"موعـــــــــد وقــــــــدر"
لم تكن صالة القدوم بالمطار تخلو من الضجيج بالحضور والمودعين والقادمين
والذاهبين فأصبحت برغم رحابتها أضيق من سم الخياط .. مما تسربت معه
متعتي بما يغمرني من المتداخل من الأحاسيس التي تطغى عليّ عند ولوجي
المطارات عموماً وخصوصاً صالات المغادرة ... ويجوز أن يكون قد عزز
تسرب هذه المتعة القلق الذي يعتريني حيال الانتظار .. أنا بطبعي أكره
الانتظار.. كنت أترقب القدوم غير المؤكد لأحد الأصدقاء... وكنت أتمعن في
تفاصيل كل الوافدين من الوطن ... حتى أرى هذا القادم قبل أن يراني ومن ثم
أكوّن له تفاصيل مفاجئتي باستقبالي له ... تدفق القادمون على الصالة وبدأت
تتداخل ملامحهم في مخيلتي .. فغمرني إحساس عميق بأن بيني وبينهم معرفة
مسبقة ...يجوز أن يكو ذلك لطول غيبتي عن الوطن أو لأن لا زال برئتيهم
بعض من هواء الوطن الدافئ يتنفسونه فاستنشق أنفاسهم ومن ثم أشعر بإلفة
حميمة تجاه كل الحضور ... لم يظهر صديقي وأنا أحدق في أمواج القادمين
ومن بينهم برز لي وجه ليس بغريب على ذاكرتي المعطوبة .. ومن دهاليز
ذاكرة خربة تفج طريقها نحو حضوري الذهني تلك العينين الواسعتين
...والهدوء المطلق لجمال موروث ... خالي من أي اجتهادات عصرية ...أو
صرف غير مبرر لإبراز محياه الجميلة، كانت في مقتبل العمر .. تعلن هيئتها
ومن الوهلة الأولى بأنها وليدة عرس لم يتجاوز الأسبوع من عمره ... بدأت
أراقبها بهدوء وبالمقابل بدأت هي تبحث في وجوه المستقبلين بتركيز مرتبك ..
بدأت لي وكأنها من فقد العالم ذات صباح فأمسى يبحث في الحطام عن علامات
للتعرف على مكان ما ... عبرت بنظراتها وجوه كل الحضور بقلق مكثف وبين
كل وجه والآخر كانت تنتظر برهة ..لترى ردة الفعل وكأنها تبحث عن شفرة
مشتركة تحل طلاسم تلك النظرات القلقة ... جاء دوري فلم أعفى من هذا المد
البصري الشامل .. وحينها هتفت باسمي ... وغمرتها فرحة واضحة لفتت انتباه
كل من حولي .. هتفت وكأنها عثرت على كنز ما برغم تعقيد الخريطة وضيق
الفرصة الممنوحة ... صافحتني بحرارة ... وصافحتها أنا بحرارة أكثر ...
متجاوزاً كل شكوكي تجاه أني أعرفها أم لا .. بادرتها بسؤال لا يخلو من مكر
لا زلت تذكرين أسمي برغم طول المدة وتغيير الملامح؟ ... فردت في فرح
وتلقائية لا زالت ملامحك كما هي لم تتغير كثيراً ... وواصلت حديثها ضاحكة
ببراءة أتذكر آخر مرة تقابلنا فيها أو بالأصح آخر مرة تفارقنا فيها ... !!! وهنا
زحفت إلى ذاكرتي تفاصيل باهتة وكأنها آتية من عميق أغوار سحيقة .. ولم
تمهلني للإجابة وواصلت .. في مجمع المحاكم ... حين سلمتني ورقة طلاقي
بعد مجهود مقدر بذلته لأجلي في تلك القضية... فكنت لحظتها وكأنك سلمتني
عمر جديد .. وأسدلت الستار على تفاصيل حياة تعيسة ولجتها بترتيب قدري
محكم لا يد لي فيه، أوصدت لي باباً من نيران وفتحت لي آخر ينبئ عن ميقات
فرح قادم، وأهديتني سعادة عمر بأكملها ... وتسألني إن كنت لا أذكر أسمك أو
أن أغيب ملامحك ... هذا أقل ما يمكن أن أقدمه لك .. !! حينها عادت بي
الذاكرة بوضوح إلى أيام تخرجنا من الجامعة والتي لم يمضي عليه كثيراً
وقتها... وبدايتنا العملية في أروقة المحاكم كمحامين تحت التمرين لا زالت
حماسة التخرج ملتهبة في دمائنا ... انتشلني الصوت الآتي من مكبرات
الصوت بالمطار يعلن عن تأخير رحلة ما .. لأنتبه فجأة بأنني في ساحة المطار
وليس في ساحة المحكمة .. فباغتها بالتهنئة .. ألف ألف مبروك ... يبدو عليك
الآن أنك عروس وفي بداية المشوار ؟!! نعم ويفترض أن يقابلني زوجي هنا في
المطار .. ولكني لا أراه الآن بالإضافة إلى أننا لم نرى بعضنا أصلاً إلا عن
طريق الصور ... وشريط الفيديو (عرس مغتربين) .. فقلت لنفسي هامساً إنها
بداية المشكل إذن !!
اقترحت عليها أن تعطيني صورته حتى أتمكن من تقديم المساعدة لها ... على
الأقل أني أستطيع التمعن بجراءة في وجو الشباب .. وقد حالفني الحظ في
العثور عليه ... وهو يخطو أول خطواتها داخل الصالة ويلتفت يمنة ويسرى
حاملاً صورتها في يده اليمنى وناظراً إلى ساعته في اليسرى... فيبدو أنه لسبب
ما قد جاء متأخراً عن موعده قليلاً ... فتعرف عليها هو أيضاً من خلال
صورتها التي كانت معه .. وبعد أن تصافحا بشوق ومرح منتصر تكفلت هي
بواجب التعارف بيني وبين العريس أي زوجها ... قائلة وبصورة رسمية لا تخلو
من الاعتزاز هذا هو الأستاذ الذي حدثتك عنه سابقا .. عبر الهاتف .. فأمن هو
من جهته على ذلك بإيماءة من رأسه ... وعرفني بنفسه طارحاً أسمه الرباعي
على والذي لا يخلو من إيقاع للشهرة .. مضيفا إلى ذلك اسم مدينته وحيه ... ثم
أشار نحو عروسه في مرح .. وزوج هذه المدام ... وأنا مثلها أيضاً كنت
متزوج من طبيبة كانت زميلتي وانفصلت عني لأسباب خاصة بها ... ولحظتها
كانت المفاجأة بالنسبة لي فهو ذات الاسم والشخص الذي كسبنا ضده حكم
غيابي بالطلاق لإحدى موكلاتنا في آخر عمل لنا بالوطن ... فاستأذنتهما عذراً
بالانصراف نسبة لضيق وقتي ... وتبادلنا أرقام الهواتف كعادة المغتربين
وانصرفت متعجباً لترتيب الأقدار .
أبريل 2000م
"كتب ونشر برغبة العروسين"
المفضلات