الرجل والعصافير
قصة قصيرة/ صلاح الدين سر الختم عليكان الرجل وحيدا وغريبا عن البلدة فقد أجبرته الوظيفة_رق القرن العشرين_ كما يسميها علي الإقامة هنالك إلي حين لا يعرف إلي مني يطول أو يقصر، كان بيته كبيرا واسعا به أشجار كثيرة بداخله وقليلة في الفناء أمامه.كانت بلدة صغيرة في قلب الصحراء عطشي مغطاة بالرمال والنيل علي مرمي حجر منها.كان ينحدر من مدينة كبيرة مسكونة بالضجيج وبالحياة ومسراتها المختلفة وأراد من اقتلعوه من قلب العاصمة حيث الضجيج ونمط الحياة الذي ألفه وأحبه إلي السكون إيقاع نوع من العقاب أو الضغط علي رجل لايعرف الانحناء لغير ما يؤمن به ولا يعرف الصمت علي ما يكره.كان محبا للناس ولكن الوظيفة والبلدة الصغيرة لاتسمح له بالاختلاط الشديد بهم بل تبني بينهم وبينه جدارا سميكا لازما وضروريا.لهذا السبب ظل هو وامرأته وحدهما مكتفيان ببعضهما عن غيرهما. يفرغ من عمله فيلج بيته ويبقيا وحدهما في انتظار صباح جديد. وبمرور الوقت اكتشفا ان لديهما رفقة دائمة هي العصافير مختلفة الألوان والأنواع التي تأتي في كل صباح باحثة عن جرعة ماء من فوهة الحنفية التي تتوسط الدار أو من الأحواض أسفل الأشجار التي تمتلئ بالماء أو الطين نتيجة لريها، كانت الدار الصامتة تمسي أكثر حيوية وتموج بالحركة وبأصوات العصافير المتباينة وحركتها وهي تحلق وتحط من غصن إلي غصن.، بدأ الأمر صدفة ولكن الرجل والمرأة باتا حريصين علي توفير الماء للعصافير في أكثر من موقع بالدار ، فازداد عدد العصافير يوما بعد يوم.وكانت توجد أمام الدار شجرة سدر ضخمة مكونة من شجرتين متلاحمتين بحيث أصبح عسيرا تمييز ذلك وتمييز كل منهما عن الأخري وأمامهن كانت هنالك شجرة ليمون صغيرة تقع في المنتصف فتخفي أكثر حقيقة كونهن شجرتان وليس واحدة. وكانت خلفهن شجرة نيم كبيرة تفصل بينهن وبين السور وتتشابك أغصانها مع أغصانهن في منظر فريد.كانت العصافير بعد ان تشرب الماء تتجمع هناك فوق الأشجار الثلاث المتشابكات وأسفل شجرة الليمون بحثا عن الظل الظليل وعن ثمار النبق الخضراء في الشتاء وتخلق فوضي محببة في المكان. وحين لاحظ الرجل ذلك بدأ يجلب حبوب الذرة من السوق ويقوم بنثرها علي الأرض أسفل الأشجار الثلاث علي الأرض في شكل دائرة لإطعام العصافير ووضع أواني حرص علي تجديد ماءها يوميا.
بدأت العصافير تقبل علي الوجبة في حذر شديد وتنتظر حتي ذهاب الرجل ثم تهبط علي الارض في حذر شديد وتتناول الحبوب ثم تطير بعيدا أو بأعلى الأشجار. كانت العصافير خائفة في البدء فقد تعلمت في أعمارها القصيرة أن ثمن الثقة ببني البشر يكون فادحا في أغلب الاحوال وأنهم كبارا وصغارا يلبسون دوما أقنعة جميلة لإخفاء أفعال قبيحة ينتوون القيام بها .
لذلك كانت العصافير وهي تنقر الحب تتهيأ للطيران بسرعة وتتلفت يمنة ويسرة وتدقق النظر بحثا عن شراك خفية ومكامن أذية محتملة. في القرية كان الناس يضعون الرجل تحت المجهر كعينة في معمل ويتبادلون الهمس حول الرجل الذي يطعم العصافير والناس جياع ويذهبون مذاهب شتي في تفسير أفعاله. ثم أرسلوا اليه من أقترح عليه أن يصنع اقفاصا ليدخل الطيور فيها مؤكدين له أن تلك تجارة مربحة وأن العصافير سرعان ما تمسي أليفة عندما تجد الماء والحبوب وتتوالد بسرعة.رفض الرجل نصائحهم بصورة قاطعة وقال للرسول: أنا ابحث عن رفقة وصدقة جارية ولا أبحث عن ربح. هز الرسول رأسه في دهشة وقال للرجل في سره: الناس يستدينون ثمن لقمة العيش ومن لايدفع دينه يسجن حتي يدفع أهله ثمن حريته فكيف تطعم العصافير مجانا يا رجل؟!
وعاد إلي من أرسلوه دون أن ينبس ببنت شفة.خرجت حكايات جديدة: ( جن الرجل!!!) هكذا قال أحدهم وحلف آخر أيمانا غليظة بأنه قد رأي الطير يحط علي كتفي الرجل وسمعه وهو يحادث العصافير وهي تلتقط الحب من كفه المبسوطة وحتي القماري المعروفة بحذرها الشديد كانت تقف مطمئنة إلي جانبه.الاطفال الماكرون هزوا رؤوسهم غير مصدقين وقرروا الاستفادة من تجمع العصافير والقماري والدباس وغياب الرجل في عمله بضعة ساعات يوميا فكمنوا علي مقربة من المكان ونصبوا الشراك وأعدوا النبال وأوقعوا خسائر فادحة في رهط العصافير المطمئن. وبعد عدة أيام لاحظ الرجل أن العصافير تناقصت وأن حب العيش ظل القسم الأكبر منه يبقي مكانه دون أن يمس. فسأل عن السبب وأدرك السر فأرسل من يكمن للأشقياء الصغار ويقبض عليهم متلبسين وتوعدهم بعقاب شديد أن فعلوها ثانية وأخلي سبيلهم فاختفوا مكرهين.وعادت العصافير من جديد تدريجيا وأقام الرجل سياجا محكما حتي تنعم العصافير بالأمان..كانت العصافير في البدء مسكونة بالشكوك والهواجس وتتساءل عن سبب معاملة الرجل الخاصة لها وحين تعرضت لفخاخ الصغار تزايدت شكوكها ورفع المتشككون في نوايا الرجل أصواتهم قائلين: ألم نقل لكم أن بني البشر ليس لهم عهد ولا أمان؟ هاهو قد بان علي حقيقته. ولكن الرجل استعاد ثقة العصافير بما فعله من إجراءات لحمايتها فعادت من جديد وامتلأت الأشجار بها . ألفت العصافير الرجل ولم تعد تخافه أو تنتظر ذهابه حتي تحط علي الارض وحين يتأخر في في إحضار الحبوب تصطف العصافير علي امتداد السور وتناديه بصوت جماعي فيصحو ضاحكا ويعتذر ويقدم وجبة الصباح اليومية للمنتظرين ويملأ الأواني التي وضعها علي الارض بالمياه. كل العصافير التي تعاني من الاستهداف والشراك والنبال طلبت اللجوء السياسي إلي شجرة العصافير الآمنة واستقرت هنالك. أهل القرية تبدلت مواقفهم وباتوا يفاخرون أهل القري المجاورة بأن قريتهم هي مأوي العصافير وزرع كل منهم أشجارا وطفقوا ينثرون الحبوب ذرةوقمحا للعصافير ويمنعون النبال والفخاخ وينتظرون اليوم الذي تحط فيه العصافير علي أكتافهم. وأخذ أهل القري المجاورة يتهامسون عن قرية الأشجار والعصافير وكرامات أهلها الذين لايصطادون العصافير ولا السمك ويأكلون مما يزرعون ولا تأكل عصافيرهم الا ما يمنحونها فقط. ذات صباح ما لم يخرج الرجل لاطعام عصافيره كعادته... اصطفت العصافير علي سور البيت الكبير وفوق أعالي اشجاره ونادته ولم يخرج..أرتفع صوت عويل المرأة وتدافع الناس والعصافير من كل صوب.. كان يوما فاجعا لاينسي...خرج الناس في موكب مهيب مجهشين بالبكاء علي من علمهم حب العصافير والكف عن نصب الفخاخ لها..غابت الشمس في عز الظهيرة بغتة وغطت غيوم كثيفة قرص الشمس، كانت العصافيرتحلق فوق الرؤوس وتحجب وهج الشمس علي طول الطريق من البيت حتي تلك البقعة البعيدة من الارض حيث دفنوه..قفل الناس راجعين ولكن العصافير رفضت الرجوع معهم، حلقت العصافير بعيدا وعادت من جديد وهي تحمل حبوبا وفيرة نثرتها علي الأرض حول القبر الصغير ثم حلقت وعادت بمياه وفيرة نثرتها فوق الأرض .. خرجت الشجيرات الصغيرة من جوف الأرض ضاحكة وأخذت تكبر وتكبر وتخرج قناديلها وثمارها والندي يتجمع ويمسي بحيرات من الماء... بات القبر بقعة كبيرة خضراء وسط صحراء مسكونة بالأشجار والعصافير والقناديل.
صلاح الدين سر الختم علي
5/3/2011
دنقلا العجوز
المفضلات