...حنتوب الجميلة
كانت في زمانها مثل جامعة (أوكسفورد) ذيوعاً وصيتاً.. دخلناها دخول الظافرين بعد منافسة حامية الوطيس. ففرص الدخول للثانويات العريقة لم تكن مشرعة الأبواب في ذاك الزمان. المذاكرة في المدارس الوسطى بلمبات الكيروسين. الكل يتأبط لمبته وينتحي مكاناً شرقياً في فناء الداخلية وفول العشاء كان طاعماً والجبنة في أول ظهورها لم تعرف بعد طريقها الى الفول والداخليات. كنا والبنطون يمخر بنا النهر منها أو إليها نحس بزهو عجيب وإذا عدنا لأهلنا في الإجازات نمشي الخيلاء. هي جميلة بحق وهي من جنان الله في الأرض:
للنيل باقية شامة
والهدهد علامة
ومنسق نظامة
وفي تقدم دواماً
ود القرشي
أخبرني الفنان الراحل الخير عثمان أن اغنية حنتوب الجميلة كتبت ولحنت في بضع ساعات في الأمسية التي سبقت احتفال المدرسة بيوم الآباء. (جاءنا بمدني كعادته الشاعر المغني الفذ ود القرشي فتحلقنا في تلك الأمسية حوله احتفاءً وترحيباً نستمع لجديده من الشعر والألحان. كان ذاك بمنزل صديقه ضابط البلدية.. صدح وصدحنا بالأغاني الجديدة وقطع علينا الفناء ضابط البلدية يخبرنا أن احتفال حنتوب في الغد ولابد من مشاركة.. فصمت ود القرشي لهنيهة ثم تغني (حنتوب الجميلة.. الجميلة الجميلة) وطفق يؤلف ويلحن وأنا أردد بعده.. وفي أمسية الغد أعتليت مسرح حنتوب أشدو بحنتوب الجميلة.
هنا فيها الآداب
وهنا فيها الشباب
والعامل لوطنه
ما داير ثواب
تلك كانت أيام. جاءني بمكتبي الأسبوع الماضي شخص مهذب يمشي على استحياء يتأبط مخطوطاً فريداً عن حنتوب وذكرياته القديمة بها.. الأستاذ النور موسى العظيم الذي عمل أستاذاً للفنون بحنتوب في الفترة من عام 1973 _ 1978، أهاج كتابه الذي احتشد بالكثير من الصور الفوتوغرافية للمدرسة والعاملين القدامى بها الحنين الى زماننا بحنتوب:
منظرها البديع
ما أروع جلالو
تعجب حين تزورو
وتجلس في ظلالو
جاء هذا الأستاذ لحنتوب بعد زهاء ثمانية أعوام من فراقنا لها وحين فارقها الشاعر الفذ حميدة أبوعشر صدح: (وداعاً جنتي الغناء وداعاً معبدي القدسي) قلت لصديقي أحمد طه إن شدا الكاشف بقصيدة من تأليف نجار المدرسة من الطبيعي ان تتغنى كوكب الشرق أم كلثوم بقصيدة من تأليف رئيس شعبة اللغة العربية الهادي آدم.
كان ذاك عزيزي القارئ زمان العمالقة..
في عام 1947م اكتمل بناء حنتوب وفي حشد بريطاني سوداني مهيب يتقدمه المستر هدلستون حاكم عام السودان والمستر س. و. وليامز مدير المعارف تم افتتاح المدرسة الثانوية التي أضحت في مقبل الأيام الأكثر شهرة وذيوعاً في السودان وخارج السودان تم تعيين المستر لي براون كأول ناظر للمدرسة ثم توالى على المنصب عقد من التربويين نضيد:
1- أحمد بشير العبادي
2- حسن أحمد الحاج
3- أحمد حسن فضل السيد
4- هاشم ضيف الله
5- عبد الباقي محمد
6- محمد صالح محمد
7- توفيق أحمد سليمان
8- الأمين كعورة
9- محمد أمين فرحات
وغيرهم من أساطين التربية ببلادنا، وقد حضر أبناء جيلي فترة الناظر أحمد حسن فضل السيد وقد خلفه لفترة قصيرة الناظر ونجت برسوم ثم جاءنا الطود الشامخ هاشم ضيف الله وكان ضمن أساتذتنا عدد مقدر من الأساتذة البريطانيين أذكر منهم مستر مور ومستر أسبيد ومستر تينتون ومستر روشستر ومن بين السودانيين الأساتذة الأجلاء الهادي آدم، محمد سعيد القدال، إبراهيم الزين صغيرون، حمد النيل الفاضل شيخ الجاك، عبد الرازق الطيب، محمد الشيخ مدني، وقد جاءنا محمد الشيخ يافعاً لا يزيد علينا عمراً إلا قليلاً وكان كمبيوتراً بشرياً ماشاء الله في الرياضيات من العسير متابعة الحصة خاصة لأمثالي الذين يمقتون الرياضيات ويداومون فيها على السقوط. وقد سأل حسين خوجلي أستاذنا محمد الشيخ عن أدائي في الرياضيات فأجاب: كان بليداً في الرياضيات والتقيته بعدها وابتدرته: يا أستاذنا الفضائح شنو؟ ألم أكن مبرزاً في الأدب العربي والإنجليزي؟ أجاب إجابة رياضية قائلاً: (السؤال كان محدد). وعلى ذكر الأساتذة الذين تعاقبوا على حنتوب لابد لي أن أشير الى القامات السامقة الأولى التي تشرفت بها المدرسة:
- الأستاذ أحمد محمد صالح الشاعر الضخم وصاحب نشيد العلم.
- الأستاذ النصري حمزة
- الأستاذ نصر الحاج علي
- الأستاذ عبد الحليم علي طه
- الأستاذ أمين زيدان
- الأستاذ السني عباس
- الأستاذ عبد العزيز العتباني
- الأستاذ ادريس البنا
فتأمل بالله عليك هذه الشخصيات التي خرجت من هناك للمناصب الرفيعة مثل مدير جامعة الخرطوم ومجلس السيادة والوزارة وغيرها. كان ذلك زمان العمالقة. وعلى ذكر أستاذنا الجليل المستر مور أشير الى موضوع مؤثر حدث لي معه من حيث لا يدري فقد كنت ضابطاً في أوائل التسعينيات لبلدية ود مدني جاءني منه خطاب معنون. ضابط بلدية ودمدني. دون أن يدري ان الضابط أحد تلاميذه يقول فيه أنه كان استاذاً في الستينيات بحنتوب وهو وزوجته الآن في استراليا في المعاش ويذكر ان له ابنة توفيت وعمرها عامين بلدغة عقرب بحنتوب وقبرت بالمقبرة المسيحية بمدني ويفيدني برغبتهم هو وزوجته للحضور لمدني لنقل رفاتها ورسم لي خارطة بموقع قبرها واسمها عليه. ولقد أحزنني وأثرني كثيراً خطابه وبذلنا مجهوداً للعثور على القبر الذي عفت عليه السنوات والسوافي ولم تظفر به فكتبت اليه خطاباً عرفته فيه بأنني أحد تلاميذه وأفدته بعدم عثورنا على مكان قبر ابنته وأبديت له ترحيبنا بهم إن رغبوا في الحضور الى ودمدني. فانظر الى وفاء البعض في هذه الدنيا الفانية، رجل وزوجته في عمر التسعين يتذكرون ابنتهم بنت العامين التي رحلت عنهم في قلب أفريقيا.
كانت حنتوب ورصيفاتها طقت ووادي سيدنا في مصاف الجامعات العريقة والذي ميز تلك المدارس النظام البريطاني الحديدي الذي يقوم على الوقت. ليس هناك دقيقة تهدر دون منشط، حتى النوم يعد من النشاطات له ساعة يقرع فيها الجرس وتطفأ الأنوار، وما ميزها أيضاً جمعها للطلاب من كل فجاج الوطن بما يرسخ مفهوم الوطن الواحد والوحدة.. والوحدة ليست شعارات ولا خطباً سياسية ولا قصائد، ولكنها المعايشة بأن تضم الداخلية أولاد الشرق والغرب والوسط والشمال والجنوب باختلاف أعراقهم وعاداتهم. كان معنا أيضاً ابناء حضرموت والصومال وإثيوبيا ومنهم من شغل ببلاد ه منصب الوزير. والسؤال: من ألغى تلك المدارس السودانية العريقة ولماذا؟ هل ضاقت على كليات التربية أرض المليون ميل مربع؟
يتحدث مؤلف كتاب حنتوب عن منصة جرس حنتوب الشهيرة وعن المسرح وميادين الرياضة والداخليات والأزاهر والاخضرار وعمال المدرسة وأشهر الخريجين والجرس الشهير الذي اشتهر به عمنا مصطفى جرس عامل قرع الجرس جئ به من الحرب العالمية الثانية ومن دقة عمنا مصطفى جرس وخبرته الطويلة انه كان يقرع الجرس دون ان ينظر لساعته أو ساعة المدرسة. وقد تبقى من عمال مدرستنا المشاهير على قيد الحياة أعمامنا الصول محمد محمود صول التدريب العسكري والريس عبده سائق رفاص المدرسة، وقد بلغ عمنا محمد محمود سعد الـ 91 وما زال بقامته الممشوقة الرياضية ووقفته العسكرية أطال الله في أيامه.
يزعم الأستاذ النور موسى مؤلف كتاب حتنوب إن رئيس الوزراء البريطاني براون هو ابن مستر براون ناظر حنتوب الشهير، ومنزل مستر براون هو المنزل نمرة 10 وتم ترقيمه هكذا على غرار رقم مقر رئيس الوزراء البريطاني في شارع (داوننق) بلندن وإن صح قول مؤلف الكتاب ان براون ولد بالمنزل رقم 10 بحنتوب يكون من صدف الحياة ان يحتل براون الآن (داوننق استريت رقم 10).
والحديث عن حنتوب وذكرياتنا بها يطول ولا يحيطه مقال واحد، وأعد القراء بمقال ثانٍ أفصل فيه عن أشهر أبناء جيلنا وأشهر خريجي حنتوب.
جريدة السودانى