يوميات سميرة
قصة قصيرة
بقلم / صلاح الدين سر الختم
كانت الريح تولول وحجارة الأرصفة تتملل في قلق ، ثمة كلب هزيل ضامر يهرول وحيداً عابراً الشارع المقفر ... إرتفعت أذنا القطة ... انتصب شعرها ... تأهبت للنزال ... وحين كاد ت أن تموء كان الكلب قد عبر الشارع تماماً إلي الجانب الآخر دون أن يعيرها إلتفاتاً فاسترخت وتمطت ، كانت (سميرة ) تراقب المشهد في إهتمام وحين أقعي الكلب في ظل شجرة اللبخ العملاقة وتدلي لسانه وتمطت القطة في كسل وهي لا تزال ترقبه في تحفز عندها أيقنت ( سميرة ) أن ثمة هدنة غير معلنة قد بدأت فتوقفت عيونها الصغيرة عن التنقل بين جانبي الشارع وقد فقدت الأمل في مشاهدة المعركة المعتادة بين الغريمين اللدودين و عادت سميرة إلي الواقع فأكتشفت أن ثمة صراخ طويل في دواخلها و ثمة إمعاء تتلوي في إصرار لا يجدي معه أي تجاهل مصطنع ، وحين تجوع ( سميرة ) فإن العالم يبدو لها حينها قاسياً وتشعر أنها وحيدة وتعيسة فتنتصب واقفة وتجول بعينيها في كل الاتجاهات ، وحين تسمع وقع أقدام تقترب من ناحية الشارع تثبت نظراتها بإتجاه القادم ... كان رجلاً بديناً قصيراً ذو رأس صغير لا يتناسب مع بدانته وكان يمشي متمهلاً وعلي وجهه إمارات الدعة .... تهلل وجه سميرة و هرولت صوبه قبل أن يبلغها ومدت يدها في صمت في البدء وعلي وجهها إنكسار عظيم ... لم يأبه الرجل بها وواصل سيره كأنه لم ير شئيا علي الإطلاق حتي تخطاها تماماً ، لحقت به ثانية وهي تتمتم هذه المرة بصوت خفيض يكاد يكون باكياً ( أنا جائعة جداً يا عمي ... لم آكل شيئاً ) فأنتهرها الرجل بصوت غليظ ودفعها بيده بعيداُ عن طريقه كما يهش المرء ذبابة ملحاحة وواصل سيره ... تعثرت ( سميرة ) وكادت أن تقع علي الأرض لكنها تمالكت نفسها في آخر لحظة وتفادت السقوط .... وحين رفعت وجهها كان ظهر الرجل البدين منتصباً أمامها كجدار عريض وهو يوسع الخطي إلي الأمام – همت باللحاق به من جديد حين لمحت الحجر علي الأرض والتمعت في ذهنها الفكرة فجأة فلم تتردد ... تناولت الحجر وفي اللحظة التالية كان الحجر قد حط علي الظهر العريض أسفل الرقبة تماماً وأنطلقت الصرخة وقبل أن يستدير الرجل كانت ( سميرة ) تركض كأرنب بري وهي تلوذ بالفرار وعلي وجهها الصغير إبتسامة ماكرة .
عندما ابتعدت عن البدين بما يكفي وغاب عن بصرها وجهه المكتنز المنتفخ الأوداج وهو يهرول خلفها .... عندها توقفت سميرة لتلتقط أنفاسها. كانت جائعة فأمست جائعة ومتعبة وظمآي وفوق ذلك خائفة ، فقد كانت مؤقنة تماماً أن ذلك الرجل لو لحق بها أو وقعت عيناه عليها ثانية سيدهسها دهساً كما تدهس شاحنة قطة او كلبا عابرا ... لكن الشارع كان خالياً تماماً ....فتسللت إليها بعض الطمأنينة وعندها بدأت الامعاء تتلوي ثانية فألتمعت دموع في العيون الصغيرة و هرولت سميرة الي الأماموهي تدير البصر في كل الاتجاهات وعندها لمحت عيناها شئيا فأعادت النظر من جديد ، ثمة طاولة خشبية عتيقة يقف أمامها رجل ما و خلفها رجل آخر و كان النقاش دائراً بين الاثنين عندما تسللت سميرة في سكون نحو هدفها و يدها تقترب في حذر .... تقترب حتي أمسكت أصبع الموز في يدها الصغيرة ولكنها عندما ارادت استعادتها لم تستطع ، شيء يشبه مقبضاً حديدياً كان مطبقا على يدها الان بقوة و قبل ان ترفع الرأس الصغير لترى صاحب القبضه الحديدية هوت على الوجه لطمة قويه و دارت الدنيا بسميرة .... لم تعد تري شيئاً و لكنها سمعت عبارات الاحتجاج الغاضبة من شخص ما و لم تكن العبارات موجهة لها بل كانت موجهة لصاحب القبضة الحديدية واللطمة ... تراخت القبضة رويداً رويداً عن يدها و بغتة عادت اليد حرة تماماً ... لم تكن تفكر في أكثر من القرار والنجاة بجلدها فأستدارت لتركض ولكن اعترضتها يد أخري رقيقة و عندما رفعت البصر لتنظر إلي صاحبها فوجئت بأن أنفها ينزف بغزارة و الدم في كل مكان ... امتدت اليد الرقيقة و شرعت في مسح الدماء و سمعت صوت صاحبها ينتهر البائع من جديد قائلا أسرع بالماء أيها المتوحش ) فوقف البائع كالابله لبرهة يسيرة فاغراً فاهه في تعاسة فإرتفع الصوت الآمر مرة أخري فهرول البائع كالمسوس و باياد مرتجفة تناول كوباً من الماء قدمه لصاحب النيرة الآمرة ، كانت سميرة تبكي ، سميرة صغيرة لكنها لا تحب البكاء خاصة إذا كانت الدماء تسيل منها فأخذت ترتعش و اليد الحانية تروح وتجيء علي وجهها بلطف وهي مستسلمة في سكون و كانت دموعها تتزايد كلما مستها اليد الرقيقة فسميرة لا تتذكر متي حدث لها مثل ذلك من قبل ، تتذكر فقط أنها تجول في الشوارع فتطاردها الشتائم ( ايتها المتشردة القذرة ) ... ( أيتها اللصة ) ... ثم الصفعات .... ثم الركض بأقصي ما تستطيع بعيدا عن الأيدي الفظة وعندما تتوقف تري طفلاً يقوده أبوه و عندما يمسح الأب علي شعره ويقبله ويبتسم الطفل في وداعة تبكي سميرة وتتساءل أن أبي ؟ تحاول أن تتذكرشئيا عنه و لكن الذاكرة الصغيرة ليس فيها سوي الركض والمطاردات ومشاوير التنقيب عن لقمة في أكياس القمامة ... لا شيء آخر ... وعندما ترهقها محاولات تذكر ملامح وجه ابيها وبدون ان تدري السبب تأخذ حجراً و تقذفه بإتجاه الطفل وتركض هاربة ،كانت سميرة تبكي بإصرارالآن فقد كانت تعلم أنها لو كفت علي البكاء فأن اليد الرقيقة ستكف عن العبث شعرها المتسخ وتكف عن ملامسة وجهها برقة ، لم تعد سميرة جائعة الان ، كان كل ما ترجوه إدامة تلك اللحظة الي اطول مدي ممكن، توقفت اليد عن العبث بشعرها وغابت قليلاً ثم عادت ممدودة باصبع من الموز ... هزت سميرة رأسها و عادت للبكاء بصوت أعلي فعادت اليد ملحاحة ممتدة بأصبع الموز و كانت جائعة فالتهمته و عادت اليد ثانية و ثالثة وسميرة تلتهم بشراهة ثم أستدار صاحب اليد .وأعطاها ظهره وبدأ في و سميرة مذهولة ويائسة والخطوات تبتعد ، سميرة تركض وتلحق بالرجل وتصرخ: ( خذني معك... أريد أبا ... )ثم شرعت في البكاء و تعلقت به بقوة فأارتسمت الحيرة علي الوجه ... صمت طويلاً ثم أخذ يدها وأخذ يسير وهي بجانبه ، كانت سميرة سعيدة و كان الرجل غارقاً في أفكار عميقة .... كان الشارع خالياً ... الريح لم تعد تولول ... حجارة الأرصفة كفت عن التململ ....و كان الكلب الضامر غارقاً في نوم عميق .... القطة تتمطي في كسل وعيونها ما تزال مثبتة عليه .
صلاح الدين سر الختم
شندي
1998م
المفضلات