مقاطع تائهة بين المتعة .. والضياع .. والفضيلة
( المقطع الأول )
ذات صباح ربيعي رائع .. شمسه اختبأت خلف غيوم تسكنها الخيرات المنتظرة .. ونسائمه هبت عليلة تكابد قسوة الأيام وترسم فى النفوس بسمة شوق تخفف عبء السمر الكادحين .. .. خرجت ليلي من دارها مسكونة بالفتنة والجمال .. ترسل عطرها الأخاذ ينفث فى الإنوف ذكريات ليالي العبث المنسية .. .. رأت طفلا يافعاً يقبع فى ركن الدار لا يعرف حلم الأطفال ولا يمارس لعب الأطفال .. ولا يجد للبسمة مجال .. دنت منه وبغنج ممجوج سألته عن أسمه فرد عليها بصوت مخنوق قتلته الأوساخ المتراكمة على وجهه المكحل بالعذاب .. " طلال " .. .. وكمن داس على جمر ندت منها آه مكتومة .. وكررت سؤالها .. ورد عليها بصوت أكثر انكساراً " طلاااااال " .. شريط الذكريات المكنونة فى الخاطر انبلج كصباح يوم جديد .. تفجر صدي الأيام فى النفس وكر سريعاً بين الحنايا يدغدغ الذاكرة التى ماتت من سهر الليالي فى العبث الماجن واللهو الصاخب فى الحانات .. .. تجمدت ليلي فى مكانها وعادت بمخيلتها للوراء أربعة سنين .. .. وطل من بين الغشاوة المرتسمة أمام عينيها وجه رفيقتها " دنيا " التى التقتها فى أحد الحانات .. جمعت بينهما رغبات مشتركة .. .. وعندما تنتهى لحظات المجون كانتا تجلسان تحكيان غدر الأيام ومرارة السنين كلٍ حسب تجربتها لتبرر خطأً من فعل النفس الأمارة بالسوء .. وترميان اللوم على الأقدار .. وتغتالان صحوة الضمير التى كانت تطعن فى النفوس من حين لحين ..
( المقطع الثاني )
" جميل " فارس امتطي صهوة الشهوات .. واسرج خيله يجوب الحانات .. الوجه يحمل الاسم ولكن قبح الفعل يزينه جهل الدواخل المعدمة الفارغة كمنطادٍ ارتفع بنارٍ وهمية .. التقى " دنيا " فى بيت عجوز كانت تسكن فى ضاحية المدينة الغربية تجمع الويل والأسية .. وتبني منازل فى رمل السراب فتسقط الحسان بين الأحضان مغشية .. .. .. الليل والجمال .. الفتنة وعنفوان الشباب .. والجهل والفراغ .. والماضي المرتكز على الضياع .. عندها يرتع الشيطان وتكبر الآثام .. وفى لحظة مسروقة من بين الإشراق ومن عمر العفة والأمان .. قد يولد إنسان .. وبالفعل كان " طلال " .. ..
( المقطع الثالث )
انكسرت ليلي أمام هذا السيل الجارف من الذكريات .. وأعادت النظر فى وجه طلال وحدقت فيه ملياً .. تبحث عن ملامح طفل .. وترنو للبراءة .. ولكن يرتد إليها البصر خاسئاً .. باكيا .. فالوجه سمج الملامح والبراءة اغتيلت فيه بالحرمان .. فكررت له السؤال : - أأنت طلاااال . - نعم . - هل تعرف اسم أمك .. لم يرد عليها .. فكررت السؤال مرة واثنين .. ولكن الطفل كجلمود صخرٍ ساكن لا ينبث .. وعندما كررت للمرة الثالثة .. انحدرت دمعتان على خده .. وتمردت طفولته .. وأرسل حجراً بيده الصغيرة إلى وجهها .. ولكن القدر تلطف .. .. وهرعت ليلي إلى حيث تنوي .. لترسم فى خارطة المهانة لوحة مموهة .. مخلوطة .. مشبوهة .. وآه آهٍ .. يا زمن العفاف ..
( المقطع الرابع )
هجم الليل .. يحمل بين طياته آهات المكلومين وأسرار المعذبين وأنات المتعبين .. وفى شقة على ضفاف النيل كانت ليلي بين الأحضان تتمرق .. وبين الفينة والأخرى يدور حوار .. وفجأة تقفز من سريرها وتصرخ .. " أأنت جميل " .. " أأنت جميل حقاً " ؟؟ .. ويرد عليها رفيقها مشدوهاً .. - ما بك .. هل تعرفينني .. - أتذكر .. " دنيا " .. نظر إليها باستغراب ولملم الملاءة حول جسده .. ورد بكل جرأة .. - أي " دنيا " تقصدين .. فمسيرة حياتي كلها نساء .. - أنت تعرف من أقصد .. اقصد رفيقتي " دنيا " - وكيف لى أن اعرف أنها رفيقتك فأنا أعرف أكثر من فتاة بهذا الاسم .. - تلك التى التقيتها فى بيت ( سميرة ) فى الضاحية الغربية .. - " بصوت أكثر غضباً " دعى عنك هذا الهراء .. فلم نأت هنا لنحكي ذكريات - يجب أن تخبرني .. - أسمعي لا أسمح لأحد بأن يكلمني بهذه اللهجة .. إن شئت نكمل .. وإلا فانصرفي .. - لماذا لا تريد أن تعترف .. لماذا لا تريد أن تقول .. أرجوك .. أرجوك .. أرجوك .. " وارتمت على السرير تبكي وتصرخ "
( المقطع الخامس )
الظلام يسكن فى أعماق النفس المملوءة حقداً على المجتمع الراقد فى أحضان النسيان والمسافر فى طرق التشتت والأوهام .. تلك النفس المتشبعة بالتعفن الذي تراكم عبر الممارسات .. ومات فيها الضمير .. واصبح الفحش والعهر الملاذ .. .. وكثيراً ما يهرب صاحبها من واقعٍ أليم .. وتتبخر لحظة المتعة كما تبخر " جميل " فى ذلك الليل الكالح السواد وأسرج جواده يبحث عن غانيات الحانات وعن بقية أحضان ولدت من رحم المأساة .. وترعرعت بين الركون والرذيلة .. ومضى فى سفره .. وترك ليلي ترفع رأسها لترى نوراً لم تعهده .. .. ويموج بداخلها إحساس لم تعرفه .. واندفعت وهى لا تلوي على كبح جماح ساقيها .. وأسلمت النفس للطريق فهي لا تعرف كيف تعاندهما .. .. - أهلاً وسهلاً .. تفضلي - شكراً .. أنا آسفة للإزعاج والدخول بهذه الطريقة المزعجة .. - لا .. لا داعي للأسف فأنا هنا لخدمة المجتمع .. ويبدو أنك تعانين من مشكلة .. - " تلعثمت وترددت ثم نطقت " حقيقة وباختصار .. هل لى أن أكون أماً بديلة .. - هذا أمر يسعدنا .. فقط نطلعك على بعض الأوراق ونطلب منك بعض الإثباتات .. - سأشرح لك باختصار سيرتي .. وأطلعك على كل أسراري فقط لى طلب واحد أتمنى أن أحققه حتى يكون لي بداية حياةٍ جديدة .. - تفضلي .. وأنا كلي أذن مصغية ..
( المقطع السادس )
الليل والصباح .. الطهر والمجون .. الضوء والظلام .. الصحو والضباب .. إنها الأضداد واقع محتوم وقدر مكتوب .. وفى داخل النفس تتصارع المتناقضات فى بوتقة الذات وتتفاعل لتولد لحظات تُحرك الخطى وتحكم السلوك .. .. وما بين الشروق والمغيب الغسق الكامن بين الاثنين حيث كانت تتحرك الرغبات الآثمة وتبدأ الخطوات .. وكما للدرب بداية .. .. .. لابد من النهاية .. .. .. ولكل ليل بهيم صبح جميل .. وما أروع صباح النفس عندما تشرق بالضياء الذاتي وتغتسل بماء الورد المسكوب من روح الجنان وتفوح عطراً ملائكيا .. وتنشر الوئام .. وتروي العروق بالمحبة والإحسان وترفع الأكف دوماً للتوبة والغفران .. .. وما بين هذا وذاك ولدت " ليلي " من جديد .. وبدأت تمخر فى عباب بحر مضيء وقررت أن تكون .. وأن تفعل ما يجب أن يكون .. لتغفر ما قد كان .. واندفعت .. وقطعت الطرقات .. وطوت المسافات من غير أن تدري .. ولم تحس إلا وسيارة الأجرة تقف أمام باب كبير كتبت عليه لافته بالخط العريض ( قرية رعاية الأطفال المهملين والأيتام ) .. .. دلفت إلى داخل الدار .. وقصدت باباً عرفته قدماها .. حيث كتبت بداخله مولد الإبحار إلى دنيا الوعي والحقيقة .. وبداية قصةٍ جديدة .. - تفضلي بالتوقيع .. - انشاء الله .. - نتمني ان لا تنقطع زيارتك - أكيد .. وفى عرض الطريق كانت تسير .. تكاد تطير .. وترسم فوق الرمال بداية عهد جديد .. وغرس جديد .. وطهر جديد ولد من عمق ليل طويل .. .. وتحس بعنقها يطاول هامات الجبال .. وتمسك بيمناها " طلال " .. .. تسرع الخطي لتكتب المحال حقيقة وتبدأ الفضيلة .
عصام عبدالرحيم
عصام الدين أحمد عبدالرحيم تابر
المفضلات