
    Array الصورة الرمزية عزيز عيسى
    تاريخ التسجيل
    Feb 2005
    الدولة
    مارنجان - مدني - الخرطوم
    المشاركات
    1,716

    الاخ سوباوي،

    فعلا اسلوبك جميل والسرد رائع ويخلي الواحد يتابعك للنهاية.. لكن شفقتنا على الجزء الباقي.. وعايزين نعرف الحصل شنو لـ (عامل الجيقر)؟.

    وتسلم،

    عزيز

    التعديل الأخير تم بواسطة عزيز عيسى ; 25-05-2005 الساعة 04:56 AM
  8.  
  9. #5
    عضو فضي
    Array
    تاريخ التسجيل
    Nov 2004
    المشاركات
    1,395

    الأعزاء ..
    ضياء الدين ... الزمن المريح ... عزيز .

    لكم الود أينما كنتم ..

    ************************************************** **********************

    كان بادئ ذي بدء يجيئني الشاش من عامل ماكينة الغسيل صديقي عوض الله برائحة لا تطاق وكأنه

    مغسول بماء المطرة .. فأدخله في ماكينة الجيقر وكانت عملية الإدخال هذه زيها زي .. امتحان

    الرخصة لأنه يأتي في رولة خارجية ثم يتم تثبيته لينتقل للرولتين الداخليتين بالماكينة التي كانت تشبه

    كبسولة الزمن في مسلسل البنت "ألانا" وأخوها المسلط داك .. وتغلق أتوتماتيكياً .... وبعد الانتهاء

    من هذه العملية التي تحتاج مني لكثير من الحرفنة .. أقوم ببقية التفاصيل من فتح مواسير داخلية

    وتسخين ماء وتفريغ و.. و. الخ .. حتى أصل أخطر مرحلة وهي مرحلة الصودا حيث تكون الصودا

    مركزة وقابلة للاشتعال وتحتاج لقياسات محددة ودقيقة .. وبعدها أقوم بغسله بمحلول "البروكسايد"

    المطهر والمبيض .. وكانت هذه العملية أيضاً بذات الدقة والخطورة كسابقتها .. وبعده تأتي عملية

    الحرفنة الأخيرة .. حيث أخرج الشاش من الرولة الداخلية إلى الرولة الخارجية وأعلق عليه ديباجة

    خاصة .. ليتم تعبئتها من قبل المعمل الكيميائي بالقسم .. والذي أذهب إلى موظفيه بعينة من الشاش

    قرابة المتر أو المتر والنصف ليجروا اختبارهم عليها .. ثم يكتبون في الديباجة إذا كان صالحاً لعرضه

    لوزارة الصحة لتجري عليه إجراءاتها هي أيضاً .. أم أنه يحتاج مني لتكرار وفقاً لمواصفات معينة ..

    وكان بيني وبين الآنسة منى وهي إحدى موظفات المختبر ود خاص واحترام متبادل .. فكانت مهذبة

    حد التهذيب .. راقية .. شفيفة .. وكانت مريحة التعامل تماماً .. وكنت ألمح في عينيها رغبة أكيدة في

    إنشاء صداقة مع شخصي الضعيف ولكن بالمصنع فوارق غريبة بين الموظفين والعمال كما كانت تضع

    لعامل السن الكثير من الاعتبارات .. وكنت أقرأ كثير من الأسئلة تدور برأسها تجاهي .. وتعلمت

    منها قليلاً .. قليلاً .. عملية اختبار عينة الشاش ومعرفة النتائج بتفاعل عدد من المحاليل في تلك

    العينة .. ومن ثم تعبئة الديباجة .. فأصبحت أكتب الديباجة بنفسي أن كانت صالحة أم تحتاج لتكرار

    .. إلى أن أصبحت علاقتي بهذا القسم حميمة جداً .. ومما زاد حميمية هذه العلاقة أنه وفي ذات يوم

    جاءني أحد موظفي المختبر في موقعي عند "الجيقر" ليتأكد من فحص العينات ..

    ووجدني لحظتها أتحايل على الزمن كعادتي بقراءة أحد الكتب التي أجلبها معي دوماً من منزلي ..

    وكنت أطالع وقتها إصدارة من كتاب التوارة للكاتب الدكتور مصطفى محمود .. فاستأدنني في أن

    يرى الكتاب ..

    فمددت له بالكتاب وبالسؤال معاً .. هل قرأت له كثيراً ؟ فرد بأنه لم يقرأ له سوى كتاب أو كتابين

    وأعاد لي الكتاب ورد لي ذات السؤال وأنت ؟ أجبته بأنني لم أقرأ له كثيراً بل فقط "السر الأعظم ،

    والعنكبوت، ورحلتي من ا لشك إلى الإيمان , والقيامة، بعد الإسلام، والشيطان .. وقلت معتذراً قد

    لا تسعفني الذاكرة لتذكر المزيد .. "

    فتسبحن الرجل وطلب مني أن أحضر إليه في المعمل بعد الانتهاء من هذه الرولة .. فذهبت إليه

    وحياني بتحية تحمل الكثير من الحفاوة والترحاب .. وكأنه لم يكن معي قبل دقائق .!!! ومن يومها

    وأنا أشكر الدكتور مصطفى محمود على رفعه لي لهذه المكانة والتي لا يعلم عني ولا عنها شيء إلى

    يومنا هذا .. وكانت إحدى موظفات المختبر يبدو عليها من مظهرها وسلوكها أنها "متبرجزة" بعض

    الشيء .. عفواً .. بل كل الشيء .. فحيتني هي أيضاً بشدة ونهضت نحو دولاب المختبر وأخرجت

    منه كيس نعم كيس ولكنه كيس فخم جداً على ما أعتقد أن يكون قد أتت بداخله هدية ثمينة من

    واحدة من دول الاغتراب .. وأخرجت منه سرمسين أو حافظتين إن صح التعبير .. وأخرجت كمية

    من الكبابي وطاسة كبيرة بها كمية من الكيك.. وبدأت تصب في الشاي .. وألتفتت موجهة سؤالها لي

    .. تشرب شاي سادة ولا عليه لبن ؟.. أجبتها بأني لا أتعاطى الشاي .. أندهش الجميع .. قائلين لا

    لازم تشرب .. قلت أنا لأ أشرب الشاي .. أصروا على أن أشرب ..رفضت أصرت البرجوازية

    وزدت رفضاً .. قالت لماذا ؟

    قلت : لقد قاطعته منذ أن أصبح يستفز أمزجتنا بأزمة السكر أتذكري تلك الأزمة التي أجبرتنا على

    شربه بالبلح من وقتها وأنا قاطعته وأشتريت رأسي ...

    ووافقت أخيراً على جبر خاطرهم بأخذ قطعة من الكيك .. والذي كان معمول بطريقة الناس

    المرتاحين كثير من البيض وكثير من الفانيليا وقليل جداً من السكر .. على عكس طريقة الناس الذين

    يصنعونه في المناسبات السارة جداً إن وافقت يسراً مادياً قليل من الفانيليا وقليل من البيض وكثير من

    السكر !!!


    وكان صديقي الجيلي عامل ماكينة المكوى تلك الماكينة القاسية العمل .. يراقبني من على ماكينته

    حيث كانت تواجه من على البعد الباب الرئيسي للمختبر .. وكان الجيلي متيماً بهذه البرجوازية

    ويعشقها بطريقته الخاصة وكانت نظراته تقول لي بختك يا عامل "الجيقر" والله أيامك .. وهذا الجيلي

    الذي يحمل بداخله أنساناً رحباً بدرجة تتعارض مع الرحابة .. فكان شاعراً مرهفاً .. ورساماً موهوباً

    .. ولا يغني إلا لأبو عركي البخيت .. لك الله يا جيلي وأصوات هدير ماكينات المصنع تطغى على

    صوتك النديان كي يسمع !!

    بادرتني بالسؤال موظفة المختبر المهذبة منى .. هل تملك كتب غير هذه الكتب الجافة .. روايات يعني

    .. قلت لها لا أملك الآن فعلما أذكر آخر رواية قرأتها لأجاثا كرستي أو إحسان عبد القدوس إن لم

    تخني الذاكرة بعنوان جريمة في بيت الطالبات وهذا من زمن بعيد .. فضحك الجميع على ردي هذا

    .. وما عمرك أنت الآن حتى تقل من زمن بعيد وعقب موظف المختبر الذي دعاني فقال مازحاً كل

    عمرك الآن لا يعتبر قديماً .. وضحكنا جميعاً وواصل هو موجهاً سؤاله لي .. لأي الكتاب السودانين

    تقرأ .. قلت : منصور خالد .. علي المك .. الطيب صالح و .. وقاطعتني تلك البرجوازية قائلة : أنها

    لا تحب روايات الطيب صالح .. وبالذات روايته موسم الهجرة للشمال لأن بها الكثير من التخلف

    والكلام المعيب .. وبالمقابل ذهلت أنا .. يا ألهي ويا لهذه البرجوازية التي لها رأي في الطيب صالح ولها

    رأي في موسم الهجرة للشمال .. ومن تكوني أنتي أيتها الناقدة حتى تصرحي بذلك .. أيناك يا

    صديقي يوسف لتسمع .. ما يقال عن أحب رواية لقلبك .. ويوسف هذا صديقي الذي يعشق

    القراءة بكل ضروبها ويعشق روايات الطيب صالح وبالذات موسم الهجرة إلى الشمال والذي كان

    يشتريها كل ما وقع نظره عليها في مكان ما وكان كل مرة يقرأه فيها على حد قوله بطريقة مختلفة

    وبمزاج خاص !!.. فحكي لي أنه ذات مرة كان في زيارة عمل لواحدة من عواصم الدول العربية

    وقادته الخطى إلى مكتبة ضخمة جداً فأخذ يشتري كل ما وقعت عينيه عليه وأعجبه من كتب ..

    وبالتأكيد أشترى رواية موسم الهجرة للشمال .. وبينما ما هو متجه نحو الكاشير ليحاسب إذ به

    يجد شاباً من جنسية غير عربية يحمل رواية الطيب صالح وهو فرح بها وتفاجئ بصديقي وهو يحلف

    علي الطلاق الرواية دي ما تدفع حقها ودفع ثمن الرواية فشكره الأجنبي وقاله له بعربية ملكونة ..

    ممكن كلكم مستر مصطفى سعيد ..
    يا لسخرية الأقدار أيتها الموظفة القاصرة .. لك كل الحرية في آراءك الخاصة .. ولكن ليس لك

    حرية تعميم أحكامك .. لو يدري الجيلي عنك سطحيتك هذه لما أرهق نفسه في كتابة حرف

    لأجلك...

    عموماً انتهت هذه الزيارة بكسب صداقة أفراد المختبر وتوثيق المعرفة بهم والاتفاقيات بتبادل الكتب

    .. ولكنها لم تستمر طويلاً فقد تحول جدول وردياتي لأن أعمل على وردية المساء طوال الشهر القادم

    .. وعادة في المساء لا يحضر موظفي المختبر إلا نادراً حيث كنت أقوم بكتابة كل العينات فيأتون هم

    صبحاً لمراجعتها وأتي أنا مساءا لأجد تعليقهم أو تصحيحهم عليها ..


    وهذه باختصار تفاصيل العمل على ماكينة "الجيقر" وطبيعة العمل بها ولا أظن أن المهمة كانت يسيرة

    بالنسبة لي "فالجيقر" هذه ماكينة مدللة تحتاج للجلوس بجوارها باستمرار طوال ساعات الوردية ..

    حيث أن كل مؤقتاتها .. وأزرارها تعمل بزمن وإن لم تكن متواجد في الوقت المناسب قد تدخلك في

    كثير من المتاهات والتعقيدات .

    وبعد أن حذرتني سعادة مسئولة شئون العاملين بالقسم تلك المخلوقة الفظة . . بأن أتزحزح عن

    مكان عملي قرب الماكينة حتى تأتيني بجدول الورديات .. كنت أنتظرها على مضض وبدأ يدخلني

    قليل من الخوف والقشعريرة كما يحدث لكل شخص من رهبة يوم العمل الأول المكان جديد تماماً

    والوجوه غريبة ومباني المصنع وماكينات القسم ضخمة جداً بدرجة تجد نفسك أمامها صغيراً ..

    صغيراً جداً .. وكل البشر من حولك متقزمين مثلك وأصوات الجميع تخرج من أجوافهم وغير

    مسموعة وتشعر بثقل كبير في أدنيك .. وأجول ببصري إلى أعلى لأجد الجملون "السقف" عالٍ عالٍ

    جداً وبينما يدون عقلي الباطني تلك الملاحظات إذا بيد أحدهم .. توضع على كتفي الأيمن فجفلت

    نعم جلفت حقيقةً والتفت بسرعة وبحذر ..فإذا بصوت هادي يقول مبتسماً معذرة لم اقصد ترويعك

    أسمي عامر عامل ماكينة "الجيقر" في الوردية الثانية تسرني معرفتك أتمنى أن يعجبك العمل معنا هل

    عملت بنظام الورديات من قبل ؟ وجه إلى هذا السؤال بكل لطف بعد طريقته المهذبة في تعريف نفسه

    بي .. فأجبته نفياً وواصل هو بذات التهذيب والهدوء .. أنا أعمل منذ عامين على ماكنية "الجيقر"

    وقام بتعريفي بها بكل بساطة .. أنها مسألة تعتمد على المقاييس والتوقيت الزمني المنضبط وإذ لم تضبط

    مؤقتاتها في الزمن المناسب قد تطلق صفيراً عالياً ينبه إليك كل القسم بمشرفيه ومهندسيه وعماله

    ويكون وضعك حرجاً وقتها .. فستعلن الماكينة بصفيرها هذا لكل المصنع أنك غير موجود في مكان

    عملك يعطني عامر هذه التفاصيل بذات الهدوء بينما أنا أحملق فيه متدلي الفك وتتقلص عضلات

    الوجه مني كل في اتجاه .. و لكن لا تحمل هم فالأمر في غاية البساطة فقط المتابعة .. نظرت إليه

    وأنا أبلع ريقي بقرطعة مسموعة ..

    أين ..؟ أين .. عامل الجيقر الجديد؟ ممتاز أن تكون متواجد في موقعك ووجهت مسئولة شئون

    العاملين سؤالها نحو عامر .. شرحت له طريقة العمل؟ رد عامر بتهذيب .. نعم وأظن أن العمل

    سيروق له بها .

    التفتت نحوي مادة لي بورقة وبوجه عابس يخلو من أي تعبير لأبجديات التعامل الراقي .. قائلة :

    هذا جدول وردياتك .. يجب أن تنضبط عليه كما الساعة .. ستبدأ هذا الأسبوع ورديات صباحية

    وستتحول الأسبوع القادم لورديات مسائية .. فمددت يدي بتردد تجاه الورقة فكان بيني وبين

    استلامها مليون فكرة فقد خطر على بالي أن أعتذر عن هذا العمل وأعود أدراجي فتبدو هذه البداية

    غير طيبة .. تماماً .. أو أن أخذ الجدول وأكمل بقية يومي هذا ثم لا أحضر ... أو .. وأخيراً أخذت

    الجدول وأنا أختلس النظر لذلك الكف المعروق اليابس والذي يبين لك عمر صاحبته من غير أن

    يخدعك الوجه العابس والذي عليه كثير من الاجتهاد ليواري بعض سنين العمر .. بعد شيء من

    التردد استلمت الجدول وبعد أن انصرفت عنا بمسافة غير بعيدة .. صحت أناديها .. يا أستاذة .. يا

    سيدة .. يا أخت .. التفتت نحوي بشيء من البلاهة .. قائلة بحدة أتعنيني أنا ؟ .. وكأنما كان

    بالمكان غيرنا وأنا المنادي ولا يوجد بالمكان حولي سواها وعامر بالطبع لا يمكن أن يكون عامر هو

    الأستاذة مسئولة شئون العاملين بالقسم ... اقتربت مني .. قائلة بعصبية ماذا تريد؟ قلت لها ألا يمكن

    أن أبدأ عملي من يوم غداً وليس الآن .. وقبل أن تفكر في رفض طلبي أو قبوله فاجأها عامر قائلاً لا

    بأس سأعمل أنا على بقية هذه الوردية .. .. فأخذت هي تدعك بكفها الأيمن على فكها في حركة

    عصبية .. ثم قالت لا بأس ولكن لماذا لا تريد أن تبدأ من اليوم؟ موجهة سؤالها نحوي .. أجبتها بحنق

    لأنني أكره أنصاف الأشياء كل الأشياء .. أكره أنصاف الحلول .. أنصاف المواقف وأكره أنصاف

    البشر أيضاً .. وأريد أن أبدأ يوم عمل كامل .. فرمقتني باستخفاف وذهبت .. وأنا لا أدري سر هذه

    الحساسية العالية التي انتابتني ضد هذه المرأة منذ أن رأيتها وهي توزع أرزاق العالمين .. ولكن بالتأكيد

    ستجدون لي مليون عذر .. لهذه الحساسية .وكانت على العكس منها تماماً زميلتها في ذات المكتب

    "أميرة" والتي تعلو ثغرها ابتسامة دائمة .. مريحة في التعامل .. بشوشة .. تشعرك بقربها من العمال مما

    يثبت في ذهنك أنها رانكر أتت بها فقط الخبرة لمكتبها هذا .. وتفهم من الوهلة الأولى أنها متزوجة

    لاهتمامها المبالغ بنفسها وخضابها الدائم الذي لم يغادر كفيها أو رجليها إلى أن غادرت أنا المصنع ..


    الوقت باكراً .. والإحساس جميل كما الصبح .. السادسة تماماً تحرك "بص ترحيل عمال المصنع"

    وكانت نصف مقاعده مليئة لأنه طاف على مجموعة من القرى قبل أن يحضر إلى قريتنا وسيطوف

    بعدنا على قريتين ثم المصنع .. فحمدت الله كثيراً لوضعي ..فالذين جلبهم البص أولاً من قراهم

    بالتأكيد أنهم استيقظوا على أقل تقدير حوالي الساعة الثالثة والنصف أو الرابعة صباحاً .. ويتبادر إلى

    ذهني ذلك المقطع

    "قفوا قبيل الفجر صفاً أيها الفقراء

    حين توزع الأرزاق

    لا رزق يوزع بالنهار ..

    فالضوء معطية الوضوح ..

    هكذا قلنا فأرهقنا الصياح"

    وكان جل اهتمامي تفحص وجوه كل العمال بالبص .. فكانت أعمارهم تقريباً كلها متقاربة إلا قليل

    منهم نشز عن القاعدة كسعادتي .. وبعض كبار السن ولكنهم يعدوا على الأصابع .. كالعم صالح

    والخالة رابحة .. والعم الطرفة أبوزيد صاحب النكتة الحاضرة واللسان المتبرئ عنه والغير مسئول عن

    ما يقوله تماماً .. وينما أنا أطالع في الوجو تفحصاً وأجول بنظري بحثاً عن موقع خالي .. فكانت معظم

    المقاعد الخالية في البص مبعثرة هنا وهناك وتحس بأن هناك مؤامرة مسبقة في الجلوس بفكرة أن كل

    بجواره مقعد خالي يبدو أنه محجوز لزميل أو لزميلة .. وإذا بإحداهن تشير لي تفضل هنا لا يوجد أحد

    وبعدها توالت الدعوات بالجلوس من معظمهم عاملين وعاملات .. واتخذت قراري وجلست بجوار

    أول من دعتني بالجلوس .. وما أن جلست وإلا وأنفجر صوت ضحكة عالية من المقاعد الخلفية ..

    ثم يأتي الصوت والله .. يا بناتي .. الوليد ده صغير ود ناس وعينوه أمس في قسم التجهيز عليكن الله

    أدخلنه صندوق عشان كل واحدة يوم يكون صرفته تحجز ليه تقعدو جنبها ..

    ويضحك كل عمال البص وتضحك جارتي أو مضيفتي في المقعد قائلة : لا تهتم فهذا العم أبوزيد

    والحمد الله أنه سكت على كده ..

    وما كنت حزين لما افوتك وسط الفقراء بيوت الطين ...
  10.  
  11. #6
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية الزمن المريح
    تاريخ التسجيل
    Dec 2004
    الدولة
    مدنى المدنيين
    المشاركات
    855

    ما اروعك ما اجملك سوباوى
    يا اخى انت سيناريست ،، و موهبة لابد ان تمجد ،،،

    من غير مجاملة ،، المواضيع الطويلة دوما مملة ،، لكن هذا الموضوع له طعم آخر استلذ بقراته ،، و كانى اقراء رواية الماجدولين او احدى روايات ،، المنفلوطى ذات السرد المرسل ،، و القطع الموصول ،،،

    رايع يا سوباوى ،، عامل مكينة الجنقر ،،،،

    الله يخليك ،، و يديك العافية ،،،

    التعديل الأخير تم بواسطة الزمن المريح ; 27-05-2005 الساعة 08:59 PM



    أبوحنيفة
  12.  
  13. #7
    عضو فضي
    Array الصورة الرمزية عزيز عيسى
    تاريخ التسجيل
    Feb 2005
    الدولة
    مارنجان - مدني - الخرطوم
    المشاركات
    1,716


    الاخ سوباوي،

    ( عامل الجنقر) ابداع راقي وعمل حقا ممتاز

    في اسلوب السرد المميز المشوق يشد

    القاريء من البداية وحتى النهاية..

    لقد استمتعت كثيرا بالقصة.

    وتسلم يا رائع،

    عزيز

  14.  
  15. #8
    عضو فضي
    Array
    تاريخ التسجيل
    Nov 2004
    المشاركات
    1,395

    الأعزاء

    الزمن المريح ....

    عزيز ...............

    لكم الود أقصى ما تراه عيون ..........

    ************************************************** *************************

    ابتسمت لها في شكر .. بينما كان يغمرني الكسوف وخيل لي للحظة أن كل عيون من بالبص تنظر

    نحوي وأسمع من يقول في همس جيد أن يكون عمل بقسم التجهيز .. ثم صوت إحداهن والله محظوظ

    وهمس أخرى .. ولكنه صغير ومسكنته دي مسكنة طلاب .. وأحدهم يقول .. والله شكل دا ذاتو

    شكل ناس قسم التجهيز .. ثم إحداهن أيواااه ده أتعين في مكان برعي .. وضحكت ضحكة لا تخلو

    من قليل خبث .. وشق هذه الهمسات صوت العم أبوزيد .. والله يا بنتي .. برعي ده أرجل

    راجل وولد ضكران وجدع ولو ما البنت دي هي أصلاً ملولوة وفيها طقة وجرجرته ما كان باراها

    ثم يضحك ضحكة كبيرة قائلاً والله عفيت منو "الفحل مو عواف" وسرت الضحكات من جميع

    العمال بالبص .


    ثم ساد سكون تام بين العمال .. وصمت رهيب لا يكسره إلا هدير موتور البص .. وصلنا القرية

    الأخيرة وبذات الطريقة الديناميكية ركب العمال كما ركبنا من قبل .. ألقوا تحيتهم على كل البص

    .. ورد العم أبوزيد التحية ثم قال شيء ضحك له الجميع .. لم أدري ما الذي قال حيث أنني كنت

    أغرق في بحر أفكاري .. وهومت بعيداً خارج البص وخارج حدود الجسد وخارج تماسات جغرافية

    كثيرة .. يبدو أنك سرحت بعيداً ؟ أأنت جديد في العمل بالمصنع؟ نبهني صوت جارتي فانتفضت

    كمن أفاق من حلم .. قلت : نعم منذ اليوم سأباشر ... لمحت بعض الرضا على قسماتها بإجابتي هذه

    .. حل صمت قليل بيننا وأنا أتململ في جلستي الحذرة بجانبها .. وقف البص .. نهض الجميع ..


    وكم كنت أعشق السفر .. فكانت آخر رحلة لي إلى مدينة بورتسودان .. تلك المدينة التي لم أتعرف

    عليها إلا مؤخراً .. وكما بالآدميين شيء من الإلفة فإن للمدن إلفتها الخاصة .. وللترحال تداعياته

    الخاصة أيضاً حتى وإن صار من أفعال العادة ... هناك أفعال كالذوات الشفيفة التي لا يستهلكها

    التكرار ... ولا تفسد طعمها الاعتيادية ... في زمن غير هذا كنت مولع بالسفر على إنفراد أو

    بصحبة أناس تحس بالتوحد فيهم ... حيث تكتشف إن للمدن سماتها التي تشبهنا لحد ما في الترحاب

    والارتياح والرفض والقبول... فلها من التفاصيل المثيرة ما لها ... قد يخيل إليك أنك أول عاشق

    سبيل تلفت انتباهها ... فتمعن الوقوف عندها فتكون أهم محطاتك .. حيث تقض الطرف عن حقيقة

    كونها وقف لألف عاشق ترحال مر بها...

    وكنت جالساً بمقعدي وكعادتي في أسفاري الطويلة أنتظر كل الركاب أن ينزلوا ثم أنزل آخرهم

    وفجأة ينبهني صوت جارتي وعلى وجهها ابتسامة يتخللها بعض الضيق قائلة : لقد وصلنا وكانت

    واقفة تتأهب للخروج من مقعدها والانخراط مع النازلين وتبين لي أنني من كنت أعرقل لها نزولها

    بخروجي الطويل هذا وغير الحر عن النص عفواً عن البص.. فوفقت نازلاً ومفسحاً لها الطريق ومعتذراً ..

    بوابة المصنع ليست بالضخامة التي تتناسب مع مبانيه .. وكنت أرسم لها في ذهني بوابة ضخمة لا تقل

    ضخامة عن بوابة سجن كوبر .. والتي لها أضخم مفتاح رأيته في حياتي والذي كان السجان دومنيك

    أطول سجاني سجن كوبر يمر من جانبها فتشعر بأنه أقصر رجل في العالم ولسجن كوبر وبوابته وأيامه

    مساحته الخاصة في الذات ربما تنفرد له الصفحات لاحقاً في "مذكرات كوبرية" .. وولجنا عبر بوابة

    المصنع وكان الدخول منظماً جداً على بوابتين واحدة للرجال والأخرى للنساء وذلك لزوم ما يلزم

    من تفتيش من قبل أمن المصنع .. وكان الجميع يلتقون بعد تعديهم البوابتين ليكملوا ما أنقطع من

    حديث سابق .. اقتربت مني جارة البص بينما أنا أحث الخطى نحو قسم التجهيز .. وهو القسم

    الأقرب للبوابة الرئيسية .. .. سألتني بعادية جداً أتذهب للقسم مباشرة ؟ نظرت لها بقليل من

    التساؤل المرتبك وفي ذات اللحظة مؤمناً على ذلك بهزة من رأسي ..

    قالت : لا زال هناك ربع ساعة ليذهب فيها العمال لتناول الشاي بالكافيتيريا قبل البدء في العمل ..

    ومن غير أن تنتظر إجابتي قالت هيا فأنا أدعوك لتناول الشاي فأنت اليوم ضيفنا ..

    وبما أنني لا أعرف أين هذه الكافتيريا ولكنني غيرت اتجاهي معها ومع جميع العمال حيث كان

    كلهم يسلكون اتجاهاً واحد .. وتبعتها ولم يكن ذلك لرغبة مني في تناول الشاي فقد قاطعته منذ فترة

    طويلة .. وصلنا الكافيتيريا ولم تكن تبعد كثيراً من قسم التجهيز .. تلقيت التحية مرة أخرى من عدد

    كبير من العمال الذين كانوا معي بالبص وقدم كثيرا من الشباب الاعتذار بأنني اليوم ضيفهم ولكن

    مضيفتي قد سبقتهم على ذلك .. بعد عناء وجدنا مكانيين في الضل الخارجي للكافيتيريا مقعد قصير

    موسر ببلاستك لبني وأصفر .. وبجانبه مصطبة عليها قماش مطبق ولكن لا أعتقد أنه يغي صلابتها ..

    أصرت على مضيفتي أن أجلس في مقعد البلاستيك ولكني قصراً للحجة جلست مباشرة في المصطبة .

    وبادرتها بأنني لا أشرب الشاي .. فاندهشت كيف ذلك أيوجد عامل بالمصنع لا يشرب الشاي ..

    فإزعاج الماكينات كفيل بأن يهشم الرأس ومن ثم تحتاج لبرميل من الشاي ليعيد ترميمه من جديد ..

    فقلت مؤكداً لا أشرب .. فانصرفت دون أن تلح علي كثيراً في ذلك ..

    جلست أحدق في هذه الأفواج الرهيبة من العمال والكم الهائل والذي بدأ يخف قليلاً .. قليلاً ..

    وهم يتقاطعون في اتجاهات متعاكسة .. فأدركت أنه صادف دخولنا كوردية صباحية خروج عمال

    الوردية الليلية .. جلست مضيفتي وقدمت لي كوب من الكركدي المثلج .. يا الله ما أجمله كركدي

    وما أجمله صباحاً مفعماً بأنفاس العمال .. وما أروعهم من عمال .. بادرتني قائلة : التجهيز قسم

    هادي والعمل فيه مريح نوع ما .. ولكن المشكلة الوحيدة هي مشرفة شئون العاملين بقسمكم ..

    وقبل أن تكمل قاطعتها لا حول الله ولا قوى تقصدي (.....) يبدو أن هذه المرأة ضلت طريقها إلى

    عالم النساء .. أو ضلت الأنوثة طريقها إلى عالمها .. ولا زال عالق في زهني كفها المعروق .. أنها

    تذكرني بـ "علي دلدوم" ضحكت مضيفتي بشدة إلى أن اهتزت كباية الشاي بيدها فأبعدتها عنها

    قليلاً وهي لا تزال تضحك ثم وضعت الشاي أرضاً قائلة : ومخارج حروفها لا تكاد تبين من الضحك

    ومن علي دلدوم هذا .. قلت : بإجابة حاضرة أنه غفير المستشفى في الباب الرئيسي .. وهو عبارة

    عن لؤم في شكل بني آدم .. وأمعن أنا في وصف علي دلدوم وتزداد هي ضحكاً ..

    ولعلي دلدوم هذا موقف لا أنساه أبداً .. اذكر ذات مرة كان يجب أن أذهب للمستشفى أنا وابن

    خالتي لزيارة قريب لنا ..في موعد غير موعد الزيارة .. ولم يكن هناك سمة أمل يلوح في الأفق بأن

    السيد/ علي دلدوم سيسمح لنا بالدخول في هذا الموعد .. فتوجهنا نحو الحائط الشرقي للمستشفى

    وتسلقنا الحائط بيسر جداً حيث أنه كان قصيراً من الخارج ولم نضع حسابات أنه طويلاً جداً من

    الداخل وأملس .. قفزنا إلى الداخل وكانت المفاجأة أن وصلنا الأرض بعد مدة من الزمن وقبل أن

    نستوعب أننا وصلنا الأرض ومع ارتضامنا بها وبمجرد أن رفعنا أعيننا إذ بساقين يقفان أمامانا فتبادلنا

    النظرات أنا وابن خالتي ثم وحدنا النظر نحو الساقين مسحاً وعندما وصلنا إلى الوجه كانت لمفاجأة

    علي دلدوم .. يا لسوء الحظ وبدأت النهزرة والذلة من قبل السيد/ علي دلدوم "أنتو جنى أرب ديل

    بالله بس بقول دنيا دا كلو كلاس يأني ما في شيتان والله اليلية تسوفو سوف" وبعد تحانيس وتحايل

    أقنعنا هذا اللئيم ووافق بأن نخرج ثم نأتي من الباب وتأهبنا لنخرج ونأتي بطريقة رسمية ولكن كانت

    هنا النكتة .. أصر علي دلدوم أن نخرج بالطريقة التي دخلنا بها قائلاً "بالله سوف جنا أرب دا أنتم

    جيت بالهيتة ولا جيت بالباب شوف يا أتنين بنجوز أنت جيت زي تلوب بالهيتة تتلأ زي هرامي

    بالهيتة" وفعلاً خرجنا بالحيطة كما طلب مننا السيد/ علي دلدوم بمنطق أننا دخلنا بالحيطة نطلع

    بالحيطة ..وعانينا ما عانينا فخرجنا بكثير من الخسائر والجروح والزليط على أيدينا وأرجلنا .. ولكن

    كان نصراً بالنسبة لنا أن نقنع علي دلدوم بأخلاء سبيلنا لندخل من الباب في غير موعد الزيارة برقم

    شرطه القاسي .

    وما كنت حزين لما افوتك وسط الفقراء بيوت الطين ...
  16.  
  17. #9
    عضو ذهبي
    Array الصورة الرمزية ابراهيم
    تاريخ التسجيل
    Nov 2003
    الدولة
    مدني الجميلة/جزيرة الفيل
    المشاركات
    4,172

    سوباوي ....

    ابداع ... ابداع ... ابداع

    سرد جميل ... متعة في كل سطر يلاحقه تشويق لتاليه

    لما في النص من تصوير بديع وخيال رغم بساطة التعبير

    ازداد بك المنتدى رونقاً وألقاً .. ونحن دوماً في ظمأ لمثل هذه الدرر

    وعلى متن الاشواق ننتظر هذه الابداعات

    متعة لا متناهية حقيقة لا اجد ما اقول

    وكما قالوا الصمت في حرم الجمال جمال

    لك ودي

    وأنا هل كنت إلا ألقاً ذاب في عينيك وهجاً أبديا
    او فتوناً فوق خديك إنتشي بهجة عاد بها الحس إليا
  18.  
  19. #10
    فخر المنتديات
    Array الصورة الرمزية أبوبكرحامد
    تاريخ التسجيل
    Dec 2004
    الدولة
    مدنى - بانت
    المشاركات
    2,748

    قمة الروعة ياسوباوى وانت تعيد لى ذكريات حميمة وقد عملت بمصنع نسيج النيل الأزرق خلال احدى العطل الصيفية وقد كان واسطتى شقيقى محمد الأمين حامد " كوارة "الذى كان يعمل بقسم التجهيز الثانى ، حقاً سرد رائع ومشوق وفى انتظار المزيد أيها القاص المبدع .

    أجمل النقد ماكتب عن مَحَبَّة - الراحل / أميل حبيبى
  20.  
  21. #11
    عضو فضي
    Array
    تاريخ التسجيل
    Nov 2004
    المشاركات
    1,395

    الأعزاء .. إبراهيم .. أبوبكر حامد

    لكم الود والياسمين .. لكم التحايا دوماً أينما حللتم ...

    الأخ إبراهيم ....

    أتمنى أن أكون بقدر ما وصفتني .. "مبدع" تحتاج لاستيفاء شروط كبيرة ...

    عزيزي أبوبكر حامد ...

    تحاتي لك وأنت تحمل ذكريات النسيج .. وتحياتي للأخ محمد الأمين حامد

    وتحياتي لكل "كوارة" يواصل جمع عيشه من بين ماكينات النسيج ....

    ************************************************** ************************************************** ************************************************** ************************

    كنت أول من حضر بالقسم ذلك الصباح .. بعد عامر .. حيث وجدته قرب ماكينة "الجيقر" فحياني

    مبتسماً .. مرحباً بعامل "الجيقر" الجديد .. لم يكن عامر يكبرني ولكن كونه يسبقني بعامين عمل فهذا

    فارق كبير .. وبذات تهذيبه بادرني كيف حالك أجبت الحمد الله .. حول بصره ناحية الماكينة قائلاً

    ..آثرت أن أعمل بجانبك في هذه الفترة الصباحية .. حتى أساعدك على بدء العمل ... وحقيقة

    شكرت له هذا الصنيع لأنني كنت أفكر معظم الليل كيف سأبدأ وبأي شيء سأبتدئ فكل الذي

    عرفته عن ماكينة "الجيقر" كان نظرياً .. وفعلاً يا للفرق بين النظري والعملي .. أشار لي عامر بأن

    أتبعه وقفنا بالقرب من ماكينة الغسيل وكانت تقف بجانبها كمية من الرولات المعبأة بالشاش ..

    المخمر والمتعفنة رائحته من أثر النشا .. قال : عامر موجهاً سؤاله لي وهو يضحك أعجبتك الرائحة ؟

    ثم قال معقباً .. أولاً يا أستاذ/ سنقوم بحصر الرولات الموجودة لدينا والخارجة من ماكنية الغسيل ..

    ثم نقودهم نحو ماكينة "الجيقر" وعلمني كيف أقود الرولات فكانت الرولة ذات أربعة كفرات كل

    كفرين مفترقين من الأسفل يجمعهما مقبض على شكل الرقم ثمانية من الأعلى وكان الواصل بين

    الكفرات الأمامية والخلفية أسطوانة الرولة الملساء على أرتفاع متر ونصف من الارض ... كما كان

    الكفران الأماميان متحركي المحور كفكرة الدراجة تماماً ليتمكن قائدها من التحرك يمين ويسار وفي

    كل زوايا الاتجاهات ... وكان على كل رولة شريط عريض جداً من التيل القوي وبإحدى أطرافه

    جله حديدية حوالي الكيلو أو الكيلو والنصف وزناً .. وبينما أنا أنظر إليها في حيرة أخبرني عامر بأنها

    الفرملة الخاصة بالرولة .. وقمنا بنقل كل الرولات قرب ماكينة "الجيقر" .. وأنا أراقب عامر وهو

    يتجه على جانب الماكينة حيث يوجد الذراع وأزرار التشغيل .. فقال لي : سأفتح أبواب الماكينة الآن

    .. وأنا أقف مكاني .. فنظر عامر ناحيتي ثم نظر تحت قدمي مبتسماً قائلاً : سأفتح الأبواب الآن ...

    فنظرت أنا أيضاً تحت قدمي فأدركت أنني أقف في المكان الخطأ حيث كان هناك خط أصفر حول

    الماكينة من جميع الاتجاهات وكنت أنا داخل هذا الخط فخطوت خطوتين للوراء حتى أصبحت خارج

    حدود الخط الأصفر .. فلما فتح عامر أبواب الماكينة طارت أجنابها إلى أعلىكجناحي طائر ضخم

    يصفقهما إلى أعلى فكاد أن يطير قلبي من مكانه حينما صدر صوت ا لضغط الهوائي منها بصورة

    مخيفة .. كصوت ريح عاتية تتخلل رؤس الجبال .. لا تعجبوا!! فقد سكنت مدينة جبلية لفترة طويلة

    من الزمن بحكم عمل والدي له الرحمة .. فتحورت في داخلي الصوت لذاكرة صبية .. مرتبطة برواية

    أحد أقاربي الواهبين حياتهم للمغامرة .. وعلى حد قوله : أنه ومعه تسعه من أصدقائه ذهبوا في رحلة

    لجنوب السودان وعندما تعمقوا في غابات الاستوائية أعاقة كثافة الأشجار تحرك سيارتهم فتركوها

    جانباً وترجلوا قاصدين عمق الغابة .. وبينما هم سائرون إذ بصوت جلبة وهرج ساد المكان فكانت

    مجموعة من القرود يحمل كل قرد في يده صوتين من فروع الشجر بعد البربحة الممتازة للصفق ..

    فكانت فوضتهم وكأنهم هنود حمر وجدوا فريستهم ويقول قريبي أن كل قرد رما لهم بعدد واحد

    وصوت وترك بيده عدد واحد صوت .. ويبدو أن الموقف سيتحول لحرب .. فيقول أنهم أكلو جلدة

    من القرود عمرهم ما أنجلودوا مثلها ففروا لعربتهم عائدين أدراجهم من حيث أتوا .. فكنت بين

    مصدف ومكذب لرواية قريبي هذا .. إلى أن ثبت بالعمل ذات يوم صدقه ونحن نخرج من المدرسة في

    حوالي الساعة الواحدة بعد الظهر ونتجه للجبل حيث كانت به كمية من القرود الجبلية الأليفة وكان

    في العادة كل سكان تلك المدينة يخرجون عصراً حاملين معهم ما تبقي من فتات خيز ليطعموا به

    القرود وكانت هي بالمقابل تتناوله منهم في هدوء ومرح .. وكان برنامجاً مسائياً ثابتاً لمعظم أهل المدينة

    ...وعندما ذهبنا للقرود في منتصف النهار وتسلقنا مسافة نحو الأعلى على الجبل لتشعر بقدومنا ونحن

    نحمل ما نحمل من خبز فإذا بها تأتي في مجموعة كبيرة يتطاير الغضب من عينيها ويحمل كل واحد منها

    حجر بيده يأمرهم قائدهم بحركة يده بالتقدم نحونا فهرولنا وهرولت خلفنا ترمينا بالحجارة والحمد الله

    نزلنا من الجبل من غير أن نصاب بأذى .. وكان التحليل المنطقي لذلك أننا أتيناها في غير موعد

    الزيارة أي موعد قيلولتها ..

    كان النصف السفلي منها مصنوع من المعدن قد يكون نحاس ثقيل به مادة عازلة للحرارة على ما

    أعتقد .. ويمثل هذا الجزء السفلي حوض الماكينة .. وكانت على جانبه الأيسر كثير من المفاتيح

    والمواسير وكانت القاعدة مليئة بالمواسير الملتوية حول بعضها البعض ويبدو أنه الهيتر الداخلي لتسخين

    الماء .. وشرع عامر يشرح لي ويريني مكان حنفية المياه الداخلية للحوض ومفتاح التفريغ وكانت

    تتوسط هذا الحوض رولتين مثل الرولة التي نحمل عليها الشاش .. ولكنهما كانتا مثبتتين داخل

    "الجيقر" ولا تدوران إلا حول نفسيهما .. وكان من الجهد بما كان أن نضع الرولة الخارجية داخل

    الخط الأصفر .. في مجاري صغيرة الحواف معدة مسبقاً لإدخال كل كفرات الرولة فيها .. تعاونا أنا

    وعامر في شد الشاش للرولتين الداخليتين .. ثم طلب مني عامر فتح الحنفية الداخلية بعد أن تأكدت

    من إغلاق مفتاح التفريغ .. وللمرة الثانية يحرك عامر ذراع الماكينة فتغلق منزلة جناحيها الضخمين

    وأغلق أنا أعيني بذات الرهبة التي دخلتني عند فتحها ...

    شرعت في تنفيذ بقية التفاصيل ... مع عامر من ذهاب للمستودع وطلب كمية المواد التي نحتاجها

    من محاليل "الصودا" و "البروكسايد" ومواد أخرى .. وفقاً لما لدينا من عدد رولات ... ولم يكن

    العمل بماكينة الجيقر بالشيئ السهل حقاً .. يا للورطة ..

    لم يكن مجتمع عمال مصنع النسيج مشوهاً بالقدر الذي يتناوله العامة عنهم في الخارج ... من انحلال

    أخلاقي وأدبي .. ومن ممارسات غير شريفة .. وأذكر أنني وقبل أن أنخرط في هذا المجتمع العمالي

    الشريف الرائع .. كان الكثير من العامة يتحدثون وبالتحديد عن عاملات النسيج فكان يخيل إليك

    من أحاديثهم ونظراتهم إلى العاملات ما يخيل لك في ذهنك فتظن الظنون وتتحاشى حتى التعرف إليهن

    .. فكانت تلحقهن هذه الصفات وأن كنا نبيات زمانهن .. فالمجتمع حين يحكم وفقاً لأقوال الشارع لا

    يرحم .. ولا يرعوي .. ولم يكن هذا المفهوم بذات القدر تجاه عمال المصنع إلا بعض النظرات من

    بعض الخبثاء ... فكان خلل الموازنة واضح لمن يعقل فيكون بين خيارين أما أن هؤلاء العمال أنبياء

    وهم يعملون بين عاملات كما يصفوهن أو أن حكم الشارع ظالم .. وأنا هنا لا أنصب نفسي مدافعاً

    عن هذا الهجين من العمال من الجنسين ولكن .. ولكن بهم ما يكفي من روعة لتسمو بهم فوق أقوال

    المشوهين بهم .. ما يكفي من ترابط ومروءة وشهامة .. بهم ما يكفي من جمال الأخلاق التي تسكن

    كل أدم منهم وحواء .. هذا المجتمع ا لنبيل بتعامله وبألفته وبهمومه الخاصة وبانشغاله بنفسه دون

    التعرض لأذى الآخرين .. هذا المجتمع الذي لا تدرك كنهه إلا وأنت تعايشه وتذوق حلو مباهجه

    ومر مواجعه .. هؤلاء هم عمال المصانع الذين يسكن بداخل كل واحد منهم "قاسم أمين وهو يذهب

    للوردية" وهم ذات العمال الذين قال عنهم محمد الحسن سالم حميد "يد العامل هي العاد تنتج مو زيت

    الماكينات الأمريكية" .

    وبرغم هذا لا أنكر أن هناك سواقط بهذا المجتمع كما توجد سواقط بأرقى و أغنى المجتمعات ..

    ولكنها عادية الحياة .. لإظهار وجهها المغاير للجمال دائماً فالضد يظهر حسنه الضد .. ولتعطي

    فرص المعالجة فهذه هي الحياة هجين من الجيد والسيئ .. وأنا الآن أثبت بتجربتي الخاصة وجود

    المحاسن والمساوئ التي تظل شوائب وحسنات كل المجتمعات .. ولهؤلاء الكادحين عوالمهم الخاصة

    التي يدرون في فلكها دون انفصال عن خلقهم الكريم .

    السادسة إلا ربع صباحاً .. لسعة برد خفيفة .. الرزاز يتساقط وموسم الخريف يوشك على إعلان

    رحيله .. أصبحت وجهاً مألوفاً في بص ترحيل عمال المصنع .. وأعرف الزملاء بالبص ويعرفونني ..

    جلست كعادتي جوار مضيفتي في أول يوم باشرت به العمل بالمصنع ... أتذكرونها .. نعم أنا متأكد

    أنكم تذكرونها .. تلك التي ضحكت .. كثيراً لتشبيهي مسئولة شئون العاملين بالقسم .. بغفير

    المستشفى "علي دلدوم" هي مي أحمد علي أحمد ... قمت بتحية الجميع وتقدمت قاصداً مكاني

    بجوارها .. والذي أصبحت أجلس فيه من غير حرج .. كما في الأيام الأولى ..صباح الخير أخت

    "مي" ردت تحيتي باسمة وكانت تدخل يداها تحت ثوبها من البرد .. وقد شعرت بذلك في برودة

    أطرافها حين مدت كفها لمصافحتي .. بأت محاولاتها بالفشل في فك ستائر شباك البص عندما أزداد

    الرزاز ليتحول لمطرة جادة .. نهضت من مكاني لمساعدتها لأنها كانت هي الأقرب للشباك مني فكان

    من الصعب أن أفعل ذلك وهي في ذات مكانها .. فطلبت منها أن تخرج من مقعدها لأدخل أنا مكانها

    وأقوم بذلك ففعلت وعلامات الخجل والشكر والاعتذار تجتمع في آن واحد على وجهها .. أنهيت

    مهمتي وجلست مكانها وأشرت لها بأن تجلس مكاني .. لأن رشح الماء بدأ يدخل بكثرة لأن المشمع لا

    يحميه من الخارج سوى السيخ .. وللعلم أن البص هو عبارة عن لوري يبدو أن الدنيا أنعمت عليه

    فصار إلى ما صار إليه .. طلبت "مي" للمرة الثانية أن تعود لمقعدها .. لأنه مكانها ويجب أن تتحمل

    نتائجه .. رفضت طلبها ونظرت إليها بعتاب .. قائلاً : ألا تري أنك ترتجفين من البرد وتسعلين بشدة

    ولم أكن أنا وحدي أخو فاطمة الموجود بالبص فكل من كان بجواره واحدة من العاملات في اتجاه المطر

    حول مكانها وتلقى المطر بدلاً عنها ..

    سألتني بعد صمت نظمه إيقاع المطر .. هل تحب المطر ؟ قلت نعم وحقيقة أنا أحب المطر .. ومنذ أن

    كنا أطفال وخرافة جدتي عالقة برأسي أن المطر يهطل ليغسل ذنوب المدن وبالمقابل كنا نقف له على

    مهل كاشفين عن أياسرنا ليغسل كل خطاينا .. وها نحن الآن يا جدتي نقف له ليغسل عنا الهموم

    وبعض غبار الاغتراب وهجير هذه الغربة الحارة ..

    أجبتها نعم أحب المطر ... قالت وأنا أيضاً أحبه .. أحبه جداً .!!سألتها بغباء لماذا ؟

    أجابت بارتباك .. لا .. لا لشيء لسوى أنه المطر .. وبعد ترددت أضافت لأنني عادة ما أحب أن

    أكتب خواطري بعد المطر .. نظرت إليها مندهشاً .. يا آلهي هذه العاملة تكتب خواطر وأي خواطر

    .. خواطر ما بعد المطر .. لا تدرون كم كان وقع هذا الشيء على نفسي خواطر عاملة أنها شيء ممتع

    .. ممتع حقيقة ..

    قلت لها مازحاً سيقف المطر الآن وستقفين أنتي خلف الماكينة وسيفسد عليك صوت مشرف الوردية

    كل خاطرة جمعتها هذه السحب بداخلك .. فضحكت قائلة .. في العادة وحتى في بيتنا .. بعد المطر

    أكون مع أبي وأمي في تصريف المياه من الحوش وترتيب العدة التي نكون قد نشرناها لتشرب ماء

    السقف المتسرب .. ولكني عادة ما احتفظ بما أود كتابته إلى حين ميسرة .. !!!

    وما كنت حزين لما افوتك وسط الفقراء بيوت الطين ...
  22.  
  23. #12
    عضو فضي
    Array
    تاريخ التسجيل
    Nov 2004
    المشاركات
    1,395

    أصبحت علاقتي بجميع العمال والعاملات بالقسم جيدة جداً .. فكنت بطبعي ميال للمزح والسخرية

    الناعمة أحياناً .. واتضح لي فيما بعد أن بقسم التجهيز .. قسم داخلي صغير يخص الطباعة والتلوين

    .. وهو القسم الذي تخرج منه الملايات والأقمشة بتلك الألوان الزاهية والغير الزاهية .. بدأت

    أتردد على هذا القسم كثيراً .. حتى تعرفت على كل مراحل عملياته .. من رسم الأشكال وإدخالها

    في رولة الطباعة .. وخلط الألوان .. ولا أذكر أن قلت لكم أو لم أقل .. أن لي علاقة خاصة مع

    اللون .. وأعشق الرسم بطريقتي الخاصة .. ومهووس بالرسم من صغري .. هذا وأذكر أن مادة

    الفنون كانت من ضمن المواد التي جلست لها في امتحانات الشهادة السودانية .. بالرغم من أن

    علاقتي كانت بحصص الفنون في المدرسة ضعيفة جداً .. فأول حصة صادفتها أو صادفت وجودي


    بالفصل .. بالرغم من أحداثها فكانت بداية علاقة لصداقة أعتز بها وأقدرها أقصى درجات التقدير ..

    حضر أستاذ المادة وبعد أن راجع معهم موضوع الظلال الذي درسوه مسبقاً وطلب من كل واحد أن

    يرسم شخصية تكون مشهورة أو معروفة للجميع بملامح واضحة .. فندمت أنا على اليوم الذي

    أدخلني هذه الحصة لأنني أعشق اللون بطريقتي الخاصة وأرسم حين أحب لا حين يقال لي أرسم ..

    فتلفت يمينا ويساراً وكان جميع الطلاب قد شرعوا في رسم شخصياتهم فكان الذي أمامي مباشرة بدأ

    في رسم محمد أحمد المهدي .. والذي بجانبه بدأت تبين على ورقته ملامح الميرغني .. وأخر يرسم

    الصادق المهدي وثالث بدأ برسم حسن الترابي .. يا ربي .. أصبح الفصل كالحملات الانتخابية ..

    وبدأت ارسم أنا أيضاً .. ويطل علينا صوت أستاذ مادة الفنون قائلاً من منكم قد أكمل فكان الجميع

    قد أكمل إلا أنا فتقدم نحوي قائلاً : ألم تكمل بعد ؟ قلت تبقى القليل .. "فأنا أعشق اللون بطريقتي

    الخاصة وأرسم حين أحب لا حين أن يقال لي أرسم" .. وتقدم الأستاذ ناظراً في ورقتي وكادت تخرج

    منه صرخة موجهاً حديثه لي وقد أختلط علي وقتها تفاصيل ملامح وجهه فلم إداري أهي علامات

    الرضا أم الغضب حين قال : قلت أرسم شخصية مشهورة ولم أقل .. وقاطعته بل قلت ومعروفة

    للجميع .. وعند نهاية الحصة كانت لوحتي الأولى في الفصل بإجماع كل الطلاب حيث أنني قد رسمت

    أستاذ مادة الفنون الأستاذ بابكر .. ذلك الرجل الشفيف صاحب الشخصية المحبوبة والرسام المرهف

    وكان هذا الموقف مفتاح لامتداد مساحة من الصداقة الحرة بيني وبينه فكان أستاذي وأخي الأكبر

    وصديقي .. وامتدت علاقتي إلى أسرته .. فدعاني ذات يوم لبيته وتعرفت على أفراد أسرته الصغيرة

    .. وأراني مرسمه .. ويا لروعته من أستاذ وفنان فهو من قدامى خريجي كلية الفنون .. وكان يقطن

    وكما نسميه نحن الطلاب "بيوت المدرسين" وكانت بيوت هذا الحي تتشابه لحد ما وبكل بيت مخزن

    خارجي وأستغل أستاذي بابكر هذا المخزن وأجرى عليه بعض المعالجات ليجعل منه أجمل مرسم

    ليكون المكان الأجمل لي مطلقاً وصرت أقضي به معظم وقتي.. فكنت كثيراً ما آتي للمرسم وحدي

    ويأتي بعدي الأستاذ بابكر ليناقشني فيما رسمت ولما اخترت هذه الألوان تحديداً فتعلمت منه كيفية

    العمل بألوان الزيت والموية .. والعمل على القماش وعلى غيره .. وسأظل أفي هذا الأستاذ التبجيل

    ما حييت ..

    وبعد أن أقنعني أستاذي بالجلوس لامتحان مادة الفنون والتي كنت رافض الجلوس لامتحنها لأنني

    أعشق اللون بطريقتي الخاصة وأرسم حين أحب لا حين يقال لي أرسم .. جلست للامتحان وأذكر أن

    مركز الامتحانات كان مختلطاً وكنا حوالي الخمسة عشر ممتحن لمادة الفنون من بنت إلى ولد وكانت

    إحدى البنات الجالسات للامتحان جارتي ووقتها كان الوالد يعمل موظفاً في تلك المدينة الجبلية

    أتذكروها مدينة القرود .. وكانت بنت لأحد كبار الموظفين .. ولم يكن بيني وبينها سوى السلام

    وعلاقة ابن الجيران وكنا نلتقي في الرابطة الطلابية لأبناء الحي .. حيث كان هناك معرض سنوي

    يشترك فيه الجميع بإعداد جرائد حائطية .. وكان الشباب يتقسمون لمجموعات للعمل في تلك الجرائد

    ..وكانت مجموعتي دائماً تتكوني مني أنا فقط .. ومجموعتها تتكون منها هي وإحدى صديقاتها لتعاونها

    .. وكنت على الدوام أحصل على جائزة الجريدة الأولى .. وكنت كثيراً ما أشعر بالضيق والغيظ

    على وجه جارتي .. ولم أكن أهتم كثيراً لأن تأتي جريدة الأولى أو الأخيرة ..بقدر ما كانت تهمني

    الجائزة المالية .. لأنني كنت أحتفل بدعوة جميع أصحابي على عدد أثنين صينية باسطة مسقية بالسمن

    البلدي من كشك المخضرم عمي إدريس أو "عمي إدريس بتاع الباسطة" كما يحلو لنا أن نسميه ..

    جلسنا للامتحان ولم تكن الجلسة الأولى من الصعوبة بمكان .. حيث رسمنا النباتات الجافة وأغصان

    الشوك وكانت يسيرة بالنسبة لي كما كانت كذلك للجميع .. والجلسة الثانية كانت كسابقتها ولم

    يكن بها صعوبة فكانت عبارة عن براد من الشاي وكبابي ومجموعة من الخضار والفواكه حوله وأيضاً

    رسمناها بكل يسر .. فكانت متعتي الظلال ورسم انكسارات الضوء وانعكاساته.. وكانت المفاجأة في

    الجلسة الأخيرة حيث كان الموضوع سؤاله كالأتي : التعبير الإنشائي رسماً : عبر عن حركة عمال

    البناء أو ليلة المولد ، أو المدائح النبوية ، أو بيت يشتعل ناراً وأهل الحي يحاولون الأطفاء ..وهكذا

    وكانت كلها مواضيع صعبة وتعج بالحركة .. وخيم الصمت الرهيب على الجميع وبدأنا نرسم كل

    غارق في لوحته .. وكان المراقب بين كل لحظة وأخرى يكثر من نحنحته وكنت أحس أنه يراقبنا على

    مضض .. قد يكون لعدم علاقته بالمادة .. وقد يكون لأن ممتحني الشهادة السودانية قد خلصت

    امتحاناتهم من يومين إلا أبناء بيكاسو هؤلاء .. ورفعت رأسي فجأة وكانت تجلس في مواجهتي جارتي

    في الحي ورأيتها بمنظر يرثى له فكانت شابكة كفيها أمام وجهها ساندة جبينها عليهم .. مبعثرة

    أقلامها وألوانها على الورقة بطريقة تعكس بعثرة أفكارها .. ويبدو أنها قد تورطت في رسم لوحة

    التعبير عن المدائح النبوية .. ووقفت عند هذا الحد حيث رسمت عدد ثلاث من المداح يحمل من

    يتوسطهم وكان أقصرهم طاراً كبيراً ... ولكن لماذا توقفت عند هذا الحد .. أنا أعرف أنها صاحبة

    أنامل بارعة في التعامل مع الريشة وبداخلها فنانة موهوبة ماذا حدث لها ؟ أهو خوف البنات من

    الامتحانات أم ماذا ؟
    حاولت لفت انتباهها لأعرف ما بها ولكنها لم تكن في عالمنا أصلاً .. ولما فشلت كل محاولاتي في ذلك

    أشرت للمراقب أن يعطني كوباً من الماء وأن يعطي هذه الجالسة أمامي أيضاً وعندما وضع كوب الماء

    أمامها رفعت أعينها إليه في اندهاش وكأتها تقول أنها لم تطلب ولكن المراقب أشار إليها ناحيتي بغضب

    .. هذا الذي طلب لك .... فنظرت نحوي ولم أضيع هذه الفرصة حيث وجهت نظري نحو لوحتها

    وسألتها بطريقة رفع الأكتاف إلى أعلى فنظرت لي ورمت أعينها على لوحتها غير المكتملة .. وبسرعة

    أوحيت لها بأن نتبادل الأوراق وقد كان وفي لمحة كانت ورقتي بيدها وورقتها أمامي .. وشرعت في

    إتمام لوحتها .. فأضفت لها ما أضفت من مداح ووسعت الحلقة وبمنتصفها كان أحدهم يحمل النوبة

    وخلفه ثلاثة آخرين متحزمين على طريقة البرهانية وهم يضربون الطبل بصورة حامية ويلبسون المرقع

    من الجلاليب بالون الأحمر والأخضر .. وأصبحت اللوحة مليئة بالحركة ويكاد يخرج منها صوت

    الدفوف والمداح يتصببون عرقاً وهم غارقون في عوالمهم العميقة .. وفجأة ويبدو أنه قد طغى

    إحساس الزمن على إحساس الرسام بداخلي فنظرت نحو ساعتي .. يا للكارثة لم يتبقى من الزمن غير

    القليل وأنا لم أكمل لوحتي بعد والتي كانت جارتي تضعها أمامها وتتابع بأعينها ما أفعل بلوحتها ..

    فأشرت لها بأن نعيد الأوضاع إلى أصلها فمددت لها بورقتها ومدت لي بورقتي وفي آخر لحظة وهي

    ممسكة بكاملة ورقتها وأنا ممسك بطرف ورقتي ومع آخر لمسة من أصابعي بورقتها لأسحب كفي

    بهدوء .. إذا بالمراقب ينطلق نحونا مزمجر ضابطاً أياي في هذا الوضع ولوحة جارتي زاهية بالألوان

    ولوحتي أنا في طور الإسكتش .. فنهرني قائلاً : طيب أنت إذا ما قادر تشتغل خلي الناس يشتغلوا

    وإذا أصلاً لك قدرة كان ترسم كما رسمت هي بدلاً عن الشغب وطلب الموية نيابة عن الجميع ..

    ومن غير أن يمهلني وضع علامة كروس كبيرة باللون الأحمر على الجزء الأبيض من ورقتي وكتب

    عليها حالة غش .. يا ألهي ياأستاذ أين الغش هنا .. فهذه المادة لا غش فيها ولا بخرات ثم أن

    الموضوعين مختلفين تماماً فأنا لوحتي لبناية تضج بالعاملين لم تكتمل بعد وهي لوحتها تعبر عن المدائح

    النبوية.. فكيف تكون حالة غش .. ولم يأباه أو يعتم لكلامي .. فصمت .. كل ما أذكره أنني صمت

    وفقط .. وكنت متحاشياً النظر إلى أعين جارتي حتى لا أشعرها بالإحراج وبأن ما حدث هي السبب

    فيه .. ولأنني أنا المخطئ فأنا من اقترحت لها ذلك ولا ذنب لها هي في ما حدث .. وفجأة يأتي صوت

    المراقب ليفج كمية الإحباط الذي أكتنفني وقتها "أنتها الزمن ضع القلم" ووضع الجميع أقلامهم أو

    بالأصح ألوانهم ووضعت إحباطي ورفعت نظريتي بأنني أعشق اللون بطريقتي الخاصة وارسم حين

    أحب لا حين يقال لي أرسم وتركت لوحتي وألواني وكل شيء في مكانه وخرجت وأنا أسمع صوت

    خشخشة ورق الجميع وهو يسلم للمراقب و طرقعة علب الألوان وهي تغلق ... ولم يكن لي رغبة

    لجلوس هذا الامتحان أصلاً لولا إصرار أستاذي بابكر ..




    ولم أرى جارتي إلا بعد ثلاث سنوات من تلك الحادثة حيث نقل والدهم لظروف العمل لمدينة أخرى.

    ذات يوم وبعد ثلاث سنوات وأنا أتفرج على معرض التخرج لطلاب كلية الفنون الجميلة بجامعة

    السودان والذي كان مقاماً بقاعة

    الصداقة استفزني شكل التخرج وأعمال طلاب كلية الفنون ما استفزني ليلتها وقررت أن أقوم بزيارة

    لكلية الفنون وكانت لدى معلومة بأن بنت جيراننا تدرس بها وهي الآن في السنة الثالثة بقسم التلوين

    .. فذهبت باكراً قاصداً جامعة السودان وبعد أن عبرت البوابة الرئيسية وأنا متجه نحو مباني الكلية

    سألت أول مجموعة من طلاب كلية الفنون قابلتها في طريقي ثلاثة أولاد وثلاثة بنات فاعلين بأنفسهم

    وبملابسهم الأفاعيل حيث كانت بناطلين الجنز ممزقة عمداً وليست بعامل أكل الدهر وشرابه عليها ..

    ورؤس البنات تعج بألوان مختلفة من السكسك .. سألتهم معذرة يا شباب أريد قسم التلوين السنة

    الثالثة . . فردت علي أصغرهم حجماً من البنات براشقة زائدة ومن تريد منهم ؟ فذكرت اسم

    جارتي فضحكت بخبث عفوي يخص بعض بنات حواء .. وأشارت لي نحو "التور" رقم أثنين ثم أول

    باب من الناحية اليمنى .. وفعلاً أسرعت الخطى إلى هناك وكنت ممتلئ بإحساس غريب فكنت فخور

    بأنني أهديت هذه الكلية فنانة حقيقية وكنت متشوقاً لرؤيتها تشوق الأستاذ الذي يريد رؤية تلميذه

    الذي نجح على يديه .. وبداخلي إحساس بنت الجيران ومنافسة الجرائد الحائطية .. قابلتها عند

    المدخل كانت جارتي نعم أنها جارتي برغم التغيير الذي طرأ عليها وبالتأكيد أدهشني فكنت أتوقعها

    بذاكرة متوقفة عند ثلاث سنوات ماضية .. فأصبحت جميلة بصورة خرافية .. صفراء فاقع لونها ..

    تلبس ما خصر جسدها عن عمد والذي طرأت عليه كثير من التغيرات الثائرة .. وينساب شعرها

    منسدل بهدوء المتصوف على كتفيها وترتمي خصلة منه متهالكة على ناحية الجبين اليمنى غير آبهة

    لأنظار الجميع .. ولأول مرة أتمعن في تفاصيلها بهذا الشكل .. كانت مدهشة حقاً .. فأسرعت

    الخطى نحوها مرحباً وألتهب داخلي بحرارة إحساس ابن الجيران ونخوة ود الحلة القديم عند لقاء الجار

    بعد سنين .. ولكن ما أعظم إحباطي حين مدت لي كفها وبكل برود الدنيا حركت شفتيها أهلاً ناطفة

    اسمي الأول فقط وأنا الذي حييتها باسمها وأسم والدها ثلاثياً كما كان مكتوب على باب منزلهم ..

    ثم التفتت لمن كانوا معها من زملائها وزميلاتها معرفة لهم بي سارة ، مها، مجدي، رانية، أيمن .. ثم

    التفتت ناحيتي معرفة ويا ليتها لم تفعل .. هذا بن جيرانا قديما .. وهو يهوى الرسم .. ثم وجهت

    سؤالها لي ألا زالت محاولاتك مستمرة أم توقفت .. وقبل أن أجيبها وأنا يملؤني الإحباط من لقائها

    الباهت هذا والذي يحتاج معطف لتتغي برودته وبروتها..وليس إلى هنا فإذ بها تعتذر لي بأنهم على

    موعد مع زملاء لهم سبقوهم على حدائق المتحف وقد تلتقيني في فرصة أوسع .. انصرفوا وانصرفت

    أنا معتذرا على تأخيري لهم وعلى زيارتي من غير ترتيب مسبق ..وسرت في الاتجاه المعاكس لهم وبعد

    قليل من الخطوات حانة مني التفاتة غير معللة قد تكون بسبب إحساس القفا بالعيون .. رأيتها تنظر

    ناحيتي وكانت نظراتها لي أم لشيء في نفسها لا أدري ولكني جمعت حبالي الصوتية بصعوبة جداً على

    حلقي المجروح يباساً كخاطري ..لأقول لها تحياتي للوالد والوالدة ..

    ولكم أن تتصورا كمية الخيبة التي اعترتني .. والتوتر الذي غمر كل العصب المكون لجسدي .. فهذا

    الانفعال هذه الخيبة بمرارتها ليست بغريبة على لساني مطلقاً .. فعادت بي ذاكرتي البصرية لأرى

    صوت ذلك المراقب الغبي وهو يوبخني ثم يكتب على لوحتي حالة غش ..

    ما الذي آتى بي أصلاً إلى هنا للسؤال عن هذه البنت التي كنت أتعامل معها في حدود عمل الرابطة

    فقط وبحكم أبن الجيران .. وللمرة الثانية ليست مخطئة هي فأنا منت جاء إليها هاشاً باشاً أنه خطئ أنا

    .. كما كان خطئ من قبل عندما طلبت منها أن نتبادل الورق .. أيعقل أن أكون غير مؤمن حتى

    ألدغ من ذات الجحر مرتين أم اختلفت الجحران والحية واحدة .. أم أنها سخرية القدر .

    جاءني صوتها دافئاً حنيناً من خلفي .. مرحباً بعامل "الجيقر" أكاد أن أجزم بأن لك علاقة مع اللون

    والأصباغ .. والتفت خلفي تجاه الصوت مباشرة .. كانت الآنسة هبة المصممة التي تعمل بقسم

    الطباعة والتلوين وبجانبها المصمم سمير ذلك الشاب البشوش الساخر لحد ما .. رديت إليهم بالتحية

    ضحكنا ثلاثتنا من تعليق الآنسة هبة .. وكان سمير ينظر إلى متفحصاً وكأنه يبحث في وجهي عن

    مماسات غائبة أو نقاط للتلاشي لم تتضح بعد .. دخلنا جميعاً قسم الطباعة والتلوين .. وكان هذا

    الزمن الذي اختلسه من ماكينة "الجيقر" حيث أضبط مؤقتاتها وأحضر لقسم التلوين وكان هذا

    البرنامج ثابتاً في الوردية الصباحية .. ناولني المصمم سمير قطعة من قماش الدمورية .. ورمت لي

    الآنسة هبة .. بقلم "بك" أحمر اللون .. طالبين مني وعلى شكل اختبار صغير..أن أرسم لهم بعض

    الأشكال التي يمكن أن تصلح لأن توضع على القماش والملايات بشرط أن لا ألونها بل فقط أكتب

    على كل شكل اللون الذي يجب أن يكونه .. ففعلت بضيق جداً .. فأنا أعشق الرسم بطريقتي

    الخاصة وأرسم حين أحب لا حين يقال لي أرسم .. وبعد أن وضع المصمم إبراهيم والمصممة الآنسة

    هبة بعض التعديلات على أشكالي التي صنعتها طلبوا من عامل رولة التلوين أن يلونها ويا للمعنويات

    فتم اختيارها لتكون على عدد ألفين وخمسمائة ياردة من إنتاج أقمشة وملايات تلك الوردية وقد كان

    .. ففرحت جداً ... ولا أخفيكم سراً حتى لا تظنوا بي أنني دافنشي أو بيكاسو وحتى لا أظن أنا

    بنفسي ذلك .. فقد كان ما فعلت من أشكال ليس بالشيء الصعب فهي مجرد أشكال جامدة خالية

    من الظلال والتجريد والرسم السريالي مجرد أشكال فقط ولا أشك أن يكون المصمم سمير والآنسة

    هبة قد فعلوا ذلك من باب التشجيع لي فبهم من التهذيب والشفافية ما يكفي لفعل أكثر من ذلك .

    وما كنت حزين لما افوتك وسط الفقراء بيوت الطين ...
  24.  
  25. #13
    عضو فضي
    Array
    تاريخ التسجيل
    Nov 2004
    المشاركات
    1,395

    توطدت علاقة الصداقة بيني وبين زميلتي عامل قسم الغزل الآنسة "مي" فكنا نجلس جوار بعض

    باستمرار في بص ترحيل عمال المصنع .. ونقضي فترة ما قبل البدء في الوردية مع بعض كعادتنا في

    الكافيتيريا تحتسي هي الشاي وأتناول أنا الكركدي البارد ... وأصبحت هذه الـ "مي" تعرف عني

    الكثير من التفاصيل كما عرفت أنا أيضاً عنها الكثير .. وأكثر ما أعجبني فيها قوة الشخصية التي

    تتمتع بها .. برغم طيبتها وعفويتها .. فكان بها شيء من حيوية وإيقاع المدن كما كانت تحمل بساطة

    القرية ووداعة الريف .. رفيعة الذوق .. راقية المعشر .. عالية القبول لدى الآخرين .. وأعجبت أشد

    ما إعجاب بمثابرتها وجدها .. فكانت تدرس من منازلهم بمساعدة ابن عمها الذي يعمل أستاذاً

    بالمدارس الثانوية للبنات .. وستجلس لامتحانات الشهادة السودانية القادمة .. كم مذهلة أنتي يا

    "مي" طاهرة الدواخل جميلة الخلقة حد الدهشة ... كنت أختصر لها كل صفاتها في خمسة أحرف

    وأريح نفسي هي "أصيلة" حقاً كانت أصيلة وهي تغضب مني عندما عرفت أن نتيجة امتحانات

    الشهادة السوادنية التي قد امتحنتها في العام الماضي قد ظهرت وكانت نسبتي والحمد الله عالية جداً

    وكان غضبها بسبب أنني لم أقدم إحدى الجامعتين الشهيرتين "الخرطوم – الجزيرة" والتي كانت أمنيتها

    الخاصة والتي تريد تحقيقها في ذاتي .. وكنت أنا ضد الفكرة لأنني كنت أبحث عن جامعة تقبل

    الدراسة عن طريق الانتساب .. فشرحت لها الظرف الذي أنا فيه وإلا لما كنت الآن أعمل في هذا

    المصنع ..!!!

    أصبحت صداقتي بالآنسة "مي" وصداقتها بي لا تتخيلون مداها فكانت توصل حد "الخرمة" إن كنتم

    تعرفون الخرمة وصداع القريفة .. وأعني ما أقول تماماً .. أعني الصداقة بكل وفائها وعمقها فإن

    تجاوزت فهو التحور لأخوة صادقة ولا شك ...

    هذا وأذكر أنها خاصمتني لمدة أسبوع كامل وكان أسوأ أسبوع يمر علي منذ عملي بالمصنع .. وذلك

    بسبب تلك الغوريلا مندوبة الإدارة لشئون الأقسام .. وهذه كانت الرئيس المشرف لتلك الموظفة

    الفظة مسئولة شئون العالمين أقصد العاملين بالقسم وهذا التوضيح حتى لا تختلط عليكم الشخصيات

    .. لأن ما سأسرده بعد قليل من الخطورة بما كان ..

    في ذلك الأسبوع التعيس وأنا أعمل في الوردية المسائية .. والتي تبدأ من الساعة الثالثة عصراً وحتى

    العاشرة والنصف ليلاً ... وكالعادة يذهب كل العمال قبل دخول الأقسام .. إلى الكافيتيريا لتناول

    الشاي أو الغداء لمن لم يسعفه الزمن بالغداء في منزله .. وبما أنني من مقاطعي الشاي وبما أن الصديقة

    "مي" عاملة قسم الغزل .. كانت تعمل في هذا الأسبوع على الوردية الصباحية والتي تبدأ من الساعة

    السابعة وحتى الثانية والنصف ظهراً .. فما كان من داعي لأن أذهب إلى الكافتيريا .. فكنت أتوجه

    نحو قسمي مباشرة .. لتجهيز ماكينة "الجيقر" المدللة .. أو في أغلب الأحيان أكون قد أتيت معي

    بكتاب لم أكمل قرأته بالبيت لأتسلى به أثناء الفترة المسائية .. وكانت ورديات المساء في الغلب

    يكسوها هدوء مخيف .. كانت ماكينة "الجيقر" تحتل موقعاً . هادئاً .. حيث تقع في نهاية القسم وتبعد

    قليلاً عن بقية الماكينات .. كما كان يفصل جزء كبير منها الجدار الأخير لمبنى الإدارة الداخلية

    للقسم .. وعادة لا أحد يصل إلى موقع ماكينة "الجيقر" غيري أنا وموظفي المختبر لمراجعة الديباجات

    .. وكان كل يومين أو ثلاثة من كل شهر تطل علينا مشرفة الإدارة لشئون الأقسام .. وصادف أن

    وصلتني في موقعي مرتين أو ثلاثة في الشهر الماضي .. فكانت المرة الأولى قد أتت بدافع الفضول

    للتعرف على عامل "الجيقر" الجديد الذي عين بدلاً من المدعو "برعي" وفي المرتين الأخيرتين كانت

    تأتي لغير سبب يذكر وكانت ترمقني بنظرات غريبة .. لم أستطع تفسيرها وكانت ملتهبة السلام ..

    فكنت أشعر بحرارتها مرتفعة حين تسلم علي وتحتفظ بكفي داخل كفها لفترة من الزمن فخيل لي أن

    كفي ستعود لي مطبوخة من حرارتها .. فكانت تتعمد ترك كفي عندها مسافة طويلة بطول أسئلتها

    السخيفة .. المتكررة والتي لا معنى لها .. كيف وجدت العمل في المصنع؟ ما أخبار الشاش ؟ لما لا

    تسجل لنا زيارة في الإدارة ؟ أتيت اليوم لأطل على القسم وخطر لي أن أمر لتحيتك وإلى آخره

    ..وكل هذا وكفي تعرق وتسلق داخل كفها ..!! فصراحة كنت أرتبك مرة .. ومرة أسحب يدي

    موحياً لها بأنني سأضغط على بعض أزرار الماكينة ..

    خرجت ذلك الصباح من بيتنا .. مبتهجاً لسبب من الأسباب .. حاولت أن أكون أنيقاً ذلك اليوم

    ليس لسبب.. سوى أنه تعود لذاكرتي بعض أيام الراحة التي مرت علي وأنا أتمتع بترف أبناء الموظفين

    .. والله أيام يا زمن .. لذلك أنتبه لنفسي في بعض الأحيان فأتأنق لرفع المعنويات فقط وتغيير شيء من

    النفسيات .. ولا أذكر أخبرتكم أم لم أخبركم بأنني لست بالشاب الوسيم .. عادي لحد ما نحيف

    بعض الشيء أملك شعر محايد لا هو بالناعم ولا هو بالخشن .. وصلت المصنع وتوجهت كعادتي في

    وردية المساء .. نحو القسم مباشرة بينما ذهب الجميع للكافتيريا .. وكنت مسرع الخطى للداخل

    لأنني كنت أحمل معي كتاباً لم أكمله في البيت وأوشكت على نهايته .. فقدرت أن في فترة الهدوء هذه

    ربما أكملت ما تبقي لي من صفحات .. توجهت نحو ماكينة "الجيقر" وكان القسم هادئاً تماماً وبه

    قليل من الإضاءة تتناسب وهدوءه تماماً .. وشرعت في تجهيز مقعدي فعادة ما كنت أربط قطعة كبيرة

    من القماش بين الدرجات الأقرب إلى الأرض من ذلك السلم المسنود على الجدار باستمرار .. ولا

    تسألني عن هذا السلم فلا أعلم له مهمة ما .. غير أنني وجدته هنا واقترحته مقعدا مريح بالنسبة لي

    .. وما إن أنهيت تجهيزه واستدرت لأجلس مستمتعاً ببقية كتابي .. إلا وفاجأني صوت مشرفة الإدارة

    لشئون الأقسام .. مادة كفها نحوي .. كيف حالك ؟ لمحتك وأنت تدخل مبكراً نحو القسم فقلت أتي

    لتحيتك !!!!! مددت كفي في انزعاج قائلاً : لا أبداً .. فقط أحاول أن أجهز الماكينة فلي عمل كثير

    اليوم .. وكغير عادتها لمحت في عينيها وميض غريب .. ولم تترك كفي بكفها كالعادة .. بل شدتني

    نحوها وبحركة مباغتة وربما تكون مدروسة .. تركت كفي وطوقتني بذراعيها .. من وسطي وضمتني

    لها في عناق محموم لاهثة الأنفاس .. تهذي بعبارات لم أتبين منها غير أسمي متقطع المخارج .. من بين

    أنفاسها الساخنة .. يا ألهي وأتصبب عرقاً وأنا الذي لم أمر بمثل هذا الموقف في حياتي .. حاولت

    التخلص منها وكانت قبضتها حولي محكمة لفارق الطول والحجم .. وبدأت أستخدم معها بعض

    القوة وكدنا أن نسقط أرضاً بسبب بعض قطع الشاش المتناثرة هنا وهناك على الأرض .. وإن سقطنا

    سيكون هذا الأسواء .. لمن في مثل حالي .. وما أسرع أن يفكر الإنسان في كسر من الثانية

    ويستعرض كثير من المواقف .. والاحتمالات .. وبدأت مخيلتي تستعرض المنظر .. العمال مجتمعين

    حولنا ويحاولون فكاكنا من بعضنا .. وبدأ لي منظري في القرية وأمام أسرتي و.. و.. ألف منظر

    ومنظر جال بخاطري لحظتها .. والحق لله آخر ما كنت سأفكر فيه هو ما يدور برأس هذه الغوريلا ..

    ولمعت في رأسي وأنا في مأزقي هذا فكرة الحيلة .. وشرعت في التحايل عليها .. حدثتها بهمس وأنا

    أتشابا نحو أذنها اليمنى كمن بدأ عليه الاستجابة لكل شيء .. أهدئ .. أهدئ عزيزتي .. سيكون كل

    شيء على ما يرام .. قد يأتي العمال الآن وهذا الموقف لا يليق بك ولا بي .. وكنت وقتها أمطرت

    بقبل تقع علي كالسياط ولا مجال لي بردها .. ويبدو أن كلماتي أثرت عليها بعض الشيء فأحسست

    بأن ثورتها بدأت تهدأ قليلاً .. قليلاً .. وأنفاسها تنخفض نحو العد التنازلي لتصبح منتظمة تماماً ..

    أرخت قبضتها من وسطي الحمد الله .. بل حررتني ولكن ليس تماماً فظلت ممسكة بكفي تدفنها في

    صدرها .. اتسعت المساحة بين جسدينا الملتحمين قبل قليل .. وإن كانت تفوقني بالطول وبعض

    البدانة ولكني شعرت بأنني ضخم أمامها وأنها أمامي أوهن من خيط العنكبوت بحالتها هذه .. وبينما

    أنا يغمرني الذهول غير مصدق لما حدث محاولاً تخليص كفي وإبعادهم عنها .. فإذا بي أسمع صرخة

    مكتومة على بعد موقعنا وبجانب جدار مبنى الإدارة الداخلي للقسم .. لمحت جزء من وجه صديقتي

    عاملة قسم الغزل "مي" وهي تستدير مهرولة نحو الخارج .. ولحظتها بدأ الانهيار حقيقة يدب في

    أوصالي .. فتراجعت عني تلك الغوريلا محررة كفي من صدرها .. ثم ابتسمت في خبث متناولة

    طرحتها من على الأرض .. ملوحة لي بكفها وداعاً والسرور يملأ ملامح وجهها البغيض ..

    يا لسخافة الأقدار .. مالي أنا وهذه التجربة السيئة .. وأنا الصافي النية الخالي الذهن من أي تصرف

    خبيث.. المنعدم التجربة تماماً لمثل هذه المواقف .. وأنا الذي لا زال يحرجني همس العمال بأنني أعمل

    في مكان المدعو "برعي" المفصول بفضيحة لا أعتقد أن "برعي" نفسه شعر بالحرج كما أشعر به أنا

    لكوني أعمل مكانه ..!!!

    لم يزعجني كثيراً موضوع "مي" لرؤيتها لي في ذلك الموقف لثقتي من معرفتها وفهما لي .. ولكن يبدو

    أنني أنا الذي لم أكون أجيد فهم بنات حواء ولم أشق أغوار نفوسهن .. لذا أخذت جانب "مي" بمنتهى

    البساطة وربما السذاجة أيضاً .. بفكرة أنني سأروي لـ"مي" تفاصيل ما حدث .. وبأنه سيكون لي

    تصرف صارم تجاه تلك المتخلفة ..مشرفة الإدارة لشئون ا لأقسام .

    مضى ثلاثة أيام على هذه الحادثة ولم أحكي لأحد .. ولم أقابل الصديقة "مي" لاختلاف وردياتنا ..

    وكنت متشوقاً لنهاية الأسبوع لأعود لوردية الصباح والتقي بـ "مي" وأوضح لها حقيقة ما حدث ..

    وحقيقة أثرت في داخل تلك الحادثة أيما تأثير .. وبدأت أعود لقواعد الفهم السيء لدى العوام خارج

    المصنع .. أيكون حقيقة ؟.. ما حدث لي هل هو حدث عادي داخل أروقة المصنع ؟.. هل علي أن

    أعيد النظر في كل علاقاتي بالعمال والعاملات ؟.. ولكن يأتي في ذاكرتي عامر بتهذيبه الخجول ..

    و"مي" بنبلها وأخلاقها .. والمصممة هبة والمصمم سمير .. الجيلي .. عوض الله .. و .. و .. كثير ..

    كثير .. جداً من الرائعين الذين التقيتهم بذات هذه الأروقة .. فلأقنع نفسي بأن تلك الغوريلا حالة

    شاذة .. في هذا المجتمع لها نشازها الخاص وربما ظروفها المرضية أيضاً ... أو فنسمها عدد واحد

    "سواقط"

    كان اليوم الأخير في ورديتي المسائية .. توجهت كعادتي نحو القسم بينما توجه الجميع نحو الكافيتيريا

    .. أتقدم بخطى بطيئة نحو "الجيقر" .. وتوجهت مباشرة لمقعدي وفي نيتي الارتماء عليه إلى حين البدء في

    العمل .. ويا .. للمفاجأة .. مشرفة الإدارة لشئون الأقسام .. تجلس على مقعدي وتلطخ وجهها

    بالكثير من المساحيق التي يتناسب شيء منها مع لون حذائها وشيء منها مع لون طرحتها وشيء منها

    مع لون بوهية أظافرها البنفسجية .. نهضت مقتربة مني مادة بكفيها في مواجهتي .. وتعلو ملامحها

    فرحة غبية .. نظرت لها بغضب .. قائلاً بحزم .. ماذا تفعلين هنا .. ؟ ردت بكل بلاهة أنتظرك .. ولا

    زالت كفيها معلقتان في الهواء .. فأشرت بكفي في وجهها مهدداً من الأفضل أن تحترمي نفسك ..

    وتذهبي وإن لم تفعلي في الحال لذهبت وأخبرت عنك الإدارة .. بما تفعلين .. فطأطات رأسها قائلة ..

    أنني ليس كا تفكر .. فأنا ليس بهذا السوء .. ولكنك من أجبرني وأوصلني إلى ذلك فأخذت ما

    أخذت في نفسي وفي قلبي ولكنك لا تنتبه لي ولا تعير مشاعري أي اهتمام .. ولم يكن ما فعلته معك

    في المرة السابقة بإرادة مني .. وبالرغم من أنه لم يكن لدي أدنى شك في مصداقية ما أدلت به .. إلا

    أنه دب بداخلي شيء من التعاطف .. معها وربما لأنه ولثواني خامرني شك بأنها مريضة .. ولكن أي

    مرض هذا الذي تختارني به من بين آلاف العمال بالمصنع لأكون دوائها الناجع ..لا .. لا .. لا وبينما

    تتقلبني شكوكي وظنوني ناحيتها .. إذ بها لا زالت مطأطأة الرأس أنسحبت من أمامي مغرورقة عيناها

    بالدموع .. قائلة أنا آسفة !!ربما أعود إليك في وقت أكون فيه أحسن حالاً . . .

    كانت لحظتها أفواج العمال بدأت بالدخول على القسم فكنت مرتبكاً وأرى عيون الجميع تنظر لي في

    تساؤل مريب .. ماذا كانت تفعل مشرفة شئون الإدارة للأقسام عندك ؟ ويقترب مني صديقي عوض

    الله عامل ماكينة الغسيل يسألني مازحاً ماذا كان تفعل عندك تلك الحسناء المزركشة الألوان .. قلت

    له محاولاً ضبط كلماتي بقدر ما أستطيع أنها أتت لتطل على القسم كالعادة .. هزني عوض الله من

    كتفي قائلاً انبته صديقي .. فطريقتها معك لا تعجبني .. وكان وقع كلامه على نفسي كالصاعقة ..

    فها هي بداية الهمز واللمز قد اتقدت شرارتها ...

    وما كنت حزين لما افوتك وسط الفقراء بيوت الطين ...
  26.  
  27. #14
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية الزمن المريح
    تاريخ التسجيل
    Dec 2004
    الدولة
    مدنى المدنيين
    المشاركات
    855

    الرائع سوباوى لك التحية

    غبنى فغبت ،،

    و الآن ها قد عدنا ...

    فعد ...

    ما ذلنا نتابع مزكراتك بشغف ،، و نتمنى ان تكمل
    ما اجمل ما كتبت انها مشروع رواية من مذهب الواقعية جيد جدا ،، تحتاج فقط لبعض المداخلات ،، و التعديلات

    لك الف تحية اخ سوباوى و رجائى ان تعود و تكمل ،،،،




    أبوحنيفة
  28.  
  29. #15
    عضو برونزي
    Array الصورة الرمزية الزمن المريح
    تاريخ التسجيل
    Dec 2004
    الدولة
    مدنى المدنيين
    المشاركات
    855

    لماذا كل هذا الهجر اخ سوباوى من غير سابق انذار
    نتمنى عودتك و مشاركاتك ،،
    ام ان كل جميل يرحل عن هذا المنتدى لا يعود ،،

    اتمنى تكتمل روايتك فى هذا المتصفح ،،

    و ان سمعت بشى اساء اليك فلك العتبى حتى ترضى
    مع كل الود و الامانى الطيبة




    أبوحنيفة
  30.  
  31. #16
    عضو فضي
    Array
    تاريخ التسجيل
    Nov 2004
    المشاركات
    1,395

    إلى كل أحبتي أعضاء المنتدى ....

    إلى أخي العزيز الزمن المريح ...

    معذرة لهذا الغياب والخروج غير الحر من سماء المنتدى الذي يزدان دوماً بحضوركم البهي ...

    أخي الزمن المريح ... شكراً أنيقاً على سؤلك عني .... شكراً أنيقا على رسالتك ... شكراً اقصى ما تراه عيون ...

    لم يضايقني أحد .. ولكن قد يحتم علينا في كثي من الأحيان البحث عن الرزق أو الولوج لدوامة الترحال الإنقطاع لحين

    قد تصل إلى مرحلة مقاطعة الذات ... وأحبتي بالمنتدى قد أقول إذا سئلت عنهم يوماً أنهم الرقي يسير على قدمين ...

    ها سنعود من جديد وسأعود لمتابعة عامل الجيقر وأضبط كل مواقفة وهو متلبثاً داخل أروقة مصنع النسيج ...

    لكم كل الود وسأظل وستظلوا وسنظل نكتب طالما أن بالوقت متسع وباليراع مداد .....

    وما كنت حزين لما افوتك وسط الفقراء بيوت الطين ...
  32.  
  33. #17
    عضو فضي
    Array
    تاريخ التسجيل
    Nov 2004
    المشاركات
    1,395

    ((مواصلة))

    أصبح مجتمع العمال يعني لي الكثير .. نشأت علاقة صداقة حميمة بيني وبين سكرتير نقابة العمال .. وقد كان شاباً

    مهذباً .. أنيقاً لحد ما .. مثقف .. متزن .. محبوب .. له خاطر يملأ صدور الجميع .. تخالط بشاشته إبتسامته الدائمة غير ا

    لاعتيادية والتي تذكرني ببعض ملامح شيخ عبدا لكريم ذلك الرجل الفريد الكهل الغريب الأطوار وقد كان آخر ما خبرته

    يعمل كحارس لمقابر مدينة ود مدني بالقرب من السوق الشعبي كمهنة وفرها له أحد الأصدقاء كي تقوده لطريق

    التوبة، وقد عرفني به صديقه المفضل عالم الكيمياء الدكتور الملقب بأبوداؤد الذي يقطن بحي سوق أمدرمان أو حي

    السوق القديم بالقرب من سوق العيش "الذرة" والذي إن صادف وقابلته لن توحي لك هيئته ولا شكل منزله سوى أنه

    عربيد سكير لا شغل له ولا مشغلة إلا إذا دعت وهذا من النادر أن يحدث في أن يدخل معك في جدل في أي موضوع

    كان عن الدين أو عن الفلك أو عن السياسة أو عن علم الأجنة أو أنوع العرقي أو عاهرات السوق أياً كان .. أو تشاء

    \الظروف أن تتحدى وسواس الشبهة وتدخل منزله الكئيب المنظر من الخارج لتجد أنك داخل صرح ثقافي رهيب عامر

    بكل أنواع الثقافة المكتوبة والمسجلة صوتياً وكم هائل من الكتب الفكرية والمجلات والمخطوطات التي لا تتوقع أن

    تجدها حتى في دار عزة للثقافة والنشر .. وإن أعدت النظر كرتين ستعثر على كتاب لا زال في طور التنقيح بعنوان

    الوحدوي لمؤلفة أبوداؤد عن حياة غريبة الأطوار لرجل نادر وهو صديقه عبد الكريم .

    أتذكر فيه كثير من الشخصيات الراسخة في ذاكرتي والتي يجسدها سكرتير النقابة في بعض تفاصيل سلوكه

    المتفرقة ... أصبحت أقضي الكثير من الوقت برفقته .. وكانت هناك إلفة عالية بيننا هي وثيق علاقة صداقتي به حيث

    بدأت تضح علامات الشبهة الكثيرة بيننا على حد تعبير العمال، كان كثيراً ما أجلت دعوته لي لمنزله لنأخذ راحتنا


    أكثر وأكثر في الدردشة بعيد عن هدير الماكينات وعن مشاكل العمال .. إلى أن أصر ذات يوم أذكر تماماً أنه كان

    جمعة .. وذلك لأن له صديق عزيز يعمل في أحد مصانع السكر يود أن يعرفني به أو بمعنى أصح يعرفنا على بعضنا

    البعض .. فاتفقنا على يوم الجمعة تمام الحادية عشر صباحاً علىأن نكون معه، وقد كان .. وبما أنني تأخرت عن

    الموعد ما يقارب النصف ساعة فلما حضرت وجدت الجميع حضور في انتظاري .. هب صديقي مرحباً معرفاً لي بأهل

    منزله ذلك الجمع الكريم الذي كان علي أن أعبره لأصل من باب الحوش إلى باب الصالون .. هكذا هي بيوتنا الضيقة

    الواسعة تماماً برحابتها وأريحية قاطنيها .. والتي تحس أنها بيتك بمجرد الخطوة الأولى بها نحو الداخل .. لفت نظري

    في زاوية الحوش زيرين يغريان على الشرب من أحدهما وإن أرتويت من الكوثر توك، توجهت ناحيتهما دون الاهتمام

    لأحد وشربت منهما ما شاء لي الله أن أشرب .. شربت .. شربت تماماً .. كما لم أشرب بهذه المتعة بعد ذلك إلا في

    شمبات .. في تلك الفترة الشمباتية والتي تترنح الآن في الذاكرة بعطر أنيق من هجين أشجارها المختلفة الأنواع

    المتشابكة في توحد يغريك بالتصالح مع كل الدنيا ولن تبلغها .

    توجهت نحو الديوان حيث وجدت صديق صديقي السكرتير الذي قام هاشاً باشاً مصافحاً لي باسمي بحرارة لا أذكر

    أن صافحني أحد بمثلها إلى الآن وقام صديقي صاحب المنزل بإكمال واجب التعريف قائلاً لي هذا معاز الذي سبق

    وأن حدثتك عنه فقلت له مازحاً نعم فما أن تذوقت طعم أريحيته حتى عرفت أنه ذاك الذي يعمل بمصنع السكر ضحكنا

    جميعاً ثم جلسنا.. كان المكان عامراً بالإلفة دافئاً بالحميمية المتدفقة من الجميع في انتماء عالي لا قبل لي بوصف ذلك

    الآن كما لا قدرة لي بوصف ذلك الصديق الجديد معاز .. حقاً أنه لشاب رائع .. تقي .. وقور .. رزين لا .. لا .. إن شرعت

    فلن أوفيه حقه ولكن لأقل لكم فقط تفاصيل ما حدث في ذلك اليوم وهو كافي بتعريفه عن نفسه .. حيث اذن آذان

    صلاة الجمعة وكنا آخر من ذهب إلى المسجد المجاور حيث أخذتنا الونسة والدردشة وكذلك كنا أول من عاد إلى

    المنزل وبعد قليل من عودتنا سمعنا جميعاً ضجة في الخارج أعني خارج الديوان ولكنها بمنزلنا صديقنا .. وكان

    يعلوها صوت أخاه الأصغر والذي حدثني كثيراً عن قلقه تجاهه لإنخراطه مع إحدى الجماعات الإسلامية وتشدده في

    ذلك ونظرته له ولكل من حوله بأنهم ضعيفي الدين وأن العمل النقابي قد جرفهم نحو اليسار أكثر ... وبينما ما نحنا

    في ذهولنا هذا داخل الديوان وعلامات القلق بدأت تظهر على صديقنا المضيف إذ بأخيه الأصغر منطلقاً كالسهم داخل

    الديوان مهاجماً إياه ونحن بوصفنا ملحدين موجهاً السؤال لأخيه لماذا لم تذهب أنت وأصحابك لأداء الصلاة أم كلكم

    تتبعون لليسار .. قد قلت من قبل أن اتجاهاتك هذه لا تعجبني ولا يعجبني أصدقاء السوء الذي يلتفون حولك ..

    فتضايق صديقنا جداً وزمجر بغضب وصوت عال في وجه أخيه الأصغر من قال لك أننا لم نذهب لصلاة الجمعة أم تريد

    أن نأتي لنسجل حضورنا لدى حضرتك قد تكون استخلفت في الأرض عن تمام الحضور لأداء الصلوات ونحن لا ندري ..

    وبدأ الموقف يتحور إلى شكل مهاترات ساخنة قد تسوء عاقبتها .. وهنا كانت المفاجأة حيث أنطلق صوت ندي

    رخيم .. جميل مؤثر يطغى على كل شيئ حوله مبلل بالدموع يتلو سورة الفاتحة ثم البقرة ووجم الجميع وخيم الصمت

    علينا تماماً ونكست الرؤوس وبدأت الأعين تدمع ولا زال الصوت يستمر مروراً بآل عمران والنساء ما أروعها من تلاوة

    وما أتقنه من حفظ وتجويد .. ولا زال معاز يتلو .. وكل أهل البيت حضور في الديوان .. فقمت من بينهم قاصداً ذلك الزير

    الذي شربت منه عند دخولي ثم عدت مناولاً الصديق معاز كوزاً من الماء حيث أحسست بإرهاق حنجرته فأخذه وأوقف

    التلاوة مصدقاً لله ومستغفراً وأعينه تغرق في أدمعها .. فرفع رأسه مخاطباً ذلك اليافع .. هكذا أخي الأصغر نحن

    أصدقاء السوء وهكذا نحن أصدقاء أخوك الذي تصفه بالإلحاد وهذا ما تعلمناه منه وما علمنا إياه .. فالتفت مقاطعاً

    معاز ومخاطباً ذلك اليافع .. الإيمان يا صغيري العزيز هو ما وقر في القلوب وصدقه العمل .. هو ترجمة الجوارح لما

    هذبت به وفطرت عليه من غير تحويج الذات لهوس بهذا الحد، وأضفت قائلاً له صلينا يا عزيزي وقد قرأ الإمام في

    الركعة الأولى سورة الفاتحة وقد أخفق في التجويد في السورة الثانية عند قوله "يدخلون في دين الله أفواجا" ...

    وفي الركعة الثانية قرأ الفاتحة وسورة الغاشية .. يا صغيري يجب أن تقرأ قوله تعالى "إنك لا تهدي من أحببت

    ولكن الله يهدي من يشاء" فأدعو الله لك حقيقة بالهادية..


    لا تتصوروا كيف مرت هذه اللحظات لم يكسر سكونها سوى صوتي وصوت الصديق معاز وشعرت بعدها بارتياح كبير

    في عيون أسرة مضيفنا وفي عيونه أيضاً حيث أثلج قولنا صدورهم وأزال كل الحرج الذي كان بادئ على محيا

    صديقنا سكرتير النقابة .. تناولنا غدائنا دون التطرق لما حدث ثم تحدثنا ثلاثتنا حول الشعر والنثر والسياسة وأحوال

    العاملين في مصانع السكر مقارنة بمصانع النسيج وتلاقح الأفكار في نقابات العاملين كما تحدثنا عن الاقتصاد وغلاء

    المهور .. وعن ممارسة السياسة في أواسط الطلاب الجامعيين وكيفية تناولهم للقضايا .. فكنت أدهش في كل مرة

    يكون فيها ذمام الحديث عند الصديق معاز ذلك الشاب السلس المثقف .. عقدت صفقة صداقة قوية جداً بيني وبين معاز

    كان عربونها هذه الحوارات القصيرة التي أدرناها ... الخامسة تماماً استأذنا مضيفنا بالإنصراف وتواعدنا على أن

    نلتقي مرة أخرى ثلاثتنا في بيتنا أو بيت معاز ثم انصرفنا على هذا الوعد .

    وما كنت حزين لما افوتك وسط الفقراء بيوت الطين ...
  34.  
  35. #18
    فخر المنتديات
    Array الصورة الرمزية saleh farah
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    ودمدنى - جزيرة الفيل
    المشاركات
    998

    وهكذا نحن شعب غريب .. تزده ألماً يزدك سخرية .. تزده عوزاً يزدك أبداعاً تزده

    غضباً يريك شارعاً واسعاً من غضبه وبالمقابل تصبح كل الأمكنة ضيقة بمن تمتعوا برحابتها ....

    العزيز سوباوى بصراحه سرقت مننا الوقت وخليتنا نلهث ورا الحكايه ومع انى قرأت الجزء الاول فقط الا انى وجدت نفسى مضطرا للرد عليه دون النظر الى البقية التى يسابقنى الشوق الى متابعتها ويحرك اصابعى التى تضغط على الكيبورد لاكمل هذه الكلمات وارجع ليها ، لكن بالجد هكذا نحن شعب غريب ......................................

    خليك ربيع مليان زهور فتح ورودك واحضنه
  36.  
  37. #19
    عضو فضي
    Array
    تاريخ التسجيل
    Nov 2004
    المشاركات
    1,395

    لك الود .. بحجم الشمس .. ولك مزركش التحايات عزيزي Saleh

    وشكرا لاهتمامك بمذكرات عامل الجيقر ..
    ************************************************** ************************************************** ************************************************** ************************************************** ************************************************** ******


    لم أتوقع أن تغيب مي عن المصنع كل هذه الأيام ليست عوائدها .. همست لنفسي في البداية ربما أنها

    قد غيرت ورديتها ولكن بمرور وتعاقب الورديات لم تظهر مي واكتنفني قلق رهيب تجاهها خصوصاً

    بعد نوبات سعالها التي كان تحتد بشدة في آخر مرة تقابلنا فيها .. لم احتمل هذه الوساوس وذهبت

    رأساً لصديقتها بالقسم ولكنها وفرت علي عناء الدخول لقسم النسيج المزعج بهدير ماكيناته حيث

    وجدتها خارجة من القسم متجهة نحو الكافيتيريا .. أوقفتها فأجابتني من غير سؤال بأن مي طريحة

    الفراش بمنزلها حيث اشتد عليها الالتهاب الرئوي ثم عقبت أننا سنذهب إليها اليوم بعد نهاية الوردية

    بإمكانك المجيء معنا إن رغبت.. آلمني هذا الخبر تماماً وعزمت على الذهاب مع أصدقائها من عمال

    قسم النسيج .

    تحرك البص وكان الجميع غارقون في صمتهم وكنت أحتل مقعداً لم يجاورني فيه أحد تاكئاً رأسي على

    سيخ النافذة برغم حرارة الجو وكانت السموم تلفح جانب وجهي الأيمن ولكني كنت غارقاً في

    التفكير بتلك الصديقة العزيزة مي وكم أشتد أعجابي بها وبشخصيتها المتفردة .. أصبحت لا أطيق

    المصنع بغير لقائها في الآونة الأخيرة.. من أين أتت هذه المخلوقة كي تشكل نفسها في خاطري محطة

    كبييرة بهذا الحجم و تفعل بي كل ذلك .. هل أعشقها؟ سألت نفسي هذا ا لسؤال كثيراً ولكن لم أجد إجابة

    شافية فأنا أصادق وأصادق بإخلاص .. ولم يسبق لي أن عشقت أيكون هذا هو وأنا أجهل الناس به،

    لم ترق لي هذه الفكرة السخيفة، فأنا أقدر هذه البنت كأخت حميمة وصديقة وفية .. لم أجد تفاصيل تلك الفتاة

    المميزة "مي" ولم أعثر على ملمح من ملامحها أو شبيهاً لشخصيتها إلا حين سرت في جسدي تلك الإرتعاشة الإليفة التي طال

    غياب إحساسي بها عندما وجدت بعض الشيء منها بعد سنين في تلك الفارعة "رباب" الأنثى الهجين

    لأغرب خليط قابلني حيث أنها لأب من قبيلة الحلنقة بشرق السودان ولأم يمانية الأصل شامية

    المنشأ .. قابلتها حين استضفنا لساعات في ردهة فندق خاص بإحدى مطارات الدول العربية وذلك

    بسبب تأخر الطائرة لأسباب خاصة بالأجواء .. فتصادف أن جلسنا في طاولة واحدة .. فكانت تلك الفارعة ..

    مبادرة في الحديث واثقة الحضور .. عالية القبول .. يطل من عينيها الواسعتين بريق لحضارة راسخة

    أكاد أجزم بأنها ليست بغريبة علي .. لم أستطيع إخفاء دهشتي حينما حدثتني بلكنة سودانية أصيلة ..

    أزالت بها كل الاحتمالات التي كانت تدور برأسي وفقاً لمؤشرات تفاصيل السكان الجغرافية فحسبتها

    شامية ثم لا لا بل أنها قد يكون بها شيء من الأتراك أو قد تكون خليجية .. وسرعان ما استعدت عاديتي حيث أجبتها على

    سؤالها نعم أنا سوداني وإمعان في الرد أضفت بأني سوداني جداً .. فضحكت ببراءة مطلقة .. وانطلقنا

    نتجاذب أطراف الحديث .. في نبرة صوتها شيء ماء تآلفه أذني وفي طريقة الحديث شيء لا يخطئه

    أحساسي .. بها كثير من التفاصيل المتداخلة التي تعني لي أشياء كثيرة ولكني لم استطع تحديد شيء لأنها لا تأتي دفعة واحدة .. وحينما فرغت من تجميع تلك الملامح بعد جهد .. عرفت أن بها أشياء كثيرة من

    الصديقة "مي" فانتفضت واقفاً من غير مقدمات واستأذنت ولا أدري إن كان قد بان شيء على ملامحي أو

    لم يببين ولكن الآنسة "رباب" اعتذرت لي بكثرة إذا كان بدر منها ما ضايقني ..أو ذا كانت أقحمت

    نفسها في الحديث معي من غير معرفة مسبقة .. ولكني اختصرت جميع هواجسها في جملة قصيرة وبتهذيب مرهق

    "عفواً سديتي لم يحدث شيئ" وأنصرفت . وأنصرفت أفكار جميع من بالبص في لقاء مي ..وقف البص مؤذناً بالوصول

    والتقتنا "مي" نعم التقتنا عند مدخل منزلهم خارجة ويا له من لقاء .. وياله من خروج .. التقتنا محمولة على نعشها ويغطي كل فراغات المكان

    سكليب الحريم .. وهي ممددة في عنقريبها مغطاةً بالأبيض كنيتها الصافية وتصبغ رائحة الحنوط

    أجواء المكان .. يا للفاجعة .. منيت نفسي وأنا أنصت لبكاء النسوة بأن يطلقن أي أسم غير مي في

    مناحتهن كعادتهن عند وداع الجنائز على أبواب المنازل ولكن هيهات .. كان الاسم يخترق مسمعي كالسهام وتعقبه كل الصفات في نسق قافية حزينة ..

    .. لا حول لله ولا قوة إلا بالله العلي العظيم إنا لله وإنا إليه راجعون .. فأنا الذي تهزني هذه المواقف

    مطلقاً فما بالك حينما تكون سيدة النعش مي .. لله ما أخذ ولله ما أعطى .. ترتد بي الآن الذاكرة أو أعود

    بها أنا لأول موقف للموت لا زال مشهدة منحوتاً في الذاكرة الطفلة حينما كنت ابن السادسة من عمري وقد مات "السماك" في قريتنا..

    فكنت أقف بجوار باب منزلهم مع من وقف لانتظار خروج الجسمان .. كنت أرتعش بشدة لدرجة

    اصتكاك الأسنان .. فكان الرجال في ثيابهم البيضاء تفصل أوساطهم عمائمهم التي تأخذ الشكل

    المخلوف وراء ظهرورهم وكأنهم يضعون بها الحد الفاصل بين أحزانهم و غرور هذه الدنيا الفانية .. ويحزمون ما فاض

    من أحزان في أحشائهم حتى يكونوا أكثر ثباتاً أمام نحيب النسوة الذي يهز الجدران .. لا حول الله

    ولا قولة إلا بالله هاأنذا أحس بمغص حاد تغمض له عيني ألماً لأفتحهما على جسمان مي يتوجهون به

    لمسواها الأخير .. كثير من الرائعون الأنقياء يفضلون الولوج إلى قلب الأرض الدافئ من تقلبات هذا

    الزمن السخيف .. كثير من الأتقياء يختارهم الله إلى جواره لأن طينتهم أطيب من أن يكونوا على

    سطح الأرض .. ومن صغري وأنا لا أحتج على فكرة الموت ولكن بي شيئ خفي يعارض الأختيار،

    هكذا يا مي ومنذ أن التقيتك أدركت أن لا مكان لك في هذه الدنيا فلنا من السيئات ما يعف معه

    لمثلك أن تقيم بيننا .. عرفت أنك قادمة من رحم الأنبياء أو نبية ضلت طريقها إلى عالمنا .. أبكيك

    الآن ملئ الكون ولا يكفي .. فرحت بك كطفل بمجئ الخل إليه ولكن
    ================================================== ============
    مجنون فرحي المديون لحزن آتٍ ..

    غرد عصفور الجنة ذات صباح ..

    فكنا تمام الرقص وكان تمام الحزن

    لجناح شاخ فأرهقه الترحال ..
    ================================================== ==========

    كنا كما الوعد حضور ..

    والبحر هدوء والنواته أطرب من موج النيل مساءً ..

    وكان الواقف في الشاطئ الآخر يذرف حزناً

    يسقط حزناً ينهض حزناً يضحك حزناً يحزن حزناً ..

    فصرت ألوح نحو الحزن الجاثي في آخر نقطة فرح قد المحها بعينيك..

    لوح لي ثم أنصرف يضحك وهو حزين ...
    ================================================== ===========


    جلست تغازلني الآلم ..

    وتغزل من أحزاني إزاراً يرتق بعض الواضح

    من بريق الحزن الأبدي بعيني ..

    وكنت أسافر في عينيها حزناً يافع

    أبحث فهيا عن سفر للتكوين لأنضج .. حباً .. عشقاً .. حزناً ... دمعاً ...

    أبداً سأظل أسافر لأطل بين الفينة والأحزان ...
    ================================================== ==========


    جمعت أنواع تراب الأرض بكفيها ..

    كأسطورة خلق التكوين لآدم ..

    لترقيني ضد الأحزان بها ..

    ولم تدري إني الحزن الطائل باعاً ..

    لا يرقيني إلا غسل المطر خريفاً ليهيأني لاستقبال حدادٍ قادم ...
    ================================================== =========


    لي من السخط تجاه القدر

    أكثر مما لكي من أحزان

    نحو آلامك


    تغريد عصافير الغاب

    موج البحر

    سطور النثر ... قوافي الشعر

    أجمعها طوراً

    أنظمها عقداً

    لتعانق جيدك ذاك الفتان
    ================================================== ========


    أترقب في عينيك

    أريج الفجر القادم

    رحيق الوردة ..

    ومفردةٌ شابة تقاوم

    يا هذا الحزن تبدد .. يا هذا الـ ..... يا لله ... يا ....
    ================================================== ========


    لك الله يا مي .. الهم أرحمها وأغفر لها ألهم تقبلها بوافر رحمتك .. الهم لين ترابها وهون

    عذابها .. الهم طيب ثراها وأكرم مثواها .. اللهم أبدلها أهلاً خيراً من أهلها وداراً خيراً من

    دارها ... يا رب العالمين .

    وما كنت حزين لما افوتك وسط الفقراء بيوت الطين ...
  38.  
  39. #20
    عضو فضي
    Array
    تاريخ التسجيل
    Nov 2004
    المشاركات
    1,395

    ((نواصل))

    لم تكن الأسابيع التي تلت رحيل مي بيسيرة على نفسي ولا على زملائها وأصدقائها ببقية

    الأقسام .. حقيقة لم أستطع ولمدة شهر المجيء ببص ترحيل عمال المصنع .. لا أحتمل تلك

    النظرات الحزينة المعلنة والعزاء السري الدائم لزملاء الترحيل وهم يواسونني على فقد

    صديقتي وإمعان في تعذيبي لم يتجرأ أحد ليجلس في مكانها فجلست اليوم الأول والمكان

    خالي بجواري .. ولم أحتمل .. فكان المكان برغم فراغه إلا أنني أحسست به ملئ بالفقد

    وبكثير من الحزن يتزحزح في هذا الفراغ ويتضخم حتى يطولني فيملأني فأحزن أحزن كما

    لم أحزن من قبل .. لا يخرجني من نوبة حزني هذه غير تلك الإرتعاشة التي تصدر غصب

    عني فانتفض حينما يخيل لي أنني سمعت صوت مي بجواري تسألني كعادتها .. ما لي أراك

    صامتاً ؟!! فالتفت ولا أجد سوى حزن عظيم يجلس مكانها وقدر واضع يديه حذا الأذنين

    ساخراً مني .. ومن يومها وأنا آتي للمصنع بالمواصلات العامة ولم أستطع تجاوز هذا الأمر

    بيسر لولا معونة الصديق معاذ .. نعم معاذ تذكرونه فعندما زارني في منزلي هو وسكرتير

    النقابة ووجدوني في حالة يرثى لها أشار علي بأن أذهب لأقضي يوما مع أسرتها ثم أحاول

    أن أعود عادياً .. ففعلت . . توجهت إلى قريتهم في آخر الأسبوع قابلت والدها ووالدتها وبعد

    قليل خالها المدرس .. وجدت في أعين والديها من الصبر ما يفوق التصور .. جئت لأواسيهم

    ولكن انعكست الأدوار فأصبحوا هم الذين يواسونني وأنا أغرق في نوبة بكاء مرة .. لم أفق

    منها إلا على كف تربد على كتفي .. وسوط وقور يقول : أستغفر ربك فكلنا لها .. صبراً

    جميلاً والله المستعان .. كانت وقع الكلمات كالبرد علي وكان الصوت حاسماً برغم هدوئه به

    نبرة من العتاب وحزن عميق مكبوت.. رفعت رأسي مستغفراً فإذا به خال المغفور لها مي ..

    نعم هو خالها الأستاذ الذي حدثتني عنه كثيراً والذي كان قدوتها في كل تصرفاتها وسلوكها

    .. نظرت إليه ممعناً في تفاصيله الوقورة .. ثم اعتذرت لهم .. ولم تحوجني تلك الأسرة

    البسيطة لأن أعرفهم بنفسي .. فوجدتها قد فعلت ذلك من قبل .. شكراً لك مي .. وكأتها تعلم

    أنني سأحضر في غيابها .. نعم عرفوا أنني صديقها عامل الجيقر .. أحاطوني بكمية من الود

    والاحترام .. وتشعبوا معي في مواضيع كثيرة عن عمد فعلوا ليخرجوا بي من التوتر الذي

    صنعته لهم في أجواء حزنهم الهادي .. سئلت عن أهلي وعشيرتي .. وعن ما أخطط له

    مستقبلاً .. وأخذوا مني وعداً على أن تتواصل علاقتي معهم .. خرجت منهم وخرج موكب

    صغير من أفراد تلك العائلة مودعين لي وشاكرين لي حسن تفضلي بزيارتهم ناسين أنهم هم

    الذين تفضلوا بترياقهم لي وتضميدهم لجراحي ...

    أصبحت بعد هذه الزيارة من التوازن بما كان مما يسمح لي بالعودة لبص الترحيل والخوض

    في الحديث عن الراحلة مي وذكر حسناتها وأجمل ما قضيناه معاً من أيام بالمصنع ..

    شكراً عظيماً ... صديقي معاذ .. شكراً جميلاً صديقي سكرتير النقابة .. شكراً يلون كل

    مسامي لما فعلتموه تجاهي .. هكذا كان لتنفيذ اقتراح الصديق معاذ أثره الواضح في إعادتي

    تدريجياً نحو الأفضل والخروج من هذه الفاجعة بأفضل النتائج .. مزيداً من التماسك .. مزيداً

    من قوة الإيمان .. مزيداً من تجارب الصبر والاحتمال .. مزيداً من الصمود أمام سخرية

    الأقدار ..

    ذهبت إلى كافتيريا المصنع وحيداً .. ارتشفت القهوة بعمق ليوشح سوداها الدواخل وينتظم

    الحداد .. ولا زالت خيمة عزاء الذات منتصبة تستقبلني كل يوم كمعز منتظم بها .. وللأحزان

    السرية خصوصيتها العالية في النفس .. كما لها طعمها المميز في أروقة القلب ..

    يا .. أنتي

    لننصب خيمة كبرى ...

    لتأبين مفقود .. حملناه بأيدينا ...

    ونسرد .. قصة أخرى ..

    لتذكار محبوب .. فديناه .. بأعيننا ...

    لننثر حزناً ورداً .. والطلّ أدمعنا ..

    ونحلم .. بأنا .. حولها دوماً ..لا شيء يفصلنا ...

    نسمر عند حضرتها .. ونذهب .. لقبرها الطاهر ...

    نكتب .. في كل ناصية .. أنها تحدثنا

    ولكنها .. اتخذت .. من لحدها وطنا .....

    وما كنت حزين لما افوتك وسط الفقراء بيوت الطين ...
  40.  
  41. #21
    عضو مميز
    Array الصورة الرمزية ابو الزعيم
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    الدولة
    قرية الدناقلة شرق مدني
    المشاركات
    420

    لك الله ايها الرائع الفنان ....
    كم اشتقت لمطالعت ابداعك ...
    وظروف العمل حرمتنا من الدخول على المنتدى لاكثر من شهر
    واليوم عدنا وارى في المنتدى كل الابداع ...
    تسلم يدك ... وفي انتظار المزيد
    ورمضان كريم

    اديني احساس بالامل في كل رحلة شوق تطول
    **************************************************
    لا قدرته اطولك شان اجيك
    لا قدرته من غيرك اكون
    وانا بيك ماليني الكلام....
  42.  
  43. #22
    عضو ذهبي
    Array الصورة الرمزية ابراهيم
    تاريخ التسجيل
    Nov 2003
    الدولة
    مدني الجميلة/جزيرة الفيل
    المشاركات
    4,172

    تحية عطرة

    الأخ العزيز .... سوباوى
    متابعنك بكل الحواس
    واصل

    وأنا هل كنت إلا ألقاً ذاب في عينيك وهجاً أبديا
    او فتوناً فوق خديك إنتشي بهجة عاد بها الحس إليا
  44.  
  45. #23
    عضو فضي
    Array
    تاريخ التسجيل
    Nov 2004
    المشاركات
    1,395

    العزيز جداً ... أبو الزعيم ...

    لي أكيد الأشتياق تجاهك ... ألح في السؤال عنك ..

    لا زال إميلي كما هو لم أغيره أتمنى أن تراسلني ..

    أعلم أن ما بالقلوب بالقلوب .. ولكن للولوج في دوامة الحياة حكمها ..

    سنعود حتماً ..

    تحياتي ،،،،،

    ************************************************** ******************

    العزيز جداً إبراهيم

    أشكرك ملئ القلب ...

    سنلتقي جيمعاً عند نهاية نسيج

    تحياتي الأكيدة لك اينما كنت .. وكيفما أتفق ... وأقصى ما تراه عيون ..

    وما كنت حزين لما افوتك وسط الفقراء بيوت الطين ...
  46.  
  47. #24
    فخر المنتديات
    Array الصورة الرمزية سواااح
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    مدني - الدرجة الاولي
    المشاركات
    7,978

    صنو الروح : سوباوي

    لست بناقد ولا فنان ولا اديب ولا شاعر .. لكن لدي احساس الانسان ..

    التفاصيل .. الاحداث .. المشاهد .. الصور .. الامس .. الحاضر ..

    مذكرات من نسيج .. عفواً ان اطلقت عليها

    مذكرات من الحياة .. من الجمال .. من الشجن .. من عمق الحزن .. من الآسي ..

    فهل لي بتساولات تجاه شخصك لو امكن ؟؟

    بمعني ادق واوضح .. ماذا تعني لك ...

    السجن ..

    كوب الكركدي .. ( انت تذكر ما قلته لي سابقا عنه )

    الشاش .. المستشفيات .. الغفير ..

    المجتمع وعمال النسيج ..

    * تخريمة علي البال .. هل لا زال المطر يغسل ذنوب المدن والهموم

    * رجاء .. هل ترسل لي بعض غيوم المطر .. لتمطر عندي .. وتغسلني ..

    فانا بي من الذنوب والارق والرهق والالم والحزن وجفاف الدواخل ما يحتاج الي امطار طوال العام لتغسله ..

    * تبادل الاوراق في امتحان الشهادة .. لكن والحمد لله لم اضبط حينها ..

    * جامعة السودان .. انك تؤجج نار الذكريات ..

    *عفوا سيدتي لم يحدث شئ .. جملة كاني نطقتها من قبل لتلك السائلة التي قابلتها من قبل وطال بنا الحديث ....

    * تخريمة آخري : هل ما زال اسم (( مي )) يواصل سفره مع رحله حياتك ؟؟

    * ارجعتني الي عصر ذاك اليوم المؤلم 29/3/1999 م ، بالمشفي

    يوم وفاة جدي ، وان جاثم جواره ،،

    لحظات لا تبقي كل يوم تصحي اوراقها ،،

    واول تجربة موت حقيقة اري احداثها امامي مباشرة

    * سؤال اخير .. اصدقك .. كم من الزمن وانا ابحث عن دمعة تسيل علي خدي

    وانت تهبني اياها من تلك الرائعة (( مي )) واحزانها ...

    فهل انا ارتجي منك ثمن دمعة ..

    ام انت تبقي منبعها ؟؟

    دمـــــــــــــــــــــــــــت ،،،

    العقول الصغيرة تناقش في الأشخاص،

    والعقول المتوسطة تناقش في الأشياء،

    أما العقول الكبيرة .. فإنها تناقش في المبادئ !!


  48.  
  49. #25
    عضو فضي
    Array
    تاريخ التسجيل
    Nov 2004
    المشاركات
    1,395

    صنو الروح : سوباوي

    لست بناقد ولا فنان ولا اديب ولا شاعر .. لكن لدي احساس الانسان ..

    التفاصيل .. الاحداث .. المشاهد .. الصور .. الامس .. الحاضر ..

    مذكرات من نسيج .. عفواً ان اطلقت عليها

    مذكرات من الحياة .. من الجمال .. من الشجن .. من عمق الحزن .. من الآسي ..

    فهل لي بتساولات تجاه شخصك لو امكن ؟؟

    بمعني ادق واوضح .. ماذا تعني لك ...

    السجن ..


    الراقي ..سواح سأحدثك عن السجن في "مذكرات كوبرية" وإلى حينها سأقول لك

    فقط ... ((فجر التاسع من سبتمبر تشرق شمسه فاترة مرهقة التفاصيل .. وكأنها آتية

    من رحم غيب سحيق الغياهب .. "هــــــا .. آييى ..توبــــــــاه" أول صوت فجراوي

    يكاد أن تفلت أطرافه من مسامعنا لولاء الهدوء الذي يسود المكان وقلة العمران

    وإنعدام الحيوان فندرك أنه طابور تلك الثلة من العساكر لرفع تمام الصباح .. المكان

    قصي جداً والرياح لا تحمل سوى أصوات جوفاء تعج بخوائها المتداخل .. قاتمة هذه

    الزنزانة متعفنة رائحة الهواء فيها، رغم متانة بنيانها إلا أن به الكثير من النشاز

    وكأن الذي بناها كان في حالة عدم رضا عن الذات

    .. ملامح العساكر بائسة تدعو للشفقة، ملابسهم باهتة اللون يتثاءبون في فتور

    أعمق من فتور شروق شمس يومهم ..))


    كوب الكركدي .. ( انت تذكر ما قلته لي سابقا عنه )

    أوآه .. يا صديقي .. أنها تقاطعات لذاكرتين مختلفات المخزون .. فقط يظل ذات

    المحتوى لأرى أنعكاس وجهيّ على دائرة السطح متعرجاً وكأنها تحكي تقلبات هذا الزمن

    السخيف تجاه ما أدخرناه من جميل مواسم وهطول حزن ..


    الشاش .. المستشفيات .. الغفير ..

    لا زالت الذاكرة مشبعة بالكثير من الأحداث .. للمستشفيات حديث آخر ذا جروح .. ولـ

    "علي دلدوم" ألف رحمة حيث أنتقل إلى جوار ربه .. وترك لنا أنطباعاً بالتعامل الجاد

    تجاه كل ما يوكل إلينا من أعبأ ..


    المجتمع وعمال النسيج ..

    للمجتمع ضحايا كثر والشارع يصوغ محاضره كيفما اتفق .. ويظل عمال النسيج

    أطهر من أقوال الفجرة .. وأنظف من ... وأشرف من ..... معذرة سواح أحس بأن

    بي أبواب ستفتح ارتجتها الآن لذلك دعني فإن فتحتها لن .... ولن ...


    * تخريمة علي البال .. هل لا زال المطر يغسل ذنوب المدن والهموم

    لا زال يغسلها .. ولا زال يغسل بعض النوايا .. وما طمح من عفن الطريق ..

    * رجاء .. هل ترسل لي بعض غيوم المطر .. لتمطر عندي .. وتغسلني ..

    فانا بي من الذنوب والارق والرهق والالم والحزن وجفاف الدواخل ما يحتاج الي

    امطار طوال العام لتغسله ..

    أنك لا تحتاج لكل هذا الهطول يا عزيزي .. فقط أنك نقي أكثر مما يجب .. لا تدنس

    نفسك .. ولكن أخفض إضاءة هذا النقاء .. لترى بعض عتمات الطريق .. وإلا فسـ...


    * تبادل الاوراق في امتحان الشهادة .. لكن والحمد لله لم اضبط حينها ..

    الحمد الله وإلا كنت ستسمع ما سمعت ومن ثم ستكفر ببعض ثوابتك ...

    * جامعة السودان .. انك تؤجج نار الذكريات ..

    لجامعة السودان .. الكثير من التفاصيل .. ولكن بالنفس بعض علامات .. هل ستظل

    الذوات بذات بريقها أم أن للذاكرة خصيصة تلميع أنعكاسها القديم .. هل الذين

    يقاسموننا احتفال الكلام نهاراً ..هم ذات الذين يزيفون المعاني في المساء ...


    *عفوا سيدتي لم يحدث شئ .. جملة كاني نطقتها من قبل لتلك السائلة التي قابلتها من قبل وطال بنا الحديث ....

    وهل حدث شيء ..؟!!!!!

    * تخريمة آخري : هل ما زال اسم (( مي )) يواصل سفره مع رحله حياتك ؟؟

    لـ "مي" زاوية خاصة وركن قصي تهز الخاطر فتتساقط على رأسي ورأسها آهات

    ودمعات وأحزان وأحدث وأحداث و.....

    * ارجعتني الي عصر ذاك اليوم المؤلم 29/3/1999 م ، بالمشفي

    يوم وفاة جدي ، وان جاثم جواره ،،

    لحظات لا تبقي كل يوم تصحي اوراقها ،،

    واول تجربة موت حقيقة اري احداثها امامي مباشرة

    وكما قلت مسبقاً .. أنا لا أحتج على فكرة الموت .. ولكني بي شيء خفي يعارض

    الاختيار .. "ولله الحوقلة والاستغفار فيما تلقيه ألسنتنا لرجاء أن يقبلنا أنقياء لديه "


    • سؤال اخير .. اصدقك .. كم من الزمن وانا ابحث عن دمعة تسيل علي خدي

    وانت تهبني اياها من تلك الرائعة (( مي )) واحزانها ...

    فهل انا ارتجي منك ثمن دمعة ..

    ام انت تبقي منبعها ؟؟

    من تجاه "مي" سمها هبات حزن .. ومن تجاهي فأنا لا أملك ثمن دمعة لأقرضك له ولكن

    تبقى شفافية كتلك التي تسكنك هي منبع ما أنت فيه من بلل الدموع ..


    *************

    أيها .. الولد الشقي .. سواح ..

    من أين لي بضوء للسير في عتمات الطريق ..

    ومن أين لي بأوكسجين للغوص تجاهي .. تجاهك .. تجاه اليم العميق ...

    تجاه من يتوسدون أحزانهم وأنا في حزني غريق ...

    تحياتي،، وكن معك من أفراح بقدر ما يوازن الخطو منك فالدرب أطول ...

    وما كنت حزين لما افوتك وسط الفقراء بيوت الطين ...

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
by boussaid