كان قد عقد العزم علي ان يضع لكل شئ حدا في ذلك اليوم، فقد فكر كثيرا ودرس الامر بعناية وأتخذ قراره بحكمة متناهيةالي درجة انه استحسنه وتنهد بارتياح واسترخي في كرسيه الوثير مطمئنا عندما بلغ تفكيره منتهاه... ولكن بغتة من العدم خرج الكابوس من مرقده وفاجأه خاطر مزعج: ربما يكون هذا امرا قاسيا عليها؟...لا .لا..لست انا.. لكن صوتا آخرا قال له بحزم:وليكن ما يكون فالعلاج احيانا يكون بالكي واحيانا اخري بجرح جديد. عندها رجع بذاكرته الي سنين خلت وتساءل تري هل كان بمقدوره ان يتخيل مثل هذه الخاتمة في تلك الايام؟..مستحيل.. كان حينها وحيدا وريفيا فقيرا جاء الي العاصمة عبر بوابة العلم ولم يكن يملك سيارة فارهة ولا سعاة مهرولين ورصيدا متزايدا في بنك ولا شركةيلتمع اسمها في لافتة مضئية، كان كل رصيده عقلا يختزن المفردات والمعلومات بقدرة مدهشة وكان لباسه بنطالا باهتا يتعذر تحديدالي اي فصيلة لونيةينتمي وكانت كل ثروته دراهم قليلة تأتيه ملطخة بوحل الحقول مضافا اليها اعانة الجامعة للطلاب الفقراء ..وكان حريصا اشد الحرص علي الا تفوته وجبة من وجبات الداخلية لان النتيجة تكون وخيمة عليه وهي اما حرمان تام للنفس اوحدوث اخلال عظيم بالميزانية يجره الي دائرة الاستدانة.وكانت هي تنتمي الي عالم آخر مغاير تماما، عالم بلوري لامجال لدورة البلهارسياوباعوض الملاريا والنمتي لاختراقه أو الوقوف ببابه فهو عالم يصحو علي مجد تليد وعز متين لايعرف صفوف المواصلات ووهج الظهيرة اللافح ولم يسمع من ينتمون اليه بان اللوري الذي يكركر في الشوارع كرجل عجوز وهو مكتظ بالبشر والبصل والبضائع واحيانا البهائم هو وسيلة للمواصلات عند السواد الاعظم، هو عالم لم يكن واردا ان يتقاطع مع عالمه ، لكن الجامعةفعلتها فتلاقي متشقق الاقداموصاحبة الثروة المتوارثة في مدرجات الجامعة، كان يبتعد في حذر وكانت تقترب منه في اصرار فيقول لنفسه سرا(حين يلتقي القمر والشمس يمكنني ان افكر فيك) ضحكت وقالت( الفقر لايعيب احدا.. الفقر والغني مشاهد عابرة في شاشة عرض متجددة، ما يعيب الرجل هو انعدام الطموح.)كانت تقولها باهتمام في سياق عام لاحاديث كثيرة لكن المغزي لم يفته...رد بذات الطريقة(قال غسان كنفاني بنبرة حازمة (عالم ليس لنا)وصدق قوله فبعض العوالم ضيعة خاصة لها مفاتيح خاصة ولامجال لكسرها او القفز فوق الاسوار.)ولكنها كانت من تلك الطينة من البشر التي لاتستسلم أبدا ولاتلقي رايتها، فظلت تثابر وتحاصر وتدفع الوساوس بعيدا حتي ذابت الصحاري في المنطقة الوسطي بين الحقول وغابات الاسمنت والتقي العالمان أخيرا وظلت هي كموجة بأعلي النهر تدفعه الي الاعلي والي الامام كلما وهنت له عزيمة أو خارت له قوي حتي جاء الاطفال: بنت كالقمر ثم ولد عنيد مشاكس كأمه ،وكانت الموجة تدفعه الي الامام بمالها ومحبتها وافكارها وطموحها حتي فاق ابيها ثروة ونفوذا وخلع جلده المثقل بهراوات وسياط ولسعات باعوض وشموس ومشاوير مضنية، مضت الحياة مبتسمة له ذات ابتسامتها وبفضلهاصار فيما هو فيه مركز مرموق وقصر منيف وجيوش خدم وسيارة رابضة كالأسد.
افاق من تأملاته علي صوت الباب وهو يفتح ودلفت السكرتيرة الحسناءالي الداخل وعلي فمها الصغير ابتسامة مشعة كاشفة عن أسنان صغيرةبيضاء كالحليب
وضعت ما تحمل من أوراق علي سطح المكتب الانيق ودارت حتي أمست خلفه تماما وطوقت عنقه بانامل طويلة ودقيقةوهمست بصوت خافت( لا تنس.. الليلة..الليلة ينتهي كل شئ.. اليس كذلك؟ ) يجيبها بشرود وأحساس غامض بالذنب يطوقه( نعم.. الليلة )ويسرح في البعيد.. يتذكر كيف بدأ كل شئ .. زواج سكرتيرته السابقةالتي امضت سنين في خدمته والفراغ الذي احدثه رحيلها بعيدا مع زوجها.. حيرته ثم بدء البحث عن بديل عبر معاينات كثيرة.. الوجوه الكثيرة التي يعلوها امل بالظفر بالوظيفة.. وجه سلوي الشاحب وملابسها البسيطةالتي لاصلة لها بما ترتديه الان...تلك الضراعة البادية في عينيها التي تحاكي ضراعة غريق يتشبث بلوح مكسور في عرض البحر ..لعل تلك الضراعة وذلك الهندام الباهت هو ما شده اليها وجعله يختارها من دون كل المتقدمات...ولكن سرعان مابات الحمل الوديع أسدا وأمست القطة نمرا ووجد نفسه في أتون علاقة ملتهبة تريد ان تقضي علي كل شئ وتستخلصه لها وحدها..كان منجذبا بقوة سحر غريب لايقاوم..أفاق فجأة علي يد سلوي وكلماتها الرقيقة ليدرك انه رجل خمسيني مرغوب فيه وان سنوات قحطه السابقة التي قضاها منغمسا في عمله كالثور في ساقية لاجدوي منها ان لم تعوض وان لم يعط نفسه بعض حقها.
كان وجه مريم يملأ فضاء المكتب عليه وهو يتناول حقيبته ويضع بداخلها بعض الاوراق وكان عطر سلوي لايزال يحتل المكان ويملأ خياشيمه ويجعل وجه مريم يغيم ليحل وجه سلوي مكانها رويدا رويدا، تناول الحقيبة وخرج في صمت وعبارة وحيدة ترن كطبل في أذنه( الليلة ... ينتهي كل شئ....)
السيارة تنهب الطريق في عجل في رحلة العودة وحسن غارق في تأملاته:كيف ستتلقي مريم النبأ؟ أتنهار باكية؟.... لا..لا.. أكثر ماتكره مريم هو الضعف...تري هل تسبه بصوت جهير وتنعته بأنها هي التي جعلت منه بشرا تهوي اليه افئدة بعضهن؟.... لا...لا....
والاطفال؟!....مالهم؟ هو أمر لايهمهم..ولن يدعهم يحتاجون شئيا..يتعلمون في أحسن المدارس ويأكلون احسن الطعام ويسكنون بقصر أبيهم وسوف اجئ اليهم بين فينة وأخري...لايكفي!!! .. كفي كفاني تفكيرا...أدار مذياع السيارةبأعلي صوت لكنه لم يطرد الافكار التي تهطل كالمطر وتتدافع كالسيل.. أخيرا توقفت العربة امام المنزل.. وقادته خطواته حتي البوابة... ضغط علي زر الجرس وانتظر قليلا.. ثم أعاد الكرة وبدأ القلق يعصف به...لماذا تأخروا؟ لماذا لم يتدافع الاطفال كما يفعلون عادة عند أوبته؟
وفجأة انفتح الباب علي مصراعيه دفعة واحدة وفي ذات اللحظة صدحت موسيقي صاخبة مصحوبة بضجيج واندفعت نحوه وجوه كثيرة ضاحكة في بشر وترحاب وفي منتصف الجوقة تماما كانت مريم مرتدية فستانا ابيضا أذياله تجرجر في الارض...الجمته الدهشة وتقدمت مريم نحوه مبتسمةوهي تهمس( الليلة... الليلة.....) صمتت واستجمعت أنفاسها وواصلت الهمس( الليلة عيد زواجنا..))
اطرق في صمت ونكس رأسه نحو الارض وسقطت الحقيبة من يده أرضا وانهمرت الدموع وهو يضم مريم
ويجهش باكيا وهو يتمتم في سره لصورة مشوشة: الليلة انتهي كل شئ ولن تعودي أبدا....
صلاح الدين سر الختم علي
القصة نشرت لاول مرة بصحيفة قلب الشارع
العدد رقم 153 بتاريخ 3/يناير/ 1996
المفضلات