مشاهدة النسخة كاملة : الكهوف السحرية ( كيف بت كاتبا)/ سيرة/ صلاح الدين سر الختم على
صلاح سر الختم علي
16-08-2014, 10:23 AM
صغيرا جدا كنت حين أنبتت لى جدتاى عليهما رحمة الله أجنحة من الخيال بحكاياتهما المسائية عن فاطمة السمحة والغول القبيح نتن الرائحة الذى خطفها ثم نام متوسداً ضفيرتها،وعن كهفه البعيد المظلم ، وعن حسن وحسين (أولاد عيسي الاتنين) الذين ظلت فاطمة السمحة تستغيث بهما وتناديهما بصوت رخيم عذب تقلده الجدتان وتتفننا في ذلك:
ياحسن وحسين اولاد عيسي الاتنين أنا الغول اكلنى
فيجيبها الصدى:
حسين جمال أنا البرد كتلنى...
تتوالى فصول الحكاية، ارانى حسن وحسين وهما يجولان فى الغابات ويعبرا بجواديهما الجبال ويحلقا فوق أعلى الأشجار وهما يحملقان يمنة ويسرة بحثا عن فاطمة ويصرخا وهما شاهران سيفيهما، فتتوارى الوحوش وتهرب من أمامهما،واسمع معها صوت فاطمة ضعيفاً خافتاً باكياً تحمله الرياح من الجهات الأربع. كنت انتظر غروب الشمس بفارغ الصبر حتى أهرول مسرعا الى تلك الغرفة الصغيرة التى تقيم فيها جدتاى بالتناوب فى رحلتهما السنوية بين مدنى وابوهشيم،أهرع الى الغرفة الصغيرة حيث التهم أشهى وجبة تنتظرنى فى كل ليلة،أحبس أنفاسى وتتعلق عيونى بشفتى الجدة وعروق رقبتها النافرة، يبدو سريرها المصنوع من الخشب والمنسوج بالحبال عرشا جميلا لملك عظيم من ملوك حكاياتها، وتبدو الغرفة بأكملها كهفا أسطوريا عابقا بالحكايات، ويبدو النمل الماشى على الارض الترابية مستمعاً مثلى للحكايات يجلبه الفضول مثلى فلايغيب أبداً، قد تتكرر الحكاية مراراً ولكن الجدة لاتسردها أبدا بذات الكيفية، بل تقدم وتؤخر وتحذف وتضيف كيفما شاءت، وتغنى بصوت منغم جميل اثناء الحكى غناءً يتبدل هو الآخر، وفى كل مرة يكون للحكاية تفاصيل جديدة لم ترد قبلاً، فتبدو الحكاية حكاية جديدة فى كل ليلةومختلفة عن سابقتها، الأبطال هم نفسهم، والأشرار هم نفسهم، والتشويق هو نفسه، لكن الحكاية تتجدد مثل العصافير على الشجر فى كل أمسية وتنبت لها أجنحة جديدة فى كل مرة تحكى فيها الحكاية.لم أكن املك جدة واحدة، بل اثنتان: زينب بنت الحاج جدتى لأمى، وفاطمة بنت خادم الله جدتى لأبى،كانتا تتناوبا الحضور إلينا من بلدتنا ابوهشيم القابعة أقصي الشمال، يحمل قطار(الصعيد) هذه الينا ويعود بتلك القطار العائد(قطار السافل)، فكنا نحظى بحكاياتنا دائما، وكان من حسن حظنا أن كلا منهما كانت مجيدة للحجى ونظم الشعر والغناء به وذات مخيلة واسعة وذاكرة عامرة بحكايات الناس والنخيل وأنفاس المكان،جدتى والدة أبى كانت امرأة طويلة القامة، جميلة الملامح، لها شلوخ صغيرة على وجنتيها، عيونها واسعة لاتشعرك أبدا بأنها ضريرة،بيضاء اللون بياضا نادرا في أهلنا، شعرها طويل لكنه بات بلون الفضة من فرط ماغزاه الشيب،كانت أسنانها البيضاء القوية المنتظمة تعطيها ألقا وشبابا وهى فى التسعين فتبدو أصغر من ذلك كثيرا،كانت ذات شخصة فريدة، فهى بالرغم من كونها ضريرة،إلا أنها استطاعت بألق روحها أن تنسج من الظلام المحيط بها ضوءا كاشفا بددت به وحشة الحياة من حولها، وجعلتنا ننجذب كالفراش إلى كهفها السحرى فى كل أمسية،كانت ترى بخيالها عوضا عن عينيها فتسافر بنا بعيدا بخيالها الخصب وشعرها الجميل المدوزن الذى يضفى على السرد حيوية وسحرا،كانت ضريرة لكنها أنبتت لنا أجنحة حلقنا بها بعيدا خارج الغرفة الصغيرة والبيت الصغير القابع فى حى عمالى صغير فى ودمدنى، حلقنا عاليا مع خيالها الخصيب وروحها النورانية، نرتاد قصور الملوك الظالمين والعادلين، نسمع قعقعة السيوف وشقشقة العصافير،نرى الغابات الجميلة والمخيفة، نرى وحوش الغابة أسودها وثعالبها وغزلانها،نغوص فى البحر ونرى أنياب التماسيح بارزة ، نتعرف معها على حيوانات الغابة قاطبة وتماسيح البحر وحيتانه التى تتكلم، ونتعرف على أحلام الأطفال تحدثنا عن الفقراء الطيبون والأشرار القساة،والشجاعة والجبن،وكانت قادرة دوما على ان تجعلنا جزءا من الحكاية واختيارنا دوما هو نصرة معسكر الخير، كنا فى خيالنا نسرح فنحمل سيوفا لامعة ونتقمص دور حسن وحسين ونبحث عن فاطمة وحين يجيئنا الغول فى أحلامنا نطعنه عشرات المرات بسيوفنا فى عينه الواحدة المظلمة ككهف ونصحو مفزوعين مبللين بالعرق في الشتاء. أما جدتى بت الحاج فهى كون آخر من الوسامة بحجمها الضئيل وعودها الضامر ولونها الذى يسميه أهل السودان خدرة وهو الى لون الطين أقرب،فكلما وطأت أقدامى جرفا أخضرا نظرت الى تربته السوداء حيث لازرع يغطيها وقلت لنفسى هذا لون وجنة حبوبة زينب بت الحاج، وكانت هى نفسها محبة عظيمة للجروف والطين والنخيل،أتذكرها وهى تلبس مركوبا احمرا جديدا وثويا ابيضا وهى متحكرة فوق حمارتها ضئيلة الحجم مثلها وهى فى طريقها من أبوهشيم الى الجزيرة أرتل فى رحلتها السنوية لجمع الحقوق، مبتسمة متأنقة كعروس ليلة عرسها، وتلك الوجنة الصغيرة تنكشف عن نونة صغيرة مثلما ينكشف الفم عن أسنان متصدعة فيبدو خاوياً،كانت جدتى حين تكون سعيدة وهو حالها الغالب دوما، تبرز وجنتاها فى شكل نتوء صغير للداخل وتبرق عيناها الصغيرتان،كانت هى الأخرى مخزن حكايات لاينضب، وصاحبة صوت جميل يعلو دوما بمدح الرسول الكريم فهى مستمعة جيدة وحافظة لكل مديح اولاد حاج الماحى محبى الرسول، وكانت شاعرة مجيدة لها أشعارها وأغلبها في مدح المشرق ذلك التمر الذى اشتهر به اهلها الرباطاب واحبته هى فلايغيب عن مجلس قهوتها المنعقد مرتين في اليوم الواحد ضحى وعصرا بطقوس خاصة وفريدة أهمها ارتفاع عقيرتها بالمديح والترحم على اجدادها وابائها الراحلين وممارسة هوايتها المفضلة التى تكسب منها عيشها بالاضافة الى الحقوق الموروثة( وتلك الهواية هى ضفر السعف وصنع المصنوعات المحلية منه سواء كانت قففا( سلالا) من السعف أو بروشا للصلاة أوغيرها.كانت تشعل نارها وتقوم بقلى البن حتى يسمر لونه،ثم تمرره على الجالسين لينعموا برائحة البن ودخانه، ثم تقوم بسحنه عن طريق الفندك الصغير ويد الهون، ثم تخلط البن بالماء المقلى المخلوط بالجنزبيل، وتدور الأقداح الصغيرة دورات منتظمة لكل دورة أسم يميزها( البكرى) و(التنى) و(البركة).كانت جدتى تبدو ملكة فوق عرشها تحيط بها رعية محبة تنهل من معينها كما ينهل الناس من نهر عظيم لايعرف التوقف، تبدو جدتى فى تلك اللحظات شيئا خالدا لايفنى أبداً، كنت ألمح المحبة لها في وجوه كل المحيطين بها وفى حرصهم على عدم الغياب عن مجلسها الصغير الذي يكون مقره برندة صغيرة ضحى والحوش الوسيع تحت الظل عصرا، لازلت أشم رائحة ذلك البن وأرى دخانه المتصاعد حول وجه جدتى الصغير وأرى عيونها تبرق كقطة ماكرة فى سعادة من ملك الكون كله، أنظر الى الشرقرق المصنوع من الألمونيوم وهو تعلوه ليفة صغيرة تمنع سقوط حبات البن الدراش التى لم تسحن جيدا الى الفناجين،أنظر الى صحن العجوة الصغير، حبات العجوة الحمراء المغسولة التى تذوب في الفم كالحلم والوهم، لايبقي منها سوى طعم لذيذ وشوق الى المزيد.لم يكن الناس يهتمون كثيرا فى ذلك الزمان بالملاءات والمراتب، كانت العناقريب الصغيرة وسيمة ساحرة بحبلها المنسوج عليها بلا غطاء ولامرتبة، والأوانى عادية وبسيطة مثل ناس ذلك الزمن،وجميع الادوات صناعة محلية خالصة، وكورة الطلس حاضرة والمياه من الزير الساقط نظيفة لامعة تقدم بلا وسيط يحملها فهى تحمل على كوز من الزير مباشرة للضيف،كانت جدتى زينب مزهوة بتاريخ أجدادها وشجرة عائلتها زهوا لايفوقه شئ إلا محبتها للرسول الكريم وآل بيته الذين سمت عليهم كل أولادها وبناتها والأحفاد الذين حظيت بحضور ميلادهم،لذلك تفهمت جيدا تلك الدموع التى غشيت وجه أمى بعد اكثر من ربع قرن من رحيل جدتى زينب حين وقفت أمى في بيت الله الحرام ونظرت من عل للطائفين بالبيت العتيق ومسحت دمعها وهى تقول(..قادر الله..كل دى أمة سيدنا محمد؟.. ياحليلك يا أمي الما بليتى شوقك للرسول....) ثم صمتت وأخذت تهمهم فى سرها وتدعو دعاء طويلا.كانت الجدتان حريصتان حرصا ظاهرا على إعارتنا ذاكرتيهما وماتفيضا به من محبة للمكان وتراثه وللجذور، لذلك كنا نرى عبر سردهما كل مافاتنا من مشاهد ومشاهدات ومن حياة اندثرت وغابت فى البعيد، ونرى كل تفاصيل المكان الذى جئن منه كأننا قاسمناهن الحياة فيه، كانتا تعرفان أننا ننتمى الى جيل مختلف نشأ بعيدا عن جذوره ولايعرف شيئا عن تلك الأمكنة، فأرادتا نقل كل معارفهن عن المكان والإنسان الذى يشغله إلينا وإرضاعنا حليب الحب له، كن بأصواتهن الدافئة ينقلن محبتهن للمكان وأهله حيث حبون ونشأن فى تلك البقعة الصغيرة فى شمال السودان التى بدأت تنأى عنهن وعنا، وكانت تلك جرعة أولى من جرثومة الكتابة والسرد أخذتها صغيرا وأمتلأت بالأسئلة حول اسباب ذلك الحب وتلك الرغبة فى مشاركة ذلك المكان وتلك الصور البصرية والسمعية الجميلة، كانت جرعة أولى مهمة عن طرق السرد والقص وأساليب التشويق والإيقاع المحكم، كانت محاضرات مجانية فى الهواء الطلق وتدريبا عمليا على كتابة القصة والسيرة والرواية، وأهم من ذلك كانت بيانا بالعمل حول أسباب الرغبة فى السرد والولع به، ومن ثم سكنتنى شهوة السرد بشكل دائم كعدوى جميلة لم أملك لها ردا، فوجدتنى منذ بواكير الصبا شغوفا بتقمص دور الجدة صاحبة النهر الذى لاينضب من الحكايات، لكن جمهورى كان أوسع من جمهورهن.
جدتى زينب بنت الحاج كانت امرأة نادرة المثال، فقد كانت عفيفة النفس ، كريمة، محبة للناس، عاشقة للعمل وملتزمة بالأكل من عرق جبينها بشكل فيه كثير من المبالغة والإفراط،لذلك ظلت تعمل وتكسب من عمل يدها حتى آخر أيامها وقد بلغت الثمانين، كانت نشيطة لاتحب المكوث فى مكانها ولاتحب البقاء بدون وجود مايشغلها،كانت تجئ من أبوهشيم الى ودمدنى فى كل عام في ميقات معلوم ، تبقى هناك حتى يحين آوان حصاد نخيلها الموروث بالجزيرة أرتل وأبو هشيم ، تشرف بنفسها على الحصاد وتوزيع الحقوق، وتشحن حصتها من التمر عبر السكة حديد من أبو هشيم بأقصى الشمال الى واد مدنى فى قلب الجزيرة حيث بيتنا، تركب القطار الى الخرطوم ثم تكمل الرحلة من الخرطوم الى وادمدنى بالطريق البرى، وعند وصولها يمسى شغلنا الشاغل معها هو السؤال عن شحنة التمر العزيزة فى محطة السكة الحديد القريبة بودمدنى،وحين تصل الشحنة نذهب حاملين بوليصة الشحن لاستلام جوالات البلح وننقلها الى بيتنا القريب، حيث تشرف بت الحاج على فحص شحنتها والتأكد من وصولها كاملة ثم توزعها ، قسم للبيت ويكون عادة من أجود التمر، والبقية للسوق، نحملها مرة أخرى على ظهر كارو لتاجر من تجار البلح الذين اعتادت ان تبيع لهم تمرها وتجلس جوار شحنتها حتى تبلغ الشحنة مقرها وتتم البيع وتتسلم نقودها وتحفظها جيدا فى محفظتها الجلدية المعروفة ب (الشكوة) وتستبقى بعض النقود في يدها لشراء احتياجاتها الخاصة من سكر وشاى وبن وصابون وغيره، فقد اعتادت الجدة ان تشترى احتياجاتها منفردة وان تساهم فى كل وقت بشئ ما فى احتياجات البيت حتى لاتكون عبئا ثقيلا على أهله،ثم تنفحنا بنفحات متكررة تجعلنا نتنافس على مرافقتها فى رحلاتها المختلفة. كانت تشترى السعف من سوق السعف من عائد تمرها وتظل طوال إقامتها عندنا تشتغل فى صناعة المنتوجات المحلية من السعف ، تصنع (القفاف) أى السلال من السعف وتصنع البروش( سجاجيد الصلاة) بأحجام مختلفة، ثم تحمل إنتاجها إلى السوق لتبيعه هناك وتشترى من جديد احتياجاتها المتجددة وسعفا جديدا لمواصلة انتاجها.
صلاح سر الختم علي
16-08-2014, 10:27 AM
الكهوف السحرية (2) ( كيف بت كاتبا؟)
(التنقل في الأمكنة)
كان المدخل الثانى لولوجى في عالم السرد والحكايات هو ذلك التنقل الدائم في الأمكنة الذى عشته في طفولتى وصباى وحياتى كلها. ولدت في وادمدنى في مطلع الستينات في أواخر الخريف في أواخر عام 1962 وعشت فيها ونشأت في تلك البيوت الصغيرة التى لاتمنع المطر ولكنها تعرف كيف تصنع الفرح الطازج، وفي مدنى تنقلت مع أسرتى في عدة أحياء وبئيات مختلفة لكل منها خاتم مميز ونكهة خاصة، كل مكان من تلك الأمكنة له شخصيته وطابعه الخاص وحكاياته وشخوصه الغنية المثيرة للأسئلة والدهشة. فحى البيان مثلا والأحياء المحيطة به مثل بانت والعشير وأم سويقو والقبة وجبرونا والدباغة في الجزء الشمالى من مدنى كان عالماً ساحراً وغنياً بصور تحتل الذاكرة ولاتفارقها، كبري حاجة عشة له ذكرياته الخاصة فهو معلم بارز في تلك الفترة وارتبط باحداث كثيرة وبالمناسبة حى البيان يتميز بكثرة الألقاب وطرافتها مثل ( محمود ديشن) و(قزقز) والصبى وامنة الحمراء واب ايدية وحيدر قطامة وود الفتلى وحمورى واحمد شبك وعلى افندى، وهناك صور في الذاكرة، من تلك الصور صورة المراجيح في العيد في القبة وصورة بصات (الضهارى) التى تأتى محملة بالناس لزيارة قبة وضريح ودمدنى السنى التى تقع في مثلث صغير مطل على شارع الزلط، اتذكر الرهبة التى يتميز بها المكان والنساء اللائي كن أكثر زواره والدروايش بطبولهم وجلاليبهم الخضر وحلقات ذكرهم ودورانهم المجنون مع دقات النوبة والطار، ثم ينفتح المشهد نفسه على ميدان المولد في بانت حيث يكتظ بالناس والصيوانات التى تحتلها الجماعات الصوفية المختلفة وبائعى عرائس وحلوى المولد، المراجيح ، البنات الجميلات الجائلات مع آسرهن، أحصنة السوارى التى يدور رجالها حول الميدان لتأمينه، النساء للائي يقمن ببيع الساندويتشات المكونة في الغالب من الطعمية والسلطات الشهية، حلقات الذكر الصاخبة ودوائر المتفرجين، أرتال البشر، الأضواء الساطعة التى تحيل الليل نهاراً،ثم تعود الذاكرة الى حروب الشوارع بين ابناء الأحياء المختلفة، تلمع اسماء وصور الفتوات الصغار والكبار الذين كان يكفى ذكر أسم الواحد منهم لبث الرعب في المكان، وتتداخل مع صور هولاء الأشقياء صورة قاتمة أخرى حين أستأسدت السلطة على جارنا الذى كان يقاسمنا السكنى في ذلك البيت الصغير في حي البيان ، كان دنقلاويا يعمل عاملا بمصلحة السكة حديد وكان عنصرا فاعلا في الحزب الشيوعى حين حدث انقلاب هاشم العطا ، كان صاحبنا الباسم دوما يسكن الجزء الأمامى من المنزل ، لاأنسي ذلك المشهد حين أحاطت قوة عسكرية مسلحة تنتمى للجيش بالمنزل إحاطة السوار بالعصم واقتادوا حسن ساتى طويل القامة النحيل الى عربة مملوءة بجنود مدججين بالسلاح، كنت صعيرا جدا، وقفت أراقب المشهد ، الرجل يمضى وسط الجنود بثبات كأنه يمضي وسط أصدقائه الى مبارة كرة قدم و السينما، الشارع كان مكتظا بالمتفرجين، استفز منظر المفرجين زوجة الرجل وهى لاتزال تتحدث العربية بلهجة نوبية لاتميز بين المؤنث والمذكر، فصاحت فيهم بصوت غاضب:( تعاينى مالكن؟ سرقت ولا كتلت؟ ما راجل....) تقصد القول( فيم تتفرجون؟ هل تظنونه مجرما أم قاتلا؟ هو رجل شريف فقط.)غاب الرجل عملاقا يتوسط كومة من الأقزام وبقي صوت زوجته الباسلة يرن في أذنى عبر السنين منذ ذلك التاريخ يوليو 1971 حيث كنت في التاسعة من عمرى. كان ذلك مشهدا مثيرا لأسئلة كثيرة جدا تابعتنى في كل حياتى.كان أهم الأسئلة التى أثارها المشهد في نفسي هو : (هل تقود مجرد فكرة تسكن عقل رجل رجلا الى هذا المصير المفزع؟! هل تستحق الفكرة كل هذه البنادق وهذا العدد من الجنود؟! هل هى فكرة خطيرة الى هذا الحد؟!) ، بعد عشرة أعوام من ذلك التاريخ في يناير 1982 كنت على موعد مع مشهد أشد قسوة وفتكا، كنت على موعد مع مشهد اغتيال صديقي وزميلي في الدراسة الشهيد طه يوسف عبيد برصاص جنود تم فتحه في صدور عارية كانت تهتف مجرد هتاف ضد غلاء الأسعار في مظاهرة كنا نظنها مثل كل لحظات الحياة نعيشها بصدق ونمضي بسلام، لكن دم صديقي المنحور بطلقة الكلاشنكوف الذى رشح فوق ملابسي وهو يهتف بكلماته الأخيرة( الرصاص فشنك) كان بوابةعالم جديد أيقظ السؤال القديم: هل تقابل الرصاصة الفكرة دوماً؟! في ذلك اليوم كان كل شئ في فمى مراً،كنت ممتلئا بالغضب وبالشعور بالعجز والخواء، وأتذكر جيدا أننى فكرت في امتلاك بندقية والإقتصاص لصديقي، لم يكن لدى فكرة واضحة عمن يجب الإقتصاص منه، لكن الرغبة في الإنتقام كانت عالية جدا، وكان ثمة شئ آخر مخيف جدا، فكرة الموت، كان وجه صديقي الباسم دوما يملأ الفضاء أمامى والأسئلة تتناسل: (هل مات طه حقاً؟ أم هى مزحة ثقيلة ومجرد كابوس؟ هل سيعود غداً لنذهب سويا لنلحق بليلة شعرية أو عرض سينمائي برابطة الجزيرة للاداب والفنون كما نفعل دائما؟) لكن الأيام مرت ولم يعد الملاك الصغير من رحلته الغامضة وغاب مثلما غابت أخى الصغيرة انتصار التى خطفتها حمى الملاريا وهى لاتزال بعد قطعة صغيرة من اللحم وغادرت بها الى عالم بعيد غامض لم أعرف ما هو بالرغم من أجابات أمى الكثيرة عن اسئلتى عنها، كل ما عرفته من تلك الإجابات اننى لو كنت رجلا طيبا سوف التقي بانتصار يوما ما. وهاهو طه يا أمى يغيب هو الآخر مثل انتصار.
تتواصل السيرة....................................
صلاح الدين سر الخم على
مروى
13 اغسطس 2014
صلاح سر الختم علي
16-08-2014, 10:29 AM
( حبوبة بتول غصن الزيتون)
اتذكرها بشلوخها العريضة علي خديها وعيونها الواسعة وهمتها العالية وهي تجوب المدينة سيرا علي الأقدام في أغلب الأحيان من أقصاها الي أقصاها مجاملة ومواصلة للأرحام دون أن تتأثر أناقتها بتلك المشاوير المضنية ودون أن تشكو تعباً أو تتذمر، كانت تلبس حذاء نسائياً مصنوعا من الجلد وهو الصورة النسائية للمركوب الرجالي، كان حذاؤها مميزاً ولامعا دوما ويندر أن يعلوه غبار الطريق فتبدو كأنها كانت تمشي علي الماء لا علي طرق ترابية،كانت تحمل في يدها دوما سبحة حباتها لونها خضراء فاتحةتكون ملفوفة دائما في يدها اليمني، كانت روحها عالية دوما وابتسامتها كوناً من الوسامة والطيبة والفرح الطبيعي والمحبة، كنت أحبها محبة كبيرة وزادت تلك المحبة بسبب تلك المحبة بينها وبين أمي التي كنت أقتفي أثرها في كل شئ فأحب معها من وما تحب وأمقت معها من تمقته وما تمقته، كانت حبوبة بتول صفحة فريدة في ذاكرة ودمدني وذاكرة أهلنا المنتشرين في المدينة ، كانت دوما أول الواصلين للناس في أفراحهم وأتراحهم وآخر المغادرين، وكانت دوما هي محور الأهتمام والترحيب والمثال الذي يطلب من الجميع بلوغ مداه وقمته الفريدة في التواصل والمحبة، كان بيتها الصغير في حي البيان مدني المتخذ شكل المثلث الصغير قبالة منزل اسرة فريني هو قبلة كل الأهل وهو صالة الوصول التي لابد لكل قادم الي ودمدني من الأهل أن يمر عبرها وينعم ببشاشة أهلها وكرمهم وكسرتهم التي تعاس علي الهواء مباشرة، أذكر ذلك البيت بصفائح حمامه المعلقة علي الجدران والتي لم تخل قط من الحمام الساكن فيها والمتمتع بخدمات مميزة والمطمئن لأهل الدار والمعتاد علي ضيوفهم الكثر الذين لايزعجونه أبداً، في ذلك البيت الصغير رأيت لأول مرة في حياتي التلفون الأسود ذي الأقراص التي تعلق عليها طبلة صغيرة أحيانا وتكون في أغلب الأحيان بلا طبلة، أشبعت فضولي بشأن كيفية استعمال التلفون في تلك الدار ، وكنت اقف مبهورا أراقب المرحوم صديق محمد علي ابن حبوبة بتول الذي كان يعمل بمصلحة التلفونات وهو يستخدم التلفون ويحادث أشخاصاً غير مرئيين، كنت مبهوراً بصورته علي الجدار بالأبيض والأسود داخل فريم خشبي مذهب ومكتوب أسفلها أسم أستديو مقره القاهرة، كانت الصورة تجعل من صديق شخصاً أكثر وسامة وكونها مصورة خارج السودان يعطيها بعدا آخراً وغموضاً وهيبة، كنت أحاول تخيل القاهرة وشوارعها وملامحها بلا فائدة،في تلك الدار كان اقتراب رمضان حدثا مهما، تجلب حبوبة بتول أمرأة تعمل ببراعة في مجال صناعة الابري الأبيض والأحمر ، كنت اتابع العملية من مرحلة احضار العيش وعمل الزريعة والذهاب الي الطاحونة للتدقيق حتي الكوجان للعجين واشعال النيران والعواسة علي الصاج، اتذكر تلك المرأة وهي جالسة علي بنبر صغير ارتفاعه من الأرض بضعة سنتيمترات وأمامها الصاج الموضوع فوق أربعة حجارة موزعة علي الأطراف وتحته الحطب مشتعلاً متوهجا لينتج حرارة علي سطح الصاج ليعاس الآبري علي تلك الحرارة، كان الحظب يتمرد حينا فيخرج دخانا بدل الوهج فتقوم المرأة بعملية ابدال لنوع الحطب وتستخدم الهبابة لتوليد اللهب وطرد الدخان، يتساقط عرقها غزيرا وهي تضحك وتوالي الونسة مع حاجة بتول وبناتها زهراء بت التجاني وحليوة ومن تكن حاضرة من الجارات أو الأهل، كنت أحرص علي متابعة تلك الطقوس واتحرق شوقا للحظات أكل الابري بنظام القروض مثله مثل الكسرة والفطير،اما طقوس خبيز العيد فهي عالم آخر ساحر نتابعه من الألف الي الياء ولانفوت اكل البسكويت ابتداء من الفرن البلدي ايام كان الفرن البلدي الذي ينتج الرغيف هو المكان الوحيد المتاح لانضاج الخبيز فالبيوت لم تعرف افران الكهرباء والافران المنزلية في ذلك الزمان، فكنا نحمل الصواني التي عليها البسكويت والكعك علي الرؤوس الصغيرة ونذهب الي الفرن لكي تكتمل عملية الانتاج هناك بادخال الصواني الفرن واخراجها ناضجة ومن ثم العودة بها الي البيت.كانت تلك الدار الصغيرة مصدر مسرات كثيرة وكبيرة لنا في طفولتنا الباكرة، وكانت ابتسامة حبوبة بتول اكبر مسرة بين تلك المسرات، فهي تصافح الناس مبتسمة وتمشي مبتسمة وتصلي وعلي وجهها طمأنينة وشبح ابتسامتها المضئية مختبئ في الشلوخ والعيون الواسعة،كانت صرة ثوبها دوما تنفتح عن حلوي أو نقود لشراء حلوي تمنحها للصغار، وكانت لاتنهر ولاتنادي بصوت مرتفع أبدا، ولاتذمك حتي لو كنت غارقا في خطأ فادح أو متسخ الملابس بسبب تهورك، كل ماتفعله هو ان تبتسم وتقول لك باسم امك( يا ود فلانة تعال يا الفالح ...تعال هاك اجر اشتريلك حلاوة لكن في الأول اجر غسل ايديك وغير وتعال يا المبروك...اجر يا الفالح) تفهم انك مخطئ ولكن الأمر ليس خطيرا ، نركض مسرعين مستجيبين للتصحيح اللطيف ونعود فنجدها توفي بما وعدت، تعطيك قرشك السحري فتركض صوب الدكان....كانت كونا جميلا غاب فجأة، فجأة افتقدناها وافتقدنا شلوخها المميزة وصرة ثوبها المفتوحة علي الفرح ونبرة صوتها الخفيض الذي لايزعج باعوضة لكنه يبشر بالخريف والخير، افتقدنا قرشها السحري وبسكويتها وتمرها وحلاوتها المقدمة دوما مثل ثمار شجرة ليمون مزروعة في الشارع، غاب صوتها وهي تقرأ القرآن وتدفعنا الي انتظار ذلك الزمن الذي نحفظ فيه ما يمكننا من اداء الصلاة بانتظام مثلها، بات البيت صامتا، افتقدت الطرق في المدينة خطواتها الوئيدة التي تقطعها جئية وذهابا وصلا للارحام ومحبة وتقربا......سألناهم ببراءة( أين ذهبت حبوبة بتول؟) قالوا بغموض( ذهبت الي عالم رحيم مثلها)....لم نفهم شيئا قلنا بسذاجة( هل تعود قريبا؟ هل ستحضر معها حلوي جميلة؟) كان الصمت هو الأجابة.
اللهم أرحم حبوبة بتول وطيب ثراها واجعل الجنة مثواها بقدر ما زرعت من محبة وواصلت ووصلت من أرحام.
صلاح سر الختم علي
16-08-2014, 10:31 AM
بيت النخلة / سيرة/ صلاح الدين سر الختم على
كان بيتا صغيرا مكونا من غرفتين فقط ومطبخ صغير وحمام، بيتا حكوميا في حى عمالي صغير في طرف مدينة وادمد نى الجنوبى اشتهر وعرف باسم 114 أو الكمبو ،كان الحى يتكون من مجموعة من البيوت المبنية بطريقة واحدة ومنقسمة الي نوعين يسمى الأول (الفرادى) وهو على شاكلة ما وصفناه اعلاه من حيث عدد الغرف، وهناك نوع ثانى يسمى( الدبل ) وهو أكبر قليلا يتكون من غرفتين مفتوحتين علي بعضهما وتتوسطهما برندة داخلية وملحق بهما حمام داخلي وهناك صالون كبير ومعه حمام خارجى وهناك غرفة كبيرة تعتبر مطبخا، والى جانب ذلك فان الحمام مميز عن حمامات الفرادى بالبئر الخاصة به، بينما الفرادى كان يقتقد الي تلك الميزة ويعمل بنظام الجرادل الحديدية التى كان عمال البلدية يحملونها على الرؤوس حين تمتلئ ويفرغوها فى عربة خاصة بها ترميها بعيدا، كان ذلك زمنا قبيحا رأينا فيه بعضنا يحمل فضلات بعضنا على رأسه في منظر مهين مذل، وقد اختفت تلك الصورة القبيحة في السبعينات واصبحت لكل البيوت آبار ملحقة بها، نعود الي بيتنا الصغير ذاك فقد كان يتميز بوجود نخلة باسقة فيه تشكل عنوانه ووصفه وتفصح عن سمتين مهمتين من سمات أهله، فقد كان صاحب البيت العم محمد محمود مزارعا قدم من أقصي الشمال حيث ؟أهله الدناقلة ليشتغل بوزارة الرى في مدنى في المهنة التى يجيدها وهى الزراعة وكانت بصمته ظاهرة في بيته الصغير بشكل واضح وكانت النخلة بمثابة اعلان عن هويته الشمالية وعن بئيته الأصلية وأشواقه الدائمة اليها، كانت زوجته فاطنة ساتى هى الأخري معلما من معالم الحى ورمزا مجسما لثقافتها النوبية فظلت تستخدم رطانتها كأنها لم تغادر أرض اجدادها وظلت تتحدث العربية بالقدر الذي يعينها علي التفاهم البسيط مع من حولها وظلت تؤنث المذكر وتذكر المؤنث غير عابئة بالنحويين والمعترضين ، وظل وجهها يتألق ورطانتها تملأ المكان كلما وجدت من أهلها من يجيدها،ومع ذلك الاعتزاز بالجذور دخلت فاطنة ساتى قلوب الجميع بلغة أخري لغة عالمية لاتكتب لكنها تعاش وتحس وتربط بين القلوب ( المحبة) فقد كانت كريمة محبة للصغار والكبار وبيتها مفتوحا للجميع و كان بالبيت شجرة ليمون مثمرة هى ملك للجميع وكانت النخلة ظلا للجميع مع انها في قلب البيت ، كان الصغار يحبون البيت الخالي من الصغار وصاحبته وكانت النسوة يهرولن كل ظهيرة وصباح الي أم الجميع التى ماتخلفت عن عيادة مريض وتهنئية بمناسبة سعيدة ومواساة ساعة حزن كان لفاطنة ساتى وزوجها اسرة مميزة ، بنتها الكبرى حواء بيضاء البشرة ذات أنف فرعونى جميل وعيون واسعةوهى مرحة محبة للتسامر مع الجميع وحين تجدها وسط اولادها لاتكاد تميزها عنهم في خفة دمها ومرحها وانطلاقها معهم كأنها واحدة منهم وكان زوج حواء العم محجوب دنقلاويا هو الآخر يبدو أكبرمنها كثيرا لكنهما حين يضحكان تشعر انهما رفيقا دراسة، كانت بنتها الثانية خديجة متزوجة ايضا وغير مقيمة معها لكنها مثل حواء لاتغيب هى وصغارها عن بيت الأم العظيمة،ولديها بنت تدعى سعاد كانت موظفة مرموقة تقيم معها حتى تزوجت هى الاخرى، اما الاولاد فكانا قمرين هما بابكر الذي طوي الدراسة بنجاح حتى تخرج صيدليا ناجحا من جامعة الخرطوم وامسى دكتورا ومحاضرا في كليته ذاتها وبات شريكا في مصنع دواء كبير بالخرطوم حتى اختاره الله الي جواره في ريعان شبابه تاركا من خلدوا اسمه واسم ابيه، الاخر (ختم) درس الجامعة هو الاخر بجمهورية مصر وعاد ليستقر بوطنه ويؤسس أسرة، في ذلك الزمان حين فتحنا عيوننا كان البيت الصغير يعج باهله وأهلهم وكان بابكر وختم من اولاد الفريق الذين كانوا يكافحون لاجل اكمال التعليم ولهما صلات واسعة وصداقات، كان البيت الصغير عامرا دوما بالاصدقاء والأهل والاحفاد، كانت سلوي ابنة حواء الكبري زهرة من زهرات الكمبو بمحياها الجميل ووجهها الباسم الطيب وقد جاء من تقدم لها وتزوجت علي عجل كمن يسابق قدرا كامنا متربصا وغابت الزهرة علي عجل وتركت في قلوب الجميع جرحا داميا لكنها تركت لهم منها أثرا طيبا،مرت السنين وغيب الموت بعض أهل البيت الصغير وغيبت الحياة وتقلباتها البعض في بيوت بعيدة وبقيت تلك النخلة باسقة تنظر الي الجميع من عل حتى غابت عن بصرى. لكنها بقيت بشرفة الذاكرة باسقة بهية تحمل في اعلاها ملامح الجد محمد محمود الأصيلة ووجه فاطنة ساتى المميز.
صلاح الدين سر الختم على
صلاح سر الختم علي
16-08-2014, 10:34 AM
فهمى صالح الرجل الصالح نجمة في سماء بعيدة ( ملامح من السيرة)
فهمى صالح الرجل الصالح نجمة في سماء بعيدة
فتحنا عيوننا في حى 114 الحبيب وتعلمنا في ازقته الصغيرة وبيوته المعروشة بالمحبة اشياء كثيرة نبيلة وغالية ، كنا فقراء ابناء فقراء، بسطاء ابناء بسطاء، اغلب امهاتنا أميات وكذلك الاباء المتعلم فيهم يفك الخط بالكاد، لكن بمقدور المرء ان يجزم باننا حظينا باجمل واروع وافضل بيئة اجتماعية يمكن أن يحظى بها اطفال وشباب، كانت بيئة طاهرة ونظيفة ومملؤة بالحب والمحبة، كان الكبار كلهم اخوانا واباءا والأمهات كلهن أمهات للكل والأخوات محل تقدير واحترام ،تربينا علي الثقة المتبادلة وعلي الأخوة الصادقة والرجولة والشهامة والكرم والإيثار والتعاون،كانت بيوت الرذيلة علي مرمى حجر منا وكان اولاد الفريق متعففين وعلي خلق ودين، وكانت بيوت الخمور علي قارعة الطريق وكان الحى معافى، كان فهمى نجمة بعيدة متميزة، شاب بدين نوعا ما ولكنه ضاحك بشوش نشط خفيف الحركة لايغيب عن أي نشاط او مبادرة أو مباراة أو تمرين لفريق الأهلي مدنى عشقه الكبير وعن تمارين فرق الحي 114، كان منزلهم يتبع جغرافيا لحى الحلة الجديدة ولكن بوابته الفاتحة علي بيوت 114 فتحت قلوب أهل البيت علي حب الكمبو وأهله فباتوا جزءا لايتجزأ من الكمبو، بات فهمي واسرته كلها ينتمون انتماءا كاملا للكمبو ولايعرفون حيا غيره برغم احتفاظهم بعلاقات طيبة مع اهل الحلة الجديدة جعلت منهم قنطرة ربطت بين اهل الحيين المتجاورين، لم يلعب فهمى الكرة ابدا، ربما بسبب بدانته، ولكنه كان عاشقا لكرةالقدم ونشاطها الاداري لم تعرف المدينة والمنطقة الجنوبية مثيلا له في ذلك العطاء والوفاء الا قلة نادرة توشحت بها مدينة مدنى في ذلك الزمان الجميل ، لمعوا مثل شهب جاءت من السماء فاضأت الكون برهة من الزمان ثم غابت وتركت الناس في شوق اليها، ولعل المقام مقام ذكر لتلك الاسماء: عبدة مالك ومحجوب فضل وصلاح الشاذلى وازهري حبيب نسي وصلاح حسن والنور الفلاتي وبابكر بتاع فريق الوادى وجيرانه ناس الصايم والاستاذ بتاع فريق الوادي وناس يسين بتاع نجوم المزاد في الرابطة الجنوبية وهناك ناس عبد الله سرالختم في التضامن وناس مجدالدين وابوليلي في الثوار وناس الشاعر في الاصلاح وناس الكوارتة وغيرهم ممن سقطوا من الذاكرة ولكنهم يبقوا في ذاكرة المدينة نجوما بعيدة قامت علي اكتافها نهضة مدنى الكروية، لم ينهبوا مال شعب ولم يكونوا اثرياء ثراءا مشبوها ولم يكونوا يطالبون بديون علي الاندية ولم يعرف احد كيف انفقوا عليها، لكنهم كانوا جميعا شموعا تحترق لاجل الاخرين ويفعلون ما يفعلون كالشهداء يموتون في صمت بلا انتظار للثمار، كان فهمي احد اولئك النبلاء الذين جاد بهم الزمان علي اهل السودان فاعطوا بلا كلل وعملوا بلا أمل اقاموا علي سفر وفارقوا علي عجل، ومضوا كالاحلام ، كالشهب، كامطار الخريف، تمضي الي جوف الارض وتغيب فيه فتخرج خيرا عميما للاخرين، كان فهمى بابتسامة دائمة وعقل مرتب هو من أشرف علي ادارة فريق المجد 114 منذ التأسيس وحتى ذهاب المجد الي العدم الذي جاء منه، كان اداريا فذا وهماما وملما بقواعد ادارة نشاط الناشئين ولبقا وصارما في التعامل مع اللاعبين وقد كنت أحدهم لفترة طويلة،لم تصدر عنه يوما لفظة نابية، لم يوجه اساءة للاعب أو خصم أو حكم أو اداري أو مشجع، كان كل جهده وفكره منصبا علي شؤون الفريق، تسجيلاته وصحتها وخطوطه وتقويتها ونشاطه وانتظامه وانتصاره بالطرق المشروعة، لذلك كانت سمعة فريق المجد دوما فوق كل الشبهات ولم يرتبط اسم المجد بشغب أو اعتداء علي حكم أو سوء سلوك من أي نوع، وكان لفهمى ورفاقه في الادارة وعلي رأسهم الاخ الفاتح عبد الوهاب رئيس فريق المجد دور كبير في ذلك السجل الناصع لفريق جاء من العدم وبات في زمن وجيز من عمالقة الرابطة الجنوبية وهى اقوي رابطة في مدنى انذآك، كان فهمى صديقا للاعبي الفريق جميعا بلا تفرقة أو تمييز وكان حاضرا دوما في النادي حيث كان عاشقا للضمنة ولاعبا ماهرا له صولات وجولات فيها مع الريح ابوالريح والمرحوم صلاح التلب مدافع المجد والاخ يوسف الله جابو والاخ صلاح حسن سعيد، جمعتنا بفهمي ذكريات كثيرة منها رحلتنا الي مدينة الابيض واستقبالنا لناس الابيض في النادى حين ردوا الينا الزيارة، فقد كان نجما في المناسبتين، وكانت لنا رحلة اخري الي سنار ورحلة رابعة الي الخرطوم الامتداد، كانت ذكريات جميلة، كانت لفهمي مداعبات خاصة مع زامبيا وفرفر والاخ ناجى تشتش والاخ عادل محمد مختار الثعلب ومحجوب كرفون لاعب الوسط الرهيب بفريق المجد، اما علاقته بالاخ عماد كسبرة وعماد الدنكوج ومحمد احمد الرشيد باكات الفريق فقد كانت علاقة خاصة قوامها مداعبات متبادلة. لا اذكر للاخ فهمي مشكلة مع احد في مجتمع المجد ابدا، غير انه لم يرض انتقالي الي فريق الثوار دون الحصول علي موافقة ادارة المجد، فترت علاقته بي ولكن سرعان ماعادت المياه الي مجاريها وظلت الابتسامة دوما علي ذلك الوجه الطيب حتى اضطرتنى ظروف عملي للغياب طويلا عن مدنى، جتي كان لقائي الاخير به في مدينة كريمة حين جاء مع محبوبه الاهلي في العام 2011 لمباراة في التأهيلي امام الجبل كريمة، كنت بالاستاد اثناء المباراة حين اقبل نحوى شخص نحيف بدت ملامحه مألوفة لكننى لم اعرفه فهمس مبتسما( انا فهمي ياحارس.....انا فهمى) تقالدنا بحرارة وكان يهمس( انا ما جانى سرطان ياحارس، قربت اروح فيها وربك كتب لي عمر) كان لقاءا مؤثرا جدا وقصيرا جدا ، واخيرا جاء نعيه كالصاعقة.. رحل الرجل الذي زرع الكمبو بالابتسامة وكان من ابرز صناع مجد المجد فيه، كان خريفا كريما في كل شئ، كان ابا واخا وصديقا ونجما في سماء بعيدة
وكعادته في كل شئ كان فهمى باسلا في صراعه مع مرض السرطان اللعين الذي استوطن بدنه ولكنه لم يتمكن من هزيمة روحه
ظل الرجل يقاوم ببسالة حتى نهض من المرض في نهوض مدهش وباشر حياته بضعة اشهر وفعل كل مايحبه ورافق فريق الاهلي في رحلات مهمة للعودة للممتاز وعاش معه فرحة العودة لموقعه ثم زوت الشجرة الخضراء وماتت واقفة ورحل الرجل رحيلا فاجعا الي عالم ارحب وارحم
اللهم ارحم فهمى صالح واجعل الجنة مثواه مع الصديقين والشهداء.
صلاح سر الختم علي
16-08-2014, 10:37 AM
هل كانت تلك الفتاة تحبه؟ هل من الممكن حقاً ان يتحول الحب الخائب الي كراهية؟
هكذا لمعت الأسئلة في ذهنه حين فرغ من قراءة كتاب شيق في علم النفس، حين لمعت صورتها في ذاكرته بقوة، كانا يسكنا في ذات المدينة ولكن كل منهما ينتمي الي عالم مختلف، هي ابنة القصر المنيف وطبقة التجار المميزة في المدينة ، وهو ابن عامل بسيط ويسكن منزلا حكوميا ضغيرا في حي صغير، لم تكن جميلة، لكنها كانت مرموقة بفضل المظهر الذي صنعه الثراء وبريق اسرتها وصيتها في المدينة،لم يك ثمة مجال لالتقائهما لولا كتب الشعر وقصائد الشعراء وجنون الثورة والتغيير، كان يرتاد كل تجمع ثقافي في المدينة متأبطاً دوواين الشعر والروايات بخلاف ما يحفظه ويلقيه بصورة رائعة من شعر ممنوع، كان الزمان نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، وكانت المدينة ودمدني، كانت الشوارع تتنفس شعرا وتمرداً، هي كانت مولعة بكل ذلك، كان الشعر بوابة المرور الي عالم السياسة بجنونه واحلام التغيير واحلام اقتفاء أثر الابطال الذين ترسمهم خيالات الرواة كأنهم قادمون من المريخ، ليس فيهم من قبحنا شئ، ليس فيهم من جبننا جبن، وليس فيهم من نواقص الإنسان شئ،لذلك كان يتجمل دون ان يشعر بذلك، كانت تحب زيارتهم وتحب الانفراد به برغم ان السبب المعلن للزيارات هو التواصل مع اخواته واستلاف الكتب وتبادلها، كان في المدينة في ذلك الزمن من يحتفلون بثورة اكتوبر بقراءة الشعر والاستماع اليه والي الغناء والاناشيد في دار صغيرة تدور فيها اقداح الشاي وتدور فيها الموسيقي من جهاز التسجيل وتلقي كلمات ، كان ذلك عالما صغيرا ضمهما، كان يشعر دوما انه تحت نظراتها وتحت اهتمامها أينما ذهب، وكان من عادات ذلك الزمن وشبابه الهروب من الالتزام الي ساحات الصداقة المبهمة عمدا، خاصة اذا كان الخط مشغولا قبلا أو كان الاهتمام موجودا لكنه أقل من اهتمام الآخر، لم يك نافرا منها، بل علي العكس كان يري فيها اشياء كثيرة تعجبه، لكن سقف اعجابه كان لايتخطي حدود الصداقة أبداً، لم يتخيلها يوماً حبيبة تدبج لها الرسائل برغم اعجابه بشعرها الطليق وعيونها الواسعة ونظراتها الباحثة عن شئ ما في عينيه، كان يتحاشي تلك النظرات دائما ولكنه كان لطيفا معها دائما في الوقت نفسه، ثمة اشياء كثيرة فيها تعجبه وثمة اشياء تشده الي عالمها ولكنها حين تقترب أكثر مما ينبغي يبتعد بلطف ولكن بشكل حازم، كان في اعماقه يعرف انها ليست له وانه ليس لها وانها مهما تكن لطيفة ليست هي التي خفق لها قلبه ،ظلا هكذا يلعبان لعبة توم اند جيري بطريقتهما الخاصة وظل يعرف كيف يحافظ علي تلك المساحة من المودة دون ان يتورط ودون ان يجرح شعورها بأي شكل من الأشكال،حتي كان يوم، كانت كعادتها في زيارتهم، قضت وقتا طويلا ، كان الشعر حاضرا والنكتة والضحك ، وحين غابت الشمس ونهضت لتذهب نهض كعادته ليوصلها، كانت المسافة قريبة بين البيوت ولكنهما اعتادا مواصلة حوار لم ينته بحجة التوصيل هذه،خرجا وكانت ثمة ضحكة علي الشفاه، مشيا علي مهل، كان الشارع خاليا، مدت يدها الصغيرة ولمست اصابعها كفه، سرت قشعريرة في كفه، سحبت يدها بسرعة ، عم صمت، بلع ريقه، دون ان يدري وجد يده تبحث عن يدها في الظلام ، تلاقت الاصابع المرتعشة، ضم كفها بقوة ، نظر في وجهها، كانت تنظر اليه عميقا في عينيه، ضمها اليه فجأة، احس بها قطعة من النار ترتعش، افلتها، قال كلاما لايعرفه، تمتم، همهمت هي، ساد صمت، واصلا المسير، كان صدرها يخفق بقوة ، كان محرجا ومتضايقا من نفسه، لم يقل شيئا ولم تقل شيئا حتي وصلت قرب دارها، اسرعت وغابت خلف الباب الذي اغلق خلفها. عاد هو كأنه يمشي علي الشوك، كان حانقا علي نفسه بشدة ...كيف سمح لنفسه بما فعل؟ ولماذا وانت تعرف انك لست حبيبها ولن تكون؟ هل بت وغدا من اوغاد المدينة؟ هل بت تتلاعب ببنات الناس وتستغل ضعفهن؟ ركل الحصي باقدامه وسار صامتا. حين التقيا بعد ذلك اليوم بعدة ايام، كان الهواء يعبث بشعرها، كانت بلوزتها البيضاء تهفهف وتكاد تشف عما تحتها، كان ثمة نظرة شقية في عينيها، لم تك غاضبة، لم تتحاشاه كما تصور، سلمت عليه بمودة اكبر مما كانت تفعل، كان خداها متوردان وعيونها تلتمع بشئ ما. وجد نفسه ينظر الي الأسفل ويتحاشاها، لكنه كلما رفع عينيه وجدها تبتسم. لم تنقطع عن المجئ ، لكنه ظل يتحاشي توصيلها، ظلت تبتسم. وحين حان فراق وقتي حين ولج الجامعة كانت تبتسم . وحين يعود في العطلات كانت تجئ كعادتها وظلا يليتقيان في مناسبات كثيرة، يتحدثان ويتبادلان الكتب ويقرا لها القصائد ويهديها بعض ماكتبه من شعر فطير، امتلك شجاعة توصيلها عدة مرات، كانت تسأله عن الجامعة واجوائها وبناتها .كان يرد بحذر من يمشي في حقل الغام. طفقت تحدثه عن صداقاتها الجديدة وتتحدث بشكل مثير للاهتمام عن صديق بعينه، كان يعرف بطريقة ما انها تبحث عن شئ ما، لكنه كان يلوذ بالصمت ويحرص علي عدم الافصاح عن مكنون نفسه. ثم أخذت تتغير بشكل لافت، تقابله، تسلم بفتور ، ثم تركز اهتمامها علي كل من حولها الا هو، لكنه كان يشعر ان ذلك كله موجه اليه هو دون سواه.ثم بات يسمع من الاصدقاء المشتركين كثيرا من كلامها السلبي عنه، حديثها عن غروره، عن عدم احترامه لمشاعر الغير، عن تنكره لصداقاته القديمة وعن تنصله عن قناعاته، كان كل ما يصله يفيده انها تعمل جهدها علي اغتياله معنويا، لكنه حين يلتقيها ينتابه الشك في صحة مانقل اليه، فقد كانت هي نفسها، ود متحفظ لكنه باق وظاهر، احترام ظاهر لايخلو من جفاء الغاضب من شئ ما..... تري هل كانت تحبه؟
بنت الفريق
تذكرت تلك التي كانت تعبر بفريقنا نهارا في كل يوم بزيها المدرسي الأنيق، في ذلك الزمان كانت زي بنات الثانوي العام فستانا بنيا غامقا أو فاتحا أيهما شاءت واكمامه قصيرة ( نصف كم) وتكون الأكمام بيضاء في وهناك كولا بيضاء دائرية تنسدل فوق الرقبة والصدر، الشعر يكون طليقا وفي الغالب يكون بتسريحة ذيل الحصان،اتذكر انها كانت تسرح شعرها آفرو فيعطيها ألقا خاصا مع لونها(الاخدر ) بلغة السودانيين وهو تعبير دقيق لان هناك مسافة لونية تقع في المنتصف بين اللون الأسمر والأسود هي مانسميه في السودان الاخدر والخدرة الدقاقة،كانت تمشي وحدها عائدة الي بيت اسرتها في حي المزاد ويتحتم عليها ان تعبر حي 114 (حينا) في طريق عودتها من المدرسة الواقعة بحي الدرجة، كنت امارس هجرة عكسية من حي المزاد حيث تقع مدرسة فريني العامة حيث ادرس الي حي 114 حيث نسكن، فنلتقي يوميا بلا ميعاد في نقطة التقاء دائمة نصلها في نفس الوقت هي طابونة مكرنجة في نهاية 114 وبداية المزاد، كنت انظر اليها بفضول واعجاب ، اما هي فلا تلقي بالا لذلك الصبي ابو تفة ووجه عريض الذي يرتدي زي الثانوي العام المكون من رداء كاكي وقميص مثله،كانت موضة تلك الايام هي الشعر الكثيف تأثرا بموضة الهيبز التي وفدت من بلاد الغرب ، كانت السبعينات تحتضر، وكان شعري كثيفا وكنت مفتونا بالشعر وبقصص الحب الرومانسية التي تعج بها قصص جرجي زيدان التاريخية وقصة ماجدولين واستيفن للمنفلوطي و اشعار نزار التي كانت متداولة سرا مثل الممنوعات لجرأة الطرح الذي تحتويه،حسبتها ماجدولين وظننتني متيما، تبسمت في وجهها فكشرت في وجهي، همست لها بكلمات اعجاب ساذجة وهربت من وجهها،في الايام التالية تناقصت شجاعتي بفعل ازدياد التكشيرة علي وجهها وتجنبها النظر ناحيتي، ثم حدث ما جعلني اترك لها الشارع طائعا لتهنأ به وحدها، مكره اخاكم لابطل، فقد نادتني اختي الكبري ولامتني علي كوني عاكست صديقة لها، استمعت مطرقا نحو الارض الي محاضرة طويلة عن السلوك الواجب اتباعه ، لم أقل شيئا، تركت لها الشارع تماما وغيرت مساري، وحين التقينا مرة بالصدفة نظرت في وجهي بجرأة وتبسمت، اسرعت لا ألوي علي شئ وغبت عن كل مكان تعبر فيه.... كانت ولاتزال تبتسم كلما رأتني وأطرق اطراقة المقر بذنبه الكبير.
صلاح سر الختم علي
16-08-2014, 10:41 AM
مسرحية البشارة
اتذكر الان فجأة وبلا مقدمات أياما رائعة في مدرسة السني الثانوية الاعوام1980/1981/1982
وبالتحديد اتذكر مسرحية البشارة التي فازت مدرستنا بها بالجائزة الذهبية في الدورة المدرسية علي نطاق محافظة الجزيرة ثم علي نطاق السودان في منافسات الدورة المدرسية القومية بالابيض في نهاية عام 1981 ، المسرحية من تأليف الشاعر الاستاذ محمد محي الدين والاخراج للاستاذ الفاضل / بشير عبد الرحيم الشهير ب زمبة استاذ الفنون بالمدرسة والمسؤول عن الجانب الثقافي ونجاحات عديدة للمدرسة فيه في دورات متتابعات، مسرحية البشارة كانت بطولتها لمجموعة من زملائنا بالمدرسة علي رأسهم الاخ حاتم المشهور بالعربي الذي صار تلميذا بمعهد الموسيقي فيما بعد قسم المسرح وصار مخرجا معروفا بالاذاعة والتلفزيون،وكان طالبا داخليا، وكان من نجوم المسرحية الاخ الصديق قيس حيدر الكاشف وهو قاض الان ،كان دور قيس هو فاكهة المسرحية، وكان هناك الاخ معتصم بيضاب ايضا كان له دور لاينسي وهناك آخرون سقطوا من الذاكرة، المسرحية كانت تصور صراعا يدور بين الخير والشر في قرية سودانية، كانت عملا ممتعا جمع بين قوة الموضوع وطرافة الطرح وروح المرح فيه والتشويق الشديد والديكوروالاكسسوار الذي اشتغل عليه الشهيد طه يوسف عبيد الذي كان رساما متمكنا استطاع ترجمة افكار المؤلف والمخرج الي لوحات لعبت دورا مهما في توصيل الافكار ونجاح المسرحية، وقد لايعرف الكثيرون هذه الصلة بين الشهيد طه يوسف عبيد الذي استشهد بعد عودته مع بعثة الجزيرة ظافرا بميدالية المسرح الذهبية مع مجموعة مسرحية البشارة واستشهد طه بعد اقل من اسبوع من ذلك فصدح محمد محي الدين بقصيدته الرائعة عشر لوحات للمدينة وهي تخرج من النهر مصورا فيها استشهاد الفتي وحالة الوطن المحكوم بالبندقية والهراوات آنذاك، مسرحية البشارة نفسها لم تخل من مضامين سياسية تحرض علي الثورة وتنادي بالتغيير وقد بقيت في ذاكرة ذلك الجيل بصمة ثقافية لاتنسي تجسد عبقرية الشباب السوداني الذي ارادت سلطة مايو ان تلهيه بالدورات المدرسية عن قضايا الوطن فجعل من تلك الدورات تظاهرات ثقافية ووطنية كبيرة وخالدة.
ومضة إشراق( ذات العيون الواسعة)
لازلت أحن الي تلك الايام البرئية، لازلت أذكر كيف تعلق قلبي بها رغم فارق السنين ، لازلت أذكر تألق عينيها الواسعتين وهي تحكي لى عن خيبتها في الحب وأنا عاجز عن الحكي لها عن تعلقي بها،لكننى كنت أعرف بطريقة ما أنها تعرف أن قلبى الصغير متعلق بها، كنت في الثانوى العام وكانت في العالي،بضع أعوام دراسية تفصل بىننا ولكن قلبى اجتاز المسافة وقفز فوق الفارق مثل لص مطارد قفز سورا طوله متران بلا أدني تردد...لازلت أذكر أسم من أوجع قلبها فقد أوجع قلبي الصغير أكثر حين أوجع قلبها....
لازال قلبى يدق حين تلمع صورتها في الذاكرة.....
بنت الدباغة التي غسلت قلبى ودبغته وختمت عليه بخاتمها.
حكاية إزعاجى للسيد الكلب الضال وعذاب المصل
ذات صباح كنت فجرا عند موقف البصات القديم بالسوق الجديد مبتغيا اللحاق بمحاضرة الصباح الأولي بمدرج حسين فهمي بالجامعة بالخرطوم كما هي العادة
كان لمواصلات الجزيرة في ذلك الزمن بص يغادر مدني فجرا ليلحق الطلاب والموظفين من ابناء مدني الذين يأتوا لقضاء الخميس والجمعة مع ذويهم بمحاضراتهم واعمالهم، لحقت بالبص وقطعت تذكرتي واخترت موقعا مميزا عند ست الشاى الجالسة في المسافة بين مكاتب مواصلات الجزيرة بشعارها البرتقالي بالابيضومكتب المؤسسة الوطنية بشعارها الرمادي وكانت تعيش ايامها الاخيرة في تلك الايام بعد طول زهوة وسيطرة ومكانة رفيعة قضت بها علي بصات الركبي والثقة
النيسانات التي تراجع روادها بعد ظهور بصات المؤسسة، المهم شربت الشاي وباللقيمات ونهضت متجها الي البص ، وطأت أقدامي كلبا شبه ضال كان نائما تحت البص دون أن اراه فكان نصيبي عضة قلبت برنامجي رأسا علي عقب، حيث توجهت فور وصولي الخرطوم الي مركز صحي الضو حجوج بدلا عن المدرج وبدأت رحلة موجعة مع واحد وعشرين حقنة تحتم علي أخذها كاملة لانه لم يكن ميسورا لي ان اعرف اذا كان الكلب مات أم لا، فهو مجرد كلب ضال...كنت انوم واصحو خائفا من ان انبح ذات يوم، وخائفا من احتمال اضطراري لاعادة الحقن كلها اذا تخلفت عن واحدة. كانت تجربة قاسية حقا.
القطر يمشي في الاستاد
من الشخصيات الجميلة في مدني والتي تشكل حكاية جديرة بالتوقف عندها شخصية القطر المذيع الداخلي لاستاد مدني، ذلك الرجل البسيط الذكي الموهوب الذي استطاع ان يصنع من مساحة صغيرة هي المساحة التي تتيحها الاذاعة الداخلية كونا كبيرا وألقا دائماً، أسمع صوته القوي وهو يجول في مدني للترويج لمباريات الدوري مطلقا القابه الفريدة علي كل فريق من فرق مدني ( الرومان...الاتحاد .... كانون الجزيرة النهضة...سيد الاتيام...ارجنتينا يا اهلينا.. الكوماندوز الدفاع....جزيرة فيل.....الافيال...)
ثم يصدح بالالقاب الخاصة باللاعبين: الغزال الشارد عثمان الله جابو....صخرة الدفاع قاسم سنطة.......................
القطر خلق حيوية لاحدود لها في المجتمع الرياضي ومنح مهنة المذيع الداخلي بريقا لم تعرفه قبله......
والطريف ان القطر من انصار النيل الجميل لكن ذلك لايظهر ابدا في نشاطه المهني
فهو واجهة لجميع الفرق ويقدمها في تعليقاته ودعايته جميعا بشكل منصف يرضي انصارها....
هو مبدع من مدني
حكايةالرجل العنكبوتى
في مدني لكل شئ طعم مختلف ونكهة خاصة حتى الشر والجريمة،
اتذكر الان ذلك الرجل صاحب الاسم المخيف (......) الذي ارتبط بالاتجار بالبنقو في مدني
احتل حيا كاملا ، كان جزءا منه وحاكما متوجا عليه، كان حيا يتكون من فقراء يشكون الي طوب الارض قلة تعليمهم وقلة حيلتهم وهوانهم علي الناس الذين ينفرون منهم ويسمونهم بوصف يعني ضمن ما يعني حكما ابديا بالعزلة الاجتماعية
لم نر من بينهم لاعبا نابها أو مطربا صاعدا أو تاجرا يشار اليه بالبنان، ولم نر من أولادهم من رافقنا في سنين الدراسة مع ان المدارس كانت علي مرمي حجر منهم، لم نسمع بزواج لهم ولم نسمع بمن تزوج منهم ، كانوا دائرة مغلقة تماما علي نفسها، حتي أصولهم غامضة فلايعرف لهم مثل بقية أهل المدينة أصل جغرافي أو عرقي وفدوا منه، كأن الارض إنشقت عنهم بغتة أو هبطوا من السماء، فلاهم ينتمون الي قبائل الشمال المعروفة ولاهم ينتمون الي الغرب ببطونه وقبائله الكثيرة ولاهم ينتمون الي البطانة أو الجزيرة بأصولها الكثيرة، ولاهم منتسبون الي الجزيرة العربية مثل بعض القبائل، لكنهم موجودون بالمدينة والوطن كله منذ فتحنا عيوننا، لكن الفقر اختارهم ووسمهم بميسمه وحكم عليهم بمهن شاقة تتطلب جهدا عضليا وشقاءا دائما وكلها مرتبطة بالحديد، يرسفون في اعلال من الحديد بسب الفقر والجهل المتفشي والعزلة الاجتماعية ويطوعون الحديد لاجل غيرهم نظير دراهم معدودة وثمن بخس، ربما يكون صاحبنا هو الوحيد الذي لمع من بينهم وسطع هذا السطوع في تجارة غير مشروعة، كنا اطفالا صغارا نتلمس الطريق الي المدارس خائفين حين سمغنا بمصطلحات تنتمي الي ذلك العالم مثل كلمة( الخانة) وكبرنا ونحن نسمع بقصص الرجل العنكبوتي الذي يدير شبكة تشمل كل متسول في المدينة ومتسولة ويغازل بعض رجال الشرطة الفاسدين بامواله فتكون اخباريات المداهمة عنده قبل اكتمال اتخاذ القرار فيعد عدته ويقف ساخرا من التفتيش الذي لن يسفر الا عن الخيبة، كبرت الاسطورة، وكثرت محاولات تحطيمها، وبات للرجل هالة تصنع منه زعيما محليا لمافيا لاتقتل ولاتسرق ولاترعب أحدا لكنها تدير تجارتها السوداء رغم انف الحكومة وتحيل كل مخبر الي مخبر مضاد، وراجت حكايات كثيرة تنسب للرجل نشاطا خيريا واسعا وسط أهله المنعزلين المعزولين ،وكانت تلك السيرة تجد مصداقية لها كلما قدم الرجل لمحاكمة، كانت جيوش من النساء البائسات يتجمهرن حاملات اطفالا ناحلين يبدون كالاشباح في صدورهن النحيلة، لكنهن يظلن يتابعن الجلسات يوما بعد يوم حتي تنتهي ، وكانت معظمها محاكمات طاش فيها سهم الحكومة وشرطتها وخرج الرجل ببراءة عززت أسطورته وأشاعت اليأس من امكانية النيل منه، لكن لكل أول آخر، وقعت الواقعة وضبط العنكبوتي بالثابتة، وذات صباح علق علي اعواد المشنقة في سجن مدني الكبير الذي خرج منه ظافرا مرات عديدة، خرج الرجل جثة هامدة بعد تنفيذ حكم الأعدام وانهارت امبراطورية الفقراء ولايعرف أحد من صار راس خيطهم بعده وماذا جري لاولئك النسوة التاعسات.
الرواكيب الصغيرة (سوق النسوان)
كان ذلك المكان مكاناً خاصاًفي طبيعته، كنت مفتونا به برغم أن الوقت الذي كنت أقضيه فيه كان دقائق وثوان عابرة فقط، لكنني كنت اتوقف دوما عند أشياء صغيرة تثير في ذهني وعقلي الطفل أسئلة كثيرة وكبيرة، كان المكان مجموعة من الرواكيب الصغيرة المصنوعة من الحطب والشوالات والبروش، كانت تلك الرواكيب تحتل ركنا قصيا في قلب مدينة ودمدني في حي الموظفين في مساحة تقع كنقطة فاصلة بين موقف الحافلات وحي الموظفين بالقرب من مباني الجوازات وأقرب الي ميز الاطباء الواقع غرب موقف الحافلات الرئيسي في سوق مدني، في تلك الرواكيب الهيمنة لنساء بعضهن شابات نسبيا وبعضهن كبيرات في السن أمتهنٌ تجارة تقليدية وهي تجارة تؤمن احتياجات النساء من الطلح والشاف والبروش والنطع والحنة والمحلبية والبخور بانواعه والمباخر والمناقد والفنادك وعدة القهوة من شرقرات(جمع شرقرق) وقدايات (جمع قداية)وفناجين واواني الجبنة نفسها المصنوعة من الألمونيوم والصفيح والفخار بما في القلايات و والجبنة نفسها والليف وغيره، وهناك روائح وعطور سودانية تصنعها النسوة باقتدار بما في ذلك الدلكة والخمرة وغير ذلك، الي جانب ذلك هناك السمن البلدي والعسل وكثير من الادوية البلدية مثل القرض والحرجل والمحريب ، وهناك القفف والهبابات وعدة الجرتق كلها وحتي هلال العريس وود الطهور المصنوع من النحاس، المهم كان سوقا فريدا عامرا بزائراته من النسوة وتاجراته ، ولم يكن يخل من العنصر الرجالي، فقد كان هناك رجال يعملون في ذلك السوق في مهمة تكسير الحطب الذي كان جزءا من بضائع السوق ويقومون بتكسير الطلح والشاف أيضا، لذلك ربطتهم بالمكان وتاجراته صلات قوية وغريبة، اتذكر احدهم كان رجلا ضخما طويلا اسنانه بارزة مصفرة وفيه شئ من التخلف، اذا ضحك اهتز المكان وارتجف من لم يسمع ضحكته من قبل، كان طفلا اذا تحدث، طيب القلب ساذجا الي حد بعيد،كان صورة مجسمة للزين كما أورده الطيب صالح في عرسه، الاخر كان قصيرا ومتحدثا لبقا وشخصية قوية آمرة، لكنهما في العمل متساويان، وفي اللقمة بعد يوم عمل طويل واثنائه شريكان دائمان، واتذكر انني شاركتهما ذات مرة الطعام الذي كان لقمة بملاح ساحن اظنه كان ملاح شرموط، كنت أجئ الي ذلك السوق مع جدتي التي كانت تزود السوق بانتاجها فقد كانت ماهرة في صناعة القفف والبروش والمصالي الصغيرة والهبابات والبروش الملونة من السعف، وكانت تشتري حاجياتها من السوق نفسه وعلي رأسها السمن البلدي. كنت أرافقها في رحلتها تلك وانتهز فرصة انشغالها بالمساومة حول ما تريد بيعه وما تريد شرائه، فاتجول في كل ركن في السوق العجيب متابعا وراصدا ومنبهرا بكل شئ....كان ذلك السوق علامة من علامات عظمة شعب السودان في ذلك الزمان، كان سوقا عفيفا لاناس عفيفين منتجين مبدعين لا يعرف الرياء اليهم سبيلا، يأكلون حلالا ويقدسون العمل ويحترمون من يعمل، ولايركضون خلف المال الحرام والكسب السريع المشبوه، كان السوق يعكس احترام المجتمع للمرأة ومكانتها فيه، فقد كانت منتجة عاملة لاتلاحقها الكشات والتهم الباطلة وسوء الظن أينما ذهبت....
نفس ذلك السوق شهدته في الابيض في سوق ابو جهل وهو سوق نسائي بحت
ونفس ذلك السوق شهدته في مليط في دارفور قبل الحرب
وشهدته في الفاشر ايضا
وجه غاب في الزحام
(اليك في غيابك أعيد كتابة انبهاري)
مازلت أسيرا للدهشة في حضرة هذي الروح الشفيفة
التي تخترق روحي بقوة كالنسيم
كالشهقة
والزفير
أراك بخيالي كائنا من نور نبتت له أجنحة
لكنه لايطير
بل يصلي في خشوع
وكلما أطال السجود
بكي
فانفجرت الانهار والعيون
صورتها:
قبل خمسة عشر عاما
عرفت في مدينة ما فتاة صغيرةلم تبلغ العشرين
لكنها هائمة في ملكوت الشعر
رقيقة كفراشة
شفيفة كالبلور
خفيضة الصوت كأنها تخشي ان تجرح النسيم
تكتب شعرا يجندل من يقرأه ويشعره بالضآلة
كانت مفتونة بكتابات خجولة كنت اكتبها
ولم تدرك انني بت مفتونا بكل حرف خطته يدها
كانت أنثي فريدة في كل شئ
خفت من رقتها عليها
ومن دموعها الكثيرة التي لم أرها بعيني ولكنني سمعتها في صوتها في هاتف كان رسولا بيننا
وخفت من أعجابي بما تكتب
وبما هي عليه من صدق في الكتابة
صدق يجعلك تخاف عليها مما هي عليه في زمن فظ
فرقتنا الدنيا
لكنها بقيت بداخلي بصوتها الخفيض وعقلها الكبير
وروحها الشفيفة
في حضرة أحرفك
انبعثت صورتها من مرقدها
تمنيت لو انك التقيتيها.......
لم أقو علي السؤال عنها أبدا
فثمة شئ ما
يخيفني من السؤال!!!
ذكريات
كنا صغارا جدا، ولجنا الثانوي العام للتو بمدرسة فريني الثانوية العامة بحي المزاد حين اكتشفنا فجأة اننا مهمشون ومهملون ومفتري علينا من اخوتنا الكبار في حي 114 الشهير بالكمبو وبالأخص لاعبي فريق المشعل الذي كان آنذاك ممثل الحي الوحيد في الرابطة الجنوبية للناشئين التي كانت تضم فرق تنتمي الي احياء الحلة الجديدة والكمبو والمزاد وهي الرابطة التي زودت مدني وفرقها بابرز النجوم، كان فريق المشعل مكتظا بنجوم مميزين منهم احمد حربة ومحمد كورة واليسع حاج بليل وعثمان حاج بليل والمرحوم حسن شوة وعلي مرغني وازهري وحسن علوب وبهاء الدين رومينغا وآخرين، لم يك هناك متسع لنا معهم حتي في تمارين الفريق التي كان يحضرها اهل الحي كلهم فكان نصيبنا جمع الكرات فقط أو البقاء احتياطيا لاتمام النقص في التمرين، كنا نتوق للعب ونشعر ان لدينا ما نقدمه وكان من الصعب ان نقتحم تشكيلة المشعل قريبا، فقررنا تكوين فريق جديد سميناه المجد ووجدنا مساعدة من اداريين سابقين بالمشعل منهم ازهري حبيب نسي وصلاح حسن اضافة لمجهودات اول رئيس للفريق الفاتح عبد الوهاب عبد الحفيظ واول سكرتير الاخ فهمي حسن صالح، ذهبنا الي استوديو الحرية بالسوق الجديد وتصورنا وجمعنا الصور وذهبنا الي مكتب الناشئين بمركز الشباب بود ازرق حيث اكملنا اجراءات تسجيل المجد واجتمعنا ثانية في خور يشق حي 114 قبالة منزل ناس صلاح التوم وعماد التوم ابرز مهاجمي المجد فيما بعد وقررنا ان يكون الشعار اللون الاحمر بالازرق وجمعنا نقودا قليلة واشترينا ست فنايل مصرية بها مثلث في اسفل العنق من الاكشاك الواقعة بالسوق الكبير خلف مكتبة مضوي وبذلك الست كان ظهورنا الاول في الرابطة الجنوبية، كان ظهورا مبهرا حيث توالت انتصارات فريق المجد( الاولاد الصغار الذين تمردوا علي الدكة وفاتوا الكبار) وكان نصيب المشعل هزيمة نكراء برباعية منا في أول مواجهة في دوري الرابطة جعلت لقاءاتنا اللاحقة ديربي نار ينتظره الجميع، كان يقف خلف انجازات المجد مدرب مميز هو الراحل صلاح الشاذلي حارس اهلي مدني السابق واحد ابناء منطقة نوري الذين استقروا بالكمبو مع ناس خالته عليها الرحمة حاجة زكية والدة محمد عبد الغني محمد توم واخوته عبد العظيم وبكري، كان صلاح الشاذلي تلميذا نجيبا للكوتش سعد الطيب فنقل الي المجد اسلوب لعب الاهلي وطريقة الاهلي الجميلة في تناقل الكرة برشاقة الي ما لانهاية ففتن الناس بالمجد ولقبوه ببرازيل الرابطة الجنوبية، وكان من نجوم المجد الحارس ناجي حسن محمد صالح الذي بات حارس الاهلي فيما بعد وشهرته تشتش وشخصي الضعيف ايضا في حراسة المرمي ولعبت فيما بعد بفريق الثوار وهناك لاعب الوسط الرهيب محجوب كرفون الذي لعب فيما بعد للنهضة وهناك احمودي لاعب الوسط المدافع الذي لعب بالثوار ثم النيل، وهناك صلاح التوم وصلاح قيلي نجما التضامن والمرحوم عمر الجون في الحراسة ومحمد زامبيا المهاجم الذي لعب بالرابطة والمهاجم بدر ترة مهاجم الاتحاد مدني الشهير وهناك المدافع ضياءالدين شجر الذي لعب بالاصلاح وعادل الثعلب الذي اصبح صخرة دفاع الاتحاد مدني
وكذلك المرحوم حسون نجم الاتحاد مدني فيما بعد وشقيقه عبد ربو والمرحوم بشير الطاهر ، كانت فرقة المجد اضافة حقيقية للرابطة الجنوبية حتي انه تصدر البطولة ومثل الرابطة في بطولة الروابط وكانت له صولات وجولات، وعلي نطاق الحي تحول التنافس الحاد مع المشعل الي محبة متبادلة واحتل الفريقان نادي الحي وتقاسماه وبات النادي شعلة من النشاط الذي يرجع الفضل فيه الي شباب الفريقين ،كانت فرق الرابطة الجنوبية كلها مميزة فهناك فريق شباب المزاد والوادي المتجاوران اللذان يضمان ابناء المزاد المتاخم للحلة الجديدة وهناك فريق نجوم المزاد ومقره منطقة نادي الدفاع وهو مصنع نجوم كبيرة منها سقد والنقر وبدر حديدة وعلم والشاعر وهناك الطلائع ومقره المزاد القديم جوار مدرسة الهوارة وهناك فريق قلب الاسد الذي تخرج منه هجو وجمال نجما الاهلي مدني وهو فريق الحلة الجديدة الوحيد حتي بروز فريق السهم الذهبي الذي اسسه النور الفلاتي ذلك الرجل المحب لكرة القدم والذي كان له دور كبير في ترقية الرياضة بمدني فذلك الفريق ابرز نجوما كبيرة منها الفاضل جبريل الشهير بالفاضل ودعة او كرشو نجم الاتحاد مدني وسبب تسميته الفاضل ودعة انه كان يلعب بجزمة بيضاء من البلاستيك اشتهرت بانها ودعة لانها تشبه الودع فعلا والفاضل رجل محترم ومحبوب اينما حل شهد الناس له بطيب المعشر وانه فلتة كروية وكذلك برز الفلتة جهاد الطاهر نجم الدفاع في فريق السهم الذهبي وهناك فريق ابناء كوري ايضا وهو فريق منطقة من مناطق الشايقية بمحلية مروي. كان دوري الروابط منجما حقيقا للنجوم واتذكر من النجوم الذين لعبنا ضدهم كابتن منتصر الزاكي والمرحوم منير استيف وفيصل بوكش الذين كانوا يلعبون في فريقي الامل والجهاد بدردق وبيننا وبينهم مواجهات دائمة وكذلك جمعة نجم النيل مدني الذي كان يلعب للثغر شندي فوق وهناك ناس نجوم جبرونا وفريق اخر كان بود ازرق يسمي البحيرية ونجوم بانت وفريق الجيل السكة حديد
....كان زمنا باهيا زاهيا، انتقلنا منه الي دوري الثالثة في مدني وكان دوري مولع نار وله جمهوره الخاص الذي لايغشي دوري الاضواء ابدا مكتفيا بنجوم الشمس الحارة، وهو جمهور طريف جدا وصاحب نكتة، لعبت في الثوار بصحبة طارق تكل وفقيري وحجزي ونورالدين عبد المجيد وكابتن حيدر حامد وحسن الطيب وحسن ضرس وعادل عثمان وابوعبيدة محمد محمود وعمر عباس الشهير بتليس واحمودي زميلي في فريق المجد 114 ويحي المهاجم اللعاب والمرحوم محمد خير الجناج الايسر المزعج للخصوم ولعب معنا عماد عبد العزيز العمدة بعد عودته من المريخ وتولي تدريب الفريق كل من المرحوم ابوليلي والمرحوم مجد الدين سنهوري وفوزي الطيب . ساهمت في صعود الفريق الي الثانية وتوقفت عن اللعب عند ولوج الجامعة عام 1983. ولازالت تربطني علاقات طيبة باهل فريق الثوار وهم اسرة جميلة مترابطة.
حين غنى وردى ومحمد الأمين في حفلة عرس
كان زواج العازف عبد الرحمن عبدالله من الاستاذة عائشة حسين شقيقة دفعتنا وصديقنا خالد حسين بحي الدرجة جوار مدرسة الليثي بنات حدثا فريدا لن تنساه ذاكرة المدينة ابدا، فالعريس كان عازفا كبيرا ومهما باوركسترا الاذاعة وهو ضمن عازفي وردي ومحمد الأمين وكان له نشاط سياسي جعله يعاني الاعتقال لفترات طويلة ، كان ذلك في عهد النميري ، وكانت العروس مضطرة للانتظار فيما يبدو، وحين خرج الرجل وقررا الزواج، كان ذلك الزواج حدثا احتشد فيه الناس من كل مكان، واحتشد الفنانين والعازفين احتشادا غير مسبوق احتفاء بالعريس، كانت ليلة العرس مظاهرة ثقافية صاخبة، كان الحدث الأكبر الذي احتل ذاكرتي وذاكرة المدينة حين صعد العملاقان محمد وردي ومحمد الأمين وصدحا لأول مرة سويا برائعة وردي نور العين ، بللت الدموع العيون وصوت محمد الأمين الغليظ القوي يجاور صوت وردي صادحا بنور العين ملبسا اياها زيا جديدا لم يألفه الناس، وردي نفسه غناها كأنه يغنيها أول مرة، أما الناس فكانوا يستمعون في خشوع من يؤدي صلاة، كانت ليلة لاتنسي أبداً.
صلاح سر الختم علي
16-08-2014, 10:50 AM
مدنى مدينة الزهور و الجمال النائم
(1)
فيها ولدت في أواخر خريف في حي المزاد ثم تنقلت مع أسرتى بين احياء البيان و114ومايو ، من ثم غادرتهامرغما بسبب ظروف عملي وظللت أتنقل في المدائن وذلك الجمال النائم يستوطن قلبي وحده ويحتله فلا أعرف لنفسى هوية غيرها أو حبيبة . ظلت تسكننى حتي بعد أن كففت عن سكناها . ظلت ذكرياتى وحياتى التي عشتها في أزقتها وحواريها هي المكون الرئيسي لشخصيتى وهي الوقود الدافع عندما تقبل الخطوب وتدلهم الدروب.
ودمدني مدينة صغيرة تكاد تكون قرية كبيرة لكنها أجمل المدن بذلك الجمال الساحر الذي يستوطنها
ليس جمال مبان أو حجارة صماء أو جمال طبيعة بكر وهو كله جمال موجود بها ،ولكن الذي يميزها حقا هو جمال قلوب اهلها،ذلك النزوع الخلاق نحو التلاقح والتواصل تلك الروح الملهمة والمبدعة لشعبها المحب الذي خرج من صلبه الشعراءوالمطربين ونجوم الساحرة المستديرة والعلماء والرسامين والكتاب والنقاد والمسرحيين والأعلاميين..
..الطفولة في مدني لوحة بهية يحتل الخريف وبروقه ورعوده وامطاره الكثيرة والفراش الملون القسم الاكبرفيها،طفولتى كانت لوحة رائعة
تعالوا وتجولوا معى فيها.
حي( 114) الساحروآمنة بنت وهب الجميلة
عشت وأسرتى سنوات عزيزة من العمر بحي 114 او الكمبو كما يحلو لقاطنيه تسميته وهو حى يقع في القسم الجنوبي من مدني الذي يضم احياء المزاد وشندي فوق والبحوث والحلة الجديدة و114والدرجة الاولي والثانية والسكة حديد ومن معالم هذا الجزء هيئة البحوث الزراعيةوالنادي الاهلي والسوق الجديد والقسم الجنوبي وميدان الاهلي وميدان الدفاع وهوميدان الرابطة الجنوبية اقوي روابط الناشئين بمدني وميدان التضامن وميدان الشهداءوسوق المزاد وسوق الدرجةوالادارة المركزية للكهرباء والمياه ومحطة السكة حديدوالمؤسسة الفرعية للحفريات وورشتها الضخمة ومجموعة ضخمة من المدارس الابتدائيةوالثانوية العامة والعليا ابرزها مدرستي السني ومدني الثانوية العليا بنين ومدني الثانوية بنات وشدو العامةبنين والليثي العامة بنات والجزيرة ابوبكر وغيرها .يقع حي 114 في الوسط بين الحلة الجديدة والدرجة وتفصله محطة السكة حديد عن الجزء الشمالي من المدينة ويقع استاد مدني قريبا منه حيث يسمع السكان هدير الانصار داخل البيوت في المباريات الكبيرة بين الاهلي والاتحاد والاهلي والنيل.وهناك عدة روايات حول سبب التسمية فمن قائل ان البيوت عددها 114 واخر يقول انه يقع في الكيلو 114 من مشروع الجزيرة ومن قائل انه سمي تيمنا بعدد سور القرآن ولكن اقوي الروايات هي الخاصة بالكيلو 114 . جاءت امي الي مدني عروسا صغيرة مخضبةالايدي بالحنة من ابوهشيم حاضرة الرباطاب الصغيرة واستقرت الاسرة في البدء بحي المزاد حيث ولدت ثم انتقلت فيه نفسه الي منزل اخر ومن ثم انتقلت الي حي البيان بالقرب من محطة تلفزيون الجزيرة التي شيدبرجها في مطلع السبعينات وكناشهودا لذلك الانشاء من بيتنا في حي البان ومن ذلك البيت انتقلنا ذات خريف الي حي 114 الذي اقمنا فيه سبعة عشر عاما بالتمام والكمال منذ يوليو 1973 حتي العام 1990 الذي انتقلنا فيه الي اول منزل مملوك للاسرة في حي مايو مع انطلاقة منافسات كأس العالم 1990الذي شاهدناه في ذلك المنزل الفسيح. كانت ايامنا في 114 أحلي ايام حياتنا وكانت امي(آمنة بنت وهب) أمية لكنها ذات لسان عربي فصيح ينظم الكلمات شعرا كما يحتسي المرء كوبا من الماءبلا تفكير مسبق، كانت جميلة الملامح بشلوخ عريضة ووجه مكتسي بصفرة بلون الذهب اللامع وأناقة بسيطة لا ادري من اين جاءت بها وهي التي لم تر قبل ودمدني سوي ابوهشيم الغارقة في الظلام ولكنها أناقة الروح التي تطغي وتختم الوجه والشخصيةبطابعها، كنا اسرة محدودة الموارد كبيرة العدد وكان ابي عاملا صغيرا مكافحا ووحيدافقد عرف اليتم باكرا حين رحل ابوه وهو في العاشرة وترك له أما واخوات يتمسكن به تمسك الغريق بقشة فعرف العمل صغيرا واكتفي من التعليم بأوله وفك الخط والقراءة فقط وصار مراكبيا ينقل الناس بين الضفتين في ابو هشيم بمركب دوم صغيرة من ثم عرف الهجرةحتي اقصي الشرق طلبا للرزق فبلغ تسني في بلاد الحبشة مزارعا وعاملا ثم استقر به المطاف بارض الجزيرة اخيرا عاملا بالمؤسسة الفرعية للحفريات متدرجا من اسفل السلم طلبةحتي بات سائقا لكراكة يعمل علي ظهرها سحابة النهار في اراض بكر شقا للترع والقنواتالخاصة بما عرف آنذاك بمشاريع التنمية في كل بقاع الوطن الكبير: الرهد ، كنانة، ابونعامة، الكناف، مشاريع الشمالية، خشم القربة، امتداد المناقل، الجنيد......الخ.لذلك كان أبى غائبا أغلب وقته في طلب الرزق وكانت أمى كغيرها من نساء ذلك الحي الفريدمطلوبا منها القيام بدور الأب والأم معاًفي زمن لم تكن الحياة فيه سهلة ميسورة. كان الرغيف كسرة تعاس مرتين في اليوم علي الاقل وكانت النار توقد بالحطب والفحم وليس الغاز وكانت القراصة والفطير اشياء ثابتة في مائدة البيوت صباحا ومساء، ومع ذلك كانت أمي سعيدة وكانت السعادة تتقافز من بيتنا الصغير الي الشوارع كاللبلاب وكانت أمي وسط تلك البهجة اشهي وجبة حب ومحبة نتقاسمها ذكورا وإناثا في ذلك البيت الصغيرذي الغرفتين المسقوفتين بالزنك وتميزها شبابيك مغطاة بالنملي ومطلة علي الشارع .عشنا في حي نادر بتركيبته الاجتماعية الفريدة فجميع السكان هم اسر عمال ينتمون لوزارة الري ومؤسساتهاولهم ذات قصة الهجرة والكفاح والرحيل الي البعيد والغياب القسري عن الاسرة. وكان الحي عبارة عن سودان مصغر تجد فيه الشايقية حديثي القدوم من منابعهم الاصلية بلهجتهم المسكونة بالحنين والمحنة والرافضة للانحناء امام سطوةالمدن الثقافية وتجد فيه القادمين من أقصي جبال النوبة بسحنتهم الافريقية وانفتاحهم الجميل علي الاخرين وعشقهم للالوان الجريئة وتجد فيه الدناقلة برطانتهم الغامضةوطيبتهم الظاهرة واشجار النخيل والليمون التي تتبعهم اينما حلوا وتجد الجعليين وبخاصة القادمين من جهات الدامر الذين تتبعهم أينما حلوا أشجار الحنة الخضراء التي انتشرت بفضلهم في كل الحي وصارت علامة مميزة له حيث تجد في كل بيت صفا من أشجار الحنة، وتجدفيه الرباطاب وجوالات البلح الحاضرة في كل عام بعد الحصاد وهي ميزة كل القادمين من الشمال لكن الرباطاب تميزوا بذلك البلح اللذيذ(المشرق) او العجوة عند اهل الصعيدوتميزوا بصنعة السعف الذي يأتي البيوت أبيضاً جافاً يكاد يتكسر فيخرج منها علي أيدي النسوة المبدعات قففا وبروشا وسجاجيد صلاة(مصلايات) جميلة طيعة لينة تغزو سوق المدينة وتعود بالنقود علي الصانعات وكانت تلك هي حرفة الحبوبات القادمة معهن من هنالك حيث الجذور وهي سلاح لمحاربة الاعتماد علي الاخرين ووسيلة لحفظ الكبرياء وكسب الرزق ومناسبة للونسة حول فناجين الجبنة والتسامر سمرا يبدد وحشة النهار ويستعدن به جزءا من معالم قيزان رملية وقري وادعة تركنها وراءهن وجئن لاجل الاولاد والبنات المهاجرين الي الصعيدأي المدن. كنت محظوظا اذ كانت لدي جدتين مجيدتين لهذه الحرفة ولفن الحكي او الحجا( من حجوة: اي قصة) وقرض الشعر طازجا كالحليب فأحالتا طفولتي( في ذلك البيت الصغير الذي لم تدخله لمبة نايلون الا حين صرت كبيرا) الي وهج مضئ من الحكايات ترن بأذني كلما دنت ساعة النوم وتستدرجني بعيدا الي فضاءات ساحرة، واتذكرنسج( بت الحاج) حبوبتى الجميل للسعف وابتسامتها التي يغور معها خدها النحيل الي الداخل وتلتمع عيونها الصغيرة داخل النظارة ذات العدسات الكبيرة والاطار الأسود... كنت انتظر بفارغ الصبر انتهاء عملها كي ارافقها الي رحلة كانت تكريني(أي ترشوني) بالنقود كي ارافقها فيها منتظرا بيع البضاعة بسوق السعافة لأنال حظي من نقود لامعات يذبن سريعاويغبن في جوف الدكاكين كما تذوب تلك الحلوي التي اشتريها بهن في فمي ويجئني صوت بت الحاج ليلا ممثلا
هدهدة جميلة
النوم ... النوم.. النوم .. بكريك بالدوم
النوم النوم : النوم تعال
النوم تعال سكت الجهال
واشعر أننى اتأرجح فوق مهد مصنوع من الأزهار وثمة اياد رقيقة تهدهدني حتي انام مثل ذلك الطفل الذى القت به أمه في اليم خوفا عليه من ملك ظالم يقتل الصغار. كانت بت الحاج جدتي لأمي ضئيلة الجسم لونها أقرب الى السواد وكانت بت خادم الله جدتي لأبي وكانت الأخيرة طويلةكنخلة بيضاء اللون فضية الشعرجميلة الوجه رغم انها ضريرة الا انها كانت قادرة علي انبات اجنحة من الخيال جعلتني أحلق بها عاليا خارج حدود الغرفة الصغيرة ومجلسي عند قدميها وأمسى فارساً علي ظهر جواد طائر فوق الغابات والأشجار مردفا فاطمةالجميلة خلف ظهره.كانت أمي مليكة متوجة علي جلسات الأنس البرئيةحول الجبنة بضحكتها الخافتةالوقورة وابتسامتها المضئية ومحبتها الظاهرة للناس اهتماما واحتفاءا بهم وسؤالاوتفقدا لهم عند الغياب وكانت محبة لبيتها ولصاحب البيت الغائب غصبا عنه وكانت ايامه القليلة التي يقضيها بيننا اول كل شهر عيدا لها ولنا ينتهي سريعا بعد ان يحمل ابي ادوات اغترابه الذي يدوم حتي نهاية الشهر وكانت ادواته لحما مجففا(شرموط) وباميةجافة مسحونة(ويكة) ودقيق ذرةلصناعة الكسرة وسكرا وزيتا وشايا وسعوطا يعكف علي اعداده بنفسه فحيث يذهب لايوجد صعوط.كان الخبثاء يسمون اولاد 114( اولاد الرفاهية) والرفاهية المقصود بها تلك الايام القلائل اول كل شهر التي يأتي فيها الغائبون الياسرهم بالنقود ومؤونة الشهر ويذللوا خلالها المشاكل الاخري بما في ذلك حلاقة رؤوسالاولاد وخياطة الملابس الجديدة وشراء الاحتياجات المدرسية.كانت الامهات في ذلك الحي وذلك الزمان يتحملن مسؤولية ادارة شؤون الاسر حتي عودة الاباء ويقمن باعباءيومية كثيرة، وكنت اراقب أمي وهي تعمل بهمة في تكسير حطب العواسة بالفأس واراها وهي تقطع اللحم وتورق (الخدرة) وتبدأ في فرمها بالفرامة علي صينية الالمونيوم حتي تصيرعجينةخضراء صغيرة وهي تنشد في مدح الرسول بصوت خافت وتمازحني بمحبة بالاسم الاثيرلديها( ابو الصلح) وأراها عصرا وهي تكنس الحوش كل يوم وتنظفه بدقة وترش الماء علي( الفرناغة
اي المكان الذي به تراب قد يثير غبارا.كنت أشفق عليها من اعبائها الكثيرة فأتقدم وآخذالفأس منها لكي اكسر الحطب وتنهال ضرباتي علي الارض فتشوهها ولاتنال من الحطب شئيافتضحك أمي وتأخذ الفأس مني وتباشر العمل بنفسها وتطلب منى التركيز في القراءة بلهجةودودة لاسخرية ولاتضجر فيها. ثم تهئ مجلس القهوة وتأخذ زينتها كعادتها فهي تكن دوماً في احسن صورة وبلا تكلف سواء كانت خارجة ام بالبيت.عاشت عمرها كله متدثرة بالمحبةوداعية لها واتذكر الان رحلة الحج الاخيرة قبل رحيلها باقل من الشهرين وتلك الدهشةالمرتسمة علي وجهها وهي تنظر الي الطائفين بالكعبة من عل وقولها بصوت مخنوق باك: (قادر الله... قادر الله.. دي كلها أمة سيدنا محمد؟قادر الله) ثم سالت دموع صامتةعلي خدها واخذت في الدعاء والتضرع مترحمة بدءا علي امها ومتحسرة علي انها لم تقف مثلها هذا الموقف وذهبت دون ان تبل شوقها لزيارة الكعبة والمدينة المنورة. كان ذلك في نهاية العام 2004 وفي اول 2005 عدنا وفي الرابع عشر من مارس 2005 رحلت آمنة بنت وهب في امدرمان في صمت عن دنيانا بعيدا عن مدني الاثيرة لديها وكنت انا بعيدا عنها اذ شاءت الاقدار ان افارقها مساء الثلاثاء في ليلة اجتمع فيها شملنا بعد غياب طويل كنا حاضرين جميعا بمنزل محمد اخي الاكبر حتي احمد الذي غاب في ابوظبي منذ الثمانينات كان حاضرا هو واسرته وكنت حاضرا وكانت اخواتي حاضرات جميعهن بمعية الاحفاد الذين ملأوا البيت ضجيجا وكان ابي حاضرا كان الغائب الوحيد اخي عماد المقيم بالسعودية.. كانت جالسة في المنتصف ترنو بشرود الينا جميعا وكأن افقا بعيدا ترآئ لها فكانت صامتة علي غير العادة ومتعبة. ودعتها واستأذنتها ان يكون وداعي من هنا لانني لن اتمكن من الحضور اليها قبل سفري بعد الغد ولم اكن ادري انه الوداع الاخير. سافرت بالخميس الي الفاشر لعمل وجاءني نعيها فجر الاحد كالصاعقة. وغابت أمنة الجميلة وبقيت روحها الملهمة تمشي في الارض بين الاحياء
وجه من ذاكرة المدينة
(مكى شقى) بانى البيوت والأرواح
كان طويل القامة افريقي الملامح وكان من عجائب مدني الكثيرة يعمل بناءا ماهرا نهارا ويعمل مساء فنانا مغنيا له لونية خاصة محببة جلها اغنيات الفنان رمضان زايد التي يجيدها ويؤديها بطريقة مميزة ورائعة جعلت حفلاته ناجحة وجاذبة وجمهوره ضخما وكان ككل ئ في مدني عبر ازمنتها المختلفة موضوعا تنسج حوله اطنانا من الحكايات الصحيحة والمضاف اليها من خيال ]الرواة واشتهر بلقب الشقي فصار اسمه لايأتي الا مقرونا باللقب بلا الف ولام التعريف حتي صار معروفا في المدينة ب( مكي شقي) وهو لقب ربما يرجع الي اغنية شهيرة يردد فيها كلمة (شقا... شقا) باستمرار.صار صاحبنا معلما بارزا من معالم مدني صدح في لياليها وبات جزءا من السيرة الذاتية لكثير ممن غني لهم في ليلة العمر النفيسة في زمن كان عنوانه( مازال الليل طفلا يحبو)و(وحفلنا مستمر حتي الصباح) وكانت الحسناوات يثرن بالارض نقعا وهن يتمايلن في الساحة كسرب من الطيور الجميلة وهي تنفض ريشها بسعادة عند مورد ماء، وكان صاحبنا يمسح جبهته العريضة بمنديل ملون ويتثني برشاقة مع الموسيقي بالرغم من ضخامته ويستمر الحفل حتي شروق الشمس وفي الظهيرة يعود الفنان اكبر اسطي تعرفه المدينة فنانا من لون اخر من الفنون، كان يبني البيوت نهارا ويبني النفوس ليلا. أي نهر من الابداع والجمال والبساطة والتصالح مع الذات كان يستوطن تلك الروح الشفيفة؟
دار الزمان دورة اخري وصمت المغني ولم يعد مرغوبا فيه ولم تعد حفلات مدني تستمر حتي الصباح وباتت الحسناوات مسمرة اقدامهن وهن مسمرات بالكراسي وحين تتحرك الاقدام بعفوية مع الموسيقي يتذكرن القيود الجديدة فتتسمر الاقدام بالارض ويغني المغنون والناس يتثاءبون وهم يلتهمون الساندويتشات المقسطرة وينظرون بخبث نحو الراقصين الذين مازال فيهم شئ من زمن مات مغنوه كمدا؟؟؟؟؟
تري اين انت الان يا مكي شقي الشقي؟ هل لديك بيت يأويك في تلك المدينة التي بنيت فيها البيوت التي تأوي الناس وبنيت فيها البيوت بالغناء في حفلات اسر جديدة ولدت علي صوتك؟
هل لديك بيت يأوي كهولتك وقد انفقت شبابك في بناء البيوت والقلوب وصناعة افراح البسطاء في مدني في ذلك الزمن الذهبي الجميل؟
أميرة الثقافة
في مدني كنا نبدأ يومنا بالاناشيد المدرسية
ونهارا نتصفح الصحف
وعصرا نلعب الكرة بلا كلل
ومساء نرتاح عند اقدام الجدة ونحلق مع حجاويها
ويوم الجمعة ننتظر ركن الاطفال الذي يقدمه عمكم مختار
ثم نذهب لنشتري سوبرمان او المغامرين الخمسة او سمير او ميكي من المكتبة او الباعة الذين يفترشوا الارض عند حديقة سليمان وقيع الله
وفي باقي الاسبوع نتبادل المجلات والكتب مع الاصدقاء
باختصار
كنا في مدينة تحرض علنا علي امتلاك ناصية المعارف والثقافة
كيف لا وهي اميرة الثقافة
رماد الذاكرة
كنت صغيرا .. عند اعتاب الثانوية العامة... مفتونا بالقراءة والاشعار... لازال عودي طريا ولازلت في مرحلة اكتشاف الاشياء...كانت المعارض المدرسية مسألة رائجة في مدينتنا في ذلك الزمن الجميل...كان المعرض نشاطا ثقافيا واجتماعيا يبرز فيه الطلاب مقدراتهم ومواهبهم ويأتي المعلمون والطلاب واولياء الامور لمشاهدة ابداعات الطلاب وتشجيعهم باختصار كانت المعارض بروفات ساخنة للتحديات القادمة التي تقابل الطلاب في الحياة... واتذكر ان معارض مدارس البنات كانت تشتمل علي عرض منتجات الطالبات من عمليات التطريز وغيرها ...في معرض لمدرسة عبد الستار الثانوية العامة التقينا... براءة وفضول وعيون واسعة وثقة بالنفس ... ذلك ما جذبني... كان الرداء المدرسي مفتونا بها ويأبي ان يفارق قوامها الجميل.
في المعرض التقينا .... كانت لغة العيون طريقنا الي التعارف.... ذلك الفضول شدني بالف خيط الي تلك العيون....اتذكر الان ان شعري كان غزيرا كموضة تلك الايام واسودا صافيا لم تسرح فيه أي شعيرات بيضاء... كنا براءة تمشي علي الارض... تعارفنا وتوقفت طويلا وهي تمارس عملها المرسوم في المعرض وتشرح لي ولغيري بثقة ظاهرة بالنفس...اتذكر انها قدمت لي قطعة حلوي في لحظة خف فيها الزوار ولم يبق سوي بعض زميلاتها وبعض رفاقي الذين كانوا يرقبون في فضول حوارنا المتقطع المثير.... كانت امالا لمعت واحتلت اياما وشهورا عديدة في حياتي ... كانت تبدو دوما اكبر مني وتبدو كمن يدرك ان احلامي مستحيلة لكنها لم تقلها ابدا ... ثم دارت الحياة دورة تباعدت اللقاءات ...ثم غابت في الزحام وسقطت من جدار الذاكرة...ظلت تومض بين الحين والاخر كلما جاءت سيرة اخيها الذي كان لاعب كرة شهير...ثم غابت وتلاشي ذلك البريق الذي يحيط بالذكري وحلت محله ابتسامة رجل كبير يتذكر اوهام طفولة باكرة...
وغابت في رماد الذاكرة وغابت الامال التي احتلت جدار القلب كشهاب ومض سريعا وانطفأ
الأصدقاء شهب جميلة في حياتي
كنا ثلة من الاصدقاء.... جمعتنا اشياء.... كنا اشتاتا .... خليطا متنافرا... احياؤنا مختلفة... اعمارنا متقاربة لكنها مختلفة... مدارسنا مختلفة.... اهتماماتنا مختلفة... خالد كان مفتونابالعلوم فتنة مبكرة جعلت منه فيما بعد طبيبا متميزا واخذته منا الي بلاد تموت من البرد حيتانها.... خالد الاخر كان رساما مهووسا بالرسم..
مجدي كان مفتونا بالشعر والشعراء وسيرة العظماء....عصام كان مهووسا بالسياسة والسينما واخبار الغرام....الطيب كان محبا للسينما الهندية والغناء الهندي والتمباك والدور الثاني في السينما...انا كنت محبا لكرة القدم والشجار وقراءة الالغاز والصداقة والاصدقاء... عبد الحميد كان سوسة كتب يقرأ الكتاب في اي وقت واي مكان ....وجدتني متوزعا بينهم : مع خالد استمع للاخبار العلمية واحاول مجاراة صديقي وملاحقة عبقريته الفريدة:: مع مجدي كنت احفظ القصيدة واتبادل الدوواين والمعلومات والمقالات واكتب شعرا امزقه وشعرا اقرأه علي استحياء ...ومع عصام كنت اقضي الساعات الطوال امام الفيديو نشاهد الافلام والمسرحيات واغاني مارسيل ....وكنت اتزود منه بالمنشورات والقصائد المخيفة التي نتبادلها كالممنوعات...
كنا نسهر حتي الصباح نتحدث عن مفهوم من مفاهيم الحب والغرام...كم كانت افكارنا الخطيرة حينها ساذجة ومضحكة بمقاييس اليوم....اما الطيب فقد قادني نحو السينما الهندية وقصصها الرومانسية وببطلها الذي ينتصر دائما علي الاشرار ..علمني الطيب اسماء نجوم الشاشة الهندية وكنت احاول مجاراته وهو يغني مع دهرمندرا وشاشي كابور... كان يحفظ احداث الفيلم كما يحفظ الشاعر قصيدته الاثيرة...حتي اننا كنا نشترط عليه الايبوح باي حدث حتي لايفسد متعة المشاهدة البكر علينا...كنت اذهب وحيدا نحو عالم الكرة عالم اولاد الفريق الذين لايعرفون من تلك العوالم الاخري الا السينما الهندية.... الغريب انني كنت استحي من ذكر سيرة نشاطي الكروي في حضرة اصحابي المثقفين....دارت الايام ... وجدت كل صديق زرع في داخلي من روحه شئيا ما....
بشير الطاهرالغياب الموجع
بشير الطاهر خيرالله وجه من وجوه ودمدني .. طويلا كنخلة رقيقا وباسما طفولي الملامح.. ينتمي الي اسرة الطاهر خيرالله بحي المزاد بمدني وهي اسرة خرجت افذاذا من الرياضيين لمدينة مدني ابرزهم اخواه طارق الشهير بطارق مسلاتي الذي لعب بفريق الدفاع مدني وانضم للفريق القومي ونادي المريخ في الثمانينات والاخر جهادكان لاعبا مميزا بفريق الدفاع، برز بشير منذ الطفولة كلاعب مميز وكان من ابرز نجوم فريق المجد 114 بالرابطة الجنوبية اقوي راوبط الناشئين بمدني وصال وجال وبذ اقرانه وسطع وكان ينتظره مستقبل واعد لكنه كان مسكونا بعشق من نوع اخر فقد كان الفتي الابنوسي الطويل القامة عاشقا للبزة العسكرية مسكونا بحب الوطن وكان ابرز من بفرقة الكديت بمدرسة السني الثانوية من الطلاب وتخرج منها في العام 1983 ليذهب مباشرة الي الكلية الحربية مصنع الرجال ليتخرج منها ضابطا متميزا تنبأ له الجميع بمستقبل باهر وترك الفتي كل احلامه قبل الكلية وراء ظهره.، كانت حرب الجنوب مشتعلة وتشهد اقسي واسوأ فصولها حين غادر الفتي الي ارض العمليات الملتهبة.. كانت ودمدني تزف عريسها الجميل الي احراش الجنوب وهي تستحلف الغابة والشجر والعصافير ان تكون رحيمة بفلذة كبدها واجمل السهام في كنانتها... كن حي 114 وحي المزاد وميدان الرابطة الجنوبية جميعها شاحبة حزينة تبكي فراق بطلها وابن سرحتها الذي ياطالما صفق له المشاهدين وهو يشق الصفوف كفارس من فرسان العصور القديمة والكل يتراجع امامه كما تتراجع الاسماك الصغيرة امام موجة عاتية..... صرخت الغابة وشهقت من جمال البدر الذي حط رحاله في قلبها فردت كفيها ودثرته ورفضت اطلاق سراحه من اسرها ....... ظلت الاخبار غامضة ... لم يعرف مصير الفتي الابنوسي فارع الطول... ظلت الكلمات عديمة المعاني للقلوب التي تعاني لوعة الغياب المر هي رد غير كاف : تارة مفقود وتارة اسير........ بكت المدينة وتدثرت بالاسود وصمتت الافراح في حي 114 ردحا من الزمن ... تعلقنا بالامل الشاحب وسألنا عنه القمر والنجوم واميرات الاحلام وذكريات الطفولة والصبا ما بيننا وبينه...... لكنه استعصم بالبعد عنا ونأي... عاد العائدون وجاء السلام مبتورا وناقصا حين لم يأت عن بشير الطاهر بخبر؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟كنا رفاقا في فريق المجد تقاسمنا الافراح والاحزان وزدنا عن شعارنا الصغير كانه كان يتهيأ للزود عن شعار اكبر في ميدان اخطر لا تحسم المعركة فيه صافرة حكم ونعود سالمين الي الاهل....
الرحمة لبشيرالطاهر بقدر ما اعطي في عمره القصير للاخرين من فرح ومن عطاء بلا من ولا اذي ونسأل الله ان يتقبله شهيدا وينزله مقام الصديقين والشهداء
وجه
ثغر باسم وعينان تتلامع البروق فيهما... وجه طفولي ممتلئ براءة ووداعة
انثي تتوقف عندها كل القطارات حتي التي انهكها سفر طويل وباتت قاب قوسين او ادني من التقاعد،
كانت لاتزال طفلة ترتدي زي الثانوي العام وتمارس الاكتشاف للاشياء حين زوجوها
وكانت لاتزال دون العشرين حين باتت أما لطفلين واأمرأة وحيدة مهجورة تنتظر عودة زوج استعصم بالاغتراب البعيد وعاش حياته بالطول والعرض مدمنا وسكيرا ولا مباليا بما خلفه ورائه...ظلت الوردة مستعصمة ببيت ابيها واخوتها تطاردها النظرات المشفقة والجائعة اينما حلت... ثم اكتملت الفصول بالحصول علي طلاق كان واقعا يحتاج شهادة مكتوبة من محمكة تؤكده...ظلت العصفورة بسمتها الانيق والبرئ موضع الاحترام... تركتها في مدني تمشي بين الناس ملاكا جميلا يجسد ظلم الحياة لبعض الناس.... هو وجه غاب في الزحام لكنه بقي في الاعماق يستنطق الخير والجمال
( رجل نادر المثال)
ابي رجل نادر المثال
ابي عامل اتي صغيرا من اقصي الشمال الي قلب الجزيرة
كان يتيما رحل ابوه وهو في العاشرة وتركه رجلا صغيرا وحيدا وسط اخوات يتشبسن به كغريق يتشبث بقشة هي كل مايملك من احتمالات النجاة،عمل الصغير علي مركب دوم ينقل الناس بين الضفتين وعمل مزارعا وجاهد حتي اصبح عاملا في بلاد بعيدة
تحمل مسؤولياته ببسالة وكون حياة رائعة واسرة صغيرة كانت تقتات من عمل ينام صاحبه في الخلاء فوق كراكة شقت ترعا وقنوات واحالت اليباس خضرة في كنانة والرهد وابي نعامة والكناف والجنيد وعسلاية وامتداد المناقل والشمالية... بدأ طلبة وزياتا وبات سائقا ماهرا ومن ثم رئيس سواقين واخيرا مهندسا جربنديا(اي بالخبرة العملية)
عشنا في بيوت صغيرة لكنها ممتلئة بالدفء والمحبة واللقمة الطيبة ونعمنا بدفء جدة لاب وجدة لام وكان قدرنا ان لانري اجدادنا فقد كان جدنا لامنا هو الاخر قد رحل باكرا قبل ان نري النور... عشنا رحلة الشتاء والصيف في التنقل في كل عطلة من مدني الي ابوهشيم وبالعكس.. فقد كان ابي حريصا علي ان نعرف من اين جئنا ومن اين جاء ...كنا خمسة اولاد ذكور محمد واحمد وصلاح وعماد وعبد العظيم وثلاث بنات رائعات...كانت امي عليها رحمة الله زينة البيت وحاكمته العادلة التي تصطلي بنار الدوكة( الصاج) صباح مساء لتطعمنا الكسرة والفطيروالقراصة .. كان البيت الصغير قصرا نظيفا انيقا مرتبا برغم الضجيج وبعض فوضي الذكور.. كنا ننتظر الثلاث ايام في اخر الشهر التي يأتي فيها ابي من الخلا كما ينتظر الناس العيد نتعلق برقبته ويلاعبنا يجلجل صوته القوي في الدار فنشعر بالفخر والامان نشكو اليه جور اخوتنا الكبار ونتقدم بقائمة طلبات كثيرة صغيرة تجد حظها من الاجابةاو التنظيم في جدول الاولويات ونجد ابتسامة محبة وتشجيعا علي التعلم... ننتظر الرحلة الي الحلاق وغشوة الحلواني والنقود المعدنيات اللامعات والركض الي الدكاكين ،ومشوار الرغيف والطاحونة ... كان اول الشهر مميزا حتي بفاكهته ولحم الضأن الذي كان اثيرا لدي الناس في ذلك الزمن... كان ابي ساحرا بلا طاقية... كنت انظر اليه وهو ياتي ويذهب ويرتق ثيابه بنفسه في اوقات فراغه القليلة وهو يقص اشجار الحنة حين تطول بصبر وهو يكسر حطب العواسة قطعا صغيرة حتي يهون مهمة امي في الغياب كنت اشعر بانني انتمي الي هذا الرجل العظيم وتلك المراة الباسلة اكثر من انتمايئ الي اي شئ اخر في الوجود ... من ذلك البيت المعروش بالمحبة والعطاء خرج طبيب بارع تخرج بكلية الطب جامعة الخرطوم وعمل بالسلاح الطبي حتي رتبة اللواء غرس في كل شبر شجرة محبة استلمها من ابيه سرالختم علي كرم الله الرجل العصامي برتبة فارس الكريم برتبة المشير المحب برتبة لم تعلق كتف رجل الباسل بدرجة نكران الذات.
حملة انتقامية مضحكة
كان يوما لا ينسي ابدا، كانوا اصدقائي واندادي واولاد فريقي بمعناه الضيق فريق كرة القدم ومعناه الواسع الحي وكانت بيننا وشائج صداقة وذكريات لكنهم في ذلك اليوم كانوا متأمرين جميعا[علي... كان ثمة خلاف صغير لكنهم اضمروا شرا فاتفقوا علي استدراجي الي السينما الدور التاني ومن ثم تصفية الحساب بعد السينما في طريق العودة احدهم سمع بالمؤامرة ولم تعجبه فأسر في أذني بنواياهم الشريرة وكان لدي الخيار في عدم الذهاب لكنني اصررت علي الذهاب قلت لنفسي (علقة تفوت ولا عار هروب يبقي) ، قبلت الدعوة وذهبت وحيدا وسط اصدقائي المتأمرين الصغار، دخلنا السينما وشاهدنا الفيلم وعدنا سويا والصمت والخطوات المثاقلة والنظرات ذات المغزي رفيقنا... حين قطعنا السكة حديد واصبحنا في مكان خال من المارة تقدمتهم وواجهتهم بتحد وصلف وقلت: انا اعرف ما تدبرون ولكنني لست جبانا وانتم لستم رجالا الرجل لايستدرج ولايغدر ... قد تقدرون علي لكنني سأخذ تاري...عم الصمت .. استفزتهم العبارات قال احدهم انا متفرج فقط ومن له حساب فليأخذه.
قال ثالث انا معه من يمسه مسني وقال ثالث انا وحدي بكفيك وما داير مساعدة وقال اخر...وقال اخر... وكان شجار جماعي تحول فيه بعض المتآمرين حجازين محايدين...
نلت من خصومي ونالوا مني اكثر مما نلت... وعدت الي البيت ممزق الملابس ولكن مرفوع الرأس وبعد ذلك جهزت سيخة مجلدة بسيور البلاستيك وصرت اصطادهم واحدا واحدا صباحا وهم في الطريق الي سوق الخضار وهي رحلة اجبارية لنا جميعا كل صباح...........
ولم تتوقف حربي الانتقامية الا بصلح عريض عدنا بعده اخوانا وصارت حملتي الانتقامية ذكري مضحكة
( زهرة عند معبد ابي سنبل)
كان اسمها ازدهاروكانت أسما علي مسمي بملامحها الطفولية الرائعة، كانت براءة تمشي علي قدمين وخفة روح نادرة ابتسامة دائمة حيوية تفوق سني عمرها القليلة...طالبة بالمدرسة الثانوية لما تزال...
كان القدر يختبئ في طيات رحلة مدرسية الي خارج الحدود عن طريق النهر.. رحلة تبدأ من مدني بالبص الي الخرطوم ومن ثم بالقطار الي حلفا ومن ثم بالباخرة الي اسوان... كانت سعيدة برحلة لم نكن ندري انها الاخيرة... كانت حريصة علي ان تودع الجميع وكأن ستارة القدر قد انزاحت امام ناظريها ...ثم جاءت اخبار الباخرة عشرة رمضان كالصاعقة... تناقلت الصحف النبأ الاليم ونعت الزهرات الجميلات التي اخذها النهر الغادر وكانه كان ينتظر هذا الحشد الجميل ليختطف منهن عروساته بأثر رجعي.. تركت ازدهار صورتها الجميلة في قلوب الكل ولم تعد ابدا ... بقيت بيدي سطور قليلة كتبت فيها وداعا لصديق لم تقابله قبل السفرسطور لم تحتو علي وعد باللقاء... بقيت الورقة الصغيرة حاضرة معي بضع سنين ثم ضاعت في زحام الحياة وبقي وجه صاحبتها حيا لايموت
(انتصار) الملاك الذي عاد من حيث جاء|)
كنت احدثكم عن امي... عن رحلتها من الريف الي المدينة وعن كفاحها لتربيتنا في ظل الغياب الجبري لابي عن الدار بسبب طبيعة عمله... كنا خمسة اولاد ذكور وثلاث بنات وكنت اوسط السلسلة حيث جئت بعد ولدين وبنت ثم جاءت بعدي بنت وبعدها ولدين وكانت هناك حبة صغيرة قد انفرطت من العقد قبلان تفارق مهجع الطفولة كان اسمها انتصار وهي اختي التي جاءت قبل اخر العنقود ولكن عيونها الصغيرة الجميلة وجسدها الغض لم يقويا علي الانتصار علي حمي الملاريا التي داهمتها قبل ان يقوي عودها فظلت تبكي وترتعش وتلفظ لبن امي من جوفها علي الشراشف البيضاء التي كانت تزينها حتي رحلت كالشهقة... كشمس داهمها غيم فاطفأ نورها قبل حلول اجل المغيب.. رحلت انتصار وهي بالكاد تقف عند اعتاب عامهاالثاني....رحلت ملاكا صغيرا جاء من السماء كبرق لمع بسرعة وذهب قبل ان نتبينه ولم يعد.... ذهبت وكنت طفلا غريرا ينظر في دهشة لطقوس الرحيل دون ان يفهم شيئاسوي الخوف مما يؤلمها ... كانت اول جرح ادمي القلب ... اسماها ابي انتصارالكنها لم تنتصر فمشيئة المولي لا ترد..حملها اخي احمد بين ذراعيه وانهمرت الدموع كسيل مندفع وظل يذكرها ويبحث لها عن حياة لم تكتمل وبعد سنين عديدة حين تزوج اسمي بنته البكر انتصارا وبكي وبقيت انتصاره تمشي دون ان تدري قصة تسميتها لربما ذات يوماحكي لها او يحكي لها ابيها قصة الملاك الذي طار بعيدا وارتحل... قلت لامي بعد عدةايام ( اين انتصار ؟ هل صحيح انها لن تعود؟)
بكت امي ومسحت دمعها بثوبها وضمتني الي صدرها كأنهاتخاف ان افلت منها ثم مسحت علي شعري بيدهاوقالت لي: (انتصار عادت ملاكا كما جاءت يا ابو الصلح واذا كنت طيبا مثلها ستراهاهناك؟)
فتحت فمي لاسألهاعن(هناك) لكنها نهضت مسرعةمغلقة باب الحوار وغابت في جوف المطبخ الوسيع ذي الارضيةالترابية والشبابيك الخشبية التي بهت لونها من توالي الامطار عليها... حين لحقت بهاهناك ارسلتني لشراء شئ ما من الدكان القريب بعبارة قاطعة اعتادت استخدامها حين تريداغلاق باب الاسئلة ، نظرت اليها فاشاحت بوجهها عني فبدت لي حزينة وباكية فندمت علي سؤالي الذي سألت والذي لم اسأله ونظرت الي قطعة النقود المعدنية في يدي كأنني اراهاللمرة الاولي وركضت خارجا كالقذيفة لكنني لم اذهب الي الدكان بل تسلقت الجدار الي مخبأ طفولتي باعلي رأس البيت اي السقف وبقيت هناك طويلا.بعد ذلك بعام او عامين جاءت سهام بهية كالقمرهبة من السماء وغابت ملامح انتصار في زحام الحياة لكنها بقيت بمكان ما ومازلت ابحث عن الطريق اليها والي امي .
.
ياسر عمر الامين
16-08-2014, 10:51 AM
صغيرا جدا كنت حين أنبتت لى جدتاى عليهما رحمة الله أجنحة من الخيال بحكاياتهما المسائية عن فاطمة السمحة والغول القبيح نتن الرائحة الذى خطفها ثم نام متوسداً ضفيرتها،وعن كهفه البعيد المظلم ، وعن حسن وحسين (أولاد عيسي الاتنين) الذين ظلت فاطمة السمحة تستغيث بهما وتناديهما بصوت رخيم عذب تقلده الجدتان وتتفنا في ذلك
من لم يعش فى كنف "حبوبة" من الزمن القديم لم يعش طفولة سودانية كاملة الملامح...عندما كنا صغارا كانت احاجى الحبوبات تستهوينا كثيرا وكنا ننتظر المساء بلهفة بالغة حتى نتحلق حولها لنسمع احجية من احاجيها وكنا نستمع بصمت غريب وباحساس فريد يراقب كل كلمة تخرج من فمها كأن الاحداث تتصور امامنا...ورغم ان اغلب الاحاجى تناهت الى مسامعنا مرارا لكننا كنا لا نمل سماعها ابدا...
ذلك الزمان لا يعود استاذنا الجليل صلاح بتلك التفاصيل الجميلة لكننا نحفل به ونحاول ان ننقل للاجيال القادمة بعضا من قبسه علهم يستمتعون كما كنا نستمتع ونطرب...وخالص الود لشخصك الكريم...
صلاح سر الختم علي
16-08-2014, 10:51 AM
( الرحيل الي الكمبو)
في احدي ايام الخريف والحشائش الخضراء قد كست الارض بساطا اخضرا جميلا والمياه تجري في الارض الطينية منطلقة كأنها حامل بشري سارة يسابق الزمن ليزفها قبل ان يدركهاالاخرون عساه ينال من الرضا نصيبا وقسطا، كانت اسراب الجراد تتراقص فوق العشب كاطفال ازدحموا في حديقة.. في هذا الجو الصحو الجميل بدأت اسرتنا رحيلها من حي البيان الذي استقبلنا فيه انتصار الصغيرة وودعناها قبل ان تمشي باقدامها الصغيرةعلي الارض الي حي جديد في اطراف مدني الجنوبية يتوسط مابين حي الدرجة الذي كان حياارستقراطيا وقتها وما بين المزاد والحلة الجديدة الذان ولدا وهما يندرجا تحت الاحياء الشعبية ومازالا يحافظان علي ذات الموقع، كان لحينا الجديد مسميان فهو عنداهله ( الكمبو) لانه سكن عمالي صرف مخصص لسكني عمال وزارة الري ومؤسساتهاوله اسم اخر تعددت الروايات في شأن سبب تسميته به وهو (حي114) فمن قائل ان الحي يمثل الكيلو (114) في مشروع الجزيرة ولهذا اطلق الاسم عليه ومن قائل ان عدد المنازل المشيدة فيه يساوي هذا العدد وهذا سبب التسمية ولربما تيمنا بسور القرآن الكريم، المهم ذهبناانا واخي احمد كوفد مقدمة مع ابي الذي كان سعيدا بانه سينعتق اخيرا من قبضة الايجارواصحاب البيوت ويدخل منزلا حكوميا استحق دخوله بعرقه تحت الشمس وتجواله في السودان مع المؤسسة الفرعية للحفريات سائقا لكراكة تعمل في شق الترع والقنوات فيما عرف بمشاريع التنميةولم تكن الرحلة هينة بل كانت رحلة طويلة بدأها ابي الذي كان ولداوحيدا وسط اخوات لدي ابيه الذي رحل باكرا عن الدنيا وتركه طفلا صغيرا يلم بالكتابةوالقراءة بقدر ماجادت عليه خلوة صغيرة بديارنا الاصلية بابي هشيم وجد الصغير نفسه يكافح منذ العاشرة ليجد موقعا تحت الشمس فعمل مراكبيا ينقل الناس من الضفة الي الضفة الاخري مابين ابوهشيم والجزيرة مرو ومارس الزراعة وحصاد التمر حتي قيض الله له هجرة مبكرة الي ارض الجزيرة حيث التحق بالمؤسسة الفرعية مثل غيره ممن وفدوا منالشمال طلبة ثم زياتا ثم ترقي حتي اصبح سائقا لكراكة كانت تحتل الصدارة في تساؤلات طفولتنا واحلامها... كيف شكلها؟ كيف يقودها ابي؟ ماذا يفعل بها؟ لماذا لا يعمل بهاتحت انظارنا؟ لماذا تأخذه بعيدا؟ لماذا يغيب كثيرا؟ كانت محط فضولنا وبعض غضبنا ...في ذلك النهار الخريفي والارض مزدانة بالاخضر والمياه تغوص عميقا في احشائها كنت اتعثر خلف ابي واخي احمد الفارع الطول ونحن نشق مدني من اقصاها الي اقصاها سيرا علي الاقدام والفضول يسابق الخطو في الطريق الي البيت الذي عشت فيه سبعة عشرة عاما من عمري فيما بعد.. جئته وانا بالفصل الثالث الابتدايئ وخرجت منه بعد ان تخرجت من الجامعة وعملت محاميا عامين وانا لاازال قاطنا فيه... كان بيتا صغيرا يتكون من غرفتين اثنتين ومطبخ صغير كان اللون الاسود يغطي جداره من فرط ما أوقد الساكنين السابقين فيه النار لاجل عواسة الكسرة والقراصة، وهناك حمام صغيروادبخانة اصغروبرندة صغيرة مفتوحة من ثلاث جهات وهي ملتصقة بالغرفة الامامية، كانت تتوسط البيت شجرة قرض كبيرة تعلق قلبي بها من الوهلة الاولي اذ وعدتني اغصانها بالعاب كثيرةاقلها الطوطحانية واهمها التسلق الي الاعلي ، بالخارج كان الشارع ممتلئا بالصغارالذين يطاردون الفراش الملون والجراد ويطلقون الصرخات في جذل وسعادة وكان بعضهم يلعب الكرة علي نجيل اخضروالبعض الاخر يلعب الكرة الطائرة وقد ربطت شبكتها مابين عمود النور والسلك المشدود من قمته الي الارض... كان حيا واعدا بجمال لم المسه في حينا السابق حيث كان ابعد مكان اذهب اليه العتبة امام الباب لمراقبة الكبار وهم يلعبون كرة الشراب. وكان الوعد حق وهكذاوقعت في حب الكمبو من النظرة الاولي واليوم الاول.
( في وصف الكمبو وقاطنيه)
بعدتلك الرحلة الاولي قمنا برحلات متكررة الي بيتنا الصغير وبعد ان قمنا بقص الحشائش الخضراء الطويلةمن الحوش وعبأناها في جوالات الخيش الفارغة وحملناها خارجا بمساعدة فاقت فعلنا من ابناء الحي الودودين ، ثم قمنا باعمال الطلاء للغرفتين والبرندة التي كانت في الواجهةومارس اخي احمد هوايته المفضلة في مراجعة توصيلات الكهرباء والمصابيح واحدا تلو الاخروبينما احمد منشغل بمصابيحه وانا منشغل بالطلاء والاصدقاء الجدد غاب ابي وعاد ومعه كارو صغيرة يجرها حصان باكي العيون وكانت الكارو محملة باعواد غليظة من الخشب وشرقانيات، وقفت انظر الي العربجي العجوز وهو يحادث ابي في إلفة وهو ينقل حمولته واحدة تلو الاخري دون كلل ولا ملل وحين انتهي من تفريغ حمولته ادخل يده في جيب العراقي المتسخ واخرج علبة صغيرة منه ثم نقر عليها بطريقة مميزة وفي لمح البصر كانت السفة قد استقرت في مكان من فمه وهو يلاحقها بلسانه حتي استقرت حيث اراد ثم نفض يديه والعلبة تحت ابطه ثم تناولها واعادها حيث كانت واستدار متجها الي الخارج وابي يتبعه وهو يتحسس نقوده استعدادا للدفع.غابت الكارو وصاحبها في اخر الشارع حيث تبدو علي غير بعيد مجموعة البيوت المسماة بالدرادر والواقعة بين المزاد والكمبووهذه الدرادر شكلت مسرحا من مسارح طفولتنا البهية فقد كان سكانها معظمهم من اهالي منطقة جبال النوبة وكان بمقدورهم في ذلك الزمان ان يشكلوا في قلب الجزيرة نموذجا مصغرا للبئية التي جاؤوا منهاواتذكر بيوتهم الصغيرة المبنية في شكل دائري اقرب الي القطية منه الي البيت بلا اسوار تحدها بل كانت متناثرة كنجوم في ليل طويل كانت مطابخهم في الهواء الطلق وكان بمقدورهم ان يضعوا علي قدورهم ما يشاؤون وان يحتسوا ما يرغبون وكانت ساحة منطقتهم عصرا مهرجانا مفتوحا علي الشارع به رقصة الكمبلا وغيرها وفنون المصارعة والريش الملون والخلاخل التي ترن مع الرقص وايقاعه كانت الدرادر حياة حرة تتنفس حرية وكنا نعبرها مطمئنين الي المزاد وبالعكس في طريقنا الي طاحونة المزاد العتيقة لاجل طحن الحبوب والعودة بها دقيقا الي الامهات ، كنا نتوقف عند النقارة والرقص والمصارعة مشدودين الي تلك الطبيعة البكر الراقدة في قلب المدينة... كان سكان الدرادر عمالا للصحة يتبعون البلدية ويعملون في اعمال النظافة واعمال اخري اقلها حمل قاذورات المدينة علي الاكتاف ولكنهم كانوا يعيشون حياتهم كمن ملك الدنيا وما فيها ... فرح دائم ورقص وصراع لابراز القوة وتمسك بالجذور رغم البعد.. ساعود لهذا العالم لاحقا... المهم ان الاعواد والشرقانيات التي احضرها ابي استحالت بعد ايام قليلة راكوبة وسيعة اختلت قسما كبيرا من الحوش الخالي وصارت بمثابة المطبخ في البيت....اكتمل الرحيل في يوم من ايام شهر يوليو وكتبت نحتا علي جدار المطبخ ذلك التاريخ . واكتمل الرحيل الي الكمبو وكانت الترعة لاتزال جارية بالمياه فاصلة بين عالمين عالم الكمبو بعماله البسطاء وعالم حي الدرجة الارستقراطي الذي كان يقطنه الاثرياءوكنا صغارا جدا حين ادركنا تلك الفوارق فكان نصيب اولاد الدرجة منا كرات من الطين نكورها ونلهب بها ظهورهم من علي البعد ونولي هاربين .
صلاح سر الختم علي
16-08-2014, 10:52 AM
الدرادر ذلك المهرجان الذي أختفي؟!
طفلا صغير ا كنت حين رأيتهم علي الرؤوس قرون بقر والصدر والظهر عاريان يلتمعان كبرق في ليلة ممطرة والريش فوق الرأس والعقود الملونة من الخرز ومن السيور البلاستيكية حول العنق وحول الأيدي وذلك الشئ المثبت حول الوسط بحزام لاتعرفه رداء ام ازارا ام انه محض زينة تكتمل بها لوحة الالوان الباهرة المحيطة بذلك القوام الأبنوسي اللامع... في الأرجل مجموعة من الفيش تجلجل كخلخال في اقدام حسناء جميلة تتثني في مرقص امام الناظرين....كان ذلك هو المشهد الأول في حلقة المصارعة الشهيرة التي تنعقد يوميا عصرا في منطقة الدرادر ويتجمع الناس من كل صوب ليشهدوها يشدهم فضول تعززه تلك الصافرة الراقصة الي تنادي الناس للمشاهدة وتكون حكما بين المتصارعين فيما عرف في ذلك الجزء من مدينة مدني بصراع النوبة.. كان مشهدا احتل الصدارة في ايام طفولتنا وذكرياتها مقترنا بمشهد اخر كان عاديا وقتها لكننا نذكره بصورة موجعة ونحاول محوه من الذاكرة .. كان ذلك مشهد هؤلاء المصارعون الموفوري الكرامة في حلبة النزال وهم يجولون المدينة حاملين علي الرؤوس قاذورات المدينة وهم يغنون ونحن نركض من امامهم خوفا بعد ان نعايرهم بالعمل الوحيد الذي كان متاحا لهم في المدينة... كلما ذكرت ذلك المشهدوقرنته بصيحات الأب فيليب عباس غبوش في ساحة الجامعةحول معاملة المجتمع لاهله شعرت بشئ من العار وودت لو اني استطعت محو المشهد من ذاكرتي كما مسحه التطور من امام اعين الاجيال الجديدة...اتذكر الحلقة المتسعة واستمتاع الحاضرين بذلك الصراع الجميل الذي يستعيد به اهله بعض ما تركوا خلفهم من مباهج وكرامة في مراتع الصبا البعيدة ويبددون به قسوة المدينة واهلها عليهم... بعد ذلك بسنوات حين انمحي ذلك الحي الصغير من خارطة المدينة قسرا واختفي اهله كأنهم لم يكونوا واختفت عربات البلديةالتي كانوا يتعلقون بها ويركضون خلفها بخطواتهم القوية.. اختفوا غابوا في الزحام ولم يعرف احد اين ذهبوا ولم يشغل احد نفسه بالسؤال وحدي كنت اتذكرهم وافتقد ذلك المهرجان الجميل الذي كانوا يقيمونه في الهواء الطلق في كل يوم وافتقد صوت صافراتهم الجميلة... يا مدينتي الجميلة لم فرطت في ذلك المهرجان ؟
لم قسوت علي اجمل القادمين اليك وتركت المكان هامدا بعد ان كان يضج بالحياة؟
صلاح سر الختم علي
16-08-2014, 10:53 AM
وجه من ودمدني الاخري(الموجعة)
لم تكن جذوره من مدني، لكنه برز في حواريها وازقتها وشوارعها وصار نجما لامعا في مجال هو عصب الحياة في المدينة التي تتنفس رياضةوتعشق المهرجانات والبطولات وساحات كرة القدم البكر التي يمارسها ناشئة واعدين... كان(ع. ق) بسمته الوسيم وشعره الكثيف كما كانت الموضة في ذلك الزمان اقرب الي الزنوج الذين نراهم في السينما في افلام شافت وسيدني بواتيه ، كان من القيادات الشبابية التي قدمتها حكومة مايوووضعت بين ايديها ادارة النشاط الشبابي وعلي وجه الخصوص نشاط روابط الناشئين فكان هو والاستاذ محمد الامين قادة محنكين لذلك النشاط المزدهر الفريدالذي كان ركيزة اساسية لنهضة مدني الكروية الباهرة في الثمانينات التي استمرت حتي مطلع التسعينات ثم بدأت الرياضة في مدني الموت البطئ المستمر حتي الان..كان الرجل رياضيا فذا واداريا فريدا شهدت له ملاعب الروابط في مدني وذلك المكتب الصغير في مركز الشباب الواقع بعد محطة السكة حديد مباشرة بحضور دائم ونشاط وافر لم يمنعه منه عمله الحكومي كمفتش تموين نشط.
كان كل اطفال مدني وشبابها يعرفونه ويعرفون الموتر الذي كان يستقله في تنقله وكان محبوبا من الجميع.
كانت نهايته فاجعة شكلت وعينا المبكر فذات صباح خريفي جاء بعد ليلة ماطرة كثيرة العواصف والرعودذهبنا خائضين الي مدرستنا الواقعة بحي الدرجة لهونا واقبلت الظهيرة حاملة النبأ: في ذلك المنزل القريب من مدرستنا جاءت عربة الشرطة وسري همس بان(ع.ق) وجد مقتولا في غرفته الخاصة في ذلك البيت الصغير في اطراف المدينة في ذلك الحي الارستقراطي العتيق، كانت تلك اول مرة نسمع فيها بكلمة قتل واول مرة تطوف في رؤوسنا الصغيرة صورة انسان قتيل، سمعنا روايات عديدة واقتربنا بخوف من المكان الذي شهد المأساة.. شاهدنا كلاب الشرطة تتشمم المكان وهي في ايدي مدربيها...راجت في المدينة قصص كثيرة ولم يمط اللثام عما حدث في ذلك البيت الذي كان المرحوم يقطنه وحيدا في تلك الليلة الماطرة ولكن المؤكد ان الرعد كان شاهدا وان السماء بكت بدموع غزيرة رجلا طيبا اعطي مجتمعه بلا حدود وجعلنا موته الفاجع نتساءل: ( كان طيبا .... لم يقتلونه؟؟؟)
وحين كبرنا ادركنا ان الطيبون وحدهم هم الذين يقتلون
ويعانون......... ايتها المدينةلم نامت عينك في تلك الليلة؟لم تمنعي الجريمة؟ام تراك اكتفيت بدمع السماء الذي سال الليل كله وقسما من الصباح؟
صلاح سر الختم علي
16-08-2014, 10:53 AM
ود عم فاروق
في مدني شخصيات عجيبة وفريدة لايعرف عنها الناس الكثير ولكنهم وجدوا اصحابها بينهم فتقبلوهم كما هم بلا اسئلة. من هذه الشخصيات(ود عم فاروق) ذلك الفضولي الذي يفوق أشعب وسيرته.
في طفولتنا البهية وجدناه حيثما ذهبنا ذلك الرجل القصير الممتلئ الذي يرتدي شماعة كاملة من الملابس المتسخة ، كان عجيبة من عجايب مدني العديدة.. لاتفوته وليمةاو مناسبة في اي حي من احياء مدني وان كان يركز علي احياء بانت والبيان والعشير وام سويقو وودازرق و وجبرونا وهي جميعا متجاورة بصورة او اخري فمدني نفسها مثل مائدة في بيت فقير محدودة الحدود صغيرة لمن الفها في ذلك الزمان ولربما حتي الان، كان صاحبنا فضوليا له قدرة عجيبة علي ادراك اخبار المناسبات السعيدة والحزينة وكان يأتي دائما في الميعاد دقيقا كالساعة جريئا كصاحب حق سليب،لم يكن الناس يتضايقون منه بل يجلسونه مثل باقي الضيوف ويتغاضون عن أخذه لبعض الطعام في جرابه الذي لايفارقه ابداويلتفون حوله يمازحونه وهو لاه عنهم بوليمته ومخلاته .. تقبله اهل مدني كقدر لافكاك منه ولم يبحث احد عن اصله او فصله او خيوط حكايته، هكذا كان الناس في ذلك الزمن متسامحين ومطمئنين وروؤفين وبعيدين عن الخوض في سيرة الناس... مثلما ظهر فجأة اختفي ود عم فاروق من شوارع مدينتنا فجأة ولم يعرف احد اين ذهب كما لم يعرفوا من اين جاء؟
*****************************
( أبكرقروش )
راجت في مدينتنا لبعض الوقت بعض الظواهر ومنها ظاهرة بعض من تنسب اليهم اعمال خارقة للمألوف ومنهم صاحبنا أبكرقروش الذي كان مشهورا بانه ساحر يستدعي القروش من كل شيء وفي أي وقت وأتذكر انه ذات مرة أخرج ريالا من شعر أحدهم وراج في المدينة أن نقوده تلك تعود ورقا أبيضا لا قيمة له بعد فترة ، المهم شغل الرجل الناس طويلا ونسجوا حوله الاساطير الي ان شاهدناه مكبلا بالحديد وسط جوقة من العساكر قابعا داخل كومر الشرطة الرمادي العتيق وهو يبتسم ويؤمي بكلتا يديه المقيدتين للناس المتجمهرين الذين لم يكفوا عن الركض خلف العربة ومطالبة أبكر بالقروش.... غاب أبكر في جوف السجن وغابت حكاياته وبقيت بذاكرتي تلك الرهبة حين أتذكر كيف انحني وجاس في التراب بيده ثم ناولني تلك القطعة المعدنية فنظرت اليها في بلاهة وخوف ثم أسقطتها أرضا وركضت دون ان التفت الي الوراء ثانية.
صلاح سر الختم علي
16-08-2014, 10:56 AM
الرجل المائدة ( فريد محمود خليفة)
كان الرجل علما من أعلام المدينة، طبيبا ناجحا ومشهورا ينحدر من أسرة تعتبر من أعلام المدينة ورموزها وبيوتها العريقة والثرية،كان شخصية مرحة خفيفة الظل واجتماعية من الدرجة الأولى، تدرج فى سلم الوظائف الإدارية حتى بلغ قمتها، مديرا عاما للصحة فى زمن لم يعرف فيه السودان الوزارات الولائية وكان مدير الأدارة هو قمة الهرم فى الأقليم، لمع نجمه وازداد تواضعا على تواضعه وزاد ت محبة الناس له، ماطرق بابه صاحب حاجة أو رجاء وعاد خائباً،ماتنمر على أحد ولاتذمر أو شك من كثرة الأضياف فى بيته،ولاغابت ابتسامته الجميلة عن المحيا ولا غاب صاحبها عن فرح أو كره فى دروب المدينة الكثيرة، حتى أدركه معاش كان مبكرا بالنسبة للمستظلين به من الهجير، لكنه كان عاديا وطبيعيا بالنسبة اليه والى سنوات خدمته الطويلة، تقبل الأمر برحابة صدره المعهودة وانتقل من بيت حكومى كبير الى بيت صغير جميل بناه فى حى شعبى عمدا، فقد كان يحب الفقراء والبسطاء وكان يعلم بطريقة ما أنهم هم أسرته وأهله، كان بعيد النظر، فقد هجر اولاده الوطن وغابوا فى بلاد تموت من البرد حيتانها، ولم يبق معه أحد سوى طباخ عجوز ظل يتنقل معه أينما ذهب،كان بيته الصغير واسعافى الحقيقة، مبنيا بطريقة مختلفة من البيوت الأخرى، غرفه متعددة، وكان البيت مزدحما بالبرادات( الثلاجات ديب فريزر) وكانت عامرة بالخيرات، كان البيت الكبير خاويا ، الا منه هو وطباخه، لكنه كان مفتوحا دائما للضيوف من الأهل والجيران، لم يكن البيت يخلو، كانت تلك رغبة صاحب البيت، أن يكون بيته مفتوحا ومكتظا والأ يخلو عند الوجبات من ضيوف،كان مائدة مفتوحة، وضجيجا فرحا، كان يحب الكوتشينة، ويحب الأنس، فلم يخل البيت من الكوتشينة التى جمعت أهل الفريق من مختلف الأعمار، ولم تخل الدار منهم وكان صاحب الدار بشوشا فرحا بهم كطفل عثر على لعبته الأثيرة، كان مستشارا وطبيبا مجانيا للجميع ويدا تعين سرا وعلنا من يحتاج العون ومن يطرق بابه،كانت السيارة الفخمة فى الخدمة وعلى أهبة الاستعداد، وكان صاحبها صديقا للجميع، كنت أحرص على التواصل معه دوما،صباحى يبدأ به وأنا فى طريقي للعمل تقع عينى على سيارته المرسيدس السماوية الجميلة، وفى الأمسيات اكون ضمن كوكبة الاصدقاء معه، كان عونا وسندا لى في بداية حياتى المهنية بشكل سيظل دوما موضع امتنانى، كان الرجل حديقة مليئة بالقناديل والزهور
حتى كان يوم
انطفأ فيه مصباح
وغابت مائدة الرجل
وبقيت سيرته
تمشي فى شوارع المدينة
مبتسمة كصاحبها
بيد أنها
حزينة. فقد رحل الرجل المائدة، البشوش، الطيب، الضاحك، الكريم، الشهم، المتواضع
الدكتور فريد محمود خليفة. اللهم أرحم فريد محمود خليفة وأكرم نزله وتجاوز عن سئياته ان كان مسئيا وتقبل منه والحقه بالصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.
الملكة اسماء ( ام محمد )
16-08-2014, 11:07 AM
وكانت تلك جرعة أولى من جرثومة الكتابة والسرد أخذتها صغيرا وأمتلأت بالأسئلة حول اسباب ذلك الحب وتلك الرغبة فى مشاركة ذلك المكان وتلك الصور البصرية والسمعية الجميلة، كانت جرعة أولى مهمة عن طرق السرد والقص وأساليب التشويق والإيقاع المحكم، كانت محاضرات مجانية فى الهواء الطلق وتدريبا عمليا على كتابة القصة والسيرة والرواية، وأهم من ذلك كانت بيانا بالعمل حول أسباب الرغبة فى السرد والولع به، ومن ثم سكنتنى شهوة السرد بشكل دائم كعدوى جميلة لم أملك لها ردا، فوجدتنى منذ بواكير الصبا شغوفا بتقمص دور الجدة صاحبة النهر الذى لاينضب من الحكايات، لكن جمهورى كان أوسع من جمهورهن.
.
استاذي صلاح سر الختم
هل قلت أنك مبدع ...
سعادتي هنا سعادتين ...
الاولى اني اراك تزهر لنا البستان بحرفك الجميل و سردك الرااااااااااااااااااااااائع حد المبالغة
الثانية اني عرفت الان ما سر هذا الابداع
فرجل تربى على خيال خصب امتلكته جدتاه ونهل هو من ذلك الخيال مستمعا ليغوص في بحر الحكايات ويعطيها ابعادا اخرى لابد وان يكون كاتبا تنحني له الاقلام
لقد كنت محظوظا سيدي . فمن عاش عهد جمال السرد وسمع قصص فاطمة السمحة من افواه تجيد نسج الخيال لابد وان يكون قد تأسس خياله كما يجب ...
ونحن محظوظون اذا انك بيننا حضورا وحرفا
فشكرا لانك هنا وشكرا لانك تضعنا على الخط الصحيح للصعود لاعالي مراتب الابداع
صلاح سر الختم علي
16-08-2014, 07:37 PM
وأنا محظوظ سيدتى لأنك من بين قرائي
شكرا اختى الملكة أسماء على هذا المرور الباهى وهذا الكرم النبيل
صلاح سر الختم علي
16-08-2014, 07:40 PM
من لم يعش فى كنف "حبوبة" من الزمن القديم لم يعش طفولة سودانية كاملة الملامح...عندما كنا صغارا كانت احاجى الحبوبات تستهوينا كثيرا وكنا ننتظر المساء بلهفة بالغة حتى نتحولق حولها لنسمع احجية من احاجيها وكنا نستمع بصمت غريب وباحساس فريد يراغب كل كلمة تخرج من فمها كأن الاحداث تتصور امامنا...ورغم ان اغلب الاحاجى تناهت الى مسامعنا مرارا لكننا كنا لا نمل سماعها ابدا...
ذلك الزمان لا يعود استاذنا الجليل صلاح بتلك التفاصيل الجميلة لكننا نحفل به ونحاول ان ننقل للاجيال القادمة بعضا من قبسه علهم يستمتعون كما كنا نستمتع ونطرب...وخالص الود لشخصك الكريم...
الحبيب ياسر
نعم هو زمن لن يتكرر أبدا ولكن آثاره باقية فينا
شكرا على مرورك الأنيق المحفز
صلاح سر الختم علي
17-08-2014, 09:38 AM
صور من ألبومات الذاكرة المثقوبة
صورة رقم (1)15966
الراحل /خالد جبرالله سيد احمد
(خالد جبر الله بالحب عشت وبالحب تحيا في القلوب مبتسما)
خالد جبرالله سيدأحمد شاب سوداني جميل بسيط يجيد أشياء عديدة أبرزها دخول القلوب والسكني فيها مرة واحدة والي الأبد، رجل من الصعب ان تلتقيه مرة ولاتبحث عنه بعدها في كل مكان لتستزيد من ذلك النهر المتدفق محبة وطيبة ولطفا لاحدود لهم،هذه الصورة المرفقة هي طقسه الوحيد المتجدد فخالد في كل مناخاته مبتسم ضاحك ناثر للفرح والأمل والبهجة حيثما حل، أسرة عمنا الراحل جبرالله سيد أحمد من الأسر الفريدة في مدينة مدني ، الأب جبرالله سيدأحمد موظف البوستة الأنيق والسياسي المحنك الذي اختار مع شقيقه الراحل محمد سيد أحمد الحزب الشيوعي والعمل السياسي طريقا رسم ملامح حياة الاسرة بأكملها وأثر في اختياراتها ومصائرها فلم ينج أحد في تلك الأسرة من سوسة السياسة ومن دروبها الموحشة لمن يختار النضال السياسي طريقا لحياته، الأم أم الحسن أو أم الجميع بوجهها السوداني المشلخ الجميل الباسم دوما وشعرها الثوري وحفظها لكل اشعار محجوب شريف هي بحد ذاتها لوحة مقاومة وصمود أخذ منها خالد تلك الابتسامة الدائمة فام الحسن لاتعرف العبوس أبدا ولاتعرف الاحباط او التبشير به دوما مبتسمة هاشة باشة أطال الله في عمرها، العم جبرالله وجد نفسه خارج دائرة العمل السياسي في السبعينات تحديدا اواخرها واختار مثل اخرين مكرها خيار الاغتراب لكي يستطيع القيام باعباء اسرته المكونة من ولدين هما عصام وخالد وبنتان هما أمال وناهد، توجه المناضل القديم الي السعودية تاركا الاسرة في بيت ايجار في الدرجة مدني والجميع لايزالوا في مقاعد الدراسة، عدا امال التي ولجت كلية الطب في1976 تقريبا،في هذا الوقت بدأت علاقتي بالاسرة تتوطد بروابط عديدة مشتركة منها زمالة مدرسة جمعت اختي بناهد وزمالة اخري جمعت خالد جبرالله باحمد اخي الاكبر في المدرسة ثم اضطر الاثنان لقطع الدراسة مؤقتا للعمل في شركة مواصلات الجزيرة وجمعتني بعصام صداقة مبكرة بدأت وتوطدت بسبب اهتمامات مشتركة رياضية وادبية وباتت صحوبية جميلة أثرت علي مجمل حياتي، عرفت خالد جبرالله الأنيق الباسم في تلك الدار الصغيرة في حي الدرجة بمدني وكان أكثر مايلفت اليه تلك الشبكة الواسعة من الصداقات التي يملكها، كان مدهشا فشبكته الاجتماعية في ذلك الزمان البكر كانت أوسع من شبكة الفيس بوك وتضم كل طوائف البشر من سيد الدكان الي ود الجيران الي صاحب المكتبة الي الكورنجية الي رواد السينما وعشاقها الي محيط الاسرة واصدقاء اخيه واخواته وابناء عمه.
وعندما التحق بالعمل بشركة مواصلات الجزيرة توسعت الشبكة فطبيعة العمل وهي الضيافة البرية في بصات الشركة الأنيقة جعلت منه وهو النجم من نجوم مجتمع مدني نجما اوسع صلاتا وعلاقات ، شاب أنيق مهذب ودود لطيف باسم يلبس نظارة طبية ولايكف عن الابتسام وتقديم الخدمات للجميع في كل ظرف ومكان،وعندما يكون هناك بارتي او لمة اجتماعية من اي نوع حزينةأو سعيدة يكون هو النجم الذي يتسابق الجميع الي القرب منه فحيث كان خالد جبرالله كانت الشمس نهارا وكان القمر ليلا والنجوم، كان محبوبا بشكل مذهل تعرفه وتحسه في كل مكان وصدفة تجمعك به، كان الأثير عند كبار السن في كل البيوت فهو البسيط المتواضع الودود حسن الاصغاء القادر علي المواساة والقادر علي التفهم وموضع الثقة، انقضت سنين خدمته في مواصلات الجزيرة سريعا وتوجه خالد الي اوربا الشرقية للدراسة حيث عاش حياة مشرقة جميلة وعاد منها نفس الشخص كأنه لم يغادر السودان يوما، عاد حاملا شهادة رفيعة في الهندسة وعمل بشركة اجنبية بمدني وعرفته المدينة بعربة ذات ملامح باسمة تجول المدينة من اقصاها الي اقصاها حاملة المحبةولاشئ غيرها، كانت ام الحسن قد اوشكت ان تكون وحيدة او باتت كذلك حين عاد اليها خالد، فعصام بات بالخرطوم بعد التخرج ثم غادر الوطن وناهد كانت قد استقرت بالخرطوم منذ سنين وكذلك امال التي غادرت السودان في مطلع التسعينات وبقيت ام الحسن وحيدة فجاء خالد بردا وسلاما عليها، بات البيت قبلة للجيران الذين اجتمعوا علي حبه كما لم يجتمعوا من قبل، جال خالد في المدينة مواصلا كل الاصدقاءوالاهل، زارعا الابتسامةوالمودة،حتي غادر الوطن الي الخليج حيث داهمه المرض اللعين وأخذ يزوي كشمعة في صمت حتي تسرب شعاعه ورحل مثل الشمس علي عجل،كانت رحلة قاسية مع المرض ، لم يتسن لنا ان نكون الي جانبه فيها، لكنني كنت واثقا انه غادرالدنيا وهو يبتسم هازئا بالموت كعادته، خالد جبرالله:
تشهد مدينتك الجميلة مدني
انك زرعت حبا وجمالا حيث حللت
ولم تزرع كراهية ولم تعتد علي أحد
نم هانئاً،نم مبتسما فكل من يتذكرك يبتسم.
صلاح سر الختم علي
17-08-2014, 09:44 AM
صور من ألبومات الذاكرة
صورة رقم 215965
ابراهيم عبد الرحيم ابراهيم شاويش الشهير باللقب (بوب)
شاب سوداني بسيط وعميق من ابناءمنطقة جنوب كردفان محافظة الرشاد منطقة ابو كرشولا وتيري حيث مسقط رأس ابيه واجداده ولكن الفتي الاسمر الجميل ولد في بيت صغير من بيوت اللاماب بالعاصمة الخرطوم وفتح عينيه علي الحياة هنالك في ذلك البيت الصغير الكبير بالمحبة بين افراده والقيم المستوطنة بأهله، الفتي شب هنا وقلبه مثل كل اهل السودان متعلق بالجذور التي ظل يقطع الطرق اليها بلا كلل في سنواته الثلاثين ولكن محبته للجذور لم تمنعه من الانفتاح علي حياته في عاصمة وطنه حيث شب وترعرع محبا للناس ودودا خدوما مكافحا من اجل لقمة العيش منذ الطفولةومحبا للموسيقي بشكل مميز حبا لم يقف عند الاستماع والتذوق بل شمل العزف علي الات موسيقية مثل الجيتار والبيانو،اكمل دراسته الثانوية بمدرسة علي السيد بالصحافة واكتفي بتلك الشهادة السودانية، لكن طموحه فيما يتعلق بالموسيقي بقي يعانق حدود السماء فانخرط بمركز شباب السجانة ليتعلم العزف علي البيانو ويجود عزفه علي الجيتار، كان يقضي سحابة نهاره متنقلا في اعمال شاقة لكسب العيش فهو خراط ماهر وسباك ماهر وخبير في توصيلات الكهرباء وهو يباشر اعمال صيانة واعمال يدوية مختلفة فالرجل مصنع مواهب لايستعصي عليه شئ وله خيال علمي واسع يجعله قادرا علي ابتكار الحلول والمعالجات ببراعة تثير دهشة كل من يكلفه بعمل، وهو يهتم دوما بتحقيق النتيجة المرجوة منه اكثر من اهتمامه بالنقود والعائد، رجلا بشوشا كثير الابتسام قليل الكلام حاضر ا دوما ولايرفض لجيرانه ومعارفه طلبا حتي ولو كانت تلك هي المرة الاولي التي يباشر فيها ما كلف به
وكان طموحه كبيرا فهو ينتظم في دراسة منتظمة لتحسين لغته الانجليزية باستمرار مستعينا باخيه الاكبر هشام المتخصص في تلك اللغة
جمعتني بابراهيم واسرته الجيرة حين سكنت حي اللاماب وكان من حسن حظي انهم جيراني بالحيطة
جيران لاتسمع منهم الا ضحكات صافية تعانق السماء حين يجتمعون في حوش المنزل الملاصق لحائطي وكأنهم يتسامرون علي ضوء القمر في قلب الخرطوم الغارقة في الاضواء
كانت اصواتهم وضحكاتهم تجذبني الي ايام جميلة عشتها في حي 114 حيث نشأت حيث الكل يعرف الكل بالاسم والكنية
وحيث الدخول بلا استئذان
والضحكات تعانق السماء
والجيران جيران
والوجوه صافية
والمودةهي الخيط الرابط
كنت اتوق
دوما الي الانضمام الي ذلك السمر البرئ
وهكذا عرفت بوب ووالده الشيخ الذي تراه دوما في طريقه الي ومن المسجد عند الآذان وعند الفروغ من الصلاة
رجل ضئيل البنية
طويلا
حين يبتسم يغدو وجهه وجه طفل هو وحه ابراهيم نفسه فابراهيم دون اولاده يشبهه شبها جما حتي في محبته للصلاة
ففي يوم رحيله الفاجع افتقدته النسوة
وتساءلن عنه فوجدنه منهمكا في صلاة خاشعة
وكان ذلك قبل الرحيل المر ربما بدقائق
هل تري كان القلب يدري انها الصلاة الاخيرة؟
كان صديقي
وجاري
كنت اهرع اليه في الكبيرة والصغيرة طالبا عونه
فيجئ هاشا باشا كجندي تلقي امرا من قائده
ولايغادرني الا والصعب بات سهلا
والمتعطل
هدر بالحياة
كنت استمتع بمجاذبته اطراف الحديث
فقد كانت له طريقته الفريدة في عرض الاشياء وسردها
كانت حكاياته خليطا من حياته اليومية
وما يصادف فيها من انواع البشر
القساة الذين يجعلونه يعمل كثور في ساقية ثم يجحدونه ويلقون اليه دراهم قليلة لاتتناسب وجهده لالشئ الا كونه لم يفرض شروطه ولم يساوم مسبقا عندما كانت حاجتهم رعناء
لكنه كان يضيف دوما للحكاية
حكايات جميلة عن اناس طيبين
يعطونك ما تستحق واكثر منه ويفيضون عليك كلاما طيبا
واعتذارا
كان يري هولاء ملائكة تستحق الحياة لاجلهم غفران كل شئ لنقيضهم
وكانت احلامه تتسلل بين سطور الحكاية بطريقة أو اخري
كان مثقفا ثقافة عالية تجعلك تشعر بالخجل كونك طلبت منه اداء عمل صغير لايتناسب وتلك الثقافة وتلك الاحلام
لكنه كان متصالحا مع ذاته بشكل مدهش
وحين يتحدث عن جذوره يتوهج وهو يصف الطبيعة والحياة والناس
كنت اتمني دوما ان اراه وهو يعزف او يغني
كنت اتمني لو اننا كنا في ذات السن حتي نرتاد الاماكن نفسها ونتحدث سويا عن احلامنا بلا حواجز كالتي نسجتها الحياة بيني وبينه
انا القاضي وهو العامل
انا الكبير وهو الصغير
وثمة تفاهات اخري تنتصب
كنت قادرا علي تجاوز ذلك كله حتي اعرف هذا الانسان الجميل نادر المثال واتطفل علي احلامه واحصل علي سر تلك الابتسامة الصافية الدائمة وتلك القدرة علي رؤية الجميل والتغاضي عن القبح طوعا
هو كان قادرا لكن ادبه كان يمنعه من تجاوز خطوط مرسومة
بوب عاش حياته ببساطة ومضي في هدوء ، كانت احلامه بسيطة وعظيمة: ان يعرف اللغة الانجليزية باجادة تمكنه من الالمام بفن الموسيقي ومعاني اغاني احبها كثيرا، وكان يحب العزف والموسيقي لانه يحبها وليس لاي سبب آخر، لم يكن يريد ان يصبح مشهورا او ثريا، كان معجبا بحياته كما هي وراغبا في تزيينها بما يحب، كان يحب الزراعة وبالذات الزهور والموسيقي والناس،لم يهتم كثيرا بالفقر والغني
انا متأكد من ان نباتاته التي غرسها في ذلك البيت الصغير تفتقده وتشتاقه مثل الناس
.................................................. ...
في يوم الرحيل خرج ابراهيم بشعره المضفر
ووجهه الباسم
وقبل الوداع طلبت منه الوالدة
أن يأكل شيئا لكنه رفض
قال انه ليس جائعا
صب عطرا في يدها بلا مناسبة
وودعها
وخرج
ماكانت تدرك ان تلك الرائحة هي ما سيبقي او لايبقي منه
كان علي موعد مع صديق يعمل في نقل المياه بعربة مخصصة لذلك الغرض
كان الصديق متجها الي حي الانقاذ
طلب منه مرافقته ففعل
فهو لايرفض طلبا
انجزا العمل
تناولا القهوة والشاي
وانسحب ابراهيم فصلي صلاته الاخيرة
وصعد في العربة
ثم دفعته شهامة للنزول ليساعد صديقه في الرجوع خلفا
عند النزول تعثر
الرجل الشهاب
وسقط
وداسته العربة
نهض واقفا
نهوضا اخيرا ثم هوي كنخلة وقبل الارض للمرة الاخيرة
صعدته روحه الطيبة الي السماء
واتجهت احلامه
الي الارض
لتبذر بذورا لاتموت
ولاتكف عن التجدد
والتكاثر
كما اراد لحياته
القصيرة
ان تمتد
بهذ اللوحة الاخيرة
التي جسدت حياة كلها بذل وعطاء
بسخاء
حتي
آخر رمق
وتلقت أمه النبأ برباطة جأش غريبة
ظلت تطرق البيوت لتخبر الناس بنفسها بعبارة ملتبسة
...قالوا ابراهيم مات
وتحكي عن عطره في يدها الذي مافات
وتغالب الدمعات
.................
مضيت وحدك ياصديقي
مضيت وحدك
ولن يكون وجهك الطيب حاضرا في مقبل الاعياد
لن تطرق الباب بعد الصلاة مباشرة
لتهنئ بالعيد
ولن
اسافر مطمئنا ككل مرة استودعك فيها بيتي
لن اسمع صوتك تنادي صلاح الصغير
وربما لن اسمع ضحكات اهل بيتك الصافية الي حين
لكن
ياصديقي
احلامك ستبقي
تحلق كحمامة
وابتسامتك
تبقي
علما وشارة
لرجل
نادر المثال ، نبيل الخصال
لك الرحمة
وأسال الله ان يغفر لك ويرحمك
ويغسلك من الذنوب
ويتقبلك مع الصديقين والشهداء
وداعا صديقي ابراهيم بوب
mahagoub
17-08-2014, 09:47 AM
السهل الممتنع
سرد يقودك بسلاسة حتى آخر حرف
ما بين اماكن وشخوص واحداث
هكذا عهدناك
صلاح سر الختم علي
17-08-2014, 09:59 AM
من البومات الذاكرة
صورة رقم 315962
ابو الحسن مدني وداعا أيها الرسام الجميل
(سقوط نخلة في النهر وجبل في البحر)
25 فبراير، 2012، الساعة 06:25 مساءً
اليوم الخامس والعشرين من فبراير العام 2012 يوم أسود في تاريخ الوطن السوداني، اليوم ترجل فارس نبيل آخر من صهوة جواد الحياة بعد أعوام من المعارك من أجل الانسان السوداني، رحل رجل عظيم، رحل شعاع ضوء عند الأصيل، رحل رجل صنعته تجميل المدن ونثر الجمال حيثما حل، رحل طفل كبير جميل أسمه ابو الحسن مدني، فنان رسم بدمه وبريشته وبفكره الوقاد السودان كما لم يرسمه أحد، رجل يرسم في الهواء الطلق، يرسم في واجهات المطاعم والمقاهي والشوارع والمدارس والمسارح ودورانات الحركة، حيث تلفت في بورتسودان تجد له أثر ولوحة ناطقة بملامح الانسان السوداني مغموسة في قهوة الشرق المرة الجميلة، ابو الحسن مدني كل الجمال والجمال هو، لم يتخرج من كلية فنون ، لكنه برع في الرسم بشكل لايجاري ولايضاهي، لو وجدت لوحته في الصين تعرف انها رسم ابو الحسن مدني فبصمته واضحة وقدرته علي رسم الاشخاص والمشاهد تفوق براعة عدسة المصور، هو رجل التفاصيل الجميلة،
هو ذاكرة السودان البصرية الرهيبة، والله لو كان نزار امير الشعر العربي الحديث فابو الحسن مدني أمير امراء الرسم العربي الحديث و عرفت رسوماته قبل ان اعرفه، أسرتني لوحاته وتلك الطبيعة الخلابة فيها وذلك الشجن وتلك السحنة السودانية في الوجوه الناطقة وتلك التفاصيل السودانية مابين الضفائر وووجوه الأطفال الشقية ولمة الاهل في حنة العرس والمشاط وعواسة الكسرة ومشهد بيع البطيخ عند اوشيري قرب العقبة في بورسودان مرورا بالخيل والابل والبحر وسواكن المعطونة في التاريخ وتلك الوجوه لنساء البجة المتخيلات خيالا فريدا، لوحات ابو الحسن مدني لوحات فريدة نادرة في كل شئ، لست رساما ولاناقدا متخصصا لكنني اعرف ان هذه لوحات ساحرة خالدة لها قيمة فنية عالية جدا وكنت اقول في حياته لو كان السودان يعرف قيمة مايملك لصار ابو الحسن مدني ومتحفه في بورتسودان التي احبها ولون شوارعها بريشته متحفا عالميا لايقل عن متحف اللوفر واي متحف عالمي، ابو الحسن مدني ذاكرة أمة ترفض ان تمسح او تهمش، ابو الحسن مدني ضمير شعب لاتدفنه اكوام الرمال والمجاعات ، ابو الحسن مدني صرخة الطبيعة البكر في وجه الزيف، ابو الحسن مدني ذلك الانسان البسيط العظيم الذي قضي عمره راجلا عاملا بيده وعرقه حتي آخر لحظة في حياته ظل يجمل الامكنة برسوماته ويمضي بلا أجر ولاضجيج ولاوزراة ولاوسام ولابحث عن شهرة او مقابل، ضاحكا كطفل ، صافيا كنهر، رائعا كلوحاته، يستقبلك بالبشر كله، يقبل كل تكليف كطفل صغير وينتظر رأيك في عمله كتلميذ وهو المعلم، هو بوابة من بوابات السودان ، ركن من اركانه، نخلة من نخلاته هوت في النيل، جبل من جبال بحره الاحمر ذاب في البحر حاملا خصب النيل الي بلاد ليس فيها نيل وطمي، هو رجل جعل من الحربة بالونا ومن الدرقة دفا ومن عثمان دقنة وجها ناطقا بثورته وعذاباته ، هو رجل أخرج المرأة البجاوية من خدرها وجعلها ترتاد العالم وتصنع الدهشة اينما وقعت عليها عين، هل مثلي بقادر ان يكتب عنك يا استاذي، هل مثلي بقادر علي ان يبلغ قمة جبلك التي بلغتها واسترحت فوقهاكما يستريح طفل علي صدر أمه،ابو الحسن مدني هو من صمم ورسم لوحة غلاف روايتي الرمال يافاطمة، تلك اللوحة التي اتخذتها خلفية لصفحتي الخاصة، وكنت أزمع الاستعانة به لتصميم لوحة روايتي الجديدة نيران كامنة، لكن الموت كان أسرع ونعاه الناعي اليوم، كنت في مروي في احضان التاريخ حين رن الهاتف وجاءني صوت الاخ طارق بركة دامعا وحزينا يعزيني في فقدي فهل تري كان ذلك صدفة ان تتلقي خبر وفاة رجل صنع تاريخا لشعب في حضن حضارة تليدة هي حضارة نبتة؟، رحل ابو الحسن مدني أحد اهم رسامي السودان ان لم يكن أبرزهم، رحل رائد الواقعية في التشكيل السوداني مخلفا فراغا يحدثه رحيل شمس وقمر عن كون، رحل المبدع الكبير ابو الحسن مدني اليوم في عروس البحر حيث عاش حياته الحافلة بالبذل والعطاء والابداع، جمعنا منتدي اصداف للاداب والفنون معه ومع جمع من اخوته التشكيلين ببورتسودان ولفيف من مثقفي البحر الاحمر، سعدنا بصحبته وطالعنا اعماله وشهدنا ولادة بعضها،قمت بنشركثير من اعماله والتعريف بها في الشبكة العنكبوتية لايماني بانه رجل لم يلق ما يستحقه من اهتمام ورواج وظللت أسميه بيكاسو السودان ولكنني اليوم اقول رحل ابو الحسن مدني اعظم رسامي السودان الذي يتشرف بيكاسو بمقارنته به ومقارنة اعماله به رحل ناثر العطر والمسك والجمال نم هانئا ايها الفنان نم هانئا ايها الرسام نم هانئا ايها المقاتل بالريشةوالألوان نم هانئا ايها الجميل اللهم ارحم ابو الحسن مدني واحسن اليه بقدر ما اعطي لشعبه .
15963
15964 نماذج من اعمال الراحل ابو الحسن مدنى
صلاح سر الختم علي
17-08-2014, 10:03 AM
السهل الممتنع
سرد يقودك بسلاسة حتى آخر حرف
ما بين اماكن وشخوص واحداث
هكذا عهدناك
صديقي محجوب
أجمل هدية يقدمها المرء لمن يحبه
هى مخزون الذاكرة الوقادة
فهى معرفة
وهى تجربة
وهى حياة تستحق أن ينقب فيها الناس عما يحبون وعما ينفعهم وعما يريدون اجتنابه وعما يريدون اتباعه
صلاح سر الختم علي
17-08-2014, 10:05 AM
من البومات الذاكرة
صورة 4
(سعاد نور الهدي كنة قصة البنت النبيلة) في الزمن القبيح
مازلت اعتقل اللحظة عند ذاك الزمان واحن الي تلك الوجوه النبيلة وتلك الايام..حكايات كثيرة عن شباب بسيط جميل حالم بوطن فسيح جمعته محبة كبيرة وبحث جميل عما هو جميل في الاخر...كانت الثانيةوسط احلامهم واحزانهم تساوي عمرا...فكيف تبهت تلك التفاصيل وتلك الاضواء الجميلة الصادرة من قلوب رجال ونساء صغار كبار عامرين بكل ماهو فريد...هل تعرفون سعاد نور الهدي مثلا؟ هي غزالة سودانية عاشت بصمت وكافحت ببسالة وماتت في ريعان الصبا بشرف يساوي الاستشهاد كانت رفيقتنا في جامعة القاهرة وتخرجت من كلية الحقوق وناضلت حد انها باعت الخضار لتعيش بشرف... هي أمراة اخري من نور ومصابيح وهي زوجة الصديق الحاج وراق ورفيقة حياة صعبةوصاحبة تضحيات جسام.....
سعاد عليها رحمة الله تستحق ان تدرس سيرتها للتلامذة...ذلك الصمود..تلك البساطة...ذلك الوجه الملائكي الذي تعلوه نظارة طبية...تلك الابتسامة الصافية ...اتذكرها كانها امامي...اتذكر فرحة طفلها الصغير بالبيض وهو يركض في سعادة معلنا للجميع: عملوا لينا بيض!!! فرحة ابن مناضل ومناضلة عاش ودفع ثمن خيارات ابويه...
كان الحاج وراق مختفيا يمارس حياة قاسية وكانت سعاد
الام والاب في البيت الذي فتح مع معاناة الاختفاء وتنقل ربه في دروب موحشة
معرفتنا بسعاد انا واجلال زوجتي لم تكن مجرد معرفة كانت
جامعة القاهرة شاهدةعلي علاقتنا انا واجلال ،وشاهدةعلي علاقة سعاد والحاج،
عشنا تفاصيل انسانية كثيرة في الجامعة
عشنا ضجيج الجامعةوزخمها واحداثها المتلاحقة
وتوتراتها واحداثها المتلاحقة،ولحظات الاسترخاء والانشطة الثقافية والكورالات
وكانت سعاد واجلال واخريات كثر شريكات في كورال جامعي تغني باناشيد وطنيةواغنيات حالمات بما في ذلك نشيد الجهادية الحلبونا شدو جمالهم وجونا جهدية الاورطية
جهديةوسيف وراية
الي اخر النشيد
اتذكرهن بثياب بيضاء وهن يغنين بحماس من ملك الدنيا وحقق الاحلام ،واتذكر كيف كنا نتفاعل مع كورال رابطة ارهاص للاداب والفنون التي اضاءت سماء الجامعة في ذلك الزمان المضئ ، كانت سعاد في وسطهن متألقة أنيقة بطولها الفارع وعيون واسعة ووجه لاينسي فهو بوابة مسكونة بالحنين وانين السواقي مجمل بأضواء الروح التي تعطيه هالة نورانية وألقا فريدا،كانت سعاد قصيدة جميلة من
أروع قصائد والدها الشاعر الشايقي نور الهدي كنة،اكثر مايميزها البساطة والمرح
وتلك السمات السودانية فيها:
البساطة
الثقة في الاخرين
حسن الظن الدائم
حتي عندما اضطربت الاجواء في الجامعة بين الفرق السياسية المختلفة وأطل العنف برأسه كانت سعاد لاتأخذ الامر علي محمل جد بل تنظر اليه كمزحة مضحكةوتتعامل مع الاخرين بمثاليةوحسن ظن ولطف لاحدود لهما،فقد كانت بطبيعة خاصة فيها قادرة علي تجاوز الخارج الفظ وملامسة الانساني المشترك في الناس،سرعان ما أنقضت سنوات الجامعة وخرجنا للحياة مستبشرين والأحلام تتقافز عن يميننا وشمالنا،
وكنا حضورا في زفاف بهيج زفت فيه سعاد الي الحاج وراق بدار المعلم جوار الجامعة حيث نبت الحب في قلبيهما وكنا شهودا عليه،
واتذكر الان ورقة صغيرة ارسلها معها الحاج الينا
ليلة زفافنا انا واجلال معتذرا عن الحضور،فلم يكن متاحا له ذلك
لكنه لم ينس ان يرسل الينا التهانى ووصفة سحرية قائلا ان الزواج قوته في القدرة علي الاحتمال والتفهم، ولعل منسخرية الاقدار كانت ان لقاء الحاج بزوجته بات جريمة تستوجب استدعائها وخضوعها لاسئلة كثيرة عن مكانه
عاشت حياة قاسية
تعرضت الي الابتزاز والى شظف العيش
ولكن لم تلن لها قناة
وظل تمارس حياتها سرا
وتلهث خلف ما يسد الرمق جهرا ببسالة مصارع ثيران اعزل في قفص ممتلئ بالثيران الهائجةوالثعابين،لم تلن لها قناة.وتحملت اقدارها بجلد وثبات ،
شحب وجهها المضئ وعلاه رهق،واختفي قسم كبير من الاناقة خلف رائحة الشقا
لكن نورها الذي بداخلها لم يموت حتي لاقت ربها
كانت صاحبة اكبر ابتسامة رضا،ولم تشك حالها ابدا
كانت تحكي وتضحك كأنها تشاهد فيلما كوميديا
كانت أمرأة تجسد عظمة أمة وشعب
كانت أمرأة
من نور
وصمود
وزهور
وأروع قصيدة كتبها ابوها
سلام عليك سعاد نور الهدي
سلام عليك وشوق اليك
وقبعات ترتفع احتراما لك
فلترقد روحك بسلام
لترقد روحك بسلام
أيتها النبيلة الجميلة
صلاح سر الختم علي
17-08-2014, 10:08 AM
من البومات الذاكرة
صورة رقم 415961
(عبد الحفيظ علي عثمان)
سقوط شجرة في النهر
تبكيك القماري في ابوهشيم، تنوح بأعلي صوتها يا عبد الحفيظ،تبكي الفنجري، اخو البنات، الحر،تبكي الفهم والرأي والكلام الدر.
كان صباح البارحة الرابع والعشرين من يونيو صباحا أسودا وحزينا، كان فنجان القهوة مرا وأسودا أكثر من المعتاد، كان التلفون نذير شؤم حين حمل الي نعي ( عبد الحفيظ علي عثمان) رحل عبد الحفيظ ياصلاح، قالها أخي عبد العظيم ودموعه تجري عبر الاسلاك والفضاء في الصحاري الواقعة بين مروي والخرطوم، كان يبكي كطفل وتحنقه العبرات، قلت دون وعي ودون تفكير: عبد الحفيظ!!قال بصوت خافت وحاسم عبد الحفيظ ياصلاح، كانت المفاجأة أنه كان يصارع السرطان الخبيث منذ زمن وكنت آخر من يعلم، كنت القاه متوردا بالحياة متوقد الذهن يناقشني بذات الحيوية وذات الجمال والسلام الداخلي كأنه يحيا الي الأبد، كأنه لايشكو علة ولا ألم،كان يحاورني حول الرمال يافاطمة وحكايات أبوهشيم الحبيسة في الصدور، يحكي فيضحك مع كلمة ويضئ وجهه الشبيه برمال ابو هشيم حيث حبا ونما وخرج الي العالم شجرة باسقة وعلم غزير وروح متوثبة للخير عامرة بالمحبة، ماغيرته سنوات الدراسة بأعتي جامعات البلاد، جامعة الخرطوم، ما غيره منصب كبير أحتله بوزارة المالية، ولاهزته الخطوب، رحل محجوب شقيقه باكرا بعد معاناة مع المرض، لم تهتز الشجرة ولم تتيبس العروق، رحل محمد البدوي جمال الدين ابن عمته ذلك المعلم الفريد الذي خلدت سيرته في رواية الرمال يافاطمةممثلا في الطيب ود محمود، ولم يهتز عبد الحفيظ وظل صامدا مثل جبال ام سرح وشجر الطندب فيها واشجار النخيل والدوم في وجه الرياح والتصحر والرمال،قبل ذلك رحل والده علي عثمان تلك الشخصية الأسطورية التي استعرتها من الحياة وكتبتها محبة في الرمال يافاطمة، علي عثمان هو راوي ابو هشيم وزينتها وترزيها وصانع الجمال فيها بالنكتة الحاضرة والكلمة اللطيفة والروح المتوهجة والحب للناس،بتلك الشجرة المباركة كان البشاري وهو من أشهر مناطق ابوهشيم مضئيا ككوكب دري يوقد من شجرة مباركة، كانت وابور علي عثمان حاملة الخصب للارض وكانت زراعته مخضرة دوما مثل صاحبها،وكان محجوب وعبد الحفيظ وجمال واخواتهم بدورا وامهات حسن وأمونة تتوسطهن أمهن فاطمة بت بابكر ذات الملامح الطيبة والقلب الكبير عليها رحمة الله، كانو جميعا ثريات في بهو أنيق وكانوا مثل الماء الذي تجلبه بابور علي عثمان حاملين الخصب حيثما حلوا،رحلت حاجة فاطمة في مطلع يونيو قبل اسابيع ولحق بها عبد الحفيظ قبيل نهايته، كأنما اراد اللحاق بها محبة وتدلها في أم مكافحة صبورة أو قل كأنه انتظر رحيلها حتي لايعذبها رحيله، كانت تدعو الله علنا أن يكون رحيلها قبل رحيله وكان عبد الحفيظ يدعو الله ان يكون رحيله بعدها ليس زهدا في حياتها بل خوفا عليها من حزنها عليه ، وأرادت ارادة المولي ان تستجيب لكليهما فرحلت هي أولا ولحق بها هو ،اللهم تقبلهم جميعا قبولا حسن وأجعل الجنة مثواهم،، ثمة حكايات معلقة ياعبد الحفيظ لم نكملها، ثمة أشعار موروثة لم أنقلها عنك كما وعدتني، ولم أر علي عثمان الصغير الحفيد، لم يتشبع بحكاياتك عن جده ولم يقبض منك شيئا بعد، من يقلها لي يا عبد الحفيظ مثلما كنت تقولها: ياخال. مذكرا أياي كعادة أهلنا الرباطاب بموقعي في شجرةالنسب، بينما كنت أنت في شجرة الحياة أبا للجميع وصديقا للجميع وأكبر نخلات أبو هشيم وأطولها وأجودها تمرا وأكرمها جودا وعطاء،رحيلك هو حقا سقوط شجرة في النهر شجرة تحمل بذورا تكفي لغرس الخير والخصب في كل الكرة الأرضيةشجرة
في كل سنبلة منهامائة حبة،**(وهل يموت الذي كان يحيا وكأن الحياة أبد وكأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد)نم هانئا عبد الحفيظ، نم هانئا قرير العين، فما هزمك السرطان يوم تسلل الي الجسد النحيل ولكنه هو الذي انهزم، وما مات من كان في قلوب الناس يحيا للأبد،نم هانئا أيها النسر الطليق نم هانئا ففي ***البشاري تتناقل سيرتك القماري وتحملك الجداول خصبا لايموت
• الأبيات للشاعر أمل دنقل في رثاء يحي الطاهر عبدالله.
• البشاري حى من أحياء أبوهشيم.
صلاح سر الختم علي
17-08-2014, 10:16 AM
صورة رقم 5
لويجى الحصان الأسود النبيل
30 يوليو، 2012، الساعة 10:48 مساءً
رحل في هذه الظهيرة بالقاهرة رجل نبيل رجل قل أن يجود الزمان بمثله ،
رحل عن الفانية صديقيوزميلي القاضي السوداني من أصل جنوبي / لويجي جون نيجاك الامين العام السابق لرابطة اهل الهلال ببورتسودان الهلالي الغيور والمخلص والعاشق للهلال ، القاضي العالم والشجاع والنزيه والحازم الذي لايخاف في الحق لومة لائم ، عرفته مدينة بورتسودان فتي تربي في سمومها وحرها وكابد معاناة أهلها في سنوات الدراسة ، وعرفته قاضيا متميزا عطر ساحات محاكمها بعلمه الغزير واحكامه التي لاتنسي وتواضعه الجم مع الصغير والكبير، عرفوه ودودا في حزم وحازما في طيبة ورصانة وسمو خلق، وعرفه زملائه باحثا عن المعرفة بشغف ومتفانيا في عمله باخلاص ووحدويا لايشق له غبار، بقي حيث نبت ونما يحمل محبة لاحدود لها لجذوره واعتزازا كبيرا باصله الشلكاوي ، لكن سودانيته كانت الأعلي بين انتماءاته،كان يتمزق وهو يري الوطن يمضي نحو التمزق والانفصال ، ولكن أمله في انتصار الوحدة لم يخبو أبدا، حتي كان ذلك اليوم المشؤوم الذي انتصرت فيه ارادة الانفصال، حزن الرجل حزن الحراز، وبقي متمسكا بأمل آخذ في التلاشي حتي أفاق ذات يوم ليجد نفسه أجنبيا حيث حبا ونما وصار قاضيا ملء السمع والبصر، أصبح صبح كئيب فوجد لويجي جون نيجاك الشلكاوي السوداني أبا عن جد والراكض حافيا في بورتسودان في صباه ولم يشفع له عرق بذله لكي يتعلم واشواك مشي فوقه لكي يتميز، وجد نفسه أجنبيا لايشفع له جواز سوداني وجنسية وبطاقة شخصية وبطاقة قضاء مكتسبات بالعرق والتاريخ والجغرافيا والقانون، بات أجنبيا وسقطت عنه ولاية القضاء ، فقد كل أوراق الهوية المكتسبة وبات جنوبيا أجنبيا مقيما بصفة مؤقتة،جون واخيه واخته اولاده المولودين ببورسودان باتوا اجانبا وكذلك وميري زوجته السودانية أبا عن جد باتت أجنبية، رحل لويجي مرغما الي الجنوب ملاذه الباقي أو ما تبقي له من وطن كبير، ترك اسرته الصغيرة بامدرمان وسافر مرغما بأمر سرطان الساسة السودانيين، وهناك كان سرطان آخر يتربص بالفتي الأبنوسي، تسلل السرطان الي كبده والي ظهره رافضا الرحيل كما تسلل سرطان الساسة الي جسد الوطن النحيل ونهشه، نهش السرطان لويجي، اربعة اشهر كان عمر رحلته مع المرض اللعين وحلقت روحه في سماء القاهرة في الظهيرة بعد غيبوبة أمتدت ولم يعرف خلالها أخبار الوطن واخبار معشوقه الهلال، بكت الاسود في الغابات وبكت صقور شاهين في البحر الأحمر وبكت القماري في الشمال.....سكت المغني....نعاه الناعي للرفاق المتوزعين علي مدن الوطن بالتساوي ، كان صوت ميري وهي تبكي وتطلب الدعاء له هو الأعلي، كانت حبيسة بامدرمان كونها اجنبية لاتملك وثيقة سفر تصلح للسماح لها بالخروج من الوطن لملازمة رفيق عمرها وووالد صغارها في رحلته الاخيرة، بخل الوطن عليها بوثيقة سفر وهوية، هي جنوبية مع وقف التنفيذ وسودانية فيما سلف قبل المذبحة مذبحة الانفصال السياسي الذي لم ير عذاب البشر ولم يراع مشاعرهم ولم يحفظ حقوقهم الانسانية المكتسبة، رحل لويجي وحيدا، وبقيت ميري تبكي في امدرمان وطنا ورجلا وطن....وبقينا عاجزين حتي عن الصراخ.............
اللعنة علي من فعل هذا ببني وطني
كان تلميذي وكان صديقي
وكان اخي كان بيته بيتي وبيتي بيته
وتوسد قلبي وتوسدت قلبه الكبير
جمعنا العمل ببورتسودان
وجمعنا عشق الهلال والعمل برابطة اهل الهلال
وجمعنا حب كرة القدم وحب مهنة القانون
كان قلبا كبيراوانسانا جميلا
واكبر خرخار جميل في فريق الصنداي الذي جمع ثلة من عشاق كرة القدم المتقاعدين ببورتسودان
كان يلبس الازرق دوما ولايرضي الا بالانتصار،
كانت ميري زوجته وجون ابنه الاكبرورزق بولد آخر وبنت لم أراها فقد فرقتنا السبل
حتي جاءني الخبر كالصاعقة نهار اليوم
في شكل استغاثة مفزوعة من ميري عبر الاسلاك تقول ان لويجي يحتاج دعاءكم
وانني لا استطيع ان اكون جواره في محنته لانني بت أجنبية
وبعد أقل من الساعتين من الاستغاثة جاء نعيه كالصاعقة
وتناقلت الهواتف الباكية خبر رحيل الرجل النبيل
نم هانئا ياصديقي
نم هانئا أيها النسر المحلق
نم هانئاأيها السوداني النبيل الذي لن تنزع سودانيته سرطانات سياسية بليدة
ولاسرطانات جلبها الساسة لأجساد معافاة قصدا
نم هانئا أيها الشهيد
نم في تراب الجنوب
فهو جزء أصيل من وطنك الكبير
ودع ميري وجون واخيه واخته في أمدرمان سادةسودانيون لايعترفون بالحدود المصنوعة المصطنعة
نامي هانئة ميري في ضفة النيل الابيض وأرسلي سلامك الي لويجي عبر مائه الرقراق
لويجي أخي قل لاعاش من يفصلنا
قل لاعاش من يمنع جون من أرض حبا فوقها هو وأبيه ونميا.....
فلترقد روحك بسلام أيها الصقر المجنح.
الولاية الشمالية
مروي30/يوليو/ 2012
15960
صلاح سر الختم علي
20-08-2014, 08:00 PM
بورتسودان الدموع والغمام أو(البكاء في البدء سرا وفي الختام علنا)/ ملامح من السيرة
لم يكن القدوم الي مدينة بورتسودان اختيارا، كان شيئا صنعته الصدفة والظروف والأقدار،وكنت كارها لذلك الانتقال من الخرطوم التى ولجتها بعد سنوات من الطواف في الأطراف،قادما من دارفور بعد ستة سنوات قضيتها هناك، لم يدم وجودى بالخرطوم طويلا حين فوجئت ذات ظهيرة حارقة في شهر مايو 2006 بخبر نقلي الي بورتسودان، أسودت الدنيا في وجهى وشعرت بغضب كبير وغبن حتى اننى فكرت في الاستقالة من العمل وشرعت في ذلك فقوبل طلبى بالرفض وكان ذلك من حسن حظى،جئت الي بورتسودان كمن ألقي به في جوف السجن ،وكنت طوال الطريق أفكر في السيناريوهات المحتملة ولم يكن من بينها أبدا ما جري وتحقق في أرض الواقع ، جئتها بدموع صامتة وخرجت منها بعد أربع سنوات بدموع علنية صادقة، بكيت من القدوم اليها سرا ، فابكتنى عليها علناًعند الرحيل القسرى عنها، بحساب السنين هى اربع سنوات ، وبحساب الحياة والخوة والصداقة والجمال البشري في تلك الأرواح التى عشت بين اصحابها هى حياة كاملة، حياة لايريد من يعشها ان تأتى لها نهاية أبدا، كان أول من التقيته عند قدومى الي المدينة شاب رائع عميق صار فيما بعد صديقي وعرفت فيه صورة رائعة لما هو عليه انسان هذه المدينة ذلكم هو الشاب مأمون عبد الله مسعود طلق المحيا دائم الابتسام لبق الحديث ودود وكريم تشعر للوهلة الأولى في حضرته انك عرفته طوال عمرك، كنت بالفعل قد سمعت عنه قبل مجيئى الي بورتسودان من صديق مشترك أوصاه خيرا بى وأوصانى بدخول المدينة من بوابته ، فاكتشفت لاحقا انه أحد بوابات المدينة بالفعل، كان آخر عهدى ببورتسودان عام 1990 حين جئتها وقتها محاميا قادما من ودمدنى مع موكلين كان لديهم قضية ببورتسودان وجئت وقتها بالطائرة واقمت بفندق في قلب المدينة يومان ثم عدت بالطائرة وليس بذاكرتى من المدينة التى كانت تعج بالذباب والحر الا منظر الماء حين يبلل الجسد بحبات الملح فتندم علي الاستحمام، كانت المدينة في ذلك الزمان مدينة قاحلة لاعلاقة لها ببوتسودان الراهنة الانيقة الجميلة، لذلك كنت متوجسا حين جئتها بعد ستة عشر عاما من الغياب، لكنها كانت مدينة أخري خلعت أسمالها البالية وتأنقت وتألقت كأنها عروس تتهيأ لليلة العمر النفيسة، ثمة شئ من تلك باق في أطراف المدينة ولكن مظاهر كثيرة أختفت وتلاشت.....وحين تهادت السيارة التى يقودها زميلي واخى الاكبر مولانا محمد النذير محمد المبارك من المطار الي قلب المدينة كنت أتلفت يمنة ويسرة باحثا عن الوجه القديم ، فاذا بى المح عمرانا جديدا، شوارع أنيقة نظيفة ، حين بلغت السيارة ناديا الهلال وحي العرب المتجاوران فقط وجدت ملمحا من تلك التى اعرف، حين بلغت السينما بعد نادى حى العرب كدت اطلب من السائق التوقف كى اذهب الي سوق الطبالي حيث اشتريت في تلك المرة الأولي فردة سواكنية انيقة للخطيبة آنذاك وهى زوجتى العزيزة، لمحت الأكشاك الصغيرة بضجيجها المحبب فكاد قلبي يقع بين أقدامى
ذاك مكان أليف محبب للنفس ولعل من أقسي وأفظع قرارات الوالي الهمام ايلا هو ذلك القرار الذى حكم علي سوق الطبالي الفريد بالموت فيما بعد، ذلك سوق كان يمثل معلما وملمحا محببا لكل أهل الشرق وكل من يزور بورتسودان، كان زمانا جميلا
وكان سوق الطبالي قبلة الفقراء ومزار السواح من داخل البلاد وخارجها
كان غلافا أنيقا لمدينة كانت راسفة في فقرها في زمن ما...... المهم قاومت نفسي وواصلت حتى بلغت الميز الذى تم اعدامه هو الآخر لاحقا بواسطة جهات رأت في بيع بوابة من بوابات التاريخ انجازا ومكسبا ، في حين كان ذلك الميز الصغير قبالة الجامع الكبير في بورتسودان رئة من رئات التاريخ تتنفس تاريخا وتحكى تعاقب الاجيال من القضاة عليه، كان معلما من معالم القضائية في بورتسودان أغلي بكثير من النقود التى بيع بها في مقاييس عشاق الأمكنة مثلى وعنه سوف أكتب ، عن غرفه الخانقة وعن الحصي في حوشه وعن شجرته العريقة وعن قططه المخيفة وعن اشياء كثيرة أخري، في ذلك المكان كان أول سقف أويت اليه في بورتسودان....
كان لافتا للنظر ذلك الحصي مدبب الأطراف الذي يغطى حوش الميز كله ويجعل المشي حافيا أو بسفنجة عذابا لايطاق ولم اعرف حتى مبارحتى للميز وبورتسودان كلها السر في اختيار فرش الحوش بهذا الحصي القاسي الذي فيه ملامح من جبال البحر الأحمر الكبيرة،كان الميز يتكون من جزئيين : جزء صغير له باب صغير مطل علي مدرسة بورتسودان الثانوية المجاورة للميز وهذا الجزء يتكون من غرفة واحدة واسعة امامها فناء صغير وحمام خارجى تابع لها ، وفي هذه الغرفة كانت اقامتى بصحبة مولانا محمد ابراهيم احمد حسين الشهير بحجو قاضي الاستئناف الذى جاء منقولا في ذات توقيت نقلي ، في تلك الغرفة ومع ذلك الرجل البحر الواسع المعرفة الساخر الزاهد و ان بدا ساخطا دوما، كانت اقامتى القصيرة في الميز وهى ثلاثة أشهر انتقلت بعدها الي شقة جميلة علي بعد خطوات من الميز في عمارة بنك التضامن في الطابق الثانى حيث اقمت مع اسرتى كل فترة عملي ببورتسودان ، ومن الصدف الغريبة جدا أننا حين تقطع الكهرباء عن الميز والمدينة كنا نلاحظ ان تلك العمارة تكون مضئية لوجود مولد ضخم خاص ببنك التضامن يضئيها كلها، فنجلس في الظلام وابصارنا متعلقة بضوئها وكنت ادعو الله في سري ان يكون لى نصيب للسكن فيها أو في موقع مشابه ، وكان من لطف المولى بى وكرمه على ان جعل لى نصيبا بالاقامة فيها والتمتع بمزاياها لمدة اربعة سنوات هى فترة اقامتى وعملى ببورتسودان. اما باقي الميز فكان عبارة عن ثلاث غرف داخل برندة مغلقة بالنملى والخشب وله باب خاص بها وباب آخر يفتح علي السوق وتحديدا علي مبانى الجامع الكبير . في ذلك الجزء كان يقيم شباب القضاة حاتم قرنى وادم حاج الطاهر وبيتر اوبج وابو القاسم (الشابي) ومحمد عبد الله ابو وكان هناك قاض جنوبي مهذب ورقيق آخر يدعي فيليب .
العم حمام خزنة الأسرار
كل التفاصيل الجميلة اتذكرها ، حتى ذلك الرجل الكبير في السن المقيم معنا بالميز، ذلك الرجل الخدوم الغامض ووجوده المؤثر وعلاقته بمجموعة الميز ، كان اسمه العم حمام،و كان حمامة جريحة حنونة تعطى بسخاء برغم جرحها الذى طوت عليه قلبها، كان واضحا ان الرجل له قصة ما حزينة الفصول آثر الا يرويها لأحد ، رجل مرتب ومنظم وحسن المظهر وكل شئ عنده مثل بندول الساعة لايتخلف عن موقعه أو زمنه ، كان يقاسمنا الميز ولديه اوقات يختفي فيها ويغيب ثم يعود في ميعاده بلا تأخير وفي بعض الأحيان يأتى من يزوره وكان وجوده بالميز وهو لايعمل بالمصلحة القضائية مثيرا للتساؤلات لكنه كان وجودا متوارثا ومستمرا فبات مثل كل غرفة وحائط في الميز مبررا وعاديا ولكنه يظل مثيرا للفضول والأسئلة خصوصا انه كبير في سنه فقد تجاوز منتصف الستينات لكنه يبدو أصغر وأوفر شبابا، كان طباخا ماهرا جدا وله نفس خاص في كل شئ تلمسه يده وخاصة السمك وكانت بينه وبين حاتم قرنى ضابط الميز النشيط صلات خاصة موضوعها تدبير كل شئ يتعلق بوجبات الميز الشهية وتحليته كان رجلا لايمكن نسيانه، حاولت التقرب اليه كثيرا للوقوف علي قصة حياته وسره الغامض الظاهر للعيان لكن محاولاتى باءت بفشل ذريع ، فالرجل يتحدث في كل شئ الا عن نفسه...رحمه الله رحمة واسعة فقد عرفت فيما بعد بسنين عديدة انه رحل عن الفانية حاملا كل الاسئلة حوله وحول حياته معه الي هوة صمت أبدى ولكنه ظل ويظل رجلا جميلا احببناه بصدق.
قطط الميز
كانت الظاهرة الملفتة الاخري في الميز وربما في بورتسودان كلها هي ظاهرة القطط الكثيرة المنتشرة التي تتجول في المكان بحرية وغطرسة ولاتتهش ولاتتنش، مما يعمق الرهبة في النفوس تلك الرهبة التي تنبع من حكايات كثيرة تروي عن قطط بورتسودان وسواكن فتجعل الدم يتجمد في العروق، اظن تلك القطط تعلم ا ن بنى البشر يخافون منها ويتحاشون ضربها أو الاقتراب منها أو محاولة ايذائها بأي شكل بسبب تلك الأساطير والحكايات التى يسمعونها وينسجونها عنها، ولهذا السبب فانك اذا نهرتها فلن تهتم بك بل تنظر في عينيك مباشرة وقد تتمطى في كسل فتجد نفسك انت الهارب من المكان، كان الميز يعج بالقطط وكانت أكثر من سكانه، تأتى من أمكنة مجهولة وتبقي ماشاء لها البقاء وتذهب وقت تشاء، ومن الصور المحفورة بذاكرتى مشهد الهرة التى أكلت بنيها ذات ليلة في الميز وذلك الصراخ الشبيه بصراخ طفل وليد الذي شق سكون الليل، تكرر الصراخ وتكررت أصوات أخري وبدت الأصوات المستغيثة أصواتا إنسانية تمزق نياط القلوب ، وبقيت قابعا في غرفتى ولم اجروء علي الخروج لمشاهدة المنظر حين تصورته من خلال تحليل أحد الزملاء لما يجري خارجا حسب خبراته، وفي الصباح لم نجد أيا من القطط الصغيرة الوليدة في مكانها الذى كانت تحتله وكانت أمها التى ولدتها هنالك وظلت ساهرة عليها طيلة الفترة السابقةغير موجودة هى الأخرى، سألت عما جري ليلا، فعرفت ان هناك احتمالين: اما ان تكون قطط دخيلة قد أكلت الصغار بعد معركة مع الأم ، وإما ان تكون الأم نفسها هى الفاعلة، لم ابحث كثيرا عن حقيقة كل وجه محتمل لها هو وجه قبيح، وبات تناول الطعام صعبا لعدة ايام وانا اتخيل القطة الأم وهى تنهش بنيها، كانت القشعريرة تسري في كل جسدي ، فألوذ بالصمت.سألت نفسي والآخرين عن مدى صحة مقولة ان القطة تأكل بنيها فتعددت الاجابات وكثرت ، بعضهم يقول
أن القطة حينما ترى أن فرصة عيش أحد صغارها مستحيلة تقوم بأكله لكي تقوى على إرضاع باقي أطفالها لأنها تكون منهكة جداً بعد الولادة.. وهناك أقوال تقول أن القطة تعتقد أن هذا الصغير إن لم تأكله فسيقتلها عندما يكبر.. وهناك أقوال تقول أن القطة تأكل أول مولود لها وهو يكون أقواهم وأكثرهم حملاً للفيتامينات والعناصر المفيدة فتأكله القطة فتقوى على تربية باقي أولادها لذلك هناك مقولة تقول أن أول مولود للقطة إذا أخذته فور ولادته وكبر فسيصبح قط قوي وكبير. ويري البعض ان القطط لا تأكل صغارها ابدا ولكنها عند ولادتهم تبدأ الام بقطع الحبل السري للقطط المولودة باسنانها كما هو الحال عند الانسان فيتوهم البعض ان الام تأكل صغارها وهذا غير صحيح. عموما لازلت حائرا في هذا الصدد ولم اركن الي صحة أي اجابة ولم اتيقن من حقيقة ما حدث في الميز لكن الحقيقة المؤكدة ان صغار القطة اختفوا جميعا في الصباح التالي ولم يظهروا أبدا ولازال صراخهم الذي فيه شئ آدمى يرن في اذنى كما سمعته في تلك الليلة ولازلت اتخيل القطط الصغار الجميلات في فك امهن أو في أفواه قطط ضالة شرسة انتزعتهن من حضن الأم في غيبتها أو حضورها وركضن بهن بعيدا لينهشن الاجساد الغضة..
صلاح سر الختم علي
20-08-2014, 08:02 PM
بورتسودان رحلةالدموع والغمام
صورة رجل برتبة فارس( جعفر أركا أبو طاهر)
في ذلك اليوم نهضت باكرا فقد كنت انتظر شمس الصباح في شوق كي اذهب لمقابلة رئيسي الجديد واستلام عملى في بورتسودان محطة عملي الجديدة، كنت اعرف بحكم التجربة والتنقل الكثير سيناريو المقابلة ، لم تعد هناك رهبة كتلك الرهبة الأولي ، ولم يعد هناك تهيب للمقابلة، وكنت اعرف بالخبرة ماذا سافعل وماذا ساقول وما الذي ينبغي الا أقول، لذلك لم يكن الترقب بسبب شئ مما تقدم، بل كنت اريد تجاوز تلك اللحظات واستلام عملي والاندماج فيه حتى يزول ذلك الاحساس الملازم باننى قد انتزعت من حياة احببتها الي مكان ليس في حاجة الي ولست في حاجة لاضافته الي حصيلتي من المدن والأمكنة، كنت اعرف ان كل سأم وضجر وقلق يذيبه شئ واحد فقط هو الاندماج في العمل، لذلك كنت متلهفا الي تجاوز ايام السكون وحمى الفواصل،دلفت الي ذلك المبنى العتيق غريب الهيئة في الصباح ، وقفت كثيرا امام المبني الذي يبدو مرقعا كجبة الدرويش ففيه جزء عتيق يشكل أصل المبنى ، وهناك جزء يشبه مبانى السجون بجداره العالي الخالي من النوافذ ويبدو مضافا للمبنى لكنه قبيح المعمار ويبدو مشيدا كيفما اتفق ، اكثر شئ مثير للدهشة في مبنى رئاسة الجهاز القضائي لولاية البحر الاحمر القديم هو كون سلم المبني يواجه القادمين مباشرة معطيا إياهم ظهره بدلا من ان يكون منبسطا أمامهم، فيبدو اقرب الي مدخل سرداب منه الي سلم لمبني من طابقين (ارضي وأول فقط)، ارتقيت درجات السلم فاصابني وضعه المقلوب بالدوار والغثيان ، ثم انحرفت ناحية اليمين حيث مكتب رئيس الجهاز القضائي مولانا جعفر اركا أبوطاهر والذى تعرفت به في وقت سابق ابان فعاليات اليوبيل الذهبي للقضاء السودانى في العام 2005 بالخرطوم حيث كنت اعمل بالمكتب الفني للمحكمة العليا وكنت عضوا بلجنة اليوبيل ومسؤولا عن معارض الاجهزة القضائية المقامة بدار القضاء بالخرطوم علي شرف المناسبة، خلال تلك الايام الجميلة عرفت الرجل عن قرب فلمست فيه انسانا بسيطا متواضعا ودودا ومرحا وكريما ولم يكن يخطر علي بالي ابدا ادنى احتمال للانتقال الي بورتسودان والعمل مع الرجل سنوات كما حدث بعد عدة أشهر من تلك الايام ، وكان للرجل فضل لن انساه ، فقد سبقنى مؤلفي الوجيز في دعاوي قسمة الإفراز والإجبار علي البيع الي بورتسودان بمبادرة كريمة منه حين اشتري كمية منه ووزعها علي القضاة هنالك ، فكان الكتاب سابقا لصاحبه في ولوج عروس البحر الأحمر والإقامة في قلوب وعقول زملاء المهنة هنالك،دلفت الي مكتب السكرتارية وكان مكتبا متواضعا ككل المكان وتهيأت نفسيا لدخول مكتب أكثر تواضعا، وبالفعل لم ابق في الانتظار ودخلت الي مكتب واسع نوعا ما ، أثاثه من الخشب الموسكى وثمة زهور صناعية في المنتصف تقول ملامحها من بعيد انها صناعية لاروح فيها ولارائحة وتبدو في المكان الخطأ ولاتتناسب مع الجو العام للمكتب الذي يشي بالوقار والقدم، كان مولانا جعفر بجلابية بيضاء ناصعة ونظارة سوداء علي العيون ووجه باسم قد نهض من كرسيه ولم ينتظر بمكانه كما يفعل الروساء بل تقدم نحوي ببشر وترحاب وقابلني في منتصف الطريق بابتسامة واسعة تميز الرجل ولاتغيب عن صفحة وجهه الا نادرا، صافحني بحرارة كما يصافح المرء صديقا قديماً ، وقال مباشرة بعد السلام معاتبا( مابينا مالك يازول ؟ معقولة تخلي الشغل عشان جايبنك لينا؟) لم يكن لدى ما اقوله ، فاطرقت وتجاوز هو الأمر سريعا وشرع في الترحاب من جديد مؤكدا لى باننى سيطيب لى المقام هنا كثيرا وانهم قادرون علي مسح الصورة التي في خيالي عن بورتسودان، كان يتحدث بلطف وعلي وجهه ابتسامة تتسع كلما تحدث لكنه كان صادقا في عتابه بشأن عدم ترحيبي بنقلي الي بورتسودان، ذاب الجليد شعرت في التو والحين أننى نزلت بلدا طيبا وسط أناس طيبون، كانت مقابلة ذكرتنى طعم البطيخ في الصيف في مدنى ايام الطفولة، كانت اجمل هدية يمكن ان ينالها طفل في مدنى في هجير الصيف شقة بطيخة حمراء حلوة تنزل في جوفه بردا وسلاما، واتذكر جيدا اننا كنا نفترش الارض في موقف اللواري في مدنى في الهجير ونتقاسم البطيخة التي نشتريها بنقود قليلة وكل بما ناله منها فرح وسعيد، كنا وقتها نعمل في الاجازة كى نوفر مصاريف الدراسة واحتياجاتنا من كراسات وشنط وغيرها، وكان عملنا غالبا في الهجير وكان البطيخ استراحة محارب نحظى بها، كانت مقابلتي للرجل تماثل ذلك الشعور الجميل الذي يخلفه البطيخ في الصيف، المهم اننى دخلت ذلك المكتب وخرجت منه شخصا آخرا مقبلا بحماس علي واقع جديد بدت بشائره مبشرة بالخير فقد علمتنى التجارب ان بيئة العمل الصالحة ترتبط دوما برب العمل الصالح الذى يؤثر ايجابا في كل من حوله والعكس صحيح بالطبع ،كان الرجل بحق هبة من السماء بقلبه الكبير الذي اتسع لجميع زملائه وبساطته وتواضعه وأدبه الجم وروحه المرحة وانسانيته المتدفقة التي جعلت كل من حوله يحاول أن يحذو حذوه في احترام الاخرين والمساواة بينهم في المودة والاهتمام والتواصل والزيارات في البيوت والمكاتب والتفهم الكبير لظروفهم والتفاعل معها دون ان يدفعهم للسؤال أو الطلب، طيلة فترة عملنا مع الرجل لم نسمع من تذمر من تمييزه لفلان أو علان ولم نسمع صوته يعلو في وجه مرؤس أو زميل ولم يعد من طرق بابه خائبا ولم تسمع شماله بما فعلت يمينه، وهناك الكثير مما يعرف ولايقال من كريم خصاله وسجاياه ، وحسبه انه لم يفتح بابا لوشاية أو نميمة ولم يعامل مرؤوس بالانطباعات او الاراء المسبقة وكان دوما خط الدفاع الاول عن مصالح المسؤول عنهم ولم نعرف عنه تدخلا في عمل او تأثيرا بأي شكل علي مجري العدالة أو حطا من قدر أي قاض أو عامل،لذلك نال الرجل محبة الجميع وثقتهم وتفانيهم في العمل إكراما لمن أكرمهم وسهر علي حقوقهم وعلي توفير بئية صالحة لعملهم، كان العمل يسير بتناغم بديع كفرقة موسيقية متمكنة من عملها وكان الجميع إخوة وأحبة يتنافسون في تجويد العمل فقط ، وفي عهد الرجل شهدت بورتسودان تغييرا كبيرا في حقل العدالة تمثل في هدم ذلك المبنى القديم الكئيب ونشوء قصر جميل للعدالة في مكانه، قصر فخم يليق بالقضاء ومكانته وبورتسودان وجمالها، كان الرجل شريكا فاعلا مع قادة السلطة القضائية في قيام ذلك الصرح ونال شهادة لاتنسي من رئيس القضاء السابق حين تحدث في حفل الافتتاح عن جهوده، و أتذكر الان تلك الدموع الصادقة التى زرفناها سرا وعلانية حين حان وقت فراق ذلك الرجل نادر المثال حين واتته فرصة انتداب خارج البلاد وكان علينا ان ننتظر قادما آخرا من المجهول لاندري كيف يكون وماذا سيفعل بجمهورية أركا المثالية، هل يعمل فيها هدما وتفكيكا ؟ هل يحيل بساتينها الخضراء وأجوائها الصحية إلي خراب وسموم أم يكون كما نرغب ونشتهي امتدادا لذلك الثوب الأبيض الناصع؟طارت طائرة وحطت بجعفر اركا ابوطاهر في الخليج وبتنا يتامى علي رصيف الايام ، ثم مالبثنا ان تفرقنا أيدي سبأ من بعده ،طالنا سيف النقل ولم يبق الا نذر يسير، وبقيت ذكريات تلك الايام وخلاصتها محبة دائمة تربط بيننا مهما تفرقنا وتواصل دائم وحنين دائم اليها، اما بورتسودان، فاظنها لاتزال تبحث عن فارسها الهمام ابن سنكات الشفيف الانسان جعفر اركا ابو طاهر وتلعن الخليج والمحار والدولار والزمن. اطال الله عمر الرجل الذي سكن قلوبنا جميعا بلا استئذان والي الابد.
صلاح سر الختم علي
20-08-2014, 08:05 PM
قصتى مع المحاماة من الألف الي الياء (1
)/ سيرة
لماذا وكيف اخترت قراءة القانون والاشتغال به ؟
لا أدرى بالضبط متى بدأ حلم الاشتغال بمهنة القانون يراودنى، لكننى أعرف أن اكبر المؤثرات علي اختيارى كانت صدفة جعلت ثلاثة محامين تحت التمرين يكونوا أساتذة للانجليزية بمدرستنا الثانوية ( مدرسة السنى) بمدينة مدنى في مطلع الثمانينات، هولاء الثلاثة الذين صاروا فيما بعد من أشهر المحامين في المدينة كان لوجودهم تأثير بالغ علي أحلام التلامذة الذين كنت أحدهم،كان الفرسان الثلاثة هم الأستاذ حسن حسين حمد الذى صار فيما بعد معلمى في مهنة المحاماة، والأستاذ مرشد الدين محمد يوسف، والأستاذ صالح محمود، كان ثلاثتهم متخرجين حديثا من جامعة الخرطوم كلية القانون ويتهيأون للجلوس لإمتحان مهنة القانون وكانوا يعملون محامين تحت التدريب مع الاساتذة عبد المنعم الخضر جكنون المحامى وسيف الدولة خضر عمر المحامى وأحمد عباس المحامى(الثلاثة من أعلام المهنة في مدنى) بذات الترتيب الوارد للثلاثة،واختار الثلاثة أن يلتحقوا بوظيفة التدريس كمحطة مؤقتة الي حين الانخراط الكامل في المحاماة فتم استيعابهم الثلاثة كمعلمي لغة إنجليزية، وكان لنا نصيب معهم الثلاثة في حصة الأدب الانجليزي فقد درسنا كل واحد منهم رواية من الروايات المقررة علي طلاب الثانوى آنذاك فتعرفنا عبر التدريس علي شخصياتهم الشفيفة وبرزت أمامنا منظومة أفكار كل منهم وإطلاعه وكان ثلاثتهم ذوي ميول اشتراكية واضحة واسعى الإطلاع يتعاملون مع مهنة التدريس كرسالة انسانية وفكرية فكانت حصة الأدب الانجليزى معهم تحليقا جميلا في فضاءات فكرية وثقافية واسعة،كانت حصة الأدب الانجليزى معهم تماثل سفرا بعيدا وسياحة ممتعة في بلدان غريبة وتعرف علي ثقافات جديدة واختزان لقصص ومشاهد ومشاعر انسانية تمس شغاف قلوبنا الصغيرة برغم بعد المسافات واختلاف الثقافات واعتقد ان تلك الحصص وتلك الروايات العظيمة كانت بوابة عبرنا من خلالها الي فضاءات أوسع من فضاءاتنا ولامسنا فيها عظمة الأدب وتعلمنا فيها عشق الروايات وطرق السرد وهو أمر شكل اهتماماتنا وشخصياتنا لاحقا بشكل مؤثر. كنا ننتظر بفروغ صبر وشوق شديد حضور الاستاذ حاملا معه رائعة الكاتب الايرلندى أوسكار وايلد
(أهمية أن تكون جاداً (The Importance of Being Earnest)
المكتوبة في 1895. وهي عامرة بالروح الساخرة وتصور النفاق الاجتماعي للطبقة الوسطى في العصر الفيكتورى حيث يحاول الابطال الظهور بشخصيات مختلفة في كل واقع مختلف،وهناك موقف ساخر من الحرب وأبطالها المرسومين في المخيلة عند بعض الناس البعيدين عن واقع الحرب القبيح.
كانت شخصيات الاساتذة الثلاثة متباينة، فبينما كان حسن حسين صارما جدا، ينهمك في التدريس كمن يؤدئ صلاة في استغراق وتركيز ويحرص حرصا بالغا على النطق الصحيح الواضح للمفردات وشرح المغزى بطريقة مفصلة والتوقف عند معانى الكلمات الجديدةثم ينصرف بهدوء كما جاء، كان الاستاذ صالح محمود مدرسة أخري تتشابه مع الاستاذ حسن فيما سبق ، لكنه كان مسكونا بحب كبير لمسقط رأسه دارفور،فكان ينتهز كل مناسبة عابرة ليحدثنا عنها بلغة انجليزية سليمة ومشوقة ، تجعل من الحصة سياحة داخلية وخيالية معاً،كان حب الرجل لموطنه ملهما وملفتا جعلنا نتوقف عنده كثيرا،كان الرجل فخورا بجذوره بشكل رائع وفريد.أما الاستاذ مرشد الدين فقد كان ساخرا بطريقة لاتجاري وكان موجزا دوما في شرحه ولكنه يتميز بالعمق والمعلومات الغزيرة المصاحبة للشرح فهو يملك معارف خاصة تتجاوز حدود الكتاب والحصة ولكنه لايسرف فيها فيجعل فضولنا في أعلى مستوياته فيتحرك فينا حب المعرفة. هكذا كان كل منهم ملهما بطريقته الخاصة. كان حسن حسين من أبناء الجزيرة أبا وسط السودان وصالح محمود من ابناء جنوب دارفور منطقة نيالا زالنجى بينما كانت جذور مرشد الدين من مناطق كردفان. كانوا ثلاثة أقمار من الريف زينوا سماء مدينة ودمدنى بعلمهم وتميزهم وشكلوا أفقا للعديد من تلامذتهم عبر قوة المثال ودفعوهم الي رحاب مهنة القانون، لذلك لم تكن صدفة أبدا أنني اتجهت لدراسة القانون واننى حين أكملت دراسة القانون بعد ذلك بسنوات عديدة جئت فطرقت باب الأستاذ حسن حسين الذي بات من أعلام المحامين في المدينة والتحقت بمكتبه محاميا تحت التمرين ومن ثم محاميا محترفأ ونهلت من معارفه حتي بات لى مكتب محاماة خاص في عمارة كان من أبرز المحامين فيها أستاذ صالح محمود المحامي ولم يكن الأستاذ مرشد بعيدا فتلاحقت الكتوف في المحاماة بين التلميذ وتلامذة آخرون وبين معلميهم الثلاثة.ولم يكن أمرا مدهشا أن الثلاثة استقروا بالمدينة وتزوجوا فيها وبقوا بها حتى اصطادت المنافئ الاستاذان حسن حسين ومرشد الدين في نهاية التسعينات فيمما صوب الخليج بعد سنوات عامرة بالبذل والنجاحات في المحاماة في مدنى.
بين ذلك الحلم الذى شهق في مدرسة السنى الثانوية في داخلى وبين اشتغالى بالمحاماة سنوات عزيزة شهدت احداثا كثيرة لاتنسي في حياتى ، منها ماكتبت عنه مثل قصة استشهاد طه يوسف عبيد وعلاقتنا برابطة الجزيرة للاداب والفنون وبعض ملامح حياتى في ودمدنى ومنها ما لم اكتب عنه بعد وهو سنوات الجامعةالتي وجدت نفسي استعير بعض شخوصها واحداثها في راوياتى، فعلت ذلك في الرمال يافاطمة وعدت وفعلته في روايتى نيران كامنة ولكن القسم الأهم من احداث وشخوص الجامعة استعرته وحورته وجسدته في روايتي بحيرة التماسيح التي رأت النور الكترونيا تحت اسم خطوات وبصمات وستري النور ورقيا قريبا تحت مسمى بحيرة التماسيح،فقد كانت فترة الدراسة الجامعية بجامعة القاهرة الفرع خريفا ماطرا وغنيا بالاحداث والبذور الصغيرة التي باتت مشاريع عملاقة، كنت فتى نحيلا مشتعلا بالحزن والغضب والثورة وشغوفا بالشعر والقصة والرواية والتواصل مع الاخرين وأدوار البطولة، فقد كان استشهاد طه يوسف عبيد مؤثرا علي شخصيتى بشكل كبير، لذلك اندفعت الى قلب الحياة الجامعية بتهور واندفاع كبير، كانت جامعة ذلك الزمان بركاناً ثائراً وبرلمانا ثقافىا وفكرىا وسياسىا دائم البريق والتوهج
وجدت نفسى في أعلى تلك الموجات منذ الوهلة الأولى
جئت حاملا غضبى
وصاحب موقف واضح من السلطة التى قتلت صديقه ونثرت دمه فوق قميصه
جئت ومشهد قصف جنازة طه يوسف عبيد بالرصاص امام المؤسسة الفرعية للحفريات بمدنى فوق شارع الاسفلت هو المشهد المسيطر على ذاكرتى والمصاحب
لكلمة مايو واسم النميري
(وهو مشهد تسلل غصبا عنى ووجد طريقه الي رواياتى)
لم يكن لدى خيار سوي العمل السياسى لاسقاط نظام
جعلنا نرى الدم بدلا عن الزهور ونحن لانزال في مقتبل عمرنا
الفراش الجائل
كانت الدهشة الأولى موجودة بالطبع فقد كان الانتقال الى المرحلة الجامعية انتقالا فيه كثير من الأشياء الجديدة، ففى المراحل الدراسية السابقة كنا نأتى من البيت واليه نعود يوميا ولكن الجامعة ارتبطت بالانتقال الي مدينة كبيرة كالخرطوم والى حياة جديدة مختلفة بعيدة عن الأسرة ودفئها والى نظام تعليم يقوم على الحرية الشخصية في الحضور والمواظبة بخلاف نظام المراحل التعليمىة السابقة الذي يبدو أكثر صرامة وتقل فيه مساحات الحرية الشخصية، لكن الحرية الشخصية فى المرحلة الجامعية ترتبط بالمسؤلية الشخصية عن نتائج تلك الحرية، بالامكان الا تتابع المحاضرات وان تتغيب ولكن يجب ان تبذل جهدا أضافيا لكى لايفوتك شئ وتنجح برغم عدم المواظبة،ونفس المبدأ يسود فيما يتعلق بخياراتك الأخرى الثقافية والسياسية والاجتماعية، فالاهتمام بالأدب مثلا كان مكانه في المراحل السابقة حصة أو حصتان في الاسبوع وبعض المناسبات الثقافية والوطنية، أما الجامعة فهى مائدة عامرة بالجمعيات والروابط والفرق الثقافية والأنشطة التى أقبلنا عليها في نهم وشراهة، ولم يكن نهمنا وقفا علي حامعتنا وحدها فقد كنا نهاجر مثل أسراب الطيور الي كل الجامعات ومواقع الأنشطة الثقافية والأدبية فلا نفوت محاضرة ولا أمسية شعرية ولامنتدى ولامسرحية أو معرض أو مهرجان ونقتنى الكتب في كل صباح بكل الطرق : استعارة وشراء ومبادلة وأختلاسا بالقراءة حيث هي في مكتباتها التجارية أو العامة أو بيوت الأصدقاء أو غرف الداخليات في الجامعات التى بها داخليات حين نغشاها في زيارات الي الأصدقاء هناك، كان نهمنا للقراءة لاينتهى أبداً وكانت مناسبة مثل احتفالات االتخريج في معهد الموسيقي والمسرح حدثا أكثر أهمية عندنا من أي حدث آخر، فكنا نركض الى مسرح قصر الشباب والأطفال لنتابع بشغف ودقة كل العروض ونتناقش عقب كل عرض حوله نقاشا لاينتهى، عرفنا داخليات جامعة الخرطوم داخلية داخلية واقتحمنا سفرات الطعام فيها مع طلابها وتقاسمنا معهم طعاما شهيا كانت تقدمه حكومة السودان لطلابها دون شعور بالغيرة أو التهميش ودون شعور منهم بأننا دخلاء، كنا لانغيب عن حدث هناك فنحن حاضرون في المعارض وحفلات الروابط والأركان السياسية والقراءات الشعرية ونقرأ صحف النشاط الحائطية قبل المعنين بها أحيانا ، وكنا منفتحين علي كلية الفنون الجميلة ونشاطاتها وخصوصا معارض التخريج وكانت ظلال الأشجار هنالك سكنا دائما لنا حيث نقضي سحابة النهار للمذاكرة أيام الامتحانات وللثرثرة والأنس في الأيام الأخرى، كنا كالطيور
والفراش نتنقل حيث شئنا وكيفما شئنا سيرا علي الأقدام قاطعين المسافات جائلين في العاصمة المثلثة من أقصاها الي أقصاها لانستخدم وسائل النقل إلا مكرهين .
الحنينة السكرة
جامعة القاهرة الفرع
كانت جامعة القاهرة الفرع ذات طبيعة خاصة جدا، فهى معرض دائم ومهرجان متجدد ونهر متدفق من الشباب من الجنسين ، من كل انحاء البلاد الكبيرة تجمع طلابها في حشد نادر المثال، فليس ثمة مكان أو زمان آخر قادرعلي الجمع بين ذلك المزيج الذى يشمل قادمين من كل بقعة صغيرة وكبيرة في السودان، فقد كانت الجامعة توفر فرصا كبيرة للقبول في كلياتها التى تزدحم بطلاب نظاميين وطلاب منتسبين يشملون كل الأعمار تقريبا، ولكنك تجدهم جميعا في حوش الجامعة الفسيح الذي ينطبق عليه ذلك المثل الساخر لصديقنا عادل سعيد اب جقادو وهو أحد ظرفاء الجامعة من ابناء مدنى من جيلنا فقد كان يقول كلما نظرنا الي ارتال البشر من الطلاب الذين تعج بهم ساحة الجامعة الضيقة المسماة الحوش ( صحى النفوس كان اتطايبت السرير بشيل المية والحوش بشيل من غير حساب)، كان ذلك تلخيصا ساخرا لحالة ذلك الحوش الممتلئ بالجميلات الخائفات من غباره علي تسريحاتهن واناقتهن وهو ممتلئ باصدقاء لهم كتاحة تسبقهم اكثر خطرا من ريح العتويت في طوكرالشرق الشهيرة بكتاحتها الفريدة،كانت جامعة غريبة في كل شئ، بائعات الطعمية وسلطة الأسود بجوار حوائط بيوت الاشلاق المحيطة بالجامعة وهن مقنطرات علي بنابر وهيطة وحولهن قفف من السعف وحلل من الألمونيوم تحتوى علي الأطعمة التى تباع للطلبة والطالبات الذين يقبلون عليها في طمأنينة كانت هي سمة ذاك الزمان الذي كان أمانه في نقاء القلوب وطهرها، باعة السجاير والحلوى ومناديل الورق داخل الجامعة وأشهرهم ابو دقن الذى لايفوت صلاة في مسجد الجامعة الصغير ويرتزق من بيع السجاير والاقلام والمناديل واللبان ولم ينج من تصنيفات السياسة التي نسجت حولها روايات مشوشة حول علاقة مزعومة له بالأمن تارة وتارة بفصيل سياسي بعينه ، من المعالم مكتب البريد الذي يحتل زاوية في الجامعة يتحلق حولها الطلاب وهو محاصر دوما بالاركان السياسية الملتهبة التي تبدأ بجمع صغير ثم تمسي مظاهرة حاشدة يلتف حولها المنتمون واللا منتمون والعابرون وحتى ضيوف الجامعة ليشاهدوا عروضا حية في فنون الجدال السياسي ونماذج عملية لكيفية مسح الأرض بالخصم والحط من قدره ثم التصدى لهجوم مضاد يمارس فيه الممسوح به الأرض مسحا مماثلا للمتحدث وجماعته بالأرض، كان صراعا للديكة بكل ماتعنى الكلمة من معنى، صراعا لايستسلم فيه طرف ولايكف فيه المتعاركان عن اطلاق قنابل الكلام الموجهة للاخر ، وفي بعض الاحيان يتعدى الأمر قنابل الكلام الى ما هو اخطر وأكبر،وفي قلب هذا الضجيح هناك حالمون وحالمات ينتحون أركانا قصية وينسجون عالما ورديا لاينتمى الي مركب الضجيج الذي يجلسون في قلبه، تجدهم يجلسون ساعات طوال يتهامسون ويبتسمون ويحتسون العصير من الكافتيريا المزدحمة علي مهل وبتلذذ
وينسلون بين الفينة والاخري للحصول علي شاي أحمر لايغيب عن الجلسات وحين تعلو اصوات مكرفونات الجدال علي همسهم يخرجون من الحوش ويذهبون الي حوش كلية التجارة أو يحتمون بسلم الاداب الذى اشتهر بكونه ملاذا للعشاق والصداقات البرئية والهاربين من الغبار والضجيج وفي وقت الامتحانات مكانا مميزا للمذاكرة. كانت للجامعة وجوه أخري عديدة، هناك معارض الروابط الأقليمية التى تعج بها الجامعة فهى تحيل الجامعة بصيواناتها الكثيرة الي معرض دائم يعكس ملامح تلك الأماكن القصية والقريبة التي جاء منها الطلاب وتتبارى الروابط في ابراز مايميز مناطقها من تاريخ وجغرافيا وفلكلور وفنون وفنانين، فتتحول الجامعة في مواسم استقبال الطلاب الجدد الي مهرجان قومي للثقافات، يوما يحتل النوبيون برطانتهم الجميلة وجرجارهم ورقصاتهم المميزة المشهد، ويوما تتحول الجامعة الي طنابير شايقية ملئية بالحنين ، ويوما يتفنن أهل الشرق في عرض ملامحهم الفنية المميزة، ويوما ينبرى أهل مدنى فتصدح اصوات ابوعركى وود الأمين وصديق متولى وصديق سرحان، ثم يحتل أهل كوستى المشهد بابداع يميزهم وتتوالى الايام والليالي الثقافية والمعارض ، ثم تأتى دورة لمعارض الكتاب والندوات الثقافية والدينية، تبدو الجامعة سوق عكاظ كبير في ناحية المنتدى الادبى وجماعة الجو الرطب وعشاق الحلمنتيش، ثم تخطف الصحف الحائطية للجماعات السياسية في الجامعة الأبصار بمانشيتاتها الصارخة
ومعارضتها المعلنة للسلطة في بلد صامت خارج أسوار الجامعة، كان أولئك الذين يحررون تلك الصحف الجرئية يبدون أشخاصا ساحرين قادمين من كواكب بعيدة بجرأة فعلهم وعباراتهم، هكذا وقفت في وسط ذلك الحوش صغيرا ضئيلا مندهشا وباحثا عن موطئ قدم في بحر متلاطم الأمواج، خائفا ذهبت أبحث عن رابطة ابناء مدنى عساها تبدد شعورا بالغربة والضآلة وقلة الحيلة أعترانى.
رابطة ودمدنى بالفرع عالم ساحر
كانت رابطة مدنى بالجامعة خلية نحل ونجمة كبيرة في سماء الجامعة، كانوا في استقبالنا بحفاوة ظاهرة تمارس في الجامعة مع البرالمة سنويا، لكنها حفاوة تختلف عن غيرها في كونها حفاوة نابعة من القلب وفي كونها امتداد لعلاقات سابقة علي الجامعة بين ابناء الرابطة، قد تكون علاقة قربى أو جيرة حي أو زمالة دراسة في مرحلة سابقة أو علاقة رياضية أو حتى سياسية أو ثقافية، لذلك كانت الرابطة بيتا يشعر فيه المرء بالإلفة ويذوب سريعا في سكانه الذين يعرف الكثير منهم سلفا وثمة الف باب ونافذة تنفتح بينه وبين من لم يعرفهم قبلا، فالقواسم المشتركة كثيرة جدا،عن نفسي فقد اندمجت في مجتمع الرابطة ووجدت نفسي علي الفور، قابلت الاخت رجاء حسن هاشم التى كانت بكلية التجارة وهي من بنات الدرجة وكنت اعرفها قبل الجامعة بحكم الجوار وبحكم زمالتها في الدراسة مع اختي الكبرى وباتت فيما بعد سكرتيرا عاما للرابطة وعملت نائبا لها في احدى الدورات، وكانت هناك ايضا الراحلة ثورة عبود بنت المزاد التي كانت بكلية الاداب وكانت هناك معرفة سابقة علي المستوى الأسرى، وكان هناك الاخ الفاتح خضر الكاشف المحامى وكان من قادة الرابطة وكان بالسنة الاخيرة بكلية الحقوق وهناك الاخ الصديق ابراهيم تاج الدين حمد النيل الذى كان ابرز سكرتير رياضي للرابطة لعدة دورات والاخ عصمت محمد يوسف امين مال الرابطة وكانا بكلية الحقوق وبلجنة الرابطة وهناك الاخ عادل الباهى والاخ عبد العزيز محمد احمد والاخ عبد الله خالد من ابناء دردق الذى شغل منصب السكرتير العام للرابطة والاخ خالد عبد الوهاب من ابناء جزيرة الفيل وهناك الاخت فوزية من ام سنط والاخت منى ادريس من بانت ومجدى برير من الدرجة وقائمة طويلة من الاسماء اللامعة التي عايشناها في الرابطة، فتحوا لنا قلوبهم من الوهلة الأولى وبت من أول سنة سكرتيرا اجتماعيا بالرابطة وفيما بعد سكرتيرا عاما بعد تخرج من وجدناهم امامنا بالرابطة.كانت رابطة مدنى مجتمعا جميلا قائما علي المحبة والترابط دونما اعتبار للاختلافات السياسية وغيرها، لذلك كان العمل فيها يشكل واحة في هجير لافح، كان تركيز الجميع علي مايقوى الصلات بين الاعضاء وعلى ما يقدمونه من برامج لمجتمع المدينة التى جاؤوا الي الجامعة منها فكان جل النشاط في العطلات في مدنى. واتذكر أن أول التحديات التى واجهتنا كانت كيفية الحصول على موافقة الفنان الكبير ابو عركى علي الغناء في حفل الرابطة لاستقبال الطلاب الجدد الذين كنت أحدهم ، كانت المشكلة ان اعضاء الرابطة في دورة سابقة خلقوا جفوة مع الفنان المرهف عندما اتفقوا معه ولكنهم لم يلتزموا ولم يعتذروا له، فبات الطريق مفروشا بالأشواك، لكننا لم نيأس اصطحبنا معنا الأخ سلمان محمد احمد عضو الرابطة وقريب الفنان ابو عركى وذهبنا الي الفنان الكبير الذى استقبلنا ببشاشة وسماحة ووافق علي الحفل مجانا دون قيد أو شرط، ولازلت اتذكر كيف انتظرت الجامعة كلها ذلك الحفل الفريد الذى كان في الهواء الطلق في الشارع الواقع بين حوش الجامعة الرئيسي ودار الاتحاد، واتذكر كيف افترش ابناء رابطة كوستى المحبين لعركى الأرض أمام المسرح( (منهم اتذكرزكي منصور المحامى وعبدالسلام ابو ادريس ونجاة وصلاح عبد الله وود الرضى ) وأتذكركيف غنى الطلاب مع أبو عركى (ياتحفة حواء ياروح ادم ياست الكل)، وغنوا معه( مرة ناحت في المدينة الحمامات الحزينة قامت ادتا من حنانا)، كان أبوعركي يغني وعروقه نافرة كحصان يركض في مقدمة السباق وعرقه يغطي جسده اللامع وعيونه تلمع وكان الناس سكارى بخمر الأغنيات وكنا سكارى بما حققنا من نجاح ساحق وباهر. كان يوما لاينسي ابداً.كان الدرس الأول الذى خرجت به من تلك التجربة هو أهمية أن تكون دوما جزءا من كل وان تقبل علي الناس بلا هواجس مسبقة فعندها تذوب كل الهواجس التى تسكنهم تجاهك،أبو عركى ضرب مثالا في الولاء لمسقط الرأس والتعامل الراقى مع أبناء مدينته، كان بسيطاً وحازماً وعفيفاً حين قال عن نفسي أنا متبرع بالحفل لكننى لا أستطيع اجبار العازفين على التبرع، عليكم فقط ترحيلهم وتخصيص ما يرضيهم،وكان عازفيه عند حسن ظننا بهم حين جاروه في التبرع تقديرا له ولكوننا طلاباً، كانت تجربة جميلة حقاً،والجميل ان مبدعى المدينة كانوا دوما عند حسن الظن بهم وهم يزينون حفلات الرابطة سنويا بالمجان أو فئات رمزية جداً، ومن تجارب الرابطة الفريدة في تمويل أنشطتها اننا ذات مرة سافرنا الي مدينة كوستى حيث كانت السينما هناك تعرض فيلما هنديا لعدة ايام لصالح رابطة مدنى وكان فرسان التجربة الأخوة عصمت محمد يوسف وعبد الله خالد. ومن الأنشطة الجميلة للرابطة حفل التخريج للخريجين الذى كان ينظم بمدينة مدنى بطابور للخريجين يجوب المدينة قبالة المسرح وشارع النيل وحفل تخريج بمسرح الجزيرة تحشد له الأسر في منظر جميل وأجواء احتفالية وانسانية رائعة ولن أنسي ماحييت تخريجنا ودموع والدة زميلينا سيف الفاضل وعبدالله الفاضل المحاميان فيما بعد تلك السيدة المكافحة النبيلة التى كانت أما للجميع. كان عملنا بلجنة الرابطة قد أتاح لنا فرصة القيام بتخريج من قبلنا ومعايشة تجربة تخريج الآخرين لنا. كان مهرجانا جميلا في الحالتين.
ولازلت اتذكر تلك المدحة المحورةعلي يد اخونا عادل اب جقادو لتصبح نشيد الوداع الرسمي للجامعة في أوساط الطلاب الخريجين:
الجامعة مابتدوم
ياحليل فرع الخرطوم
من جيتا داب برلوم
في حوشا حايم حوم
نخلط بنات بالكوم
في تجارة والعلوم
وسلم الحقوق
ياحليل فرع الخرطوم
الجامعة ما بتدوم
يا حليل سلم الاداب
وقعادنا جنب الباب
يا حليل ود العباس
الشايو يزبط الراس
والجامعة ما بتدوم
ياحليل فرع الخرطوم.
النشاط السياسي في الجامعة
كانت الجامعة في ذلك الزمان تجسيد حي لتناقضات المجتمع السودانى، ففي حين كانت الأفواه مكممة خارج الجامعة والصحف والأحزاب وكافة أنواع النشاط السياسي محظورة خارج أسوار الجامعة فيما عدا نشاط الحزب الحاكم الاتحاد الاشتراكي السودانى وتنظيماته الفئوية، كانت الجامعة تموج بنشاط سياسي فعال تشارك فيه كل القوى السياسية المحظورة خارج الجامعة بقسط وافر وفعال يتمثل في الندوات والأركان السياسية اليومية والصحف الحائطية الناطقة بأسم الاحزاب والجماعات السياسية المختلفة التي كانت تتنافس تنافسا محموما من أجل استمالة الطلاب اليها والي برامجها ورؤاها ومرشحيها في انتخابات اتحاد الطلاب السنوية وانتخابات الروابط الاقليمية نفسها لم تنج من أثار ذلك الصراع، كانت الحياة السياسية الصاخبة داخل الجامعة بمثابة صدمة قوية تواجه الطلاب القادمين من لجة الصمت المفروض خارج أسوار الجامعات الي هذا البحر الصخاب داخل الجامعات، بالنسبة لى لم يكن هناك صدمة فقد تلقيت صدمة أكبر في وقت مبكر حين أغتالت سلطة مايو رفيقي في الدراسة الثانوية وكشرت عن أنيابها في مواجهة مظاهرات طلابية وشعبية مسالمة في يناير 1982 في مدينة مدنى وسال الدم الطاهر وبلل قميصي فولجت طائعا في بحر السياسة معاديا لسلطة مايو وواقفا بجانب كل من يبشر باقتلاعها ويسعي له، جئت الجامعة وأنا جزء من الفعل السياسي ولست مجرد متفرج عليه، فكنت من السنة الأولى خطيبا سياسيا معارضا يخلط الشعر الثورى المقاوم بافكار ترسم جنة حالمة وطريقا للخلاص من طغمة مايو، كان غضبي الخاص ونيرانى الكامنة بداخلى أقوي من صغر سنى وقلة تجربتى فاندفعت في بحر السياسة الصخاب مستعينا بالشعر المقاوم الذي احفظه وبغضبى الخاص الذى يشد من عضدى ويقوى حجتى ويعطيها مصداقية يشعر بها من يستمع الى كلماتى التى تخرج من الأعماق حيث صورة طه ودمه النازف فوق الأسفلت وصورة والده يوسف عبيد وهو ممسك بقوائم السرير الذي يضم جثمان ابنه بعد سقوطه في وسط شارع الأسفلت والرصاص منهمر والكل منبطح ارضا وذلك الشيخ ممسك بالسرير الذى قاطع الرصاص رحلته الي المقبرة . كان ذلك المشهد يدفعنى دوما في قلب لجة السياسة ونشاطها مهما روادتنى نفسى الي حياة وادعة فقد كنت أتوق دوما الى اجواء جامعية عادية لا تأثير للسياسة عليها كما كانت حياتى قبلاولكن السيف سبق العزل ولم يعد ثمة مجال للتراجع، فقد صنفت نفسي فصنفنى الاخرون وحكم على القدر حكما لايرد.ولامجال للتراجع, ليس سوى ان تريد أنت فارس هذا الزمان الوحيد كما قال "أمل دنقل.
لم يكن الطريق طريقى ، لكنه بات كذلك،كانت الجامعة حين ولجناها ممتلئة بلافتات كثيرة تنادى بأطلاق سراح المناضل فلان والمناضل علان وأخرى مبهمة تطالب بأطلاق سراح المعتقلين السياسين دون إيراد أسماء، وكان للجامعة نجومها في مجال السياسة مثلما كان لها نجوم في مجالات أخرى، ولعل أبرز نجوم ذلك الزمن كانوا ( ياسر عرمان وعادل فيصل وأبوبكر محمد أبكر وعبدالله كوبيل ومجدى محمد أحمد وعادل عبد العاطى وهدى عبد الحميد ) من الجبهة الديمقراطية، و(بيرم وجودة وحاتم بيرسي والمرحوم سرى وعمر عبدالله ) من الناصريين ، و(نادر السمانى ومحمد عبد الجليل) من جبهة كفاح الطلبةحزب البعث ،و( محمد عثمان الفاضلابى ومحمدعكاشة ) من الحزب الاتحادى الديمقراطى ، و(مكين ويوسف وصديق الأنصارى) من حزب الأمة وكان للاتجاه الأسلامى وجوه بارزة كثيرة منها( أبوبكر دينق الجاك ووفاء جعفر وعبدالهادى وعثمان الكباشي ومعتصم الفادنى وعمر نمر وعادل عبد الرحمن والأخوين بلل (حسن وحسين ) كان هناك تنظيم المؤتمر الوطنى الأفريقي
anc
وهو خاص بطلاب جنوب السودان وأبرز قياداته (قيري رايمندو/ وجون كلمنت ، وجيمس الالا دينق، وجورج أنقير، وجورج لادو، والبينو وزكريا وميانق وافات) وهناك مؤتمر الطلاب المستقلين وابرز قياداته المرحوم محمد الهزيل حاج حسن والاخ محمد زين وحتى الاتحاد الاشتراكى كان له قيادة معروفة ممثلة في عبد السلام حمزة، وكان هناك تنظيم الاخوان الجمهوريين ومن أبرزهم خالد بابكر. وكان هناك تنظيم للاخوان المسلمين جناح صادق عبد الله عبد الماجد وتنظيم لجماعة أنصار السنة المحمدية. أما أنا فقد كنت بتأثير أصدقائي في مدنى وحدث استشهاد طه يوسف عبيد قد انخرطت في الجبهة الديمقراطية منذ العام الأخير في المرحلة الثانوية، كان الشعر صاحب تأثير كبير في اختيارى فقد كانت دوواين الشعر الثوري لشعراء المقاومة الفلسطسنيةلاتفارق اصدقائي وبت مدمنا للشعر والمقاومة وكانت أشعار محجوب شريف عالما جميلا جذبنى كالمنوم مغناطيسيا الي عوالم الثورة والشهداء والحنين الي الأمهات
والتغنى بالمستقبل ، كنت مفتونا بمحجوب شريف حد اننى كنت افتتح خطابتى بإشعاره وبها اختتم وكان البرنامج السياسي الذى نبشر به خليطا من تصوراتنا البرئية عما يجب ان يكون عليه الكون حولنا وخليطا من غضب شخصى وغبينة شخصية وخليطا من أحلام الشعراء، لذلك اعترف الان اننى كنت ابيع بدون مقابل لزملاء الدراسة حلما طوباويا غير قابل للتحقيق ولكننى كنت أظن وأؤمن وقتها بقابليته للتحقيق وأراه طريقا وحيدا للخلاص وأركل كل ماعداه، كان العمل السري نفسه مغامرة تستهوي من هم في سننا بالغموض الذى يحيط بكل شئ والأعمال الخارقة التى تنسب لرجال غامضين نراهم مختفين ومحلقين مثل سوبرمان والوطواط في عوالم خفية بقدرات خفية، كنا خارجين من عوالم الغاز المغامرين الخمسة وسمير وميكى والوطواط وسوبرمان اللذان يعيشان مثل ابطالنا الغامضين حياتين واحدة علنية يتسترون فيها خلف شخصية ساذجة وأخرى سرية يمارسون فيها دورا خفيا في انقاذ العالم من الشرور والأشرار، وهكذا بالضبط كانت نظرتنا للعمل السرى في زمن مايو عندما دخلنا الجامعة،أردنا ان نكون جزءا من رجال خارقون يمارسون مهمة نبيلة هى تغيير العالم الي الافضل، لذلك كان شيئا مشوقا ان نكون اعضاء في جماعة سرية نحمل فيها اسماء مستعارة اغلبها لها علاقة بالسير المبهرة التي قرأناها وسمعنا بها عن شعراء وقادة ثوريون مثل جيفارا والشفيع وعبدالخالق المشهور بالرفيق راشد ومثل الشاعربابلو نيرودا وسلفادورالليندى الرئيس التشيلي التقدمى المنتخب الذى ازاحه انقلاب امريكي قاده الجنرال بينوشيت وقاتل الرجل الانقلابيون حتى آخر طلقة وقتل والشاعر التركى ناظم حكمت ،كان عالما فانتازيا مبهرا ذلك الذي وجدنا انفسنا في قلبه، فاندفعنا بحماس الي قلب المظاهرات والاركان الملتهبة ومعارك الانتخابات الطلابية التى نتخيل انها ستغير الكون باكمله نتيجتها، وكانت كتابة الجريدة الحائطية ولصقها بالجامعة مغامرة مثيرة الفصول تجعل صورتنا كرجال خارقين تبدو أقرب الي الحقيقة، وكان مرور بعض زملائنا الذين يظنون انهم كوادر سرية غير معروفة في الجامعة أمام الصحيفة المعلقة وتوقفهم عندها للقراءة ببراءة مفتعلة وهم من حرورها وشاركوا في كتابتها حدثا يشعرنا بأننا نملك مفاتيح الأسرار
ويجعلنا نحس بخطورتنا وخطورة مهمتنا التى نباشرها سرا وعلنا.
أتذكر طاقم تحرير صحيفة الشرارة صوت الجبهة الديمقراطية بالجامعة في ذلك الزمان والتى اشتهرت بعبارة ثابتة بها تقول( ومن الشرارة يندلع اللهيب)، كانوا خليطا متنافرا منسجما، أحدهم حلفاوى يسمي محمد فتحى محمد جبارة نحيل العود حتى انك تخشي عليه من أي ريح مهما صغرت فهى قد تتلاعب به كما تللاعب بورقة صغيرة، لكنه كان صبورا جلدا يعمل بلاكلل ساعات طوال في أي وضع و أي مكان في كتابة الجريدة الحائطية باقلام الشينى الملونة بخط جميل مقروء، وهناك نحيف آخر من ابناء كوستى يسمي عبد السلام كان فنانا في الخطوط وصاحب شخصية ساخرة وساحرة ونكتة حاضرة وروح عالية لايعرف الغضب أو الانفعال طريقا اليها، وهناك ثالث يتميز بعلاقته القوية بالتدخين والحكايات أثناء عمله وهو قبطى ظريف يسمي فرانسوا تراه دوما مرتديا بنطلون الجينز ونظارته الطبية علي وجهه وسيجارته لاتفارق يده ، كنا نسميه القسيس وكان مخزن حكايات لاينضب حتى اننى استطيع الجزم انه لو حضر زمان القنوات الفضائية لكان لوحده انجح قناة قادرة علي جذب انظار وآذان المستمعين اليها، كانت كل ثانية معه عبارة عن نكتة وكل موقف يسرده عبارة عن حكاية مشوقة الفصول وكان دوما مركز اهتمام واستماع الحاضرين، كان صبورا هو الآخر وفنانا في التنسيق الفنى واستخراج العناوين الجاذبة والمثيرة، كانت له لازمة لطيفة جدا فهو لايورد أسم احد الاصدقاء الا كاملا متبوعا باسم الاب ماعدا اسم صديق واحد اشتهر بيننا باسم كامل الحلبي بسبب لونه فكان يقول أسمه مجردا ، كان هناك عوض الله الحلفاوى البدين نوعا ما، وهو رجل ضاحك دوما كطفل واذا قابلته في الجامعة يوما فلن يخطر علي بالك أبدا أن صاحب هذا الوجه الضاحك منخرط في أي نشاط من أي نوع سوي الضحك وربما الملاكمة ، وكان هناك شخص آخر نحيف قصير القامة لكنه مثل ابو الدقيق في سرعة انفعاله ومثل النحلة في لسعة تعليقاته الساخرة ولعل ذلك كان سبب شهرته باسم (على الوجيه) وهو علي ابكر الحصان الضاحك دوما
الذى تزوج فيما بعد زميلة دراسة ومشاوير ذات ملامح آسيوية وهى خرطومية فأطلق عليها الاصدقاء أسم أوشين بطلة المسلسل الشهير بسبب ملامحها الآسيوية، علي هذا حكاية شيقة الفصول وكان لنا معه وفي بيتهم باركويت ذكريات جميلة وضحكات طاولت عنان السماء واجتماعات ظننا لسذاجتنا انها قد تغير العالم أو علي الأقل وطننا لكنها مضت مثل دخان السجائر العالق المصاحب لها ولم تترك إلا الذكريات المتعلقة بها وبمن كانوا فيها وبعض ما جرى هنا أو هناك،تفرقنا أيدى سبأ وبتنا حين نلتقى بعد غياب السنين نلتقي لقاءات عامرة ببعض الدفء الذى مضى ولكن بلا أحلام وبلا شرارة يندلع منها لهيب ،لم يبق لنا شئ سوى المحبة فقط لذلك الزمان البرئ الذى كنا فيه في كوكب من الأحلام ندور وندور، لم أكن أملك أي موهبة فيما يتعلق بالخط والكتابة بالقلم الشينى ولكننى كنت ولازلت عاشقا لكتابة النصوص من أي نوع فوجدت نفسي محررا مهمته كتابة مسودته والدفع بها للخبراء لإخراجها في ثوب قشيب ، وهكذا عرفتهم وبت جزءا من عالمهم المثير، لا أدرى أين غابوا الآن في الزحام لكن ليس هناك على حد علمى من اشتغل منهم بالصحافة سوى فرانسوا لوقت قصير وفي مهام ادارية، أما انا فاشتغلت بالصحافة حينا مستفيدا من تجربة التحرير المبكرة التى يجب أن أقول اننى بدأتها منذ الثانوى قبل ولوج الجامعة حيث كنا نصدر صحيفة حائطية بمدرسة السنى الثانوية بمدنى وهي صحيفة ذات طابع ثقافى عام، وقبل ذلك كنت اشارك في صحيفة نادي حي 114 الحائطية .
وجوه كثيرة تطرق أبواب القلب والذاكرة هنا وتتزاحم علي مسرح الأحداث باحثة عن موطئ قدم،وجه يرتدى صاحبه نظارات طبية تقليدية الإطار ويرسم الجدية دوما علي محياه ودوما يحمل كتابا ذو عنوان معقد ومثير وغامض فهو عاشق للقراءة وغارق حتى أذنيه في القراءة في كل فروع المعرفة فهو طالب حقوق لكنه مغرم بالفلسفة وكتبها ذات المصطلحات الغامضة والمخيفة وهو مغرم بالاقتصاد السياسي ونظرياته وشروحاتها ، ومغرم بالروايات والأشعار وسير المفكرين واالفلاسفة
كان صاحب مصطلحات تتكرر في مناقشاته كثيرا
فتجعل البعض ينزوى جانبا ثم ينسحب خوفا من إبراز جهله
أما صاحب الوجه فقد كان في الحقيقة حالما كبيرا
وجائعا كبيرا الي المعرفة ومرهفا الي حد انك تخاف عليه من النسيم
فيما بعد أدخلته تلك الرهافة في أزمات أخذت من وقته كثيرا حتى استطاع تجاوزها
كان دوما زهرة تعلم انها ضعيفة فتحيط نفسها بالأشواك
كان دوما طفلا كبيرا يكسو وجهه بقناع الكبار حتي لايتم ضبطه متلبسا بطفولته
كان فيه شبه أدركته مؤخرا من أبطال رواية أوسكار وايلد
(أهمية أن تكون جاداً (The Importance of Being Earnest)
من حيث محاولة الظهور بمظهر مغاير للحقيقة
وكانت تلك المحاولة دلالة نبل وليس العكس
يا الله كم تترابط الأشياء في الحياة إذا تمعنا فيها جيدا
فلم يضع جهد اساتذتنا الذين درسونا الأدب الانجليزى هباءا منثورا
بل بقيت كلماتهم في القلب والذاكرة
وأضاءت لنا كثيرا من ظلام الحياة.
صلاح سر الختم علي
20-08-2014, 08:07 PM
قصتى مع المحاماة من الألف الي الياء ( 2) حكايات في دروب المحاماة
قصة الموكل الكاذب
كان قصيرا، مربوع القامة، له عينان صغيرتان ماكرتان ولحية صغيرة، كثير الكلام والابتسام، كنت بطبعى أحب المرح والمرحين والبسطاء وكان ظاهريا ينتمى الي ذلك كله، فهو يعمل سائقا لعربة نقل تجارى للركاب والبضائع ، وهى عربة عتيقة من النوع المشهور في ذلك الزمن باللاندكرور برغم أنها سيارة يابانية الصنع تنتمى الى السيارات اللاندكروزر ولكن التسمية السودانية لها (اللاند كرور) جاءت من كونها موديل قديم أكل عليه الدهر وشرب ولكنه لقوته لازال وسيلة النقل التجارى القوية المفضلة التى تخضع لتعديلات محلية كثيرة من الحدادين السودانيين فهم يتفنون في عمل إضافات تجعل من العربة ذات المقعدين حافلة صغيرة بها مقاعد متقابلة ولها سقف يقى ركابها من الشمس واحيانا يصمم الصندوق الخلفى بحيث يكون صالح لحمل البضائع والركاب معا بجعله به ارائك خشبية على الأجناب بلا سقف ،المهم كان صاحبنا يقود سيارة من هذا النوع لها مقعدين أمامين ولها صندوق خلفى مصمم لحمل الركاب والبضائع معا وكان حسب تعبيره الدارجى ( يجازف بها رزقه) مابين مدنى والقرية أربعين الفاو ،ولكنه اثناء قيامه بعملية نقل برئية وجد نفسه متهما بارتكاب جريمة سرقة من أحد المخازن الحكومية بالاشتراك مع آخرين،كانت قصته كما رواها قصة بسيطة يمكن أن تحدث لأى إنسان شريف فيجد نفسه خلف القضبان متهما بتهمة خطيرة بلا ذنب جناه، فقد استأجره أشخاص لايعرفهم من مدينة مدنى ليحملهم الي القرية أربعين بمقابل وقد كان العرض جيدا فلم يرفضه وقام بالنقل واستلم نقوده وأراد العودة حين طلب منه الذين استأجروه انتظارهم وأعادتهم بعد الفراغ من مشوارهم وكان الليل قد بدأ يرخى سدوله ولن يجدوا وسيلة للعودة ولن يجد هو ركابا فقرر قبول عرضهم والانتظار، وفي طريق العودة طلبوا منه التوقف علي جانب الشارع بالقرب من المخزن المسروق الذي لايعرفه،وكان هناك من ينتظر علي جانب الشارع ومعه بضاعة في جوالات رفعت بالعربة وواصلت العربة سيرها حتى بلغت مدنى، وفي الصباح التالى تم القبض عليه بواسطة الشرطة وتبين أن من كانوا علي متن عربته لصوص وان البضاعة التى حملوها عليها مسروقة من مخزن حكومى مجاور،حضر الي مكتبى في مدينة مدنى في مطلع التسعينات بتوصية من أستاذ محام أحاله الي لأن القضية بدت له أصغر من صيته الكبير من جهة ولأنه أراد مساعدتى في بداية مشواري في المحاماة بمدى ببعض القضايا والزبائن، كنت لازلت في بداية حياتى المهنىة ولازلت من ذلك النوع الساذج من المحامين الذي يصدق كل رواية تروي له ويقبل القضية بلاتمحيص في مرحلة الاستماع لرواية من يقصده ليفاجأ فيما بعد في كل جلسة بحقيقة جديدة كانت خافية عليه ويصبح مسخرة في المحكمة ومحرجا علي طول الجلسات وقد أحرق سفنه قبل أن يتفقد جيشه ويعرف علي أي أرض يقف، المهم صدقت دموع التماسيح التى ذرفها موكلى القصير المكير وتوليت قضيته وبت أسافر بصحبته لحضور جلسات المحاكمة المنعقدة بمدينة الفاو بعربته اللاندكرور وكان خط دفاعى انه كان ناقلا حسن النية ولم يكن شريكا في أي مشروع إجرامى ، بل تجرأ وهمس في أذنى انه ربما تكون قصة السرقة المزعومة مختلقة والأمر ربما يكون تغطية لفساد في المخازن ، فصادف قوله قبولا عندى، وسارت الاجراءات حتى صدر حكم ببراءة موكلى وذلك أمر طبيعى ومتوقع في ظروف القضية وما بذلت فيها من جهد مؤمنا بقضيته وبراءته، كانت المفاجأة في انتظارى حين خرجنا من مبني المحكمة متجهين صوب سيارته لنسافر الي مدينة مدنى عائدين، فرك القصير المكير يديه بفرح حقيقي وهتف بصوت عال: والله خطير يا استاذ...خطير جد....والله ماكنت قايل نفسي اطلع منها.
توقفت والتفت نحوه وانتهرته قائلا: ماكنت قايل تطلع منها؟ قصدك انك عملتها؟
ضحك بصفاقة وقال بطريقة سوقية فظة: ومال ايه؟ انت صدقت اللاكونة دي يا استاذ والله شنو؟
هتفت بكل الغضب الذي في الدنيا في وجهه أن يغرب عن وجهى هو وعربته اللعينة، وقلت له والله لو كان بمقدورى ان اتقيأ كل مليم أخذته منك لتقيأته....اغرب عن وجهى وإلا.....وقف محتارا....انتهرته بحزم فهرول نحو عربته وادار المحرك وذهب، بقيت وحدى
مشيت مسافة كيلو متر حتى شارع الزلط ، كان الغروب مقبلا والمكان موحشا، ولم اك املك مالا وقتها، لكن الله قيض لى شاحنة تحمل بطيخااعتليت ظهرها عائدا الي مدنى والهواء يعبث بالكرافتة كأنه يضحك مني ...كنت غاضبا وحزينا وفيما بعد كانت تلك الحادثة أحد اسباب هجرتى من المحاماة الي القضاء، فقد بت أري في كل موكل شخصا وضيعا كاذبا مثل ذلك الذي جعلنى أحصل له على براءة لايستحقها.
قصص موجعة
وجه ملائكي
كانت صاحبة وجه ملائكي ، وجه صغير جميل باسم وشعر جميل وقوام دقيق وأنف مرسوم وعينان تخترقان كل شئ حتى الحجر فيرتجف، الي ذلك كانت أنيقة لطيفة، ظهرت في مجتمع المحامين بغتة فادرات الرؤوس كعادة المحامين مع الجمال، ولم تجد صعوبة في الانتماء الي أحد المكاتب والتجول في المحاكم من أقصاها الي اقصاها باعتبارها محامية متدربة وأفسح لها وجهها الطريق فأنفتحت كل الأبواب والقلوب لها، وباتت كأنها ولدت محامية وكأن الجميع قد عرفوها عمرهم كله، ثم خفت الاهتمام بها بعد ظهور وجوه أخري جديدة، لكنها ظلت موضعا للحفاوة والإهتمام حيثما ظهرت، ثم علا همس غريب عنها ، تزايد الهمس حتى بات عالياً كطبول حرب، تبين ان صاحبة الوجه الملائكى ليست محامية ولم تدرس القانون مطلقا، لكنها احبته وعاشته وهماً جميلاً ودكت حصونه واخترقتها بلا أي مؤهلات أكاديمية سوي رغبتها في ان تكون من سدنته، وتبين انها تعانى نفسيا وانها تستحق الشفقة والرحمةأكثر مما تستحق عقابا أو احتقارا، فلملم الناس خيوط الحكاية بهدوء وأختفت صاحبة الوجه الملائكى من كل المواقع بلا وداع ولا ضجيج، ثم طواها النسيان.
( الحقيقة العارية)
هي قصة الإحسان الذي ينقلب سيفاً بتاراً يغوص في أحشاء المحسن اليه ويمزقه إربا ، كان شابا مرموقاً وسيماً ساحراً محبوباً من الجميع في تلك المدينة التى تشبه قرية من فرط ترابط أهلها وتشابك علاقاتهم الاجتماعية،نشأ صاحبنا في أسرة عريقة ممتدة الجذور وذات مال وصيت وكان والده مالكا لعقارات كثيرة بالمدينة وتاجرا وقطبا كبيرا فيها، كان هو الولد الأكبر الذي لايعرف سره إلا الأم والأب،كان الأب متشوقا في بدء حياته للذريةوحين تأخر الانجاب قرر أن يتبنى لقيطاً يبدد وحدته فاختاره وأخذه ورباه ومنحه أسمه ولم يبح للناس بسره، ثم توافد الابناء والبنين من صلبه بعد ذلك وفتحوا أعينهم فوجدوا صاحبنا أخا أكبرا ناجحا ومتفوقا في دراسته ومحل محبة والديه الذين رأيا فيه فألا حسنا وابنا لم يلداه ولكن شعورهما بالابوة والأمومة تجاهه لاينتقصه ذلك أبدا، وهكذا مضت السنين وصاحبنا يعيش حياة حقيقية رائعة كانسان جميل رائع يملك أسرة ودفئها وصيتها ويجول المدينةمن أقصاها الي أقصاها مفعما بالكبرياء والكرامة ومحاطا بالمحبة أينما حط رحاله،وحين جاءت موجة الأغتراب غادر صاحبنا الوطن ميمما صوب إحدى الدول الخليجية وغاب هناك سنينا طويلة وعاد ذات مرة وتزوج زواجا أسطوريا تحدثت عنه المدينة طويلا وتمنت كل بناتها أن يكن مكان تلك السندريلا التى ظفرت به، مضت الحياة، غاب البطل في خليجه وغيب الموت أبيه الذي أوصي الأم والإخوة جميعا بأخيهم خيرا بعد ان شرح لهم الحقيقة طالبا منهم ألا يخبروه الحقيقة لانها ستحطمه ولكنه في الوقت نفسه طلب منهم ألا يقعوا في المحظور باعطائه في الأرث نصيبا لم يعطه الله له موضحا انه سجل له عقارات وخصص له أموالا تكفيه وتجعله في وضع مماثل لأوضاع أخوته واخواته وذلك في شكل وصية يجب ان تنفذ دون اعتراض منهم، كانت الصدمة قاسية عليهم لكنهم تحملوها وساعدهم غياب الأخ المفترض بعيدا، لكنه عاد من اغترابه الطويل حين راسله أحد أقاربه معزياً ومستنكراً توزيع التركة بشكل لايطابق الشرع وفيه ظلم له، استعان بمحام وتبين له فعلا ان نصيبه في الأرث أقل مما يستحق ولم يدرك لذلك سببا،تحدث الي أمه واخوته فحاولوا تبريره بشتى الطرق ولم يفلحوا، ولم يبوحوا له بالحقيقة فزاد صاحبنا في عناده وظل يضغط بكل السبل القانونية ليظفر بما يظنه حقه وما دري انه يحفر قبره بيده، تحت ضغط شديد منه لم يجد اخوته وامه بداً من هتك ستار الحقيقة النائمة وقذفها في وجهه عارية كما هي، فقد كانوا محاصرين بوصية الاب من جهة وبفضوله وعناده هو من جهة أخري، ولم يكن من بد مما ليس منه بد، ترنح الرجل تحت وطأة الحقيقة وأنهار كما تنهار بناية شاهقة تحت وطأة قصف صاروخي، نظر الي نفسه في المرآة فلم يجدها، نظر الي حياته كلها فلم يجدها، كانت كلها وهما وأكذوبة مثله هو، تبخر الرجل واختفي من كل مكان ومجلس ولم يعثروا له علي أثر بعدها، بقيت أسرته مغروسة في المدينة بلا هوية بعد تمزيق بطاقة هوية رب الأسرة، وبحث الأهل المفترضين عنه في كل مكان بلاطائل، اغلقت المحكمة ملف التركة الموجعة ونامت المدينة حزينة.
صلاح سر الختم علي
21-08-2014, 10:03 AM
نقوش بالدم في ذاكرة صغيرة
كنت صغيرا... صغيرا وممتلئا بآمال كبيرة... خرجت من بيت صغير في حي عمالي صغيرفي مدني ولكن احلامي كانت بحجم الكرة الارضية وبحجم تأثير القصيدة السحري في القارئ ...كانت ثمة شجرة قرض كبيرة تتوسط بيتنا الصغيرفي 114 ، كانت اجمل الامكنة في الدار ففيها مرجيحة اطفال الفقراء المصنوعة من حبل من التيل وفيها كانت كعاكيل الصمغ التي يشكل انتزاعها من الشجرة متعة لاتجاريها متعة.. كنت اركض مسرعا من المدرسة القريبة لكي اركض صوب شجرتي الاثيرة... ذات الشجرة كان الخروف يعلق فيها للسلخ بعد ذبحه وكنت انفر من ذلك المشهد واختلق الاعذار لكي اغيب مثلما كنت اهرب من لحظة الذبح ومرأي الدماء الراعفة... واتذكر تلك الحالة من الكآبة التي سيطرت علي بعد أول مشاهدة حية لخروفي الجميل ساعة ذبحه... كانت مفاجأة قاسية... كنت قد احببته وتفانيت في خدمته وسقياه وطربت لصوته الذي بدا لي فيما بعد كالاستغاثة... كنت اظنه سيدوم الي الابد معنا وان علاقتي مع وبره الجميل ستدوم طويلا...ولكن حين حانت تلك اللحظة وانفجر الدم كنافورة وجحظت العيون الجميلة وجدتني اركض بعيدا ابعد مدي استطاعت قدماي حملي اليه..لم انم وعافت نفسي اللحم تماما...واختلست النظر الي أبي مرارا متسائلا في سري من اين أتي أبي الشفوق بهذه القدرةالغريبة علي الايذاء ولماذا؟
حين هجعت الي مرقدي لم انم... كانت عيون الخروف الحزينة في جحوظها الاخير تملأ الفضاء وتخنقني كحبل تيل معلق في شجرتنا صباح العيد في ذات مكان المرجيحةوصوته اصبح عبارة عن صراخ طفل صغير هو أنا ونافورة الدم كانت تتدفق من رقبتي أنا ووجه أبي شاحبا مرتاعاوالسكين تقطر دما وهي تضحك.... صرخت بأعلي صوتي وافقت علي يد امي وهي تمسح علي جبهتي بحنان ومحبة وهي تتمتم بآيات القرآن وتستعيذ بالله بصوت خفيض من الشيطان... قلت لها بلاتفكير:لماذا يذبحونه؟!قالت بارتياع: بسم الله الرحمن الرحيم.. منو هو؟
قلت لها بصوت خفيض: الخروف!
ضحكت حتي بانت سنها الذهبية الوحيدة
وضمتني اليها وهي تمسح علي شعري وهي تقول
غدا تفهم.. نم ياصغيري... لكنني لم أنم أبدا.
صلاح سر الختم علي
21-08-2014, 10:10 AM
عصام... شرفة مطلة علي البحر (1) (2)
(1)
الجزء الاول:الخوف قاسم مشترك
كان صديقي وكان نافذتي الي عوالم كثيرة جديدة لم تتحها لي الحياة قبل معرفته.. كان عالمي محدودا فانفتح معه علي فضاء فسيح...انتقلت معه من قراءة ميكي والشياطين ال 13 والمغامرين الخمسة الي عوالم اخري...قصائد من نار وسير ثوار ومناشير سرية وقصص مثيرة عن ابطال اليسار وحكايات عن المختفين تحت الارض الغامضين تحاكي في الكثرة كرامات الاولياء الصالحين.. وفي الغموض غموض اللص الظريف ارسين لوبين الذي احتل صدارة صبانا....كان صديقي ينتمي الي اسرة متعلقة باحلام اليسار وكان البيت يضج بكتب الشعر والفلسفة والتاريخ وبالحوار والاغاني والاخبار وكان كالمزار..كنا صغارا في مدينة تتنفس شعرا وتتحرق شوقا الي منشور او مظاهرة.. وكنت خائفا وانا اقترب من حقل الالغام...ففي قاع ذاكرتي كانت صورة ذاك الرجل الاحمر الذي قاسمنا دارا ذات يوم في طفولة باكرة تلتمع، كان دنقلاويا يعمل بالسكة حديد معقل اليسار في ذاك الزمان.. طيبا وبشوشا ضاحكا يتحدث العربية بلكنة من يرفض شئيا هو مكره عليه اما امرأته فكانت تتحدث اغلب وقتها برطانة اهلها.. كان لون الجدار احمرا والستائر حمراء والنوافذ والشبابيك والترابيز جميعها مطلية بالاحمر..وكنت صغيرا جدا في اول سنة دراسة في حياتي حين طوق الجنود تلك الدار التي كنا نسكن نصفها في احداث يوليو 1971 للقبض علي حسن ساتي .كنت مرعوبا وانا انظر الي الجنود الذين تبين احذيتهم وبعض ملامح شراستهم وبنادقهم من خلال ذلك الجزء المتهدم من سور البيت والذي كان مغطي بصورة مؤقتة بالزنك القديم الذي يعلوه صدأ وبه فتحات هنا وهناك..جاءت القوة الكبيرة بالباب ورابطت مجموعة هنا عند فتحة السور خوفا من هروب حسن...كنت خائفا وانا انظر اليهم.. ركضت الي حيث الباب حتي لايفوتني شئ ...خرج الرجل الهادئ الطويل القامة بذات ملامح وجهه الباسمة كالذاهب الي ليلة عرس وسط مجموعة من الجند وكانت هناك مجموعة اخري لاتزال بالداخل تنقب عن شئ ما... انفتح الباب وكان الشارع مكتظا بالجيران والفضوليين الذين جلبهم منظر الجند... خلف ظهر الرجل والجنود كانت زوجته تصرخ بعربيةمكسرة في وجه المتفرجين: (تعايني مالكن؟ما راجل...مالا.. لاكتلت لاسرقت....)... كانت تقصد ان زوجها لم يرتكب جرما تخجل منه ولكن تأنيثها للمذكر كعادة النوبيين حديثي القدوم الي المدينة جعلت فهم المعني عسيرا علي من لم يعتاد علي ذلك، انطلقت العربة والرجل نقطة صغيرةوسط غابة من الجند لكنه وابتسامته كانا الاكبر والأكثر حضورا في ذاكرة تتوهج كلما بعدت الشقة بينها وبين تلك اللحظة.وبقيت المرأةتصرخ في المتفرجين بعربية مكسرة كمن يهش ذبابة ملحاحة. كنت اقترب من صديقي ووكره اليساري وذاكرتي تختزن تلك الصورة الغامضة المشوشة التي تحمل في ثناياها اكثر من اشارةوهاجس ولكن الفضول البشري والدفء الانساني الحميم الذي يبعثه صديقي في نفسي كانا اكبر من المخاوف الكامنة هناك في ذاكرة حائرة في تفسير مشهد وحيد مقتطع من مشاهد اخري لم أرها...
كنت مفتونا بكرة القدم والسينما الهندية والعربيةوالقراءةلما يعجب مراهق في الثانوية العامة آنذاك :الالغاز وقصص اجاثا كريستي وارسين لوبين المتخصصة في الجريمة الغامضة وميكي وسميروالمغامرين الخمسةوال13 وغيرهم وكتابات جرجي زيدان والمكتبة الخضراء واليس وبلد عجائبها وقصص الاقزام والعمالقة وقصص الانبياءوغيرها وبدايات خجولة مع الانجليزية وقصصها الملونة الانيقة في البرتش كانسل في مدني وكانت اول علاقتي مع القصةوالشعر جدتي وحكاياتها الآسرة المغناة بصوت عذب عن فاطمة السمحة والغول وحكايات البنات الفقيرات والاميرات والسلاطين... ولعل ذلك السرد الرابط بين الغني والفقر وصراع الحطاب والاميرة والبحث عن الكنوز المخبؤة وصراعات الخير والشركان تهئية لاحلام كثيرة فيما بعد وقعت في حبائلها وطاردت فراشها الحائر اينما حط ورحل...حتي انني ايام فتنتي الكبري بالاسقاط كدت اكتب عن جدتي المدركة لصراع الطبقات وحسنا فعلت بعدم الكتابة ففضاء جدتي الفسيح اكبر من كل الاختزالات والعناوين والاحكام المسبقة فهي عصفور طليق تقتله زنازن التصنيفات المسبقة وهرطقة المثقفين الباحثين لكل ظل عن شجرة ينتمي اليها ولو كان ظلالجناح نسر طائر اختطف جيفة وهرب ...وهانذا بعد ان دخلت راضيا اقفاصا عديدة اعود واحاول التحليق مثلها من جديد حرا طليقا مكتويا بنيران عديدة ومثقلا باحزان كثيرة وخيبات بعدد الظلال التي بحثت لها عن اشجار واتخذت منها دليلا فانكر الظل الشجر وشنق الشجر نفسه حين ادرك الي اي ظل يساق وينسب، فوقفت بين الظل المتلون والشجر الواجم حائرا والمرارة في فمي ودمي!!!
صلاح سر الختم علي
21-08-2014, 10:12 AM
دخلت الي عالم صديقي حاملا شكي وخوفي وانطباعاتي وآ ثار ظنون اخرين وافكارهم المسبقة عن الاخرين، لكنني وجدت نفسي
امام دنيا عادية .. مختلفة ولكنها عادية جدا...كان صديقي بحسب وظيفة والده ينتمي الي طبقة مختلفة عن طبقة العمال التي ينتمي لها ابي،كنا نسكن حيا عماليا صرفا يتشابه اهله في كل شئ...حتي ملاءات الاسرة ونوع حلوي العيد وقطع القماش التي تصنع منها الفساتين للبنات في العيدجميعها واحدة لكون مصدرها واحد هو دكان تعاون حي 114 للعاملين بوزارة الري ومؤسساتها...في اغلب الاحيان تكون وجبة الافطار في كل البيوت هي نفسها ...وكان الحي ينقسم رياضيا الي فريقين(الوحدة والنجمة) في زمن وفي زمن اخر وهو زماننا (المشعل والمجد)كنت العب في فريق المجد واخي الاكبر احمد الشهير باحمد حربة كابتن فريق المشعل .. وكانت الرياضة محبوبة الكباروالصغار في حينا فكنت تراهم عصرا في ميدان الوحدة الواقع بين مدرسة شدو العامةومدرسة النيل الازرق الثانوية العليا التي صارت فيما بعد السني الثانويةواستولت بمسماها الجديد علي الميدان الحبيب لاهل الكمبو الذين كانوا يحضرون بكراسيهم للمشاهدة...
وكان صديقي يسكن حي الدرجة وهو حي يقطنه كبار التجار والموظفين...كنا عالمين مختلفين...ولكن دائما هناك ثمة اشياء تقرب المسافات بين الغرباء....وكان الشعر والادب هما قنطرة عبور الرياضي العاشق للسينما الهندية الي عالم جديد
سيضطر فيه الي انكار ذلك العشق وممارسته سرا مع الشلة القديمة التي لاتعرف من الدنيا سوي كرة القدم والضمنةوالافلام الهندية والصعوط..
صلاح سر الختم علي
21-08-2014, 10:13 AM
كان الشعر في ذلك الزمان بندقية مغموسة في اللهب... وكان دعوة جرئية للثورة والتمرد علي الواقع والقيود.. وكان يعج بسير الابطال والحالمين ... كانت القصيدة مظاهرة كاملة العدد...
ومع عصام وعبر شرفته قرأت لاول مرة وعود العاصفة التي اطلقها محمود درويش وانفعلت بها:
و ليكن ..
لا بدّ لي أن أرفض الموت
و أن أحرق دمع الأغنيات الراعفه
و أعرّي شجر الزيتون من كل الغصون الزائفة
فإذا كنت أغني للفرح
خلف أجفان العيون الخائفة
فلأنّ العاصفة
وعدتني بنبيذ.. و بأنخاب جديده
و بأقواس قزح
و لأن العاصفة
كنست صوت العصافير البليده
و الغصون المستعارة
عن جذوع الشجرات الواقفه.
و ليكن..
لا بدّ لي أن أتباهى، بك، يا جرح المدينة
أنت يا لوحة برق في ليالينا الحزينة
يعبس الشارع في وجهي
فتحميني من الظل و نظرات الضغينة
سأغني للفرح
خلف أجفان العيون الخائفة
منذ هبت، في بلادي، العاصفة
وعدتني بنبيذ،وبأقواس قزح
وفي بيت عصام سمعت اسم مارسيل خليفة للمرة الاولي وصوته القوي ينبعث من جهاز التسجيل مرددا هذا النشيد
وذلك النشيد الاخر الرائع الفريد:
أحنّ إلى خبز أمي
و قهوة أمي
و لمسة أمي
و تكبر في الطفولة
يوما على صدر يوم
و أعشق عمري لأني
إذا متّ،
أخجل من دمع أمي!
خذيني ،إذا عدت يوما
وشاحا لهدبك
و غطّي عظامي بعشب
تعمّد من طهر كعبك
و شدّي وثاقي..
بخصلة شعر
بخيط يلوّح في ذيل ثوبك..
عساي أصير إلها
إلها أصير..
إذا ما لمست قرارة قلبك!
ضعيني، إذا ما رجعت
وقودا بتنور نارك..
وحبل غسيل على سطح دارك
لأني فقدت الوقوف
بدون صلاة نهارك
هرمت ،فردّي نجوم الطفولة
حتى أشارك
صغار العصافير
درب الرجوع..
لعشّ انتظارك!
وازدادت الصورة روعة ونحن نشاهد مارسيل بشحمه ولحمه وهو يغني من خلال جهاز الفيديو الساحر وظللت اقطع المسافة من بيتهم الي بيتنا مرددا تلك الاناشيد وصورة مارسيل تملأ الفضاء امامي ثم سمعت شعر محجوب شريف
بايقاعاته السودانية الخالصة واحزانه الكثيرة وتحديه الظاهر وشوقه الي مريم محمود امه التي كتب عليها ان تدفع كام ثمن خيارات الابن المحبوب المحب الذي يتمزق بين نداءات الطريق الذي اختاره وبره لامه ....كنت منجذبا الي تلك العوالم كصوفي في حلقة ذكر ليلة المولد ... سعيدا وراضيا ومستسلما لمصيري.
صلاح سر الختم علي
21-08-2014, 10:15 AM
اظن ان افتتاني بالقصة بدأ هنالك مع عصام وعوالمه الجديدة فكل شئ كان حكاية مثيرة الفصول لها بداية صاخبة وذروة وسنام وبينهما خيول تصهل بلا انقطاع... محجوب شريف كان حكاية .. رجل غامض يكتب شعرا لامثيل له شعرا يختلط فيه دم الشهيد بالثورة والاحلام بالمشانق والحزب والشعب والام والحبيبةوالحبيبة والوطن والغضب والحب والوعيد والوعد والبندقية والسنابل...
استمعت بكل دهشة شاب لم يبلغ العشرين الي منشور المحبة الرائع يا والدة يامريم وبقيت بداخلي غصنا لايموت ولايشحب ونهرا خالدا يتدفق من اعماق بعيدة:
يا والدة يا مريم ... يا عامرة حنية
أنا عندي زيك كم ... يا طيبة النية
بشتاق وما بندم ... اتصبري شوية
يا والدة يا مريم
ما ني الوليد العاق ... لا خنتّ لا سراق
والعسكري الفراق ... بين قلبك الساساق
وبيني هو البندم ... والدايرو ما بنتم
يا والدة يا مريم
عارف حنانك ليّ راجيك تلوليني
دايماً تقيليني وفى العين تشيليني
ألقاه عز الليل قلبك يدفيني
ضلك عليَّ مشرور قيلت فى سنيني
أنا لو تعرفيني لو تعرفي الفيني
أنا كم بحبك كم
والعسكري الفراق بين قلبك الساساق
وبيني هو البندم ... والدايرو ما بنتم
يا والدة يا مريم
طول النهار والليل فى عيني شايلك شيل
لكني شادّي الحيل لا خوف عليَّ لا هم
هاك قلبي ليك منديل الدمعة لما تسيل
قشيها يا مريم
والعسكري الفراق بين قلبك الساساق
وبيني هو البندم ... والدايرو ما بنتم
يا والدة يا مريم
كنت اتصور محجوب شريف بملامح سودانية مميزة داخل القضبان يسهر الليل مخاطبا امه بكل تلك اللوعة معتذرا عن غيابه الاجباري عنها ومعتذرا عما يسببه لها من لوعة والم
ويخبرها بكل الحب كم هي غالية دموعها عليه ويطلب منها ان تصبر كأنه الطليق وهي السجينة وكنت اتصور امه بشلوخ عريضة وبنية نحيلة ودموع لاتجف... كنت اقرأ القصيدة فتتوجع بين اناملي واجدني غاضبا ومتحفزا وباحثا بنهم عن كل اشعار محجوب شريف
وكانت والدة عصام حافظة للكثير من تلك الاشعار خاصة الاشعار التي تتحدث عن احداث يوليو 1971 وكان ثمة حكايات اخري عديدة تنداح من بين الاشعار وثمة وجوه وأحزان واسئلةلاتنتهي وفضول يدفعني من السؤال الي السؤال ومن الكتاب الي الكتاب والقصيدة الي القصيدة كان نهرا من اقصي الغابة يندلق وكنت اندفع مع امواجه اينما ذهبت...وحين نعي الناعي مريم محمود ذات يوم كنت ابكي مع الشاعر وانوح:
مجنون الحزن المسجون
بارود الحزن المسنون
جواي أنا شافع محزون
عن أمو بيفتش فتيش ..
فتش فتيش هبش هبيش
دقش دقيش يصرخ يا ناس
مريم محمود راحت شقيش ؟!
في زنك اللحمة وفي الزحمة
مريم محمود راحت شقيش ؟!!
في منحنيات الأسواق
مريم محمود راحت شقيش ؟!!
وأنا أأه يا مريم محمود
آاااااااااه يا مريم محمود
يا ذات الضل الممدود
يا ذات القلب الساساق
حتلت جواي الأشواق
حتلت جواكي الأشواك
وأنا كنت الولد المحبوب
لا هجرا ليك ولا عاق ..
حبيتك زي ما حبيت
الوطن الوارف والبيت
منك خطفوني تماسيح
كم مرة وخلو تباريح
كم جيتك راجع مسحور
بذاك الوجه المفرور
البيني وبينك عصفور
على قلبو منشن صياد!
ظلموك يا مريم ظلموك حرموك يا مريم حرموك ..
خلوكي الدمعة تفصد خدك في الأعياد
والشوق في الشوف على حد السيف
إتعلمتي الشك في الغربة وكنتي ملاذ الشتاء والصيف
سرقو أمانك وإطمئنانك
قلبك كل ما باب الشارع دق يدق
إيدك ترجف في الصقاطة ووشك شاحب :
ربنا يستر أمكن هم !!
تفرحي فرحاً قدر الدنيا
إذا ما كان الطارق صاحب
حالاً نارك بالهبابة لهيبا يبق
بكيت مريم محمود بدموع حقيقية وانا اري عذابها يرتسم بادق تفاصيله بكلمات القصيدة ، بكيتها وانا اراها بالخيال باكية طول عمرها كالخنساء حتي ذهاب البصر
وسمعت محجوب شريف يبكي وينوح عند قبرها:
حتلت جواكي الأشواك
وأنا كنت الولد المحبوب
لا هجرا ليك ولا عاق ..
حبيتك زي ما حبيت
الوطن الوارف والبيت
ورأيته ينتصب واقفا عند حافة القبر
وهو يمسح دموعه ويخاطب محبوبة وطنا:
مشتاق ليك كتير والله
وللجيران وللحلة
كمان قطر النضال ولىَّ
وغالي عليَّ أدلىّ
محطة محطة بتذكر عيونك ونحن فى المنفى
بتذكر مناديلك خيوطها الحمرا ما صدفة
بتذكر سؤالك ليَّ متين جرح البلد يشفى
متين تضحك سما الخرطوم حبيبتنا ومتين تصفى
سؤالك كان بيعذبنا ويقربنا ويزيد ما بينا من الفة
ويزيدني حماس
وكم فى قلبي دق نحاس
وطار من عيني باقي نعاس
ونحن اتنين بنتقاسم هموم الناس
أعاهدك يا أعز الناس
أسامحك لو نسيتيني وأهنتيني وبكيتي عليَّ
لو فى يوم رميت سيفي ورفعت ايديَّ
وخنت الثورة جيت والذلة فى عينيَّ
حرام عيونك يناغموني ويرحبو بىَّ
حرام ايديك ينومن تاني فى ايديَّ
بس لكن يا ويلي يا ويلي
أقبل وين وأقول يا منو
لمن أخون صباح العين وأخون جيلي
أعاهدك يا قمر ليلي
وحاة أمنا الخرطوم
أشيل شيلي وأموت واقف على حيلي
وأقول ليك يا أعز الناس
على الوعد القديم جايين
ما بين الثورة والسكين
ثوريين حتى الموت ثوريين
وأقول ليك يا صباح العين
بنادق وين بتمنعنا العديل والزين
قنابل وين بنادق وين
كانت تلك قصيدة بندقية مصوبة نحو صدور الاعداء والطغاة وشكلت وعينا المبكر.
صلاح سر الختم علي
21-08-2014, 10:16 AM
كانت مدرسة فريني الثانوية العامة محطة مهمة في حياتي... كان الطلاب في مدينتنا في ذلك الزمان عندما يقفون عند اعتاب الثانوي العام يحلمون دائما بمدارس بعينها كان لها صيت ومكانة متميزة وتأتي المدرسة الاميرية الواقعة علي شاطئ النهر في مدني قبالة جامع الحكومة علي رأس قائمة الاحلام وتأتي بعدها مدرسة الأهلية بقسميها أ وب في المرتبة الثانية وهن جميعهن مدارس حكومية وتأتي بعد ذلك بقية المدارس الحكومية والمدارس الخاصة في آخر الترتيب،لم يؤهلني مجموعي المتوسط لدخول الاميرية التي كانت محط الانظار وكان نصيبي مدرسة فريني العامة الحكومية التي كانت تتميز بالقرب الجغرافي لموقع سكن الاسرة فالمدرسة في المزاد وسكن الاسرة 114 .كان الزي المدرسي الجديد بلونه الكاكي قميصا ورداءا حدثا مهما يفتخر به كل من ودع اللون الازرق الذي كان زي الابتدائي آنذاك. واتذكر الرحلة مع ابي الي الاكشاك الواقعة بقرب حديقة سليمان وقيع الله حيث تباع مستلزمات مدرسية من أحذية وشنط وأقمشة وذهبنا الي دكان عبد الواحد الذي اعرفه منذ كنت طفلا حيث قاسمنا لفترة السكني في منزل بحي البيان يملكه باشا جد لاعب الكرة الشهير حموري، وكان أبي حريصا علي الشراء منه دائما بحكم العلاقة القديمة التي لم يقطعها انتقالنا الي منزل حكومي بحي 114، دلفنا الي دكان عبد الواحد المزدحم
حيث اشتري لي كبكا جميلا من صناعة لاركو وشنطة مدرسيةصناعة محلية تصنع من مشمع يشبه المشمع الذي يستخدم كغطاء للترابيز ولها سستة من اعلي وسستة اخري تسخدم كجيب للشنطة واتذكر لونها الرمادي وكانت نفسي تنازعني للون آخر لكنني لم أنبس بنت شفة.ذهبنا بعد ذلك للترزي لاخذ المقاسات
وكنت مزهوا وهو يقوم بأخذ القياسات وأراقب طريقته الغريبة في الكتابة للمقاسات علي القماش نفسه. ثم ذهبنا الي مكتبة مضوي ولم تكن تلك زيارتي الاولي لها لكنها الاولي بعد انتقالي الى الثانوية العامة وكانت تلك أول مرة امتلك فيها قلم حبر ومحبرة وأودع قلم الرصاص الى الأبد وابتاع لي ابي علبة الوان وعلبة هندسة جميلة الشكل مرسومة عليها خريطة العالم. وكالعادة صحبتنا الكراسات ومعها الجلاد بلونه المميز. كان اليوم الاول في فريني يوما لاينسي فقد كان اول يوم تقع فيه عيني علي شخصية رافقتنا في سني دراستنا الثلاث بمدرسة فريني وكانت محورا لاحداث عديدة.. تلك هي شخصية (ابو قبورة ) ذلك الرجل الطويل ضخم الجثة أخضر اللون والذي يعمل فراشا بالمدرسة ولم نعرف له أسما خلاف لقبه الذي اطلقه عليه التلامذة، كان الرجل هو الأسرع استجابة في قطع سيطان من الاشجار التي تملأ باحة المدرسة لمعاقبة المهرجلين بها سواء داخل الفصول او في طابور الصباح اليومي وكان يتلذذ بمراقبة عملية الجلد وتغيظ من تقع عليه العقوبة ابتسامة شماتته أكثر من العقوبة نفسها، وكان بعض التلامذة الاشرار ينتظرون الفرصة لكي يصيحوا فيه من مكمن لايتبين منه هويتهم بانه ان لم يكف عن قطع السيطان فسوف تطالهيا اب قبورة احسن ليك... يا اب قبورة
سوطك برجع ليك....) ثم يولوا هاربين قبل ان يتبينهم فيشكوهم ويرتد الوعيد اليهم.
صلاح سر الختم علي
21-08-2014, 10:17 AM
مدرسة فريني كانت دنيا باكملها، يجتمع فيها طلاب ينتمون سكنا الي احياء المزاد والحلة الجديدة وشندي فوق والابحاث و114 والدرجة الاولي والثانية والسكة حديد وبيوت الادارة المركزية للكهرباء والمياه، ومن النادر جدا وجود طالب من خارج هذه الاحياء التي تشكل مايعرف بمدني جنوب، ونفس هذا التجمع السكاني كانت روابط الناشئين تقسم علي اساسه فكانت الرابطة الجنوبية تتكون من فرق ناشئ احياء المزاد والحلة الجديدة و114 والادارة بينما تتكون رابطة الدرجة من الدرجة الاولي والثانية والسكة حديد وهناك رابطة ثالثة كانت تضم فرق الابحاث وشندي فوق.لذلك كانت فريني تجمعا لمواهب متعددة من الصعب اجتماعها في مكان واحد، اجتمع اولاد تجار المدينة الاثرياء ممثلين في حي الدرجةالاولي والثانية(واكتشفنا فيما بعد ان الدرجة لم تكن حيا خالصا للاثرياء كما كنا نظن) ولكن يمكن القول ان الاثرياء كانوا يقيمون فيه بكثرة وكانت علامات ثراءهم تظهر في حضور اولادهم المدرسة بالعجلات الرالي والفونيكس الجديدة وتظهر في مواسم الحج حين يستعرض اولادهم هدايا الحج في المدرسة.أما بقية الاحياء فهي احياء الكادحين وجميعها احياء شعبية بحتة.لم تكن الفوارق تشكل مشكلة ابدا فالجميع يرتدون زيا واحدا ويعاملون معاملة واحدة ويتكتلون علي اساس الفصول والاهتمامات المشتركةوليس علي اسس جغرافية او طبقية، كان حوش المدرسة فسيحا يتوسط المباني ، كانت المدرسة مسورة بالكتر والسلك الشائك وهي مقابلة لمدرسة المزاد الابتدائيةالتي تقع شمالها وملاصقة لمدرسة الهوارة الثانوية العامة التي تقع غربها وهي ملاصقة لمدرسة الامير الثانوية العليا التي تقع جنوبها مباشرةوالاخيرة ملاصقة لمدرسة الهوارة الثانوية العليا صاحبة الصيت الكروي في الدورات المدرسية والتي قدمت سامي عزالدين والطاهر هواري وغيرهم من النجوم.كانت مدرسة فريني مبنية في شكل حرفي e متقابلين.
وعندما تدخل من البوابة الرئيسية يكون مكتب الناظر علي يمينك يفتح شرقا ويقابله مكتب الوكيل يفتح عليه وبينهما ردهة صغيرة بمجرد ان تنتهي يكون علي يمناك فصول وعلي يسراك فصول تفتح جميعها جنوبا وتسمي هذه الفصول الثلاث أولي شمال وثانية شمال وثالثة شمال وامامها مباشرة ميدانين مفصولين بممشي تصطف فيه اشجار خضراء ذات زهور وردية كبيرةعلي اليمين واليسار وفي نهاية الممشي يوجد قسم جنوب المقابل لقسم شمال والذي يفتح شمالا ويحمل تسمية اولي جنوب وثانية جنوب وثالثة جنوب ويتوسطه مكتبان كبيران للمعلمين بذات الوضع الخاص بالمدير والوكيل.وكان بالمدرسة مبنيان اخران مهمان الاول في القسم الشمالي في الجزء الغربي وهو فصل كبير يعرف بفصل اتحاد المعلمين وهو لطلاب قبول خاص بالرسوم. والثاني في القسم الجنوبي مقابل لفصل اتحاد المعلمين وكان يسمي المعمل وهو مخصص للتجارب العلمية وفي وقت ما اصبح مكتظا بالالعاب التي جلبها الاستاذ سيف المسؤول عنه وهو استاذ العلوم. في قسم جنوب هذا قضيت اعوامي الثلاث بصحبة رفقة رائعةوكانت لنا صولات وجولات ضد اولاد شمال في منافسات كرة القدم والرينق والطائرة والجمعية الادبية وكانت لنا حكايات مع استاذ عبدالله ربشة استاذ الانجليزية واستاذ ترنتي(عمر) استاذ الجغرافيا واستاذ شمس الدين (الشايقي) استاذ اللغة العربية والاستاذ عمر الحاج استاذ الادب الانجليزي الذي صار صحفيا مرموقا والاستاذ حسن عوض الله استاذ الجغرافيا والعلوم عند اللزوم والناظر عبد اللطيف بحيري .
مصطفى هاتريك
22-08-2014, 11:26 AM
السلام عليكم مولانا
أتابع دوما كتاباتك بانصات المتعلم
عذرا دعني أتبتل في في هذا المحراب من الادب
صلاح سر الختم علي
22-08-2014, 08:07 PM
السلام عليكم مولانا
أتابع دوما كتاباتك بانصات المتعلم
عذرا دعني أتبتل في في هذا المحراب من الادب
صديقي المبدع مصطفى هاتريك
كم هو رائع مرورك وكم هى سخية وبهية كلماتك المضئية هنا
عاطف عولي
22-08-2014, 09:48 PM
الصمت في حرم الجمال جمال
دعنا في دهشتنا وأصنع لنا المزيد
بوركت
بورك خيالك الخصب
وقلمك المشرئب نحو قمم الجمال
صلاح سر الختم علي
24-08-2014, 09:37 AM
الصمت في حرم الجمال جمال
دعنا في دهشتنا وأصنع لنا المزيد
بوركت
بورك خيالك الخصب
وقلمك المشرئب نحو قمم الجمال
الجميل هو القلم المحفز مثل قلمك ياصديقي
شكرا عاطف عولى
صلاح سر الختم علي
25-08-2014, 08:43 PM
رحيل الشهاب الى مجرته البعيدة
[ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ] البقرة/154-156
قدر الله وماشاء فعل، انتقل الى رحمة مولاه العبد الفقير الى ربه والدى العزيز سر الختم على كرم الله فى 19 يناير 2014 بعد حياة عامرة بالبذل والعرق الطاهر والأعمال الصالحة ، فقد فتح عينه على الدنيا فى مدينة ابو هشيم حيث جذوره ولم يقو عوده بعد حين انتقل والده الى رحمة مولاه وهو لايزال صبيا دون الثالثة عشرة فوجد نفسه مسؤولا عن اخواته وهو الابن الوحيد لوالده ،فكافح ونافح فى دروب الحياة وعمل صغيرا وهاجر فى أرض الله الواسعة فى بلاد السودان الكبيرة حتى استقر به المقام فى مدينة ودمدنى فى قلب الجزيرة وحيدا صغيرا يبحث عن لقمة حلال بسواعد نحيلة وتعليم قليل لم يتعد الخلوة وبدايات الدراسة المنتظمة، كافح الرجل وحيدا واشتغل عاملا بوزراة الرى وتنقل فى الخلاء في كل مشاريع التنمية عاملا صغيرا حتى اجاد قيادة الكراكات التى تعمل فى حفر القنوات والترع التى تروي أراض بكر عطشي للمياه وللخضرة فيظل يعمل سحابة نهاره كله فى هجير لافح ، يئن الحديد ولايئن هو، ويفترش الأرض في مخيمات صغيرة مع رفاق العمل فى مناطق موحشة وخالية من مظاهر الحياة والمدنية يطهون لانفسهم من زاد قليل ويهجعون ساعات قليلة ليواصلوا رحلة الكفاح، وحين تتدفق المياه وتخضر الأرض يتجهون نحو أرض عطشي وبكر أخرى في موقع آخر، وهكذا جاب أبى السودان من أقصاه الى أقصاه مانحا الأرض الخضرة والناس الثمار والطير الحب والمياه، واستطاع الرجل ان يتزوج ويؤسس أسرة صغيرة فى مدنى متنقلا في بيوت مستأجرة، يتقاسم بعضها مع البعض في البدء ، ثم بات مستقلافى السكنى، حتى منح منزلا حكوميا صغيرا فى مطلع السبعينات بقينا فيه سبعة عشر عاما ثم انتقلنا منه الى دار مشيدة بعرق طاهر ومال حلال لرجل أبى حلقه اللقمة الحرام والهبات من أى نوع،كانت داره داراً فسيحة وجميلةفى مدينة ودمدنى بحي مايو شاركنا فى بناءها بعملنا مع البناء كعمال انا واخى احمد، ولم ينس أبى أن يغرس في وسط الدار نخلة من النخل المعروف بالمشرق جلبها من جذوره بالرباطاب وتعهدها بالرعاية حتى أثمرت وغرس الى جوارها شجرة ليمون أثمرت هى الأخرى وظلت الشجرتان وظلهما مكانه المفضل فى الدارحتى غادرهابعد سنوات الى دار جديدة بالخرطوم العاصمة وفشلت محاولته لنقل النخلة الى هناك حيث لم تنجح عملية النقل وماتت النخلة العزيزة فحزن عليها كما يحزن المرء على ابن من صلبه وظل يذكرها على الدوام حتى لحاقه بها ، كبرت شجرته العائلية وتخرج ابنه البكر طبيبا وظابطا عظيما بالجيش السودانى وحمل مع الأب الحمل وولج بقية الابناء والبنات فى دروب الحياة محققين نجاحات كبيرة ومؤسسين أسراًوبيوتا مفتوحة بانفاس عميد الأسرة الطيبة ، كان الرجل الحصان الحر يصهل ويعطى بلاكلل حتى بلغ المعاش، كان يعمل بصبر وصمت مكرسا حياته لاسرته وابنائه الذين يأتيهم بضعة ايام كل شهر في حياته العملية القاسية، لكنه ما استدان ولا طلب غوثا ولا نظر الى لقمة فى يد غيره قط، عفيف اليد واللسان ، يتحدث همسا ولايخوض في سيرة أحد ولايدخل فى نزاع و جدال أو يطرق باب سلطان، كان فرسا نبيلا عصيا على الترويض وعلى السخرة والاسترقاق والتدجين، وكان قلبا كبيرا عامرا بالمحبة، بارا بوالدته التى بقيت تحت مسؤوليته وفي بيته وتحت رعايته حتى اختارها الله الى جواره مارفع عليها صوتا ولا خالف لها أمراً ولا انعقد جبينه أمامها، وكانت هى امرأة عظيمة ملأت طفولتنا بالجمال فهى أمية تنظم شعرا فصيحا وتسرد سردا بديعا ومنها تعلمت شخصيا فنون السرد وسمعت قصصا ساحرات ،كانت وهى الضريرة تحلق بنا فى سماوات بعيدة نرتاد فيها اكواخ فقرائها الطيبين وقصور الملوك الظالمين وكهف الغول المظلم ونشم رائحته النتنة و ونرى ضفائر فاطمة السمحة الجميلةالتى احبنناها وتعلقنا بها، كانت اجمل قناة متخصصة فى السرد للاطفال فى زمنها وكانت تحب ابنها محبة لاتخطئها عين وكان يجلها اجلالا فيه ابلغ الدروس والعبر، كان البيت يتنفس محبة وكانت أمى قمرا ثالثا فى سماء بهية عشنا تحت ظلها كالعائش فى جنة بالأرض، كان الطعام وفيرا وحلوا والشاى متعة والقراءة فتحا جميلا يرى الأب انه سبيلنا لعيش حياة كريمة ، كان يأخذنا الى الحلاق أول كل شهر وينتظر حتى نخرج سعداء بالحلاقة، فيأخذنا الى المكتبات لشراء احتياجات الدراسة والى حيث الأحذية لشراء حذاء الدراسة، والى الحلوانى عند الجامع فى السوق الجديد بمدنى لنأكل المخبوزات ونشرب عصائر طبيعية ونستمتع بجلسة فى مكان لم نكن نحلم بدخوله الا معه، كانت الرحلة الى الترزي متعة اخرى فى بداية العام وفى الاعياد، كنا نتعثر خلف قامته الفارعة وهو مبتسم ، كان ابا نادر المثال،حين يكون في البيت يعمل على شئ ما، يرتق ملابسه بنفسه، يزرع شئيا، ينظف مكانا، يصلح أداة، أو يستمع الى الراديو باهتمام وزير ثقافة يطمئن على الكون وعلى سير عمله،وحين يبتسم تبتسم الدنيا، نكاد نستقر في جوف ذلك القلب الكبير، ماسمعناه يقول كلمة فظة للوالدة عليها الرحمة وماسمعناه يغلظ قولا لأحد حتى فى لحظة ارتكابنا الأخطاء الصغيرة، كان كونا من الوسامة والسلام والمحبة والصفاء الداخلى والخارجى، كان طفلا كبيرا جميلا محبا للاطفال كطفل، تعلمت منه ذلك حد اننى اغيب عن الكون حين اقف امام طفل، من أين اتيت بكل هذه الوسامة يا أبى؟ من ابيك الذى لم نره والذى اشتقت له في أسبوعك الأخير فى الفانية وبت تطلب بإلحاح أخذك إليه وتصر على انه لا يزال حيا ؟ أم من أمك الشاعرة الجميلة فاطنة بوجهها الأبيض المضئ كقمر وقامتها الفارعة وشعرها الطويل كحورية؟
من أين جئت بسلام الأنبياء الداخلى وعفتهم وطيبتهم ونقائهم؟ من أين جئت بنكران ذاتك النادر؟!ومن أين جئت بتلك الابتسامة؟! ومن أي كتاب من كتب لم نقرأها ومعارف لم نعرفها جئت بوصيتك الأخيرة (أن تدفن بجوار من زينت حياتك كلها بوجودها فيها زوجا وأما وقمراً لايتدلى من سماه ولايعرف الغياب) من أين جئت بعجينة الوفاء تلك؟ ومن أين جئت بكل هذا الحب النبيل لتلك النبيلة؟! ومن أين جئت أيها البهى الوضئ المضئ الشهم الكريم الحنون الحازم الطيب الأمين الهمام العفيف النظيف المهووس بالنظافة والمحب للعمل حد التقديس؟! ليتك رأيت الدموع والحيرة فى عيون أحفادك الصغار، ليتك رأيتهم وهم يجوبون الدار المنطفئة بعد رحيلك فى سهوم وهم يسألون عنك الجدران والسماء والغرفة الخاوية التى ياطالما اضاءت بوجودك، ليتك رأيت لينا وهى صامتة واجمة والدموع تقف عند أحداقها وحين سألتها مابك؟ انفجرت باكية وهى تهمس انها تفتقد جدها الذى لن يعود، وفى الغرفة الأخرى كان مبارك واجما ساهما فى البعيد وحين ربت على ظهره وسألته مابه بكى وهو ينعى حاجته اليك وشوقه ، كنت أستدعى كل قوة فى الكون كى لا أشاركهم البكاء واشرح لهم بكلمات ميتة ان هذا هو مصيرنا جميعا وان الدعوات الصالحات لك هى أفضل وسيلة للتعبير عن الحب، وحين ادرت ظهرى وعدت وجدت مبارك الصغير غارقا فى الصلاة والدعاء بعيون محمرة وصوت باك.
هل تصدق يا أبى اننى غاضب من نفسى لاننى كنت قويا ولم أنهار بعد فى حضرة رحيلك؟ شعرت أن قوتى خيانة لك وأن تماسكى جحود وانكار.
سلام عليك أيها الصقر المجنح
سلام عليك أيها البرق المضئ
سلام عليك أيها النهر السخى
سلام عليك أيها الطفل الكبير البهى
سلام عليك يامن تدثرت بالصدق
سلام عليك يامن تجملت بالصبر
سلام عليك يامن صنت نفسك عما يدنس نفسك
سلام عليك يامن أفنيت ذاتك لأجل الاخرين
سلام عليك ياصديق الطير والأطفال والفقراء
سلام عليك أيها النبيل
سلام عليك أيها الأب والأخ والصديق والمعلم الكبير
سلام عليك يامن رأي رحيله قبل الرحيل
فلم أفهم رؤيته إلا حين حم القضاء
فقد قلت لى بصوتك الخفيض قبل أسبوع واحد من الرحيل( منذ أخذت الرايات ياصلاح وصدرى لايريحنى أبدا)...لم أفهم ماهى الرايات ولاعلاقتها بصدرك ولا كيف أخذتها أنا، لكننى الآن فهمت، فبعد أسبوع كنت تشكو ألما بصدرك وكان الألم سببا للرحيل
هكذا كنت تهمس فى أذنى مودعا برمزية شفافة حتى لاينجرح قلبى الصغير
كنت وحدك ترى
وكنا جميعا لانرى
كان ذلك درسك الأخير البليغ
عشت شفافا ورحلت شفافا
عشت صموتا قليل الكلام كثير الحكمة ورحلت كذلك
لله درك أبى
لله درك أبى
نم هانئيا سعيدا
طب مقاما
وكن أيها القبر عليه سلاما
اللهم أغفر لعبد ك الفقير اليك سرالختم على كرم الله
وأكرم مثواه وأجعل الجنة هى المأوى
اللهم ابدله دارا خيرا من داره واهلا خيرا من اهله وادخله الجنة واعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار .
اللـهـم عامله بما انت اهله ولا تعامله بما هو اهله .
اللـهـم اجزه عن الاحسان إحسانا وعن الأساءة عفواً وغفراناً.
اللـهـم إن كان محسناً فزد من حسناته , وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيئاته .
اللـهـم ادخله الجنة من غير مناقشة حساب ولا سابقة عذاب .
اللـهـم اّنسه في وحدته وفي وحشته وفي غربته.
اللـهـم انزله منزلاً مباركا وانت خير المنزلين .
اللـهـم انزله منازل الصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا .
اللـهـم اجعل قبره روضة من رياض الجنة ,ولا تجعله حفرة من حفر النار .
اللـهـم افسح له في قبره مد بصره وافرش قبره من فراش الجنة .
اللـهـم اعذه من عذاب القبر ,وجاف ِالارض عن جنبيها .
اللـهـم املأ قبره بالرضا والنور والفسحة والسرور.
اللـهـم إنه فى ذمتك وحبل جوارك فقه فتنة الفبر وعذاب النار , وانت أهل الوفاء والحق فاغفر له وارحمه انك انت الغفور الرحيم.
اللـهـم انه عبدك وابن عبدك خرج من الدنيا وسعته ومحبوبيه وأحبائه إلي ظلمة القبر وماهو لاقته .
اللـهـم انه كان يشهد أنك لا إله الا انت وأن محمداً عبدك ورسولك وانت اعلم به.
اللهم ثبته عند السؤال
اللهم انا نتوسل بك اليك ونقسم بك عليك ان ترحمه ولا تعذبه
اللـهـم انه نَزَل بك وأنت خير منزول به واصبح فقير الي رحمتك وأنت غني عن عذابه .
اللـهـم اّته برحمتك ورضاك وقه فتنه القبر وعذابه و أّته برحمتك الامن من عذابك حتي تبعثه إلي جنتك يا أرحم الراحمين .
صلاح سر الختم علي
25-08-2014, 09:00 PM
أمى شمعة في الظلام
أحن اليك يا أمى حنينا ماج في صدري، كم احتاج حكمتك وقدرتك الفريدة علي تجاوز الصغائر والنفاذ الي جوهر الاشياء، كم أحن الي صوت المطر وهو يهطل بغزارة ونحن محبوسون في تلك البرندة الصغيرة في بيتنا بحي مايو وانت تهمهمين حامدة الله وشاكرة سرا وجهرا، كنا بجوارك كعصافير صغيرة تلوذ بأمها وتختبئ في جناحيها من المطر وكل انواع الخطر، تزداد الأمطار ضراوة فيتملكنا الخوف أكثر ونقترب منك فترتسم الابتسامة علي وجهك الوضئ المضئ ، تنقطع الكهرباء، يظلم المكان فيضئيه وجهك ويتملكنا خوف من الظلام يبدده صوتك الدافئ، نضحك مع كلماتك ويعود الدفء، ينقلب المشهد الي ضده تماما، نتباري في الضحك وسرد الحكايات وخطف كرة الحديث من الاخرين، ننسي الظلام والمطر والخوف ويحلو السمر بلاقمر في السماء ولكن قمر الأرض أجمل ولسانه ينثر شهداً وعطراً، كانت تعرف كيف توزع علينا الإهتمام بالتساوى والقسط ابتداء من توزيع الألقاب فأنا ( ابو الصلح الكلامو سمح) وعبد العظيم ( عظوم الخاتى اللوم) واقبال (قبولة السمح قولا) وامال هى (أمولة) وعماد هو( العمدة) وسهام هى( سهومة) ، ثم توزع علينا انصاتها وردودها الحاضرة علي ضجيجنا الكثير وأسئلتنا التى لاتنتهى حتى يصمت نقيق الضفادع ويخفت صوت المطر تدريجيا ويستغيث الظلام منا بادارة الكهرباء فيبق النور علي حين غرة فنهب صارخين بصوت واحد
الكهرباء جات
الكهرباء جات
ونركض صوب الحوش الوسيع لنتفقده ونهرول الي الغرفة الأماميةلنرى ماذا فعل بها المطر ، وربما تسللنا الي الشارع لنتفقده ونتفقد الجيران ثم نعود علي عجل لنقف بجوارك وانت تعدين الشاي باللقيمات علي عجل ليسكت جوعنا وشعورنا بالبرد، تلك الابتسامة الفرحة علي جبهتك وفمك من أين تجئ دائما هكذا بذات الاتساع والفرح ؟!
نحتسي الشاي ونحن متحلقون حولك مثلما يتحلق المريدون حول شيخهم
وأنت توزعين الابتسامات علينا بالقسط، واللقيمات الصغيرة تهاجرمن الصحن الي الأفواه الصغيرة والأيدى تلمع بزيت تساقط عليها من اللقيمات
والابتسامة علي وجهك لاتموت، اختلس اليك النظر خلسة واتساءل متى تأكل أمى شيئا؟! هل تفعل كل الأمهات هذا؟ هل يظلن العمر كله يطعمن ولايأكلن ، يغسلن الأجساد الصغيرة ويكنسن الحيشان الوسيعة بمكانس السعف القاسية علي الأيدي في الهجير بلا كلل ولاملل ، ويمسحن دموع من يبكى ويغثن المستنجد بهن مهما كان سبب الاستغاثة تافها أو جللاً، يغسلن الأوانى والملابس في كل صباح وظهيرة، يواجهن نيران العواسة علي الصاج ويخرجن طرقات الكسرة الجميلة وهن يبتسمن وعرقهن الطاهر يقبل الأرض بلا إنقطاع؟! وحين يجأرن بشكوي أو يبكين لايجدن مثلنا من يمسح دمعهن ويغثهن، كنت اتساءل دوما متى تأكلين أماه؟! وكيف تكون الحياة لو كنت لست بها؟
الآن أواجه الاجابة علي سؤالى، وحيدا، وانت حمامة بيضاء حلقت نحو السماء، المطر والرعد والظلام والصمت يحاصرنى
أبحث عنك
فيجيبنى العدم
صلاح سر الختم علي
25-08-2014, 09:02 PM
صدمات موجعة في الحياة
من الاشياء القاسية في الحياة ان تضطر اضطرارا للتخلى عن تصوراتك الجميلة الحمقاء عن الآخرين
وجه الجمال اننا كلما احببنا شخصا أو شيئا جملناه بمحبتنا حتى رفعناه الي مراتب سامية وعالية لم يبلغها هو في الحقيقة أبدا لكن محبتنا له ورغبتنا في رؤيته في أسمى وأعلى موقع هى التى تصنع ذلك
ووجه السذاجة هو اننا ندرك متأخرا جدا ان ليس كل مايلمع ذهباً
وليس كل من نحبه في مستوى ظننا فيه بالضرورة
لكننا للأسف ندرك ذلك دائما متأخرا جدا ، بعد ان نكون قد مشينا بقلبنا فوق الشوك والجمر وأدميناه وأوجعناه
حدث ذلك معى كثيرا جدا
لا أدعى اننى ملاك صغير أو اننى بلا عيوب ولكن أستطيع القول بلا تردد انه ليس من عيوبى أو محاسنى سوء الظن بالاخرين
واستطيع القول أننى اندفع بكل مشاعرى تجاه من احببت وصادقت ومن حسبته ذهبا
لكن أقسي تجاربى هذه كانت انقلابا كاملا في حياتى
فقد أفقت يوما والعالم الجميل الذي بنيته في خيالى وعشته وهما جميلا لايأتيه الباطل من بين يديه أو من فوقه أو من تحته
أفقت فوجدته سرابا كاذبا
وخيالا بعيدا
كان صرحا من خيال فهوى
وكان بيتا من رمال ابتلعته موجة واحدة من موجات البحر
وكان حلوى ذائبة مثل تلك التى نسميها ( حلاوة قطن) ذابت في فم صغير ولم يبق إلا
طعمها وصورتها في الذاكرة
لا استطيع الكتابة الا رمزا للأسف
فما أقسي الحقيقة حين تجرح وتدمى وتفضح من نحبهم ومن أنفقنا العمر في تجميل صورتهم وعبادة أصنامهم وصنعها والترويج لها
ما أصعب أن يكون المرء مثل تلك المرأة الخرقاء بمكة التى كلما أحسنت غزلها نقضته من بعد احكام وقوة (التى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا}
لم يكن غزلى عهدا
ولكنه كان ظنا حسنا
وأمنيات ذرتها الرياح وبعثرتها كيفما أتفق
كنت أصنع وهمى وأصدق ماصنعت وأعيش فيه
فيأتى طفل صغير وبشكة دبوس صغيرة
ينفجر منطاد الوهم وتسفر الحقيقة عن وجه قبيح عار
لامساحيق تجمله
ولا مصابيح العالم كله بقادرة علي محو ظلمته
ياصديقي فلتكن الحقيقة عارية
ولتكن الحقيقة جثة باردة
ولتكن الحقيقة لطمة علي الوجه
وبصقة علي الوجه
ولكنها لن تكون أبدا
في قبح الزيف
ولا فى وضاعة كاذب صغير أو كبير
ولا فى دناءةمن يبيعون الوهم والأكاذيب
ويسحقون القلوب بلا أدنى شعور بالذنب
ينامون علي عروش منهوبة
ويشربون بجماجم مثقوبة برصاص قناصتهم
ويأكلون لحم من صافحوه في الظهيرة مساء
ويفعلون كل قبيح سرأ
ويتجملون بكل جميل علناً
ليس بحثا عن الجمال
ولكن بحث الذئاب عن التستر خلف وجوه الحملان
قبل الهجوم علي القطعان
ومثل إختباء الثعلب وسط الدجاج قبل الإنقضاض عليه
هم ليسوا هم أبدا
بسماتهم مزيفة
كلماتهم منمقة مجوفة
عطورهم دماء
صلاتهم رياء
وصالهم خداع
خصامهم فجور
بيوتهم قبور
زهورهم مسروقة
صدقهم محال
وكذبهم كثير
وكرمهم ستار
نماذج موجعة
بيت الأخطبوط وبنات أفكاره
كانت بنت الجيران أو من في حكمهم تقريبا إن شئنا الدقة، تنحدر من أسرة فقيرة وليس لها حظ من مال أو علم
كان اعتماد الأسرة منذ أن فتحت عينها علي الغير
فالأب رحل باكرا وترك تركة ثقيلة وبيت صغير مكتظ في مدينة صغيرة
تولى الأقارب تحمل التركة
ونشأت صاحبتنا هناك في ذلك البيت الصغير المفتوح بالهبات
وعينها علي أمان مفقود وخزانة تنفتح فتخرجها من بيت العنكبوت أو فلنقل الأخطبوط إكراما للعنكبوت وتنزيها له عن التشبه بهن وقد سجل التاريخ له موقفه مع سيد البشرية ونبيها الكريم في الغار
فهن الي الأخطبوط أقرب منهن الي العنكبوت
كانت تلك بعض أحلامهن التى تقاسمنها في ليالي الشتاء الطويلة
التى مرت عليهن في بيت الأخطبوط
فالكبري استخدمت مهارات الأخطبوط و ظفرت برجل مال له حظ من المال ولاحظ من العلم له
ولكن أسمه الكبير الذي يرن كطبل بات نافذة انفتحت أمامهن ليصطدن بالأسم الكبير أسماكا أكبر كما فعلن حين اصطدن الأول بصيت يملكه أحد الأقارب
كن يملكن قدرة غريبة على أن يبدون كأميرات وهن بنات الحطاب
وكن يملكن قدرة غريبة علي الإحاطة بالصيد البرئ إحاطة السوار بالمعصم
وعزله عن محيطه الأسري والاجتماعى كما يفعل الأخطبوط بعد اختراق ذلك المحيط والتودد لمن فيه في المرحلة الأولى وكسب ودهم وسحر البابهم الي حين
ومن ثم تبدا رحلة عزل الضحية عن محيطه
فلايعود الصيد يعرف أهلا سواهن ولا أصدقاء سواهن
ولايعطى أذنه وخزانته لغيرهن
وكلما كان مطيعا
كان حصاره يتم احكامه أكثر
وكان القضاء علي شبكة الأهل من طرفه واصدقائه غير المرغوب فيهم يزداد شراسة وضرواة
هكذا اختارت هى ضحيتها
وهكذا اشتغلن سويا عليه
حتى بات عجينة طيعة
وسجين مؤبد لافكاك منه لديهن
نما
وزادت عزلته
وسكناه في بيت الأخطبوط
فبات كالمنبت لا أرضا قطع
ولاظهرا أبقي
(المنبت: هو الذي يواصل السير مواصلة مستمرة، ثم يكون من آثار مواصلته أنه يسير مثلا خمسة أيام ما أراح نفسه ولا أراح جمله. ففي هذه الخمسة قد يسير ويقطع، يقطع مسيرة خمسة عشر يومًا في خمسة أيام، ثم يبرك به جمله ويهزل وينقطع به، فينقطع في برية يعني صحراء، فلا هو الذي رفق ببعيره حتى يوصله ولو بعد عشرين يومًا، ولا هو الذي قطع الأرض كلها، بل برك به بعيره في برية؛ وذلك لأنه كلف نفسه، وكلف بعيره فسار عليه حتى أهزله.
هذا يسمى المنبت؛ لا أرضا قطع لا قطع الأرض كلها التي هي مسيرة شهر، ولا أبقى ظهره؛ يعني: رفق بظهره أي: ببعيره الذي يركب على ظهره. تسمى الرواحل ظهرا. أما إذا سار برفق؛ فإنه يصل ولو بعد مدة طويلة.)
وان كان المنبت يصل في خاتمة المطاف، فان صاحبنا لايصل أبدا الي مكان
يظل ضرعا يدر اللبن علي بنات بيت الأخطبوط حتى يصيبه الهزال والضعف فيرمينه رمية الكلاب.
صلاح سر الختم علي
26-08-2014, 08:39 AM
التربية في المدارس والوجه الآخر للأشياء
تعود بنا الذاكرة الى الماضى البعيد، إلى كهوف الطفولة، نتذكر الأشياء كأنها معروضة على شاشة أمام أعيننا، بكل تفاصيلها الصغيرة الجميلة والمؤلمة، لكن نظرتنا تختلف إليها، فلاتعود الأشياء هى الأشياء بحكم الوعى الجديد المكتسب وتراكمات السنين وخبرات الحياة والمعارف الجديدة التى لم تكن متوافرة لنا في ذلك الزمان البعيد،أتذكر الآن بذهن صاف ممارسات تربوية كانت سائدة بالمدارس ولعلها لاتزال سائدة، كانت تبدو شيئا عاديا ومشروعا في زمنها، أما الآن فحين أنظر إليها بوعى اللحظة أجدها جرائما مكتملة الأركان اٌرتكبت بحق الأجيال، من تلك الممارسات أتوقف عند ظاهرتين:1/ ظاهرة الألفا.2/ ظاهرة العقاب الجماعى حين يُجهل الفاعل.
الظاهرة الأولى( ظاهرة الألفا) هى ممارسة شاعت في المدارس بتعيين المعلم المسؤول من الفصل طالبا ليكون مسؤولا عن ضبط النظام بالفصل في فترات الفواصل بين الحصص وحصر المهرجلين كتابة وتقديمهم للأستاذ لمعاقبتهم، الغرض كما هو واضح تربية التلاميذ على الإنضباط والمسؤولية ومعاقبة المتسببين بالفوضى، لكن الجانب الآخر للمسألة هو تعيين أحد الطلاب ليقوم بدور مخبر ضد زملائه ، وفى أغلب الأحيان يستخدم المخبر سلطته هذه لإبتزاز زملائه والحصول لنفسه على ميزات صغيرة نظير عدم تقديمهم للعقاب المستحق أو غير المستحق، الميزات قد لاتتعدى منحه حق قيادة دراجة أي منهم في الفسحة مثلا، لكن العبرة ليست بتفاهة المقابل ، بل العبرة بخطورة تحول الطالب الى مبتز صغير وهو إعداد مبكر لمبتز كبير مستقبلا، فضلا عن ذلك فتدبيج التقارير في الزملاء نظير الإفلات من العقاب والحصول على حصانة ضده بالحصول على مركز (الواشي) المعتمد رسميا هو مران مبكر للقيام بتدبيج التقارير مستقبلا للحصول على ميزات شخصية وحصانات مقابل الإضرار بالمكتوب عنهم، هنا تنشئ الدولة عقليات أنانية لاتتورع عن الصاق كل شئ بالآخرين نظير إمتيازاتها هى، مثل هذا الوجه الكالح لوظيفة (الألفا) يجب وضعه فى الإعتبار عند جعلها جزءا من مؤسسات التربية والتعليم.
أما ظاهرة العقاب الجماعى فهى ممارسة قبيحة متفشية في المدارس ، يصدر أحد الطلاب صوتا أو يرتكب أى حماقة ولاتراه عين الأستاذ ولا عين مخبره (الألفا) ولايعترف هو بأنه الفاعل، حينها يأمر الأستاذ بمعاقبة كل الفصل بالجلد مثلا، فيُجلد المذنب والأبرياء، هذه الممارسة تولد الأحقاد وتؤسس لمشروعية أخذ البرئ بجرم المذنب وهو أمر لايجوز شرعا ولاقانونا، فالدين يؤسس لمبدأ الحساب الفردى والعقاب الفردى في القرآن الكريم في أكثر من آية،فهى قاعدة من القواعد القرآنية العظيمة، التي تؤسس مبدأً شريف القدر، سامي الذرى، إنه مبدأ العدل، وهذه قاعدة طالما استشهد بها العلماء والحكماء والأدباء؛ لعظيم أثرها في باب العدل والإنصاف، تلكم هي ما دل عليها قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الزمر: 7](1).
والمعنى: أن المكلفين إنما يجازون بأعمالهم إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وأنه لا يحمل أحدٌ خطيئةَ أحد ولا جريرتَه، ما لم يكن له يدٌ فيها، وهذا من كمال عدل الله تبارك وتعالى وحكمته.ولعل الحكمة من التعبير عن الإثم بالوزر؛ لأن الوزر هو الحمل ـ وهو ما يحمله المرء على ظهره ـ فعبر عن الإثم بالوزر لأنه يُتَخّيَلُ ثقيلاً على نفس المؤمن(2).
وفي القانون لاجريمة ولاجزاء الا بنص تشريعى سابق، ويتعين ثبوت الجرم لإستحقاق العقاب، فإن جُهل مرتكب الجرم سقط العقاب ولم يٌستحق. ولعل فلسفة العقاب الجماعى عند جهل الفاعل المتفشية فى المدارس هى ذاتها التى أسست لممارسات الكبار المتعلقة بالانتقام الجماعى من الأبرياء والمذنبين في الحروب القبلية وهى ذاتها التى أسست لسياسة المناطق المحروقة التى اتبعهانظام عبود العسكرى في الجنوب وسيلة لمكافحة التمرد ، وسيلة تأخذ المدنيين الأبرياء بذنب المقاتلين المتمردين، ولعلها هى ذاتها التى أزكت الصراع الدامى في دارفور الذى كانت خلفيته حملات عقاب جماعى في حروب القبائل وهو مايجرى الآن بين الرزيقات والمعاليا، نعم هذه الممارسات هى وليد شرعى لتلك الممارسةغيرالتربوية المتفشية في المدارس التى تسمى العقاب الجماعى. ولكن الفهم الدينى الصحيح للظلم يلغي مرارة الشعور بالقهر ، ويلغي الحقد المدمر ، ويلغي الانتقام العشوائي، لأن قوله تعالى :
﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ٌ ﴾
[ سورة النجم: 36-44 ]
الدين يمنع الثأر
العشوائي ، ويدفع إلى المطالبة بالحق الذي شرعة الله له في محكم كتابه.
وفي حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام:
( إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ - أي الحرص على تملك القوة، ومع القوة المال، ومع المال الشهوة- وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّهُ دَعَا مَنْ قَبْلَكُمْ فَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ وَسَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَقَطَّعُوا أَرْحَامَهُم).
هى دعوة للنظر في ثمار الحاضر من خلال إعادة النظر فيما جرى في الماضى، فالحاضر يحمل دوما سمات الماضى الذى كان حاضرا ومستقبلا يوما ما. كل هذه الأفكار تداعت وصديق يحكى عن ذكرياته في المدرسة وكيف كان يقوم باتلاف اطارات عجلة زميله في المدرسة بانتظام وأخذ (البلوف) معه حتى لايتمكن صاحبها من ملئها بالهواء مجددا، وكان السبب هو الانتقام من ذلك الزميل لانه كان (ألفا) وتسبب في جلده عدة مرات، وكانت الأخيرة جلدة جماعية بنظام العقاب الجماعى لكل الفصل لأنه قام بقذف الألفا بطينة مكورة بعناية من الخلف وجُهل الفاعل فقرر المعلم جلد الفصل كله إلا ( الألفا) ، فكان ذلك الانتقام الذى ارتقى لمرتبة الجريمة، الذى قد يراه البعض سوء تربية من المنتقم ، ولكنه في الحقيقة نموذج لما تقود اليه المعالجة الخاطئة للقضايا التربوية، وتلك المعالجة الخاطئة هى الجريمة الحقيقية.
أبا إيثار
26-08-2014, 11:58 AM
أستاذي الجليل / صلاح سر الختم علي
(أهمية أن تكون جاداً (The Importance of Being Earnest)
من حيث محاولة الظهور بمظهر مغاير للحقيقة
وكانت تلك المحاولة دلالة نبل وليس العكس
يا الله كم تترابط الأشياء في الحياة إذا تمعنا فيها جيدا
فلم يضع جهد اساتذتنا الذين درسونا الأدب الانجليزى هباءا منثورا
بل بقيت كلماتهم في القلب والذاكرة
وأضاءت لنا كثيرا من ظلام الحياة.
مولانا الفاضل صاحب التجربة السحرية لحياة يجب أن يعيشها الجميغ
يآآآآآآه هنا تجربة حياة وحرف ناضج وحقيقة يجب أن تري النور ,,,,,
هنا كنت أنا بكل معالم حياتي حلوها ومرها بألوانها وقبلياتها بجمالها
وشفافية أهلها برموزها وعوالمها التي لاتموت بروحها وألقها برغم
ضبابية مانري الآن ,,, كم مكثت هنا ؟؟ لاأعلم ولكني كنت حيناً طفلاً
وأخري ثائر متمرد يتخلل بعضهما بضع دمعات سخينة من بعض مواقف
في كهوفك الحزينة حيناً ...
أستاذي السامق ...
هي تجربة حياة واستنطاق لحرف إستطاع أن يرسم شكل المشوار
ويقود كتائب نهضة في زمن صعب غدّار تعلمنا من شكل ثوابته أن نشدد
عصب الإصرار علّمنا أن الأغنية ستحارب كل الأشرار علمنا صبراً ينقصنا
وطريق الخير فنختار ....
يااااااه كم كانت تفاصيلك نقية
والأجمل حضورك وأنت بذلك النقاء ..
أستاذي الفخيم أحياناً يعيبنا الحرف لترجمة مانحس
وانت كنت هنا كل الإحساس ....
ربي يمتعك بالصحة والعافية .
صلاح سر الختم علي
26-08-2014, 08:01 PM
أستاذي الجليل / صلاح سر الختم علي
(أهمية أن تكون جاداً (The Importance of Being Earnest)
من حيث محاولة الظهور بمظهر مغاير للحقيقة
وكانت تلك المحاولة دلالة نبل وليس العكس
يا الله كم تترابط الأشياء في الحياة إذا تمعنا فيها جيدا
فلم يضع جهد اساتذتنا الذين درسونا الأدب الانجليزى هباءا منثورا
بل بقيت كلماتهم في القلب والذاكرة
وأضاءت لنا كثيرا من ظلام الحياة.
مولانا الفاضل صاحب التجربة السحرية لحياة يجب أن يعيشها الجميغ
يآآآآآآه هنا تجربة حياة وحرف ناضج وحقيقة يجب أن تري النور ,,,,,
هنا كنت أنا بكل معالم حياتي حلوها ومرها بألوانها وقبلياتها بجمالها
وشفافية أهلها برموزها وعوالمها التي لاتموت بروحها وألقها برغم
ضبابية مانري الآن ,,, كم مكثت هنا ؟؟ لاأعلم ولكني كنت حيناً طفلاً
وأخري ثائر متمرد يتخلل بعضهما بضع دمعات سخينة من بعض مواقف
في كهوفك الحزينة حيناً ...
أستاذي السامق ...
هي تجربة حياة واستنطاق لحرف إستطاع أن يرسم شكل المشوار
ويقود كتائب نهضة في زمن صعب غدّار تعلمنا من شكل ثوابته أن نشدد
عصب الإصرار علّمنا أن الأغنية ستحارب كل الأشرار علمنا صبراً ينقصنا
وطريق الخير فنختار ....
يااااااه كم كانت تفاصيلك نقية
والأجمل حضورك وأنت بذلك النقاء ..
أستاذي الفخيم أحياناً يعيبنا الحرف لترجمة مانحس
وانت كنت هنا كل الإحساس ....
ربي يمتعك بالصحة والعافية .
وكم كان حضورك هنا بهيا وسخيا وجميلا ياصديقي
كل حرف كتبته هنا أسعدنى كثيرا وحفزنى كثيرا
على مواصلة الكتابة
صدقت هى تجربة حياة حاولت نقلها بكل جوانبها عسي ان يجد فيها الاخرون فائدة وعلما ومعرفة بالحياة تجنبهم الكثير من الآلام
وتقربهم من السعادة الضائعة في هذا العالم والتى أضنى البحث عنها البشر وهى تحت الأقدام وعلى مرمى حجر منهم
صلاح سر الختم علي
27-08-2014, 11:13 AM
رماد الذاكرة
كنت صغيرا .. عند اعتاب الثانوية العامة... مفتونا بالقراءة والاشعار... لازال عودي طريا ولازلت في مرحلة اكتشاف الاشياء...كانت المعارض المدرسية مسألة رائجة في مدينتنا في ذلك الزمن الجميل...كان المعرض نشاطا ثقافيا واجتماعيا يبرز فيه الطلاب مقدراتهم ومواهبهم ويأتي المعلمون والطلاب واولياء الامور لمشاهدة ابداعات الطلاب وتشجيعهم باختصار كانت المعارض بروفات ساخنة للتحديات القادمة التي تقابل الطلاب في الحياة... واتذكر ان معارض مدارس البنات كانت تشتمل علي عرض منتجات الطالبات من عمليات التطريز وغيرها ...في معرض لمدرسة عبد الستار الثانوية العامة التقينا... براءة وفضول وعيون واسعة وثقة بالنفس ... ذلك ما جذبني... كان الرداء المدرسي مفتونا بها ويأبي ان يفارق قوامها الجميل....
في المعرض التقينا .... كانت لغة العيون طريقنا الي التعارف.... ذلك الفضول شدني بالف خيط الي تلك العيون....اتذكر الان ان شعري كان غزيرا كموضة تلك الايام واسودا صافيا لم تسرح فيه أي شعيرات بيضاء... كنا براءة تمشي علي الارض... تعارفنا وتوقفت طويلا وهي تمارس عملها المرسوم في المعرض وتشرح لي ولغيري بثقة ظاهرة بالنفس...اتذكر انها قدمت لي قطعة حلوي في لحظة خف فيها الزوار ولم يبق سوي بعض زميلاتها وبعض رفاقي الذين كانوا يرقبون في فضول حوارنا المتقطع المثير.... كانت امالا لمعت واحتلت اياما وشهورا عديدة في حياتي ... كانت تبدو دوما اكبر مني وتبدو كمن يدرك ان احلامي مستحيلة لكنها لم تقلها ابدا ... ثم دارت الحياة دورة تباعدت اللقاءات ...ثم غابت في الزحام وسقطت من جدار الذاكرة...ظلت تومض بين الحين والاخر كلما جاءت سيرة اخيها الذي كان لاعب كرة شهير...ثم غابت وتلاشي ذلك البريق الذي يحيط بالذكري وحلت محله ابتسامة رجل كبير يتذكر اوهام طفولة باكرة...
وغابت في رماد الذاكرة وغابت الامال التي احتلت جدار القلب كشهاب ومض سريعا وانطفأ..........
صلاح سر الختم علي
27-08-2014, 11:14 AM
كنا ثلة من الاصدقاء.... جمعتنا اشياء.... كنا اشتاتا .... خليطا متنافرا... احياؤنا مختلفة... اعمارنا متقاربة لكنها مختلفة... مدارسنا مختلفة.... اهتماماتنا مختلفة... خالد كان مفتونابالعلوم فتنة مبكرة جعلت منه فيما بعد طبيبا متميزا واخذته منا الي بلاد تموت من البرد حيتانها.... خالد الاخر كان رساما مهووسا بالرسم..
مجدي كان مفتونا بالشعر والشعراء وسيرة العظماء....عصام كان مهووسا بالسياسة والسينما واخبار الغرام....الطيب كان محبا للسينما الهندية والغناء الهندي والتمباك والدور الثاني في السينما...انا كنت محبا لكرة القدم والشجار وقراءة الالغاز والصداقة والاصدقاء... عبد الحميد كان سوسة كتب يقرأ الكتاب في اي وقت واي مكان ....وجدتني متوزعا بينهم : مع خالد استمع للاخبار العلمية واحاول مجاراة صديقي وملاحقة عبقريته الفريدة:: مع مجدي كنت احفظ القصيدة واتبادل الدوواين والمعلومات والمقالات واكتب شعرا امزقه وشعرا اقرأه علي استحياء ...ومع عصام كنت اقضي الساعات الطوال امام الفيديو نشاهد الافلام والمسرحيات واغاني مارسيل ....وكنت اتزود منه بالمنشورات والقصائد المخيفة التي نتبادلها كالممنوعات...
كنا نسهر حتي الصباح نتحدث عن مفهوم من مفاهيم الحب والغرام...كم كانت افكارنا الخطيرة حينها ساذجة ومضحكة بمقاييس اليوم....اما الطيب فقد قادني نحو السينما الهندية وقصصها الرومانسية وببطلها الذي ينتصر دائما علي الاشرار ..علمني الطيب اسماء نجوم الشاشة الهندية وكنت احاول مجاراته وهو يغني مع دهرمندرا وشاشي كابور... كان يحفظ احداث الفيلم كما يحفظ الشاعر قصيدته الاثيرة...حتي اننا كنا نشترط عليه ألا يبوح بأي حدث حتي لايفسد متعة المشاهدة البكر علينا...كنت اذهب وحيدا نحو عالم الكرة عالم اولاد الفريق الذين لايعرفون من تلك العوالم الاخري الا السينما الهندية.... الغريب انني كنت استحي من ذكر سيرة نشاطي الكروي في حضرة اصحابي المثقفين....دارت الايام ... وجدت كل صديق زرع في داخلي من روحه شئيا ما....
صلاح سر الختم علي
27-08-2014, 11:16 AM
(طه يوسف عبيد_ زهرة في البستان)
كناصغارا مفتونين بالجمال عشاقا للشعر والقصة والرسم والتشكيل والقراءة والكتابة،مهووسون بالثورة والتغيير بفضول من فتح عينه واذنه علي الثورة في كل مكان ووكان ذلك قدر جيلنا من مواليد الستينات... خرجنا الي العالم وهو يمور بالثورة والافكار الجديدة في كل مكان.. في السودان كان وردي ومحمد الامين يغنيان لثوار اكتوبر صناع المجد وللثورة حتي القصروالملحمة والقرشي شهيدنا الاول ويا اكتوبر انحنا العشنا ثواني زمان في قيود ومظالم وويل وهوان
وباسمك الاخضر يا اكتوبر الارض تغني والحقول اشتعلت قمحا ووعدا وتمني
وكانت اغاني البنات تمجد ثوار كوريا" ياشباب كوريا
وثوار الصين: ياجني الماو ماو
وكانت اناشيد العاصفة والثورة ترن في الاذن من راديو فلسطين المنطلق من القاهرة حينا ومن دمشق حينا اخرا
وكانت المكتبات عامرة بالكتب عن سيرة جيفارا والثورات ضد الاستعمار واشعار المقاومة الفلسطينية
وحتي المنهج المدرسي كان ملئيا بمفرادات الثورة والتعاطف مع الثوار.....
كان الكون كله ثائرا ولم نكن استثناء بل استجابت ارواحنا الصغيرة للثورة واحلام التغيير وتعلقت بها وكان مدخلنا الادب
فكل كتاب او قصيدة كانت مانفيستو ثورة وتغيير.... وكل شاعر افتتنا به كان يشبه جيفارا ويتشبه به....
كنا ثلة اصدقاء جمعت بينهم محبة الفنون الجميلة والادب... كنا صغارا حين ترددنا علي رابطة الجزيرة للاداب والفنون واصبحنا من اعضائها
وحضورها بانتظام.... كان طه بابتسامته الدائمة ووجهه الضاحك ورسوماته الجميلة الاكثر تميزا ونضجا
كان رساما بامتياز
وكانوا ثلاثة رسامين
طه يوسف عبيد
خالد كودي
اسماعيل عبد الحفيظ
وكانوا ضمن المجموعة
اسماعيل كان موظفا بالمحكمة وقتها وهو من ابناء المزاد شقيق لاعب الدفاع الفنان عادل عبد الحفيظ
وخالد كودي كان بمدرسة مدني الثانوية بينما كنت وطه ومجدي النعيم وعبد الماجد عبد الرحمن في مدرسة السني الثانوية
كنا نتردد بانتظام علي رابطة الجزيرة للاداب والفنون التي كانت عامرة بالنشاط... نستمع الي الشعراء( القدال/ محمد محي الدين/ محمد الفانح يوسف ابو عاقلة/ عادل عبد الرحمن/ نجاة عثمان/ عبد العظيم عبد القادر/ السر الزين/عبد الرزاق.)
ونستمع للنقاد( مجذوب عيدروس/ علي مؤمن/ محمد عوض عبوش/ ) ونستمع الي قراءت قصصيةونقدها(احمد الفضل ا حمد/ عادل عبد الرحمن/ مجدي النعيم/ عبدالله ابكر) وكنا نستمتع بفنون الرسم والتشكيل من عمالقة(بابكر صديق / الاستاذ بشير عبد الرحيم زمبة/ محمد عبد النبي/ الفاتح علما/ اسماعيل عبد الحفيظ/ علي الامين/طه يوسف عبيد/ نجاة عثمان/خالد كودي/ نادر وطارق مصطفي)
وكان بالرابطة عمالقة في مجال المسرح كذلك.
واتذكر الان التفاصيل الدقيقة الموجعة لاستشهاد طه يوسف عبيد في يوم الاحد العاشر من يناير (1982) صباخا علي الاسفلت
كنا عائدين للتو من المشاركة في الدورة المدرسية القومية بمدينة الابيض
حيث شارك طه ضمن مجموعة مدرسة السني المشاركة بمسرحية البشارة للكاتب محمد محي الدين
صلاح سر الختم علي
27-08-2014, 11:18 AM
واخراج الاستاذ بشير عبد الرحيم زمبة وبطولة قيس حيدر الكاشف وهو قاض الان وناجي و اخرين
وكان طه مسؤولا عن تصميم الديكور وقد فازت المسرحية بالمركز الاول والميدالية الذهبية علي مستوي الجزيرة والسودان
وكنت مشاركا ضمن فريق كرة القدم
المهم عدنا في نهاية ديسمبر1981 ووجدنا مدني تغلي بالمظاهرات ضد سياسة نميري فيما عرف بمظاهرات السكر حيث كان السبب زيادة اسعار السكر وندرته
فانخرطنا من فورنا فيها بحماس شباب مفتون بالتغيير..
في يوم الاحد 10 يناير كانت هناك مسيرة كبري بمشاركة الاطباء والمحامين والطلاب
تجمعت المظاهرة جوار السينما الوطنية بمدني
وذهبنا جميعنا الي هناك فقد كنا اصدقاء لانفترق ابدا
ولم يفرقنا الا الموت
ولاحقا فرقت الحياة بقيتنا
كنا حضورا كلنا في ذلك الصباح وتلك المظاهرة وذلك الرحيل
كان طه سعيدا كانه يزف عريسا
ضاحكا كطفل لا كرجل ذاهب الي احضان الموت
تحرك الموكب عبر شارع المكتبة الوطنية وهو الشارع الذي يشق سوق مدني
حتي السكة حديد
عبر الموكب سور السكة حديد وتجمع في ميدان السكة حديد امام كلية المعلمات
وهو يزمع السير الي تجمعات العمال في الادارة المركزية للكهرباء والمؤسسة الفرعية للحفريات
وكنا سويا ذات الاصدقاء
كان طه في المقدمة وجواره الاستاذ الراحل المحامي صلاح دفع الله والاستاذة ناهد جبرالله
وكنت خلفه تماما
حين دوي الرصاص ونحن في قلب شارع الاسفلت
تشتت المتظاهرون
وساد صمت قصير
ارتفع هتاف الرصاص فشنك)(الرصاص لن يثنينا)
كان ذلك صوت طه
رددت الجموع خلفه وبدأوا التجمع مجددا حين دوي الرصاص ثانية
التفت طه الي الخلف وهو يصيح: الرصاص.....
لم يكملها وانفجر الدم الطاهر نافورة وتلون وجهه بالالم
تحسست الدم في ملابسي
كان دمه علي قميصي
نظرت اليه وهو يهوي ارضا كما تهوي شجرة في النهر
صلاح سر الختم علي
27-08-2014, 11:19 AM
كتب الشاعر المرهف محمد محي الدين قصيدة رائعة حول استشهاد طه يوسف عبيد سماها عشر لوحات للمدينة وهي تخرج من النهر ... وهي لوحات رائعة لم تسجل الاستشهاد البطولي لطه يوسف عبيد وحده بل جسدت سيرة مدينة مدني بمجانينها واساطيرها
وكانت كلمات اقوي من الرصاص(شرد اللون والريشة انتفضت .. رابطت في الشوارع)
اعدكم بنشرها قريبا فهي صفحة من تاريخنا الثقافي
ومحمد محي الدين كان ولازال ركنا ثقافيا كبيرا في مدني وهو صاحب صوت شعري قوي ومتفرد ولغته لغة معطونة في الشجن والثورة وهو صاحب ديوان الرحيل علي صوت فاطمة
في ذلك الزمان كنا نطارد محمد محي الدين في الليالي الشعرية لنستمع للقصيدة وفي كل مرة نشعر بأننا نسمعها لاول مرة
وكنت استعيد تلك اللحظات القاسية كلها
كنت صغيرا وكان طه صغيرا وكنا نظن الدنيا اناشيد وقصائد وزهور وابتسامات
ولم نكن نظن ان فيها من يقتل انسانا لمجرد خروجه في مظاهرة سلاحها كالشعراء: كلمة..
مجرد كلمة وهتاف؟
مازالت تلك القسوة قابعة في اعماقي
مازلت اذكر العنقريب الاحمر الذي احضره بعض الطيبين من دكان ترزي اسمه الحريري
دكانه كان غرب كلية المعلمات
احضروا منه العنقريب ذي القوائم الملونة وووضعوا فوقه جسد طه الغض
وساروا به الي مستشفي مدني وسرت معهم مذهولا ومفجوعا
حتي حين تهامس الناس وسمعت سيرة الموت اول مرة لم اصدق ذلك
وعدنا من هناك الي منزل الاسرة بحي المزاد خلف مدرسة السني مباشرة
ذلك البيت الحبيب كان مكتظا بالبشر والميادين الاربعة امامه كانت كذلك
وفي الغرفة الصغيرة كان هناك خال الشهيد عبد العزيز عبد المنعم حافظ
والاستاذ مجدي سليم المحامي والاستاذ صلاح دفع الله وقائمة طويلة
وكان هناك افراد الشلة الحبيبة جميعهم
وهناك احضرت عربة الجثمان
من ذلك المكان خرجت مظاهرة اضخم لتشيع طه الي مثواه الاخير
عبرت المسيرة حي 114 وحين بلغت امام مدخل المؤسسة الفرعية للحفريات لعلع الرصاص مجددا
وسقط الشهيد الخانجي
وسقط العنقريب الذي يحمل جثمان طه نحو الارض بعد ان أصيب احد حملته وتفرق الاخرون وانبطحوا ارضا لتفادي الرصاص المنهمر
بقي طه وحيدا وبجواره والده الشيخ يوسف عبيد الذي جلس القرفصاء جوار الجسد المسجي وامسك باحدي القوائم وبقي هكذا غير عابئ بالرصاص.. توقف الرصاص أخيرا...جاءت عربة مجروس تابعة للجيش لتخلي جرحي الغارة ورأيت بأم عيني ضابطا بزيه الرسمي ممسكا بالجندي الذي كان قد اطلق الرصاص وهو يهزه بهيستيريا وغضب بعد ان تم تجريده من السلاح... كنت ملقي علي الارض بجانب الاسفلت...نظرت نحو طه وابيه ... كان يبدو نائما وابيه يحرسه اثناء نومه ،كان مغطي بالابيض.. وكنت واثقا انه كان يبتسم كعادته............
كان استشهاد طه يوسف عبيد حدثا لاينسي ولا يتكرر، كنا صغارا قليلي التجربة يدفعنا فضول الصغار الي ارتياد افاق جديدة ولم يكن اكثرنا تشاؤوما يظن ان الخروج في مظاهرة والهتاف بكلمات يمكن ان يكلف المرء حياته، كنا نظن لسذاجتنا ان الخروج في مظاهرة مثله مثل دخول مباراة كرة قدم او السينما او الذهاب الي ليلة شعرية ليس ذنبا ولاجريرة، لذلك كانت صدمتنا كبيرة، طه الضاحك الجميل الطيب الرسام لم يؤذ احدا فلم يقتلونه؟
لذت بصمت كبير وأنكفأت علي حزني واسئلتي وظللت اذهب كل يوم صباحا الي منزل العزاء صباحا وابقي هناك حتي المساء صامتا اذهب وصامتا اعود وقدرة غريبة علي حبس الدموع قد هبطت علي من حيث لا أدري، كانت امي مرتاعة حزينة ترقبني في مجيئ ورواحي وهي قلقة ، حتي كان يوم، عدت من بيت العزاء عند المغيب في اليوم العاشر لاستشهاد طه وتوجهت نحو الحمام وقبل ان اصله وجدتني انفجر بغتة كالقنبلة بالبكاء ... بكاء طويل ... بكاء لم ابكه من قبل ولا من بعد.. اتذكر دموع اخواتي والخوف في عيونهن ويد أمي الحانية ونظرة الراحة في عينيها وصوتها رخيما دافئا في أذني وهي تحرضني علي البكاء مؤكدة ان البكاء خير من صمتي.............................................. ............
صلاح سر الختم علي
27-08-2014, 11:22 AM
طفلا صغيرا تلوح جبهته شمس حارقة وهو يجول المدينة حاملا صحفا تبحث عمن يشتريها
في العطلات المدرسية كنت، لم يكن العمل بسبب الحاجة ولكنه كان شعورا مبكرا بأن كتف الاب ينوء بحمل ثقيل يجب مشاركته في حمله، كان الاخوان الاكبران قد سبقاني في ذلك الدرب، فتحت عيني عليهما وهما يمارسان العمل في العطلات، والحق يقال كان العمل في العطلات في شتي انواع العمل تقليدا لابناء ذلك الزمان في تلك المدينة التي كانت تقدس العمل وتخصص لطلابها فرصا للعمل المؤقت في العطلات في كل مصالحها الحكومية، كان مشروع الجزيرة يستوعب كمية ومحالج مارنجان تستوعب كمية اخري وووزارة الاشغال تستوعب مجموعات كبيرة وكذلك هئية البحوث الزراعية ووزارة الري والمؤسسة الفرعية للحفريات والبلدية ووقاية النباتات، كانت ابواب العمل مشرعة للطلاب الكبار سنا، اما المراحل الادني فكان طلابها يتجهون نحو الاعمال الحرة فيعملون باعة للخضار في الملجة وباعة للصحف والماء والتسالي والايسكريم والفواكه والنبق وغيره، كان حظي انني جربت بيع الماء في مواقف المواصلات حينا وبيع الصحف حينا والعمل بالملجة في بيع الطماطم حينا... وكان لي تجربة عمل في محالج مارنجان
مع العمال الذين يعملون في حمل بالات القطن من عربات سكك حديد مشروع الجزيرة الي المخازن ، كنت اعمل تايم كيبر، وكنا نعود سيرا علي الاقدام في ظهيرة حارقة يحاول بعضنا التقليل منها بالسباحة في ترعة مشروع الجزيرة المسكونة بطفيل البلهارسيا ولعل ذلك كان سببا في ظهور اصابات بالبلهارسيا فيما بعد وسط شلة اولاد الكمبو ، اتذكر منهم صلاح التوم الذي كادت البلهارسيا تقضي عليه ولكن لطف الله عافاه منها بعد معاناة طويلة، اتذكر فترة عمل أخري بالاشغال مع ناس المعلم احمد شبك احد فردتي ثنائي الجزيرة وكان عملي عملا صوريا ايام كنت لاعبا بفريق الثوار وكان رئيس النادي مهندسا كبيرا بالاشغال ، كانت الماهية احد عشر جنيها كاملة ، كنت وقتها طالبا بالثانوي العام بمدرسة فريني والعمل طبعا في الاجازة الصيفية في وظائف مؤقتة مخصصة للطلاب في العطلات..
صلاح سر الختم علي
27-08-2014, 11:27 AM
باتريس الجميل و الرحيل قسرا
هذه حكاية اخري من حكايات الكمبو، بطل الحكاية أحد العزاب من أبناء الكمبو... كان ضحم الجثة مفتول العضلات ولكن قلبه كان أبيضا كالحليب .. كان يسكن قسما من الحي نسميه العنابر لان من يسكنون فيه عزاب.. لكن الكمبو كان فريدا حتي في معاملة عزابه فقد باتوا جزءا لايتجزأمن الحي يشاركون اهله افراحهم واتراحهم ولا ينظر الناس اليهم نظرة الأسر الي العزاب بل نظرة الاسرة الي ابنائها... كانوا علي خلق قويم ، كان باتريس من أميزهم و كنا نهابه ونفسح الطريق تحاشيا له في البدء ثم زال ذلك الانطباع بفضل تلك الابتسامة الدائمة وتلك المحبة من الكبار...لم نعرف له أهلا او أسرة سوي الكمبو وكنا نسمع من الكبار انه ماهر في عمله( خراطا )لايجاري ... وكنا نراه دائما في مباريات الكرة والتمارين ضيفا لايغيب ...ظهرت موجة الهجرة الي الخليج والعراق وكان نصيبه الهجرة الي العراق التي كانت قصص العائدين منها تسيل لعاب الطامحين في الهجرة... اختفي باتريس من أزقة الكمبو وبقي مكانه في ملعب الحي بين المتفرجين شاغرا.... غابت سيرته شئيا فشيئا وطواه النسيان أو كاد حين تفجرت فجأة الحرب بين العراق وايران... تسربت انباء عن اصابته اصابة خطيرة وانباء اخري عن وقوعه هو وأحد ابناء الكمبو المغتربين بالعراق في أسر القوات الايرانية....... ظلت الاخبار شحيحة متضاربة.... خفتت السيرة... عاد زميله في الأسر من الأسر مع فوج اطلق سراحه بمفاوضات مع حكومة الصادق المهدي واحتفل الكمبو بالعودة لكن الفرحة كانت ناقصة ...و لم يعد باتريس.... تأكد وقوعه بالأسر وتعرضه لأهوال يشيب لها الولدان تحت وطأة اعتقاد انه من المقاتلين الي جانب العراق وما دروا انهم امام عامل بسيط جاء باحثا عن دفء النقود الخليجية فوقع في جحيم حرب لم يكن طرفا فيها وكان ابرز ضحاياها... عاد ذلك العملاق هيكلا عظميا لايقوي علي السير الي وطنه وقد انطفأ بعينيه البريق....للحكاية بقية ربما يصعب علي اكمالها؟
................... غاب صاحب القلب الكبير الطفل الكبير ... الرجل الضحم الجميل............ صمتت العصافير بالكمبو ومازالت صامتة ومازال مقعده بميدان الحي يفتش عن صاحبه عصر كل يوم........ ومازال بعض ابناء الكمبو المغتربين يسألون عن الغائب ولا أحد يقوي علي الاجابة........... ومازال حيا بقلوبنا......... لكنه قد رحل عن دنيانا الفانية.
صلاح سر الختم علي
29-08-2014, 05:47 AM
الجامعة
ولجت الجامعة في منتصف عام 1983، وكان استشهاد صديقي طه يوسف عبيد ودمه الذى سال على الأسفلت في مدنى قبالة الادارة المركزية للكهرباء لايزال هو الحدث المؤثر على حياتى وشخصيتى فقد نقلنى مرآى الدم وموت صديقي من حياة ساكنة تسيطر عليها كرة القدم لعبا ومشاهدةومشاجرات أولاد الفريق ومشاهدة الأفلام الهندية الى عالم جديد مختلف باتت السياسة فيه هى مركز الاهتمام وبات الانخراط في النشاط السياسي السرى المحظور وقتها ضد نظام النميرى هو الجديد فيها، تركت الغاز المغامرين الخمسة والمكتبة الخضراء وقصص أرسين لوبين اللص الظريف وقصص اجاثا كريستى وابطالها هيركل بوارو ومسس ماربل كاشفة الأسرار، تركت هذا العالم كله وهاجرت صوب عالم جديد كانت خطواتى قد بدأت الهجرة اليه ببطء مع طه والأصدقاء المشتركين وكانت ملامح تلك الهجرة قد بدأت بقراءة اشعار شعراء المقاومة الفلسطينية الثلاثة الكبار( سميح القاسم ودرويش وتوفيق زياد) ومن ثم بدأت بارتياد رابطة الجزيرة للآداب والفنون والليالي الشعرية، ولكن هذا الانتقال أخذ شكل التحول العاصف الكبير بعد استشهاد طه، تحولت الهواية والفضول الى التزام شخصي بالسير على خطى الشهيد والى التزام شخصي بالثأر له من نظام نحره نحراً بلا جريرة جناها سوى الهتاف البرئ، اندفعت بتهور شديد وحماس هو طابع تلك السن وتلك الفترة فقد كنت بالكاد قد بلغت التاسعة عشرة من عمرى عندما واجهت الموت مع صديقي وبت شاهدا لم تستدعه أي محكمة حتى اليوم لتسمع شهادته،اتذكر الآن اننا قمنا بتكوين اتحاد طلاب سرى في مدرسة السنى مهمته تنظيم التظاهرات بالمدينة ونسقنا مع زملاء لنا في المدارس الأخرى بغية تكوين اتحاد على مستوى المدينة، وبتنا نصدر صحيفة بالمدرسة تعبر عن افكارنا وتندد بالنظام وتنشر الأشعار الثورية، كنا في البدء مجرد مجموعة أصدقاء حركهم حدث عام أوجع قلوبهم الصغيرة، ثم أكتشفت فيما بعد أن بعض أصدقائي أولئك منظمون في تنظيم طلابي يسمى الجبهة الديمقراطية فلم أتردد في ولوجه مطلقا فقد كان وتر القوس مشدودا وكان لابد للسهم ان ينطلق كما قال مصطفي سعيد بطل رواية موسم الهجرة للطيب صالح. هكذا ولجت الجامعة برلوما منظما ومنحازا لفريق من الفرق المتنافسة وهو أمر حرمنى من التمتع بالدهشة التى تمتع بها بقية البرالمة الذين دخلوا الجامعة وهم صفحات بيضاء لم تسمع بالانشطة السياسية الا بالجامعة فلم يكن خارج الجامعة نشاط علنى معروف مثل الذى بالجامعة. بالمناسبة الجامعة كانت نقلة كبرى بالنسبة لجيلنا، نقلة من القيود الشاملة الى الحرية المطلقة، فقد كانت السينما محرمة علينا قبل الجامعة حد اننى لجأت الى الحيلة للذهاب للسينما فكنت اضع عودا من الحطب على سريرى واغطيه بالبطانية ثم اقفز بالسور واستمتع بالدور الثانى مع اصدقائي، حتى كان يوم هطل المطر فيه ونحن بالسينما واستغرب أبى من بقائي راقدا تحت المطر فاقترب من السرير واكتشف الخدعة وكانت علقة ساخنة. من هذه القيود انتقلنا الى عالم كل شئ فيه رهن ارادتك ، بمقدورك ان تذهب السينما أو المسرح أو الجامعات الأخرى أن تحضر المحاضرة أو تقضي وقتها بقاعة الصداقة في عرض نهارى، كل ذلك يرجع اليك وحدك. لا رقيب عليك سوى نفسك. والغريب ان الرقيب الذاتى كان صارما جدا. فقد كانت الحرية مكبوحة الجماح بالمسؤولية، فقد كنا نعرف جيدا أن واجبنا الأول هو النجاح وكل شئ آخر يجب الا يتعارض مع هذا الواجب. لكن العمل السياسي الذى كنا نمارسه كان عبئا ثقيلا، فقد كنا نجول المدن الثلاث بالعاصمة من أقصاها الى أقصاها وننفق وقتا طويلا في اجتماعات كثيرة كنا نظنها لسذاجتنا حينها قادرة على تغيير العالم، نتقمص فيها شخصيات واسماء لمناضلين بهرتنا سيرتهم وأفكارهم، شخصيا كنت معجبا بجفارا وناظم حكمت وبابلو نيرودا شاعر تشيلي، وكنت استعير اسم ناظم دوما، كانت اجواءا فيها غموض وسحر مصطنعين الى حد كبير لكنه غموض محبب يتناسب مع رغبتنا في تقمص ادوار أولئك الذين غيروا أفكار العالم ، الغريب اننا لم نتوقف امام فشلهم في تغيير عالمهم الذى ارادوا تغييره.كنا معجبين ببسالتهم وصلابتهم ووقوفهم بوجه الظلم وكان ذلك هو الشئ الملهم في سيرتهم. وكان هو الوقود الذى نحتاجه في رحلتنا الطويلة ضد نظام سياسي كنا نراه شرا مستطيرا ولانرضي بغير تغييره بديلا.
صلاح سر الختم علي
29-08-2014, 09:07 AM
مدرسةالسنى عش الجمال
مدرسة السني الثانوية كانت مرحلة مهمة وغنية بالمعرفة والتجارب في حياتي
فيها كونت صداقاتي الاولي المؤثرة في حياتي
فيها عرفت مجدي النعيم بنظارته الطبية وسمته الهادئ ونهمه للقراءة
وكتاباته القصصية ومحاولاته الشعرية وحفظه للشعر
كان مدهشا هو وعالمه
قادني بعيدا من عالم كرة القدم والالغاز وكتب ارسين لوبين ومشاجرات
اولاد الفريق وصالات السينما الي عوالم اخري ارحب واكثر غموضا وجاذبية
هو عالم الشعر والقصة والثورة والهم الاجتماعي
كان مجدي من ابناء المدينة عرب وكان يقيم بالداخلية
في ذلك الزمن كان ابناء المدينة يرون نفسهم اعلي درجة من ابناء القري ويطلقون علي
سكان الداخلية القابا غريبة منها الروس
ولكن ابناء الداخلية كانوا دائما قادرين علي الانخراط في المجتمع المتمدن وكسر غروره
بسعة افقهم ومواهبهم وتميزهم الاكاديمي ومشاعرهم الصادقة
وسرعان مابت صديقا للداخلية وشريكا في عدسها وفولها وشعرها وابداعها
كان مجدي بوابتي الي رابطة الجزيرة للاداب والفنون هو وبقية الاقمار اصدقائي الرائعين الشهيد
طه يوسف عبيد وخالد عائس وعبد الحميد عبد الرحيم وعصام جبرالله
مجدي النعيم بات دكتورا في الادب وترجم كتابا مهما غن الثائر علي عبد اللطيف
كتبته باحثة يابانية بالانجليزية ، خالد عائس طبيب متخصص مقيم ببريطانيا الآن وعصام درس الاقتصاد بجامعة الخرطوم وهاجر الي سويسرا
وكان هناك مبدع اخر بمدرسة السني هو الاعلامي عبد الماجد عبد الرحمن وهو من ابناء ريفي المناقل وطالبا داخليا
وكان مذيع المدرسة الاول الامر الذي اهله ليكون فيما بعد احد مذيعي الولاية اللامعين
وكان نشيطا جدا في الانشطة الادبية
ومن النجوم قيس حيدر الكاشف الذي كان ممثلا بارعا ادمي الاكف بالتصفيق في مسرحية البشارة
التي كان من ابرز نجومها وهي الفائزة بالذهبية علي مستوي الجزيرة والسودان في الدورة المدرسية
وهي من تأليف الشاعر محمد محي الدين واخراج الاستاذ الجميل بشير زمبة استاذ الفنون بالمدرسة
وقيس حيدر الان يعمل قاضيا مرموقا بالسلطة القضائية
ومن نجوم المدرسة اكاديميا المتميز المهندس عبدالله عكود عثمان الذي كان بارعا في الرياضيات من يومه وهو الان مهندس كمبيوتر تخرج من جامعة الجزيرة كلية العلوم والتكنولجيا ومن اوائل من اقاموا مركز تدريب وتعليم الحاسوب بمدني وهو صاحب نكتة
ومن نجوم المدرسة جمال محمد عبد الله الوالي من ابناء فداسي وكان شخصا مهذبا خلوقا ومحبوبا من الجميع ومحبا لكرة القدم بلا غلو وبلا لعب لها وهو رئيس نادي المريخ الحالي وكنا نذهب بدعوة منه الي فداسي يوم الخميس منتخبا كرويا من المدرسة ونلعب هنالك مع فريق فداسي ونحل ببيت اسرته الواسع ،وكان ذلك عملا ادارايا كشف اهتماما مبكرا بالادارة وقد كنت يوما كابتن المدرسة وحارس مرماها
ومن النجوم اخونا عماد بابنوسة من اولاد دردق وهو حارس مرمي بارع حرس مرمي الاتحاد مدني فيما بعد وهو الان برتبة عقيد بالشرطة
وكذلك اخونا علي الشريف الذي لم يكن له نشاط رياضي ولكنه كان محبوبا من الجميع وصاحب تأثير كبير وهو الان ضابط شرطة برتبة العقيد
وهناك الاخوان خالد سعيد حارس الزهرة من ابناء دردق وياسر كمبوك مدافع المدرسة من ابناء 114
وهناك ياسر النقر من ابناء المزاد وهومهاجم المدرسة وفريق نجوم المزاد ومن بعده الدفاع ومن بعده اهلي مدني
وكان استاذ صلاح الحاج الشهير بصلاح كيمياء من ابرز المعلمين بالمدرسة ومن قيادات ومحبي النادى الأهلى مدنى
وهناك الاستاذ فضل السيد عليه رحمة الله وكيل الناظر ومن ثم الناظر وقد كان رجلا طيبا ومربيا فاضلا خصنا جميعا بأبوة حانية إبان ازمة استتشهاد طه يوسف عبيد حيث صارت المدرسة مركزا لنشاط طلابي مضاد للحكومة وقبلة للجميع خاصة حفل التأبين الذى أقيم بالمدرسة بحماس دافق منا برغم اعنراضات السلطة وتهديدات الأمن ، لكن الاستاذ فضل السيد وقف الى جانبنا وتمكنا من اقامة التأبين بالمدرسة وقرأ فيه محمد محى الدين قصيدته عشر لوحات للمدينة وهى تخرج من النهر وشاركه شعراء رابطة الجزيرة للاداب والفنون وتحدث المتحدثون فنددوا بالسلطة وباغتيال الشهيد وانتهت الأمسية بسلام.
صلاح سر الختم علي
29-08-2014, 09:26 AM
(الترزي الجميل )
تذكرت وجهه من بين وجوه عديدة تزدحم بها كهوف الذاكرة،كان غريبا عن مدني ،ولكن دكانه الصغير بالدرجة كان اميز مكان لتجمع ابناء حي الدرجة ،كان محمد احمدترزيا ماهرا،ولاعب كرة مميزا بفريق التضامن ،اميز فرق حي الدرجة،كان يلعب مدافعا ايمنا،وكان رجلا مرحا صاحب نكتة وابتسامة دائمة، كان محبوبا من الجميع ،وكان دكانه قبلة للغادي والرائح،ولايخلو من الاصدقاء أبدا،كنت تجد نجوم فريق التضامن
جميعا هناك: محي الدين عبدالستار/ عبد اللطيف/ عمر عبدالله/ عبد الله الكوارتي،وتجد ثلة من ابناء الدرجة وأصدقائهم ،تجدالحوري وعلي العوض والفاتح عبد الرحيم الأمين( فالدكان ملحق بمنزل اسرته) ،كانت الضحكة هي سيدة الموقف ،والمحبة هي ستارة المكان وانفاسه، كنت كثير التردد على ذلك الدكان وفيه تعلمت وعشقت لعبة الكوتشينة المفضلة لديهم وهى (الاستميشن) وهى عكس الويست في قواعدها، وفيها غتاتة لاحدود لها وأكثر الناس اجادة لها محى الدين عبد الستار وسفيان عبد النبي وعلى العوض، ظل الدكان عامرا بالضحكات والناس ، وحقق فريق التضامن حلم قاعدته القديم ،صعد فريق التضامن الي الاولي ،وفعل العجب في دورى الدرجة الاولي،وانتقل بناديه الي موقعه الجديد جوار مدرسة السني،وظل دكان محمد احمد مكان التجمع المحبب لرواده،ثم دار الزمان دورته،حتي كان يوم،نعي الناعي محمدا
فارق محمد احمدعلي عجل في حادث حركة اليم في شارع القضارف، غيابه الأبدى وحده كان قادرا علي تغييب الابتسامة،ولكن سيرته بقيت تومض في ذاكرة وقلوب الاصدقاء
رحم الله محمد احمد الترزي الماهر
ولاعب التضامن السابق وصديق الجميع
رحمة واسعة.
صلاح سر الختم علي
29-08-2014, 09:37 AM
من حكايات الكمبو ... احزان ليلة الدخلة
والكمبو هو حى 114 بودمدنى حيث ترعرعت، بطلة القصة كانت بنتا جميلة
من اسرة من الاسر القادمة من شمال السودان...ا
الأب عامل بالمؤسسة والأم جميلة ومعروفة لدي النسوة حتي طغي اسمها علي اسم الرجل حتي صارت العائلة
تعرف باسمها فيقال ود ...... ويقال بنت ......
كانوا بنتين ووولدين ،احدهما لم نره مطلقا لانه كان بحارا تائها في بلاد الدنيا ولم تبق الا سيرته هنا،البنت الكبري تزوجت قريبا للاسرة وانتقلت معه الي العراق،بقيت بطلتنا وحيدة مع أمها وأبيها وأخيها،تقدم اليها قريب لها ليتزوجها فوافقت الأسرة، وانتظم الحي كله في اجراءات الزواج فالزواج في الكمبو ملك للاسرة الكبيرة تتشارك فيه كأنها اسرة واحدة ،نصب الصيوان بواسطة اولاد الحي بعد احضاره من الجمعية الخيرية ففي الكمبو كل شئ خاضع للتكافل والنفير. اسرعت النساء والبنات زرافات ووحدانا الي بيت العرس وتجمع الشبان بذرائع مختلفة امام الدار لغرض ظاهر هو المشاركة واغراض خفية هي الرؤية وتبادل التحايا مع حسان الحي،توافد الناس وانطلقت القهقهات الصافية من افوه الرجال والزغاريد من افواه النساء،كانت الأم مريضة وطريحة الفراش حينها،ذهبت العروس الي مصفف الشعر والاستديو مع عريسها لتستعد لليلة العمر النفيسة ،وخرجت البنات لارتداء ملابس السهرة وكان الكمبو موعودا بحفل بهيج يضاف الي رصيد افراحه البهية،تدهورت صحة الام فجأة
واسلمت الروح قبل عودة البنت العروس من مصفف الشعر ،وجم الناس ،توقفت الزغاريد وساد صمت ،اختلط القادمين لللعزاء بالقادمين للتهنئة
كان المصفف يصفف شعر العروس هناك،وفي الدار كان الاقارب والجيران يباشرون اجراءات الاعداد للمواراة الاخيرة لجثمان الأم،وحين توقفت العربة التي تحمل العريس والعروس لم يزغرد احد،تم تغيير الاتجاه الي منزل مجاور،حتي يتم ابلاغ العروس بالخبر الفاجع
انطلقت صرختها وجاءت تركض بفستان الفرح الابيض لتلقي علي الأم نظرة وداع اخيرة . ونام الكمبو حزينا. ولا زلت اذكر تلك الليلة التى كنا ننتظر فيها حفلا ، فقضينا الليل في المقابر.
صلاح سر الختم علي
29-08-2014, 09:40 AM
معتصم سوداني الأهلاوي الجميل
الاستاذ المحامي الراحل معتصم حسن ابراهيم الشهير ب (معتصم سوداني) رحل عن دنيانا وغيبه الموت نسأل الله له الرحمة
كان وجها جميلا من وجوه المدينة : رياضيا لايجاريه أحد في عشقه لسيد الاتيام اهلي مدني عرفته دار الرياضة حاضرا دائما مشجعا صعب المراس لمحبوبه عالي الصوت وعالي التهذيب صاحب طرفة وابتسامة دائمة وصوت عال يميزه لاعبو الاهلي جيدا كما يميزه رواد دار الرياضة مدني وهو عنيد في تشجيعه وفي حبه لهذا اللاعب وعدم استلطافه لذلك
ويحكي عنه الاصدقاء الطرائف منها انه كان دائم الانتقاد للاعب الاهلي الفذ الجيلي الله جابو والمطالبة بتغييره حتي انه بات يري في كل من يضيع هدفا الجيلي ويهتف فيه حتي انه مرة طالب باستبداله وهو غير مشارك.. ومع ذلك فهو وفي للاهلي ولاعبيه لطيف جدا معهم لايأخذون عليه شئيالمعرفتهم طبعه وغيرته، كان محاميا نشطا موفقا لطيف المعشر كثير الادب في تعامله مع زملاء المهنة والقضاة ورجال الشرطة والخصوم وصاحب سيرة مهنية لم تشبها شائبة...لم يعرف عنه ميل للخصومة او دخول في صراعات او معارك الا ما اقتضاه عمله كمحام ووفقا لاخلاق المهنة وتقاليدها التي تشربها من استاذه العالم سيف الدولة خضر عمر.. كان معتصم شهما كريما محبا للاخرين ودودا وكان بيت اسرته بشندي فوق التي يسميها محبة شندوق قبلة للجميع كل جمعة للتسامر والونسة وله اصدقاء دائمون هم كوارة ود المأذون الذي صار مأذونا ونجيب الذي يعمل بالمطبعة الحكومية وقام بتغليف معظم كتب محامي مدني والاستاذ فتح العليم محجوب والاستاذ صديق عيدروس واخرين سقطوا من الذاكرة وينحدر معتصم من اسرة جعلية من شندي من حي شندي فوق وقندتو حيث جذور والده ولكنه ارتبط بمدني ارتباطا قويا بحكم الميلاد والنشأة. له الرحمة ولاهله واصدقائه الصبر والسلوان. اللهم ارحمه واجعل قبره روضة من رياض الجنة.
صلاح سر الختم علي
29-08-2014, 09:47 AM
ملامح من وجهى القديم
كنت صغيرا ومزهوا بنبوغ كنت أسمع عنه عند الكبار، كانوا يفرغونه في شكل ثناء أو هدية صغيرة قد تكون قطعة حلوي، لكنني كنت أمتلي بسعادة لاتحدها حدود وأقبل باهتمام علي دروسي علي أظفر بالمزيد، كنت أحب الاستاذ فأحب مع محبته كل شئ مرتبط به،أتذكر ذلك الاستاذ في مدرسة بانت غرب الابتدائية في مدني أظن اسمه عبد العظيم، كان طويلا وبدينا ومستدير الوجه وله نظارة تميزه وابتسامة تزداد جمالا حين ينشد بصوته القوي أناشيد جميلة كلها تدور حول حب الوطن، فنغني معه باصوات تزداد نشازا مع ازدياد حماسنا، كان ذلك الرجل الجميل بوابة أولي ولبنة أولي في عشقنا للموسيقي والوطن بتلك الطريقة الطفولية الحالمة الجميلة،وكان الجرس في المدرسة موسيقي أخري تتخذ اشكالا مختلفة ، فان كنت داخل الفصل متشوقا للفطور والحلوي فهو بشارة التحرير ورنة السعادة ، وان كنت لاتزال تركض باقدامك النحيلة صوب المدرسة ،ورن الجرس قبل بلوغك الفناء فهو نذير علقة ساخنة ودموع قادمة في الطابور،كان كل شئ في المدرسة له طعمه ومعناه الخاص حتي الشقاوة.
وجه:
أتذكر الان بشكل غامض وجها أسمرا به نمش لرجل خمسيني هادئ الطباع كان هو صاحب الدكان الذي نمر به يوميا في طريقنا من البيت في حي البيان الي المدرسة في بانت، لا أتذكر أسمه ( اطنه السر)لكن أتذكر طعم الفول المصري الجميل الذي كنا نتناوله منه محشوا في سندوتش ونحن ذاهبون الي المدرسة، كان طعما لم يتكرر ثانية برغم الرحلة الطويلة مع الفول عبر السنين، كان رجلا طيبا ، يحب الأطفال كثيرا ويحتملهم إحتمالا لاأظن أهلهم يحتملونه،كنا نحب دكانه كثيراويمثل محطة مهمة في رحلة الصباحية، الدكان كان قريبا من بيت علي افندي والد عبدالعظيم علي افندي زوج عمتي نفيسة محمد علي والدة رفاق طفولتي الباكرة نادرونازك، كان نادر يقرأ معنا في ذات المدرسة وكانت نازك تقرأ في مدرسة الكورة الشهيرة ببانت وهي تقع في الطريق الي المدرسة، فيما بعد صارت نازك وكيلة نيابة وصار نادر ضابطا بالجيش وبت محاميا ثم قاضيا، فهل تري كان من علمونا الحروف وقومونا في ذلك الزمن يتصورون ما صرنا اليه؟ هل كانوا يدركون ان بذورهم ستقبض وتثمر؟وهل لو فقدوا ايمانهم بجدوي ما يفعلون أو تراخي ذوينا في دفعنا نحو التعليم تري كيف كانت تكون مصائرنا؟ هي اسئلة للتقدير والعرفان لمن منحونا قوة في وقت ضعفنا وصنعوا منا شيئا وليست وقفة للتباهي. أتذكر الان تلك الطفولة الشقية في بيوت متعددة متقاربة، بيتنا في حي البيان وبيت جدي الذي يقع أمامه مطلا مباشرة علي شارع الدباغة السوق، والبيت الثالث بيت ناس علي افندي جد نازك ونادر عبد العظيم الذي يقع في طريق المدرسةجوار طاحونة شهيرة أحتلت بعض ذكريات الطفولة، واتذكر كوبري حاجة عشة الذي سموه كذلك نسبة الي حاجة عشة التي تبيع الفول والتسالي عنده وهو كوبري صغير تنحدر مياه الامطار عبره الي النيل الازرق القريب من حي العشير الذي يقع في جانب الزلط، اتذكر بيت ناس العم بشير جمعة صاحب بصات الركبي الشهيرة التي كانت وسيلة النقل بين الخرطوم ومدني وهي نيسانات لها صندوق مصنع محليا،وكان بيت بشير جمعة يطل علي الخور المنحدر من بانت نحو النيل الازرق، واتذكر ان نفس الاسرة كان منها عباس بايا لاعب المدينة الشهير واخوته عمر والثالث بكرى، كانوا مهووسين بكرة القدم ونادي المدينة بينما كان آل دوليب كلهم مفتونين بنادي الزهرة العريق وكانت كل اسرة دوليب تقريبا لاعبين مهرة ، اتذكر منهم كبيرهم كابتن الزهرة الحريف عثمان دوليب الشهير بعثمان ننو وشقيقيه النور وحيكو والتيمان واتذكر الكابتن ابوليلي عليه رحمة الله،واتذكر جلال عبدالله لاعب الاتحاد والهلال العاصمي الشهير من ابناء البيان واخوه مبارك الذي لعب للاتحاد مدني واخوهما بدر ابليس الذي لعب للاتحاد ايضا واتذكر اسرة ناس مبارك الفاضل بركة الذي لعب بالثوار والاتحاد وشقيقه عليوة الذي لعب بالزهرة والاهلي مدني وهلال بورسودان
بيت صغير وشجرة:
كان هناك بيت صغير به شجرة نيم عملاقة، كان البيت في زقاق صغير من زقاقات العشير، كنت احتاج قطع شارع الزلط الملئ بالحركة للوصول اليه، لا اتذكر أسم صاحب البيت ولكنه كان قريبا بعيدا لنا،كان البيت علي قلة سكانه وهما زوج وزوجة دوما مزدحم بالناس وبالضجيج الفرح،لاتخلو الدار ابدا من الضيوف المقيمين وجلسات الجبنة والأنس، كنت اتسائل دوما كيف يحتمل الرجل الباسم الودود دوما كل هذا العبء ولماذا؟
غاب الرجل في زحام الحياة فجأة وبقيت شجرة النيم العملاقة تنتظر أوبة من كانوا يقضون سحابة النهار تحتها في أنس وحبور، كنت أعود اليها بين الفينة والأخري فلا أجد من آثار أهل الدار الا الطيور التي تقضي سحابة النهار في ظلها، ثم باتت الشجرة شاحبة صفراء الأوراق، وذات يوم جئت فلم أجدها بل وجدت أوراقا شاحبة جافة وأغصان مبعثرة في الكوشة الكبيرة التي تتوسط الحي ، فبكيت ولم أعد أبدا.
صور سريعة:
في حي البيان حيث سكنا في طفولتي الباكرة في منزل باشا جد حموري لاعب الكرة الشهير بجوار ناس اب ساق من الجهة الشرقية وناس آمنة الحمراء من خلفنا وناس عاطف المشهور بعاطف اب ادية بسبب عيب خلقي في يده من الناحية الغربية ويفصلنا عنهم شارع صغير، وأتذكر أن احد الجيران كان ملاحظا للصحة وله برنيطة عريضة وزي كاكي مميز واظن ولده كان عادل الكردي الذي بات فيما بعد ضابطا كبيرا بالشرطة في الثمانينات،وكان من الجيران شاب يسمي قزقز واسمه عبد العظيم فرح كان لاعبا لكرة القدم بامكانيات مهولة وكان يلعب في فريق الثوار وقتها ،وكانت الالقاب منتشرة في الحي انتشارا كبيرا كان سمة تلك الناحية من مدني وذلك الزمان،وفي تلك الايام كانت العصبية للاحياء والشلليات المبنية علي ذلك في أوجها، كان اولاد العشير عصبة شرسة واولاد أم سويقو عصبة أخري أصعب وكان أولاد البيان مجموعة وأولاد بانت مجموعة أخري، ومن الطرائف التي اتذكرها أن المجموعات المختلفة اعتادت علي شن غارات علي بعضها البعض استعراضا للقوة وثأرا احيانا وبحثا عن الإثارة تارة أخري، اتذكر انه كان يوجد في مدخل فريقنا مثلث صغير يبدأ من الكوبري الأول بعد القبة مباشرة جوار منزل جيران كان لهم ابن يشتغل بشرطة المرور وله موتر من مواتر التشريفة، عند هذا المثلث كان ثمة عمود كهرباء مضئ وعند هذا العمود كان العم (مدنكل )يبيع السندوتشات الرهيبة من الفول وسلطة الاسود وسلطة الروب والطعمية، كانت شهرة العم مدنكل تشمل مدني كلها،فيأتي الناس اليه لشراء السندوتشات الجميلة، كان اولاد حلتنا قد اعتادوا التجمع عند عمود النور ولعب الكوتشينة ارضا اسفله والسمر تحته، وكانت هناك خشية دائمة من غارات اولاد العشير وأم سويقو المفاجئةفكان اولاد الفريق الكبار يستخدمون الصغار ككتائب استطلاع وانذار مبكر، وكانت العصي مجهزة بجوارهم استعدادا لاي غارة،واتذكر غارة شنها اولاد أم سويقو علي الفريق استدعت تدخل النجدة لفض الاشتباك، كان الأمر كله استعراضا للرجولة وبحثا عن الإثارة والبطولات ،وكان شيئا يبدد الرتابة،والغريب انه كانت توجد علاقات طيبةوصداقات فردية عابرة للاحياء ومباريات كرة قدم ومشاركات في الأعراس في الاحياء المختلفة ونادرا ما كانت تحدث احتكاكات لكنها لو وقعت فتكون كفيلة بفض الحفلة بصورة بشعة، وكان لعلاقات المدارس دور كبير في تذويب التعصب للاحياء واختفاء عصابات وشلل الاحياء في مدني،ولكن ظل ابناء مدني لفترات طويلة يتحركون في جماعات كبيرة علي اساس اولاد الفريق خوفا من بطش عصابات الاحياء الاخري بهم ان هم تحركوا فرادي.
صلاح سر الختم علي
29-08-2014, 09:49 AM
`ذكريات المدرسة الابتدائية
.درست في مدرسة الجنوبية الابتدائية بحي الدرجة بمدني قبالة مدرسة السني الثانوية التي كانت تسمي في ذلك الزمن النيل الازرق الثانوية وكان يدرس بها اخي الدكتور محمد سرالختم وقتها، كنت صغيرا في الصف الثالث الابتدائي حين انتقلت من مدرسة بانت غرب الابتدائية التي درست فيها الصفين الأول والثاني ثم انتقلت الأسرة الي حي 114 وكان لابد من نقلي الي مدرسة اقرب من بانت غرب التي كانت الأقرب حين كنا نسكن حي البيان، كان ذلك الانتقال انتقالا مبهرا ، فالبئية في مدني جنوب ( احياء الدرجة المزاد والحلة الجديدة و114وشندي فوق والسكة حديد) كانت شيئا مختلفا عن حي البيان وبانت والعشير، ففي هذا الجزء الجنوبي من مدني كانت الخضرة تكسو الشوارع بشكل واضح، كانت الحواشات القريبة التابعة لمشروع الجزيرة وتلك الترعة التي تشق حي 114 وتفصله عن الدرجة تضيف بعدا مختلفا للمنطقة، مدرسة النيل الأزرق كانت عالما ساحرا وجميلا ومشتهي، كانت فناء واسعا به مجموعة كبيرة من الفصول وبها داخلية مكتظة بالطلاب، وبها ميادين باسكت بول وكرة طائرة مميزة،اتذكر اننا كنا عندما نأتي صباحا الي المدرسة نتلفت صوب ميدان الطائرة الخاص بمدرسة النيل الازرق،، نري الشبكة منصوبة وفريقان من طلبتها واقفان كل فريق يرتدي زيا مميزا، وثمة استاذ مصري الجنسية يرتدي فنيلة خضراء ممسكا بالصفارة، تبدأ المباراة صاخبة ساحنة وبقية الطلاب حول الملعب يشجعون ونحن ننظر من بعيد في شوق الي يوم نبلغ فيه هذه المدرسة، يرن الجرس في مدرستنا فنركض نحو الباب الصغير خوفا من العقاب ان تأخرنا عن الطابور، ويتكرر المشهد ذاته كثيرا، اظن ان ثمة حكمة كامنة خلف تجاور مدرستين مثل مدرستنا الصغيرة ومدرسة اخوتنا الكبار الثانوية العليا التي تفصل بيننا وبينها مرحلة الثانوي العام، فقد كانت المدرسة الثانوية بميزاتها غير الموجودة في مدرستنا تمثل طموحا مشروعا لنا وتشكل حلما يجعلنا نطوي الفصول طيا لبلوغه، اتذكر ان ناظر مدرستنا الاستاذ محمد يوسف كان رجلا صارما ومهابا، اتذكر حتي العجلة التي كان يستقلها في قدومه وذهابه، اتذكر انني قابلته بعد سنوات عديدة في السوق الجديد بمدني جوار البوستة، كان لايزال علي عجلته تلك وكنت قد بت محاميا يرتدي بذلة كاملة في عز الصيف، توقفت وصافحته وقلت له انني تلميذه فضحك وقال لي يا بني انا لا انسي تلاميذي ابدا، اتذكرك وكل زملائك واحدا واحدا، وانا فخور بكم دائما ويكفيني ان يوقفني في كل دقيقة واحد منكم ويسلم علي بصفتي المحببة التي لايسلبها مني معاش الحكومة( يا استاذ)، كان متأثرا جدا، وكنت سعيدا جدا بلقائه، تذكرت قصة سراج الجعلي ذلك النحيف المشاكس الذي كان نجم الفصل في الهرجلة ونجم الطابور في الصمود امام الجلد العلني المتكرر، كان لايصرخ ولا يئن ابدا، يرفعه اربعة من (ناس ورا) الذين يتميزوا بالطول والقوة وبروز معالم البلوغ عليهم، ينهال السوط علي صلبه وهو يضغط علي اسنانه وحين يطلقوه يقفز نشيطا ويقف في الطابور كأن شيئا لم يكن، حتي كان يوم، كان المسؤول عن الطابور في ذلك اليوم استاذنا مهدي عابدين لاعب اتحاد مدني الفلتة في ذلك الزمان، لاحظ استاذ مهدي في صمود سراج شيئا غير عادي، فانبري وفتشه فاخرج (لستكا جوانيا) كاملا كان محشوا بين الرداء والجسد النحيل، حين رفعوا سراج مجردا من حصانته الخفية صرخ باعلي صوته من السوط
الأول وبكي في الثاني وانفلت هاربا من المدرسة في الثالث وضحك الطابور كله....
حكايةالرجل الذى غير حياتنا( الى الأسوأ)
من الاشياء الموجعة في ذكريات الطفولة في مدرسة الجنوبية الابتدائية تلك الجريمة التي ارتكبها أحد المعلمين بحقنا، كانت مدرستنا تجمع بيننا نحن ابناء العمال الفقراء محدودي الدخل وبين أولاد كبار الموظفين والتجار في المدينة، فقد كان حي الدرجة الذي تقع به المدرسة هو حي الطبقتين الوسطي والثرية وكان سكانه يجمعون بين خليط من كل الطبقات وصفوة من الأثرياء وكبار الموظفين في المدينة، كانت ظاهرة التعليم الخاص والمدارس الخاصة لم تعرف طريقا بعد للمجتمع السوداني في ذلك الزمن منتصف السبعينات، كانت المدارس كلها حكومية وشعارات مثل الزامية التعليم ومجانيته هي المحببة لدي حكومة النميري ذات الشعارات الاشتراكية، كانت الدروس الخصوصية تشق طريقا خجولا في ذلك الوقت، وكان من نصيبنا ان ندفع ثمن ماقبضه معلمنا ذلك الذي يسمي يونس وكان استاذا للحساب قبل ان يصير اسمه رياضيات، اختار ثلاثة من كبار تجار المدينة الاستاذ المذكور ليقدم دروسا خاصة لاولادهم الثلاثة في الحساب، فانعكست تلك الحصص الخصوصية علينا نحن الذين لم نكن نحتاجها ولانملك ثمنها لو احتجناها ، كان انعكاسها علينا ان معلمنا المحترم بات يميز بين طلابه الخصوصيين دافعي الأجر الخاص من اولاد المصارين البيضاء وبين تلاميذه الفقراء الذين تدفع له الحكومة نيابة عنهم راتبه المحدد، كنانرفع ايدينا ونصرخ بحماسة ( فندي ...فندي....فندي) لكي نجيب علي سؤال في الحصة فيتجاهل اصابعنا الصغيرة واصواتنا التي بحت ويطلب من واحد من فرسانه الثلاثة ان ينهض ويجيب واذا اخطأ يعدل اجابته ويطلب التصفيق له، كنا نشعر بالم كبير وحسرة وغضب منه ومنهم، كيف سولت له نفسه وهو معلمنا كلنا ان يمنح بعضنا امتيازا علي البعض لاسباب لاعلاقة لها البتة بالتعليم او الذكاء، وكيف قبلوا هم ان يصبح الفصل واستاذه ملكا لهم وحدهم ونصبح فيه لاقيمة لنا ولاصوت مثل جدرانه؟ ....كان رد فعلنا ان كرهنا الاستاذ فكرهنا حصته وكرهنا الحساب كراهية امتدت الي عمرنا كله وقذفت بنا فيما بعد بعيدا عن المساق العلمي وقذفت بنا في حينه الي ترتيب متأخر في الفصل، اتذكر جيدا انني كنت قد جئت منقولا من مدرسة بانت غرب وترتيبي الأول مشترك بنقصان ثلاث درجات فقط وكانت درجتي في الحساب ممتازة جدا، وحين انهيت عامي الأول بعد صدمة استاذ يونس تلك وترتيبي الحادي عشر ودرجات الحساب هي الأسوأ وهي سبب التدحرج.... كانت تلك جريمة لاتغتفر لازلت اتذكرها بذات الشعور بالظلم وبالغضب برغم السنوات البعيدة التي تقع مابين عام 1974 وعام 2013. الغريب ان الفرسان الثلاثة لم يتجاوزوا في التعليم المرحلة الثانوية، توقف قطارهم فيها وباتوا تجارا مثل ابائهم ، فيما واصل أقرانهم تعليمهم الي أعلي مراتبه، لم تشفع لهم نقود ابائهم ولم تمنع أقرانهم قلة حيلة ابائهم من مواصلة تعليمهم. اما استاذ يونس فنسأل الله ان يسامحه ويفغر له ماتقدم وتأخر من ذنبه، فقد كانت غلطته معنا درسا نافعا لنا تعلمنا منه الكثير وأهم ماتعلمناه هو اجتناب الظلم بكافة اشكاله.
صلاح سر الختم علي
29-08-2014, 11:47 PM
الجامعة وأحلام العصافير والأسلاك الشائكة
في الجامعة كان المشهد برمته جديدا ومثيرا،بنات جميلات في عرض دائم للأزياء، ضجيج مكبرات الصوت المتشاكسة الدائم، الموائد الفكرية المتباينة وعارضى الفكر والأفكار متعددى المشارب،حلقات الشعر والأدب، صحف الحائط وعناوينها المثيرة، المحاضرات المختلفة كلية عن الحصص المدرسية،فناء الجامعة العامر بالضجيج دوما،كانت الجامعة باختصار مهرجانا دائما، وجدنا أنفسنا بغتة في قلبه،الطلاب الجدد كانوا دوما هدفا للطامعين في الجامعة، الأحزاب تستهدفهم بأنشطتها وكوادرها الظاهرة والخفية، والروابط الإقليمية تستهدفهم برحلاتها وحفلاتها، وقدامى الطلاب يستهدفونهم بمقالبهم وسيطرتهم وتوجيههم، والجماعات الأدبية تنقب وسطهم عن إضافات جديدة لها،لذلك كله تبدو الجامعة للبرلوم أميرات حسن ينحنين إجلالا وتقديرا له ويخطبن وده جميعا فلا يستطيع الإختيار من بينهن ويمتلئ زهوا واعجابا بنفسه، وفجأة يجد الأضواء قد انحسرت عنه بعد انتهاء موسم الانتخابات وحلول برالمة جدد بالجامعة، فيفهم متأخرا سبب الإهتمام والإنحناءات. ومن الأشياء التى لايفهمها الطالب الا بعد سنين طويلة أن انضواء الطالب تحت لواء فريق من الفرق المتصارعة يقلل تلقائيا من فرص بناء علاقات اجتماعية واسعة ، فغالبية الطلاب يفرون من الطلاب المنتسبين للتنظيمات كما يفر المرء من عدوى فتاكة خشية التصنيف من قبل الآخرين وخشية الإستقطاب، وذلك وجه من وجوه مظلمة للمارسة السياسية في السودان يبقي قابعا في اعماق اولئك( اللامنتمون) يؤثر في مجمل مواقفهم ويطبعها بطابع سلبي تجاه حملة الأفكار المعلنة علما بأن كل شخص منظم أو غير منظم يحمل فكرا يؤمن به ويؤثر على مواقفه. وهناك تعالى مقابل من قبل المنتسبين للجماعات والأحزاب فهم يرون في اللامنتمين أشخاصا أقل منهم مقدرة ومكانة ويطلقون عليهم تسميات تعبر عن ذلك التعالى القابع في الأعماق فهم يسمونهم تارة( الفلوترز) و تارة( الحناكيش) .وهناك ظاهرة أخرى مصاحبة للنشاط السياسي في الجامعات هى ظاهرة الحلقية الضيقة والرغبة في محو الآخر واقصاؤه، الصراع حول مقاعد الاتحاد مثلا كان صراعا عنوانه الرغبة في الفوز وحقيقته الرغبة في السيطرة واقصاء المهزوم واستمالة العامة الى جانب المنتصر ، وأظن هذه الظاهرة هى التى تفسر ماجرى على الساحة السياسية السودانية فيما بعد من تنكيل بالآخر واقصاء له وسيطرة مطلقة على مصائر الأغلبية وزيف دعوات الحوار مع الآخر.كل ما جرى فيما بعد كان تمرينه الرئيس قد جرى بالجامعات قبل ذلك وبذرته غرست في العقول هنالك. كنت طوال عمرى قبل الجامعة حرا في بناء صداقاتى واختيار اصدقائي ولم اكن يوما مجبرا على القبول بأحد ضمن قائمة اصدقائي لأي اعتبار آخر،وكانت الإهتمامات المشتركة والقبول المتبادل هو الاساس المتين لكل صداقة، لكن في الجامعة نشأت أسلاك شائكة وتصورات وأفكار مسبقة حاجزا بينى وبين الكثيرين، وكانت تلك خسارة فادحة مؤكدة.
تغريدا
30-08-2014, 01:38 AM
استاذنا الكاتب الاديب / صلاح سر الختم
دوماً بين احرفك تتقازم كلماتى وتتوارى حروفى خجلى لعجزها عن التعبير بمايليق من جمال الكلم هنا
فقط اسمح لى بالأستمتاع والأبحار فى مكامن الجمال هنا
لك منى خالص التحيا النديات يلفها ود وأحترام
صلاح سر الختم علي
30-08-2014, 07:06 AM
استاذنا الكاتب الاديب / صلاح سر الختم
دوماً بين احرفك تتقازم كلماتى وتتوارى حروفى خجلى لعجزها عن التعبير بمايليق من جمال الكلم هنا
فقط اسمح لى بالأستمتاع والأبحار فى مكامن الجمال هنا
لك منى خالص التحايا النديات يلفها ود وأحترام
ولك منى كل الاحترام والتقدير
فهذا التفاعل الجميل مع ماكتبت لا يقدر بمال ولا حروف
فهو من الروح الى الروح
صلاح سر الختم علي
30-08-2014, 09:19 AM
لكن يجب التنبيه الى ان ما أقوله هنا هو أفكار جديدة لم تطف ببالى وانا اندفع بحماس دافق غائصاً حتى الركب كما يقول المثل السودانى فى وحل السياسة ودروبها الموحشة،بت خطيبا من خطباء الجامعة الذين يرسمون مدناً فاضلة مصنوعة من وحى الخيال ومن قصائد الشعراء ومن بطون الكتب ومن جوع الناس الى الكمال المستحيل، لم أك كاذباً ولامهرجاً أومزيفاً لواقع ،لكننى كنت أرسم ما كنت أؤمن به من قيم وما أحلم به من أحلام واسقطه على برنامج سياسي كانت سمته الأساسية التبشير بحضور كل ما هو غائب ومشتهى. وكان الشعر ذراعى الأيمن ، كنت أرسم مدنى الفاضلة ثم أقرأ شعرا ملتهبا وجميلا وقادرا على دغدغة الأحلام وإلهاب المشاعر، كنت أحب الشعر والقصة وكان الشعر سردا بديعا على الهواء، سردا قادرا على حشد الناس وتحويلهم الى قنبلة متدحرجة قادرة على الفعل الجرئ.وحين انظر الآن لى مافعلته في تلك الأيام لا يساورنى أدنى شك في أننى كنت أديباً يعتلى منصة السياسة ليعرض بضاعته ولم أك يوما سياسيا يرتدى ثوب الأدب ليعرض بضاعته، وما أقول هنا ليس تنصلا من اختيارات واعية مارستها، بل هو محاولة متأخرة لفهم ماجرى والدوافع المؤدية اليه.كان العمل السياسي في ذلك الزمان عملا يجعل صاحبه شخصية مزدوجة مثل ازدواجية الممارسة، فبينما كان النشاط السياسي عملا مشروعا داخل الجامعات كان محرما وجريمة خارج أسوار الجامعة وكانت الأحزاب محلولة ومحظورة بموجب القانون، لذلك كان النشاط مزدوجا، مسموحا به داخل الجامعة فتتم ممارسته بعلانية، أما خارج الجامعة فكل شئ كان يمارس في الخفاء، الإجتماعات سرية، والمنشورات تطبع سرا وتوزع ويتم تداولها سرا، والقصائد الثورية والكتب السياسية والمنشورات كلها محظورة مثل نبات البنقو والهيرويين ويتم تداولها سرا وتعتبر حيازتها جريمة خطيرة،هكذا وجدت نفسي بغتة أمارس حياتين واحدة علنية وأخرى سرية مثل حياة أبطال الروايات والقصص المرتبطة بالثورات مثل قصص الثورة الفرنسيةوقصة جيفارا وقصة الليندى في تشيلي وقصة المهاتما غاندى وغيرها،كان في الأمر تشويق وإثارة لاحدود لهما،يختلط فيهما الواقع بخيال مستلف من القصص البوليسية والأفلام والروايات،وكانت هناك ثقافة سودانية خاصة بقصص العمل السرى وتجارب بعض ابطاله وهى قصص فيها من الإثارة والتقديس مايرتفع بأصحابها الى مراتب أبطال القصص البوليسي . كان ذلك نهرا خاصا له سحره وبريقه.باستثناء البريق الذى يصاحب المتحدثين في الأركان والندوات في الجامعة كنت الشخص نفسه، المحب للشعر والقصة، الممتلئ بالرغبة في الثأر لصديقه من نظام سياسي قتله،وكنت حريصا على دراستى فانا اعرف جيدا اننى جزء من أحلام أمى وأبي وهى أحلام عزيزة عندى،ولم يكن واردا في حساباتى أن أتسبب لهما بأى آلام، لذلك كنت حريصا جدا على الانتظام في محاضراتى والا يكون نشاطى على حساب دراستى، وكنت قد أغرمت بدراسة القانون التى كانت بالنسبة لى متعة لاتدانيها متعة.
صلاح سر الختم علي
30-08-2014, 11:45 PM
كانت الجامعة خلية نحل لاتهدأ أبداً، الأحداث فيها متواترة متلاحقة لافواصل بينها ، ومن الحبة دوما تأتى القبة،وأتذكر جيدا أن دخولنا الجامعة تزامن مع اقرار نظام النميري لقوانين سبتمبر1983 التى أصدرها النميري معلنا زورا تطبيق الشريعة الاسلامية ونصب نفسه إماما وقد وجدت تلك القوانين معارضة واسعة ، وكان أبرز المعارضين لها الاستاذ محمود محمد طه زعيم الجمهوريين الذى أصدر منشورا سماها فيه باسم قوانين سبتمبر وقال فيه قولته المشهورة التى رددها في محاكمته التى انتهت باعدامه بتهمة الردة:( ("أنا أعلنت رأيي مرارا، في قوانين سبتمبر 1983، من أنها مخالفة للشريعة وللإسلام. أكثر من ذلك، فإنها شوهت الشريعة، وشوهت الإسلام، ونفّرت عنه. يضاف إلي ذلك أنها وضعت، واستغلت، لإرهاب الشعب، وسوقه إلي الاستكانة، عن طريق إذلاله. ثم إنها هددت وحدة البلاد. هذا من حيث التنظير. وأما من حيث التطبيق، فإنّ القضاة الذين يتولّون المحاكمة تحتها، غير مؤهلين فنيا، وضعفوا أخلاقيا، عن أن يمتنعوا عن أن يضعوا أنفسهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية، تستعملهم لإضاعة الحقوق وإذلال الشعب، وتشويه الإسلام، وإهانة الفكر والمفكرين، وإذلال المعارضين السياسيين. ومن أجل ذلك، فإني غير مستعد للتعاون، مع أي محكمة تنكرت لحرمة القضاء المستقل، ورضيت أن تكون أداة من أدوات إذلال الشعب وإهانة الفكر الحر، والتنكيل بالمعارضين السياسيين".)، كانت المحاكمة نفسها والإعدام حدثا مفصليا في الحياة السياسية في السودان، وكان يوما عاصفا في الجامعة سالت فيه الدموع وتجمعت فيه سحب الغضب وخرجت جامعة القاهرة الفرع في مظاهرة حاشدة بددت حالة الوجوم والدهشة والخوف وعدم التصديق التى خلفها الإعدام. وتجاوبت بقية الجامعات وكسرت طوق العزلة واستمرت المظاهرات الحاشدة في الخرطوم تتنقل من جامعة الى جامعة، واتذكر جيدا ان جامعة الخرطوم باتت مركزا لنشاط المعارضة التى خرجت للعلن في ندوة حاشدة بجامعة الخرطوم ميدان كلية الهندسة عشية اعدام محمود محمد طه وهى ندوة اختلطت فيها الكلمات بالدموع ونعى المتحدثون فيها السماحة التى ميزت الشعب السودانى وجددوا فيها معارضتهم لنظام النميري واعلنوا ميلاد التجمع الوطنى الديمقراطى.و في تلك الليلة نفسها تجدد تحالف عريض في الجامعات السودانية هدفه اسقاط نظام النميري ومؤيديه في الجامعات الذين جعلوا مناصرته تساوى مناصرة الشريعة الاسلامية. وقد كان عام 1984 عاما عامرا بالنضال الطلابي والشعبي ضد نظام مايو،ومن ذكريات ذلك العام مظاهرات واسعة شهدتها العاصمة وكانت الجامعات وطلابها هم وقودها وكانت الصحف الحائطية بالجامعات والندوات والأركان هى شرارتها، وبلغ الأمر حد ان قوات الاحتياطى المركزى حاصرت جامعة القاهرة الفرع يوما، وأغلقت أبواب المدرجات على الطلبة وألقت قنابل الغاز المسيل للدموع بداخلها، وأصطف الجنود بالهراوات أمام أبواب مدرج ثالثة حقوق حتى باب دار الاتحاد لينهالوا ضربا على الخارجين من المدرج ثم يقذفوا بهم داخل العربة الواقفة امام دار الاتحاد ليأخذوهم الى قسم شرطة غرب ( رئاسة شرطة الخرطوم الحالية) ومن ثم يقدموهم للمحاكمة بتهمة التظاهر والتخريب والدم ينزف منهم، قيض الله لبعض الطلاب قاضيا نزيها اسمه طارق برأ ساحتهم وأمر بمنحهم ارانيك جنائية للكشف عن حالة الأذى وفتح بلاغات ضد الشرطة، بينما كان نصيب بعضنا وكنت منهم ان نمثل أمام قاض آخر من طينة أخرى حكم علينا بالجلد عشرين جلدة وهو يسخر ممن دعاهم بالمناضلين سخرية، وقفنا في مجمع الخرطوم شمال نتلقي ضربات السياط بثبات زادته زغاريد انطلقت من أفواه موظفات في المبنى المجاور للمحكمة، كانت تلك طريقتهن للتضامن معنا. اتذكرهن بثياب بيضاء وهن كالملائكة ينظرن الينا من الطابق الثانى للمبنى ويزغردن( المبنى الآن صار مبنى مجلس الوزراء). بعد المحاكمة الجائرة لم يطلق سراحنا بل نقلنا الى فناء قسم شرطة الخرطوم غرب حتى يأتى رجال الأمن ليتخيروا من بيننا من يريدون اعتقاله من الناشطين.لكننى استطعت بطريقة ما ان اغادر القسم ومنه غادرت الخرطوم الى مدنى حيث كان للحكاية حكاية أخرى.
صلاح سر الختم علي
31-08-2014, 05:15 AM
حين وصلت مدنى كنت في البدء خائفا مترقبا، ولكن أجواء الكمبو ( حى 114) الحميمة احتوتنى وأنستنى ما كنت فيه من أجواء متوترة، كانت ضحكات رفاق الطفولة تطاول أعنان السماء، وكان الدافورى جوار بيت ناس ناجى حسن محمد صالح حارس الأهلى ورفيقي في حراسة مرمى فريق المجد مولع نار، كان الدافورى تقليدا مرحا لأولاد الكمبو لم يتخلوا عنه قط حتى بعد ان صار بعضهم نجوما يشار إليهم بالبنان في فرق مدنى الكبيرة مثل محجوب فضل الشهير بفجوك حارس الموردة والمرحوم صلاح الشاذلى حارس الأهلى مدنى في عصر ذهبى وعبد العظيم الشهير بكزيمو مدافع الاتحاد الصلد وتمبكة وحربة وبدر اسرائيلي نجوم مريخ مدنى وبهاء الدين حسن نجم التضامن، جميعهم كانوا يواظبون على الدافورى الذي كان يلعب في ميدان صغير والمرمى فيه صغير جدا عرضه شبحة قدم واحدة والعارضة صغيرة لاتعلو من الأرض أكثر من نصف المتر، ولكن الحضور حاشد والتحدى ساخن والمدافرة من القوة بمكان والمرح حاضر وكذلك الخرخرة، كان ابطال الدافورى دوما أكثر الناس حماقة وخرخرة وأبرزهم الأخ معتصم حبشي، اما أكثرهم هزلا بلا منازع فهو معتصم حسن صالح الشهير بالوحش وشقيقيه ناجى الشهير بتشتتش وعماد الشهير بعماد لنقز، كان الدافورى بمثابة حفل ترويحى للصغار والكبار الذين يكتفوا بالمشاهدة الممتعة، وقد بلغت شهرة الدافورى حد انه استوعب ضيوفا من أصدقاء الكمبو من الأحياء الأخرى أبرزهم عليوة لاعب الأهلى وآخرين سقطوا من الذاكرة. من الدافورى كنا ننتقل الى النادى الذي يعج بالحياة، صحيفة حائطية، مباريات تنس طاولة، تربيزةضمنة ساخنة فيها تحديات لاتنتهى بين مجموعات متباينة، أبرز اللاعبين الريح أبو الريح وشقيقه يوسف الله جابو وصلاح التلب عليه الرحمة وصلاح حسن سعيد ومعتصم الساحر وحربة وقبلة وحسن علوب . وهناك تربيزة الكوتشينة الكونكان والويست التى يعلو ضججها كلما ألقي أحدهم كرت الفتوح. وكان هناك فاصل يقودنا الى محل عثمان علفكو بائع الفول المصرى الشهير في الكمبو، ننفق وقتا في اعداد الفتة في صحن كبير، ثم نهرول نحو الدور الثانى في سينما أمير القريبة أو السينما الخواجة أو الوطنية،وكانت السينما الهندية لاتزال هى المفضلة والأثيرة مع بعض المرات التى نشاهد فيها فيلما أجنبيا من النوع الذي يسمى( استورى) في سينما الخواجة أو نشاهد فيلما عربيا كوميديا من شاكلة عماشة في الأدغال. المهم اننى اندمجت في تلك الأجواء المحببة الى النفس ونسيت ماكان بالخرطوم أو كدت ، حين جاءنى أخى الأكبر أحمد لاهثا وأنا بالنادى ليخبرنى باننى ملاحق من قبل سلطات أمن النميري وأنهم سألوا عنى بالبيت ويجب أن أغادر النادى على جناح السرعة، وقد كان، غادرت النادى ولم أعد الي البيت ليلتها ، بل ذهبت مع أحد ابناء الحى السابقين الذين انتقلوا الى حى مايو وبت ليلتى في منزل آخر يخص أسرة صديقة كانت من سكان حينا القديم الكمبو .لكن القصة لم تنته عند هذا الحد، قبض أفراد الأمن على أبي الشيخ ووجد نفسه لأول مرة في حياته في مواجهة مع السلطة والقانون وهو الرجل الذى لم يقف يوما بباب سلطة شاكيا ولامشكيا ولا حتى شاهدا، فقد كان رجلا مسالما كرس حياته كلها لأجل أسرته الصغيرة وعمله. ذهب أخى أحمدليطمئن على أبيه فقبضوا عليه وأفرجوا عن الأب متفادين حرجا أكبر بحرج أصغر متخذين من أبي ثم أخى رهائن الى حين تسليمي نفسي، وقد كان، سلمت نفسي ، أفرجوا عن أخى ، وولجت سجن مدنى الكبير مع كبار القادة السياسين وقتها( مجدى سليم المحامى/ جكنون المحامى/ عبد الله باشا المحامى/ المرحوم الدكتورمدنى أحمد عيسي/ مجموعة من نقابي مصانع النسيج اتذكر منهم داؤود وعثمان عبد القادر والحسن) وبالسجن نفسه كانت هناك مجموعة كبيرة من قيادات الحركة الإسلامية بمدنى اتذكر منهم الدمياطى فقط. كنت أصغر معتقل سياسي وسطهم والطالب الجامعى الوحيد وكنت وقتهافي السنة الثانية حقوق. وكان من حسن حظى ان اعتقالي كان في الأسبوع الأخير لنظام مايو، فصبيحة السادس من ابريل ونحن في السجن عزفت الموسيقي العسكرية وقطعت الاذاعة بثها وأعلن سوار الذهب استيلاء الجيش على السلطة ونجاح انتفاضة الشعب في السادس من ابريل 1985. وخرجنا من السجن محمولين على الأكتاف وبت نجما من نجوم الكمبو في تلك الأيام.
صلاح سر الختم علي
31-08-2014, 08:07 PM
القبح والجمال
من قصص الجامعة التى لا أنساها ذلك اليوم الذى وقف فيه الأب فيليب غبوش خطيبا في الجامعة فتحدث ببساطته تلك منافحا عن قومه ومتحدثا عن التهميش الذى تعرضوا له والأعمال التى لاتليق بكرامة الانسان التى أجبروا على ادائها حين قدموا من الريف الى المدينة، تذكرت عندها أولئك الذين احتلوا قسما كبيرا من المشهد في طفولتى، أولئك الراقصون عصرا في قلب المدينة الظالمة التى اجبرتهم على حمل قاذوراتها فوق رؤوسهم نهارا، أولئك الذين كنا نطاردهم ونحن صغار بكلمات بغيضة فيها عنصرية بغيضة لم تكن سنوات عمرنا وقتها تسمح لنا بفهمها مثل عبارة( سيد العفونة ..شطة بي ليمونة) كنا نصيح بتلك الجملة التى تفجر الغضب ونركض بعيدا كنوع من الشقاوة التى تميز الطفولة، أتذكر مهرجانهم الفريد عصرا كل يوم في (الدرادر) وهو اسم تلك البيوت الصغيرة المكونة من غرف صغيرة بلا أسوار وهى خليط من الطوب الأخضر وعشش الصفيح حيث كانوا يقيمون في المسافة الواقعة بين حى 114 والمزاد في مدنى، الدرادر كان اسما له معنى فهو يختصر قصة معاناة سكانه في مدينة لم تقدم لهم سوى المتاعب التى ابلغ حد الدردرة أى الشقاء الدائم ، لكنهم كانوا قادرين مع ذلك على الفرح وصناعته وتوزيعه لكل المدينة من تلك البقعة التى أريد لها صناعة البؤس فصنعت سعادة من حولها،تنطلق أصوات الصفافير ويخرجون لامعى الأجساد الأبنوسية وهم شبه عراة يسترون فقط مكان العورة بحزام ملون من الريش والسكسك والخرز الملون ومثله يكون هناك تاج ملون فوق الرؤوس التى يربط بعضهم فوقها قرون البقر، يرقصون الكمبلا بلا توقف ويرقصون رقصات أخرى لانعرفها وتنطلق مباريات المصارعة المسماة صراع النوبة ، جميلة ومشوقة وفاتنة والدائرة حول المتصارعين والراقصين تضيق وتتسع حتى مغيب الشمس حيث تغيب شمس ذلك المهرجان. عندما أذكر ذلك المهرجان أدرك انه كان في حقيقته صرخة احتجاج كبيرة على ظلم ذوى القربى لأهله، صرخة احتجاج استخدموا فيها موروثاتهم وهويتهم الثقافية ليقولوا لا كبيرة لتعامل المدينة وأهل الثقافة السائدة فيها معهم، كانت صرخة احتجاج مبكرة أعلى صوتا من كلمات الأب فيليب وبقية الخطباء، لكننى احتجت مرور كل تلك السنوات بين مشاهدتى لتلك الصرخة في وادى الانسانية وبين اللحظة التى سمعت فيها صرخة الأب فيليب لأعود بالذاكرة الى الوراء وأفهم حقيقة ماجرى وأدرك جوهر الأشياء، يومها بكيت سرا، وبحثت عن طريقة أقدم بها اعتذارا عن شقاوة الطفولة وعن مشاركتى في مهرجان القبح ضد نهر الجمال ، فلم أجد. كثيرة هى الصور المماثلة في حياتنا التى تحتاج الى اعادة النظر فيها والتعرف على حقيقتها وجوهرها من جديد بوعى جديد يتجاوز القبول بما هو كائن الى رحاب مايجب أن يكون.
صلاح سر الختم علي
02-09-2014, 10:50 AM
الجامعة: أركان وزوايا ووجوه
من ذكريات الجامعة جوانب متعددة، منها الموجع، ومنها المضحك، ومنها غير ذلك،في الجامعة تتقاطع وتتلاقى ثقافات السودان كلها، ولعل هذا هو الوجه المشرق لتمركز التعليم الجامعى في العاصمة دون غيرها، فالمرحلة الجامعية هى قمة الهرم التعليمى الذى يندفع من فوهته الطلاب الى نهر الحياة الصاخب وفي الغالب يتقلدون مواقع في العاصمة نفسها أو في المدن الكبيرة، لذلك فان قضاء فترة الجامعة في العاصمة وانصهار الطلاب بثقافاتهم المحلية المتباينة في نهر واحد هو الجامعة في قلب العاصمة القومية هو خير اعداد نفسي وعملى للطلاب للمراحل المقبلة في حياتهم، فضلا عن ذلك تذوب كثير من الأوهام المتبادلة بين الطلاب حول بعضهم البعض بسبب النشأة في بئيات متباينة في وطن شاسع مترامى الأطراف متعدد الثقافات والأعراق، اتذكر أيام الجامعة الآن فأجدها اجمل ايام حياتى على الأطلاق، في الجامعة التقيت بفرانسو ذلك (الشماس ) الجميل، لم يحل لون الخواجة عنده بينى وبينه ، ولم يقف اختلاف الدين حاجزا بيننا مطلقا،كان أقرب الاصدقاء لروحى، ليس لى وحدى ، بل لكل من عرفه من الزملاء والأصدقاء، كنت تقسم لو رأيته انه خواجا حل للتو بالوطن، ولكنه حين يبتسم ويتحدث بلهجته السودانية الموردابية بسبب علاقته الخاصة بحى الموردة تجد نفسك أمام رجل تصرخ عندما تراه صرخة أوسكار وايلد الشهيرة في روايته (أهمية ان تكون جادا) حين وصف بطله : (ان كل بوصة فيه تقول انه جندى) فتصرخ مسودنا للعبارة(كل انش في فرانسو يقول انه سودانى قلبة وعدلة.) وهو كذلك بالفعل، ولد ونشأ في مدينة سنار ونشأ وسط أهله الاقباط السودانيون حتى بات (شماسا) وولج الجامعة
وبات عنصرا نشطا في الحلبة السياسية في الجامعة وبقيت روحه المرحة الساخرة هى ماتميزه وتجعل مكان تواجده قبلة للجميع بسبب خفة دمه وشخصيته التى تصبغ الاجواء بالمرح والنكتة الحاضرة. فرانسو هذا اظنه اكثر معارفى تنقلا في العمل، فقد امتهن عدة مهن ووظائف منها موظف ومدير وكالة سفر وصحفى، ثم انتهى به المطاف مهاجرا خارج الوطن هجرة بدأت باسمرا وانتهت باستراليا حيث انقطعت أخباره. وفي الجامعة نفسها التقيت بالأخوين عادل وزهير فيصل من ابناء مدينة بربر، وهما طرفي نقيض، الأول شخصية عاصفة فهو خطيب سياسي مفوه ، ما أن ينطق الكلمات الأولى في ركن النقاش حتى يتوافد الناس زرافات ووحدانا ليستمعوا لهذا الشاب الذي يشبه أولاد لعاصمة الخرطوم بهندامه وطريقة لبسه ولكن لكنته وطريقته في الحديث بعامية أهل الشمال( قلنالم وقالولنا)_ يقصد قلنا لهم وقالوا لنا_ تقول أنه قادم من محطة القطار مباشرة الى ركن النقاش، ولعل هذه الطريقة الخاصة في التحدث هى التى أعطته جاذبية وختمته بطابع مميز وجعلت أفئدة الطلاب تهوى الى ركنه دوما.أما زهير فيصل فقد كان زهرة جميلة فواحة لاتتحدث الا عبر عبيرها وروحها السمحة، كان كثير الابتسام قليل الكلام، تزوج برفيقة دراسته ومشوار حياته اقبال وهى من بنات بيت المال وكانا عصفورين وديعين في ذلك الزمان اللاهث ، وقد تربصت الأقدار بزهير فرحل عن الدنيا باكرا بعد صراع باسل مع داء عضال. وكان أبوبكر محمد أبكر القادم من قلب دارفور بعد رحلة طويلة في رحاب العمل كمعلم جعلته يبدو أبا وقورا خفيض الصوت مهذبا في جداله السياسي الى حد انه يبدو عاجزا عن مجاراة خصومه حين يهاترونه فيظل متحدثا بأدب جم وصوت خفيض ومنطق رصين، كان الرجل زهرة أخرى في بستان الجامعة، كنت حين أنظر اليه اتساءل ببراءة في دواخلى( كيف عرف أبوبكر الطريق الى دروب السياسة؟ هل هناك طه آخر قتل في دارفور دفعه مقتله الى دروب السياسة مثلى؟!) ظل السؤال بداخلى حتى وجدت فرصة وسألت ابوبكر يوما حول سبب ولوجه عالم السياسة، ابتسم وحكى لى قصة طويلة لم اهتم بها كثيرا كونها لم تتطابق مع تصوراتى المسبقة، لكن ابوبكر كان شخصية غنية، عالما مشحونا كوتر قوس مشدود، انسان ثرى الدواخل،مسالم لأبعد الحدود، معتد برأيه بلا صلف ،معتدا بجذوره بشكل لافت، حكى لى قصته مع الحياة ، لماذا امتهن التدريس وكيف دخل الجامعة مع بعض من تلاميذه، كان رجلا عصاميا فريدا، لكنه كان يحكى حكايته كأنها قصة قرأها في كتاب مطالعة وليست قصة هو بطلها وضحيتها وقديسها، في ذلك الوقت لم اكن اعرف عن دارفور سوى اشياء عامة ومبهمة ومشوشة، ليتنى التقيتك يا ابوبكر بعد سياحتى الاجبارية في دارفور بعد ذلك بسنوات طويلة، فقد كان يمكن ن اعرفك بشكل أفضل وأن أحاورك بشكل أفضل، فليس ثمة شئ ابشع من ان تتعامل مع انسان عبر زجاج التصورات المسبقة المشوشة، كان هناك (سنين محمد صالح )وهو من ابناء الفاشر، وكان هو وأبوبكر ومحمد عبدالله محمدين والناظر اصدقاء، وقد صار سنين محاميا يشار اليه بالبنان هناك وقد قابلته هناك بعد سنوات طويلة حين جئت الفاشر قاضيا فوجدت نفس الرجل البشوش الصدوق يستقبلنى بحفاوة وترحاب كبير.أما محمدين فقد كان هو الآخر شخصية جميلة، رجل ودود لابعد الحدود، انسانى ، محب للحكايات والونسة وهو ضاحك دوما، عمل بالمحاماة بالخرطوم لفترة ثم ارتحل الى مدينة القضارف حيث صديقنا الضخم عمر الخليفة، ثم صابته سوسة الهجرة فهاجر خارج السودان، الي القاهرة في البدء، ثم هجرة أبعد الى أوربا حيث انقطعت اخباره. ومن الشخصيات الدرامية في الجامعة ذلك الحصان الأسمر الضاحك الذى عرفته قبل الجامعة دون ان يعرفنى ( محمد عبد الخالق) ود عطبرة الموهوب فقد كان بطلا لمسرحية اسمها الكرت الاحمر شارك بها في الدورة المدرسية في مدنى في مطلع الثمانينات قبل ولوجنا الجامعة، بقيت صورته في ذهنى حتى التقينا ثانية في الجامعة في ذات الكلية مع فارق عام بيننا فقد كان هو في الدفعة التى امامى، كان محمد شاعرا مجيدا يكتب الشعر بالفصحى والعامية بمستوى واحد، وكان يحفظ لكثير من الأشعار لشعراء ثوريين كبار في كل العالم، وكان قاصا مدهشا في سرده لكل حكاية مهما كانت تافهة وبسيطة، فالدرامى الكامن فيه كان قادرا على استخلاص مشاهد درامية مثيرة من كل شئ، كان يملك حيالا خصبا وروحا مبدعة وقدرة مذهلة على سرد الحكايات بشكل مثير يمسك بتلابيب السامعين ويسحرهم ويجعلهم متسمرين في أماكنهم طوال زمن السرد. ومحمد مثل غيره من ابناء عطبرة مغرم بعطبرة وسيرتها النضالية وحكايات المناضلين القدامى التى ترتفع بهم الى مقامات الأولياء، وقد عالج هذه الموضوعات في شعره الجميل بكثافة ومن زوايا متعددة. استقر محمد بمهنة التعليم قليلا واستقر بضاحية الحاج يوسف الى حين ، ثم هاجر الى القاهرة وامتهن الصحافة لفترة ثم هاجر الى الولايات المتحدة الامريكية حيث استقر به المقام وسكت صوت الشاعر فيه وغاب في زحام تلك المدن المفترسة.
أبا إيثار
02-09-2014, 11:42 AM
متابع وبصمت حتي لاأشوه ذلكم السرد الحياة .
دوماً محبتي والتجلّة أيها السامق .
صلاح سر الختم علي
02-09-2014, 11:49 AM
كما وعدتكم بنشر قصيدة الشاعر محمد محي الدين ( عشر لوحات للمدينة وهى تخرج من النهر) التى كتبت في ذات اسبوع اسشهاد الشهيد طه يوسف عبيد شهيد انتفاضة يناير 1982 في يوم الأحد الموافق العاشر من يناير 1982 حوالى الساعة العاشرة صباحا بمدينة ودمدنى قبالة الادارة المركزىة للكهرباء برصاص جندى يتبع للقوات المسلحة اطلق النار على مظاهرة سلمية قوامها الطلاب والمحامون والأطباء وباقي فئات المجتمع ضد نظام مايو.
عشر لوحات للمدينة و هي تخرج من النهر
الى روح الشهيد طه يوسف عبيد
(الشاعر:محمد محيي الدين) يناير 1982 مدينة مدنى
واحد
لوحة صباحية:
شجر البان استعاد الريح
وارتاح على رقصته نسوة
يغسلن الجلاليب،
الثياب الخضر..
أركان البيوت إنتفضت
بالارجل الراكضة
الطير إنتشى..
صفقت الزونيا
وضجت ساحة الجميز بالطير الصباحي..
الحمامات تبرجن
ورجرجن على الابراج ريشا ابيضا
والنهر أخفى لونه العادي..
أجيال من الاسماك ترمي ظلها المائي
تخضر و تحمر علي الشاطئ
عمال المجاري
بائعات الكسرة
الشماسة
النسوة
ارباب المعاشات اشتروا ظلا جديدا
في انتظار السفر
الباصات ملّت
جسد الأسفلت
ألقت
راكبيها
وتخلت
عن مواعيد لعشاق يعيشون الجوى فيها
كراسي الخشب المكسورة الايدي زمانا في مقاهي السوق
تشتاق لرواد يضئون الزوايا
والدراويش استفاقوا من نشيج الرعشة الاولي
على ايقاع بوب مارلي استفاقوا
لحظة أخري
من الظل الذي جاور جدران المراحيض العمومية
والنسوة يدخلن تباعا
والضريح انفتحت منه الشبابيك
يلملمن الزوارات
وأرداف التجار المرحليين على باب المديرية تهتز
وآلاف من الطير الصباحي على بوابة النيل تحيي
حمد النيل
ورايات الضياء الخضر شوشن إذاعات جنود الشعب
في الحامية الباسلة الطير انتشى
شجر البان استعاد
القبعات
الموسميات
استراحت
غابة النيم
علي وقع خطى الجند
رجال الأمن يوفون
نذور الحب
للتجار
والسادة
والقادة
والاطفال يوفون يذور الحب للأرض
البيوت انتفضت
بالأرجل الراكضة
الأردية الخضراء و الزرقاء
والكتب الحكايات
المجلات
الطباشير
المناديل
الزهور النور
والنسوة نشرن الجلاليب على الجدران
جهزن الملاءات
الحنوط
الكسرة الصامتة /الصامدة
الشايا
وعبَّأن الأناشيد
المواعيد
وأقلام الرصاص
الجرس الاول دقّ
الجرس الثاني دقّ
(الجرس الثالث ..
دقت الاجراس دقّ
جرس جرس
النحاسى
الاساسي
الخلاسي
الخلاصي
الرصاصي
الرصاص
القصيدة غير مكتملة هنا. لها بقية رائعة. هنا تجدونها كاملة بصوت الشاعر
http://www.4shared.com/mp3/P0uLjHJh/_____.html
صلاح سر الختم علي
02-09-2014, 07:33 PM
متابع وبصمت حتي لاأشوه ذلكم السرد الحياة .
دوماً محبتي والتجلّة أيها السامق .
شكرا ياصديقي على الاهتمام والمتابعة
صلاح سر الختم علي
02-09-2014, 08:02 PM
الجامعة : زوايا واركان ووجوه
ودود الابتسامة ( اسامة عثمان )
وجه باسم ونظرات واثقة وشخص تشعر منذ الوهلة الأولي بالامان في حضرته وانك تعرفه منذ الميلاد، جذوره تنحدر من محافظة المتمة فهو سليل بيت عريق هنالك وخاله كان رجل اعمال عصامي شهير احتل مساحة كبيرة من ذاكرة المجتمع السودانى ردحا من الزمن حين برزت مملكته الاقتصادية الصغيرة للوجود وتناقل الناس خيوط قصة نجاحه بمحبة في السبعينات كأنها قصة نجاح كل واحد منهم، ومن المؤثرات الكبيرة في شخصية أسامة كونه من ابناء امدرمان حيث حبا ونما ، في جامعة القاهرة الفرع عرفته وقابلته أول مرة، كان قد سبقنا في دخول الجامعة قبل عدة سنوات ولكنه زاملنا منذ بداية دخولنا وحتى تخرجنا كأنه ولج الجامعة معنا بسبب كونه درس كليتى التجارة والقانون في ذات الجامعة وكان من ناشطى الجبهة الديمقراطية غير المعروفين الا للمقربين منه ، فهو شخصية لاتحب الظهور ولا الأضواء، وجدت نفسي ذات نهار أمام رجل مبتسم ابتسامة عريضة صافحنى بمودة وحيانى تحية صديق قديم وهو ينادينى باسمي كاملا كعادته التى لم يتركها قط، كنت قد سمعت عنه كثيرا من أصدقاءمشتركين كانت الابتسامة تعلو وجوههم كلما ذكروا الأسم ( اسامة الظافر) وهو اسم الشهرة الذي عرفناه به، عرفت حين التقيته سبب الابتسام فقد بت كلما تذكرته علت الابتسامة وجهى، كان شخصا لطيفا ومحبا للمرح بشكل ملفت ، كل حكاية عنده تبدأ بضحكة وتنتهى بضحكة أخري وكل شخص عنده موضوع حكايات مرحة بسيطة ولكنها تستدعى الف ابتسامة، وحين يتحدث تشعر ان صدره امتلأ بالهواء وحين يضحك تشعر ان غيمة سارة قد احتلت المكان،كان له فضل انتشار مجموعة من الالقاب علي عدد كبير من الاصدقاء فهو صاحب مصطلح ولقب ( العنقريب) الذي وزعناه بكرم حاتمى علي مجموعة كبيرة من الاصدقاء ، كانت البداية عنده حين كان يقول عن الصديق محجوب اسناوي( محجوب العنقريب) ثم اتسع اللقب فشمل كل صديق وبات من الشائع ان يسبق اسم كل صديق لقب العنقريب ومن اكثر من التصق بهم اللقب الاخ باشا من اولاد عطبرة حتى ظن الكثيرين انه لقب حصري له، وكان هو من اطلق لقب (سمبو) علي الاخ حيدر الذي طغى علي اسمه لقب آخر هو( حيدر الشرعي) وكان السبب انقسام حدث في تنظيم الجبهة الديمقراطية وكان هناك فريق يطلق عليه القيادة الشرعية وفريق يسمى المنقسمين وفي هذا الجو اطلق اللقب علي (حيدر) ، وكان هناك لقب آخر الصق بالاخ (علي البوب) فبتنا حتى يومنا هذا لانعرف له اسما سواه ( علي البوب) وكان اسامة هو مصدر اللقب أما (علي الوجيه) فلا أدري ان كان مبتكر اللقب هو أم الاخ فرانسوا ، لكن المؤكد ان لقب القسيس الذي الصق بفرانسوا كان مصدره اسامة وتناقله الناس عنه حتى بات شارة رسمية للقس حتى اختفي بعد هجرته خارج البلاد، اسامة كون من الوسامة واللطف يستقبل الناس بحكايات لاتنتهى فهو مخزن حكايات وأسرار ولكنه ليس ثرثارا، بل في طبعه ميل للتواصل ولديه دوما حكاية مشوقة في كل موضوع يفتح. عرفته دائما عفيفا عن تلطيخ أو تشويه صورة الآخرين، فهو يلوذ بالصمت حين يصير الحوار فيه ملمح أو شئ من ذلك. ربما لهذا السبب ظل دوما موضع احترام ومحبة الجميع. وكان زواجه هو وقرينته السيدة غادة عوض شوقي حدثا مهما في حياتنا فقد عرفناه وعرفناها وتمنيناها له وتمنيناه لها فقد كنا شهودا علي أيام التفتح الأولي لتلك الشجرة التي ربطت بين جامعتين كان تربط بين شبابهما روابط ثقافية وسياسية واجتماعية عديدة فجاء زواج بنت جامعة الخرطوم بهذا الفراعي الجميل تتويجا لعلاقات جميلة بين ابناء الجامعتين في ذلك الزمان. واسامة رياضي أصيل عرفته مدينة بورتسودان وهلالها في النصف الاخير من الثمانينات وحتى التسعينات عضوا نشطا بادارة نادي هلال الساحل وقمرا من اقماره. وفي منتصف التسعينات التقيت اسامة في مسقط رأسه المتمة حيث كنت قاضيها وحل بها لحضور مناسبة زواج هنالك فالتقينا واستعدنا ذكريات الجامعة وكنت قبل ذلك قد حللت ضيفا بمنزله ببورتسودان في عام 1991 حين حللت هناك في رحلة عمل عاجلة. وهكذا التقينا في مدن الوطن الجميلة( الخرطوم ثم بورتسودان ثم المتمة) . ومرة أخري التقينا في بورتسودان حين جئتها قاضيا في العام 2006 ،وذات يوم جئت امدرمان لعزاء فوجدت العزاء ملاصقا لمنزل اسرة اسامة وكان العزاء يخص أهل زوجتى. وهكذا السودان تجد فيه الف خيط يربطك بمن تعرف ومن تحب.
صلاح سر الختم علي
03-09-2014, 08:53 AM
قصيدة الشاعر الكبير محمد محى الدين ابن مدنى الخضراء ( عشر لوحات للمدينة وهى تخرج من النهر) قصيدة خالدة وملحمىة بكل ماتعنى الكلمة من معنى فقد وثقت القصيدة ليوم خالد في اريخ مدينة ودمدنى والسودان وهو العاشر من يناير 1982 يوم الهبة الثورية لأهل ودمدنى في وجه نظام النميري المستبد فيما عرف بمظاهرات السكر التى هزت نظام مايو وكانت سببا رئيسيا من اسباب ثورة الشعب المجيدة في ابريل 1985، تصور القصيدة غضب مدينة ودمدنى وخروجها على بكرة ابيها في صبيحة العاشر من يناير 1982 في مسيرة عملاقة كانت تتويجا لعدة مظاهرات سبقتها خلال شهر ديسمبر 1981 ، في العاشر من يناير تجمع الأطباء والمعلمون والمحامون والعمال والطلاب جوار السينما الوطنية وخرجوا في موكب مهيب عبر شارع الجمهورية صوب تجمعات العمال الكبيرة في الادارة المركزية للكهرباء والمياه والمؤسسة الفرعية للخفريات، وفي المنطقة الواقعة بين الادارة المركزية للكهرباء وكلىة المعلمات واجهت السلطة المتظاهرين العزل بالرصاص الحى وسقط طه يوسف عبيد الطالب وقتها بمدرسة السنى الثانوية شهيدا مضرجا بدمه الطاهر الذى رشح في ملابسنا نحن رفاقه، وعند التشييع تعرض موكب التشييع لأطلاق النار عليه مجددا واصيب الشهيد مجددا، يصور الشاعر المبدع الحدث صويرا يقارب الحقيقة كثيرا وتحتشد فيه صور الشهداء والشعراء وكبار رجال الطرق الصوفية في مدنى وحتى سميرة أحدى مجانين المدينة كانت حاضرة فتبدو المدينة بحاضرها ةماضيها وشعراءها وشهدائها وشهداء السودان كلهم سائرون في المظاهرة التى توج فيها طه شهيدا، هى قصيدة رائعة وكان صاحبها شجاعا وهو يقرأها في تلك الايام ببسالة مماثلة لبسالة الشهيد. ادعوكم جميعا للقراءة والاستماع. ويمكنكم مراجعة شهادتى عن اسشهاد طه فقد كنت شاهد عيان لكل ماجرى وكتبته هنا في هذا البوست وفي مواقع أخرى.
عشر لوحات للمدينة وهى تخرج من النهر
إلى روح الشهيد طه يوسف عبيد
الشاعر / محمد محي الدين
قصيدة انتفاضة العاشر من يناير 1982 ( ودمدنى)
تأبين الشهيد (طه يوسف عبيد) شهيد انتفاضة يناير
1
لوحة صباحية
شجر البان استعاد الريح
وارتاح على رقصته النسوة
يغسلن الجلابيب الثياب الخضر
اركان البيوت انتفضت
بالأرجل الراكضة الطير انتشي
صفقت الزونيا
وضجت ساحة الجميز بالطير الصباحى
الحمامات تبرجن ورجرن على الابراج ريشاً أبيضاً
والنهر اخفى لونه العادى
اجيال من الاسماك ترمى ظلها المائي
تخضر وتحمر
على الشاطئ عمال المجارى
بائعات الكسرة الشماسة النسوة
ارباب المعاشات
في انتظار السفر الباصات ملت جسد الاسفلت
القت راكبيها
وتخلت عن مواعيد لعشاق يعيشون الجوى فيها
كراسي الخشب المكسورة الأيدى زماناً في مقاهى السوق
تشتاق لرواد يضيئون الزوايا
والدراويش استفادوا من نشيج الرعشة الأولى
على ايقاع بوب مارلي
استفادوا
لحظة اخرى من الظل الذى جاور جدران المراحيض العمومىة
والنسوة يدخلن تباعا والضريح انفتحت منه الشبابيك يلملمن الزورات
وارداف التجار المرحليون على باب المديرية تهتز
وآلاف من الطير الصباحى على بوابة النيل تحى حمد النيل
ورايات الضياء الخضر شوشن اذاعات جنود الشعب
في الحامية الباسلة
الطير انتشي
شجر البان استعاد القبعات الموسميات
استراحت غابة النيم على وقع خطى الجند
رجال الامن يوفون نذور الحب للتجار والسادة والقادة
والأطفال يوفون نذور الحب للأرض
البيوت انتفضت بالأرجل الراكضة
الاردية الخضراء والزرقاء والكتب الحكايات المجلات الطباشير المناديل الزهور النور
والنسوة نشرن الجلاليب على الجدران
جهزن الملاءات
الحنوط
الكسرة الصامتة /الصامدة
الشايا
وعبَّأن الأناشيد
المواعيد
وأقلام الرصاص
الجرس الاول دقّ
الجرس الثاني دقّ
(الجرس الثالث ..
دقت الاجراس دقّ
جرس جرس
النحاسى
الاساسي
الخلاسي
الخلاصي
الرصاصي
الرصاص
2
لوحة بالطباشير والحبر
الشبابيك مناديل يلوحن
مناديل بلون العشب والحب
الدروب انتظمت وردا جديدا
لبست لونا بلون الجرأة
اختارت صباحا يلبس الاردية الزرقاء والصبية
اطياف المراجيح ندى الخبز المحابر
والمناديل مزامير يزغردن
عصافير بصوت فجعته صعقة الرعب
العصافير تراجعن واعلن الهتاف المر
نشرن المناديل على الابواب
ثبتن المزامير على قلب الحناجر
والمزامير عصافير اذابت بحة الجوع وآهات الشبابيك قليلا
واضاءت لغة الأسفلت بالأحمر
والأحمر لايكذب يأتى
في سراويل من الدم سيأتى
راجلا يسبق الاف الخناجر
والعصافير طباشير رسمن العالم الرائع مرات على الاسفلت
بالحبر الصباحى تبادلن المناقير
رسمن العالم الثالث والخامس والسابع في صمت وأغلقن الدفاتر.
3
لوحة لم تكتمل بريشة طه يوسف عبيد
لم تتم
كان (عبد الحفيظ )يصافح اطفال ود ازرق الرائعين
ويشرح اسراره
كيف اعلن سر الرصاصة حل وثاق البنادق
وضح لغز العلاقة بين الدم المتفجر والموت والكسرة العائلية والقبلة الدافئة
لم تتم
شرد اللون والريشة انتفضت
رابطت في الشوارع
و(القرشي) يدخل الآن مدرسة النهر
ينشر كراسة تتوزع فيها المناخات
تلمس ريشته مدن الجوع والبلد المستباحة
تلمس كل القرى السكن الموت فيها
القرى الحل فيها العذاب وشردت الريح اطفالها
الصبية انتشروا يكتبون النشيد وكراسة الوطن المتوهج
والقرشي يصافح عبد الحفيظ ويرتحلان على فرس من دم
أبيض
أخضر
أحمر
4
لوحة رسمية
لا إله سوى البندقية
والحاكمية للشرطة العسكرية
والأمر للأمن والنهى للجند
ان الطمأنينة اليوم سائدة أيها الناس
فاعتدلوا وقفوا للصلاة الأخيرة
إنا نشاوركم بدخان القنابل
ثم نخبركم بحديث الزلازل
ثم نبشركم بدم في المنازل
ثم نفاجئكم بالرصاص
.
5
لوحة شعبية
يا يا با يا السنى
السنى يا السنى
يا البلبل الفنى
يا المهدى اضمنى
هدر الحديد الحديد
والزند فوق الزناد
يايابا يا السنى
ثوب الحداد الجديد
ثوب البلاد البلاد
يا يابايا السنى
رجفت يد الجلاد حين استمر النشيد
يا يابا يا السني
ويستمر النشيد
ويستمر الشهيد
6
لوحة سيريالية
خرجت الاسماك الذهبية أولا من النهر
واطلت النجوم التى كانت تختفى في الماء دائما
ونفض النهر قميصه العادى
وارتدى قميصا احمرا
وعمامة بيضاء
ترك شارع البلدية واخترق السوق
انتبه عمال المجارى والمادح وبائعة الليمون
ومن قبة (ودمدنى السنى) خرج الدراويش والكهول
والبنات اسدلن ضفائرهن على الاسفلت
رواد المقاهى تركوا احذيتهم تحت الكراسي المكسورة الأيدى
(حمد النيل )كان في المقدمة يحمل رايته الخضراء
(العليش) ترك فروته االرمادية امام (الكونتيننتال)
وفاطمة القروية كانت تهرول بين (السوق الجديد )و(كلية المعلمات)
كان الاسفلت يبدو جديدا وأنيقا
وقف النهر لحظة ليستعيد انفاسه
صعد الشيخ (عبد السيد) و(تاج الدين)
كان (الناطق )يفتح شبابيك النهر
ويحمل (نوبة) من جلد الدمور
وجريدة لم يحن وقت قراءتها بعد
انفرد (عوض الجيد) بالغناء
وانفردت (سميرة )بالرقص
واطلقت فاطمة المدنية عشرين زغرودة
انفجر (تاج الدين) بالضحك المتواصل
صفقت الامواج وطار الزبد الابيض
انتتبه (حمد النيل) اولا ورفع رايته الخضراء
تغير لونها قليلا
انتبه الرجال تحت الراية
اصلح (على عبد اللطيف) عمامته وشمر عن ساعديه
وتحسس (معاوية عبد الحى) خاتم الخطوبة حول اصبعه وابتسم
كانت فاطمة في هذه الدقيقة بالذات
تقف بين النهر الراجل والورشة
ورأت كل شئ:
رجال الحامية ،والعلم الامريكى
كبار تجار المدينة،
وموظفات البنك الدولى، ورجال الامن ،
والرشاشات محشوة بالحبر والسكر والرغيف،
اطلقت زغرودة اخرى
كان النهر يعلو
وطه يوسف عبيد محمولا علي مياه النهر الرائعة
يرتدى قميصا من السودان
وهلالا على جبهته من البرق الذى سوف يأتى
كان (لوركا) يجاذبه اطراف الحديث
و(خليل فرح )يترنم بالمقطع الأخير من عزة
و(غسان كنفانى) يتحدث عن اللون الأساسي في لوحة طه الأخيرة
انهمر الرصاص فجأة
وسقط طه يوسف عبيد أولا
سقط للمرة الثانية
تمزقت الصور الملونة
وخرجت المدينة من النهر عارية
تجفف ثقوب الرصاص على حبل الشمس الغاربة.
7
الوان
(ا)
اسودا كان لون النهار
وكانت خيوط الأشعة سوداء مصبوغة بالدخان
خطوط الجرائد سوداء
صوت المذيع يندد بالشغب الموسمى
ويعلن للشعب باسم قوى الشعب ان الاشارة خضراء ان الطمانينة سائدة
لا إله سوى القبعات.
ب
اخضرا كان لون الشجر
ج
ازرقا كان لون النهر
10
لوحة حمراء تماما
اخضرا كان لون الحقول
ولون الغصون واشجارها والعصافير
كانت مياه الجداول زرقاء
والنهر غير أزيائه
الحقل غير ازيائه
والمدارس والمصنع الدور
والأحمر الآن
إن الشوارع غارقة في الدم الأحمر
والأحمر لايكذب يأتى
في سراويل من الدم يأتى
راجلا يسبق ألاف الخناجر
ودمدنى يناير 1982.
يمكنكم سماع القصيدة بصوت الشاعر كما سجلت في عام 1982 هنا
http://www.4shared.com/mp3/P0uLjHJh/_____.html
صلاح سر الختم علي
09-09-2014, 11:35 PM
في الحياة دروس مجانية كثيرة يقدمها الناس لك دون ان تنتبه في الغالب، وهناك دروس أخرى باهظة الثمن، دروس تدفع فيها من روحك ودمك وعافيتك ودموعك الكثير سرا وعلنا،فبعض الناس يعيش حياته بيسر مريب، ليس لأنه ميسور الحال، بل لأن نفسه كبيرة وصبره على المكاره يجعله يبدو في الجنة وهو في النار، لاتفارق الابتسامة شفتيه، لايتذمر ولا يشكو، ولايضيق بالناس ولا بحياته ولو كان نصيبه شوكا على طول الطريق،اتذكر شرطيا كان يعمل متحريا بشرطة محافظة المتمة غرب شندى أبان عملى هناك قاضيا مقيما وقائما باعباء النيابة العامة، كان ذلك الرجل يمثل أمامى يوميا تقريبا بحكم عمله وعملى وكلما حييته وسألته عن حاله قال وهو هاش باش كمن ملك الدنيا ومافيها( الحمد لله، والله مبسوط بسطاً يقسموا منو للجيران) وكنت أعرف أنه قد يكون لحظتها لايملك قوت يومه، لكن الرجل كان مؤمنا وشاكرا حامدا دوما، مرت سنوات عديدة ولازلت أتذكر ذلك الرجل الباسم دوما بوجهه الوضئ وهو يحمد الله في سره وجهره، وكل ماقابلت بعضا من معارفي وأصدقائي ميسورى الحال وسمعت شكواهم الدائمة وتذمرهم وهم سابحون في النعيم تذكرت( على النعمان) ذلك الجاويش النبيل الذى يقطع النهر يوميا من شندى الى المتمة وبالعكس بالبنطون وليس في حيبه شروى نقير لكن حمده وشكره لله وابتسامته تساوى ابتسامة من ملك الدنيا ومافيها،وقلت لنفسى : ترى ماذا يفعل مثل هذا الرجل لو أنه بلغ مابلغه أولئك من خير عميم وتوفيق؟!، وماذا كان أولئك فاعلون لو أنهم كتب عليهم شظف عيش مثل ذلك الذى عاشه هذا الشاكر الحامد؟!
وفي الحياة يقابلك نوع من الناس مثل العقارب لايسعدوا الاب الحاق الأذى بالاخرين، ولايتذوقون طعم الحياة الا إذا ازاحوا من طريقهم آخرون يستحقون الانحناء لهم اجلالا واحتراما،هم يخافون دوما أن يسطع نجم بجوارهم فيلقي بهم في بحر الظلمات كما يظنون، ثقتهم بنفسهم قليلة وخوفهم ممن يفوقهم مقدرة أكثر من خوفهم من الله والعياذ بالله،لذلك لايهدأ لهم بال إلا بإبعاد كل من يظنونه منافسا لهم ، وهم دوما في حالة تملق لمن يظنونهم يملكون زمام الأمر وفي حالة إذلال لمن يظنونهم دونهم منزلة،هولاء يسعون بالنميمة والوشاية والأكاذيب لتشويه صورة الآخرين، ويرتدون وجوها ليست لهم ويدعون فضائلا ليست فيهم، ويلصقون بالاخرين مذمة مزورة ومزيفة وباطلة وهم يعلمون، لكنهم على الكذب مفطورين وعلى النفاق متدربين، رقابهم محنية مذلة لمن يتوسمون فيه القوة، وانيابهم تقطر دما من دم ضحاياهم، ذممهم واسعة، السنتهم بذئية، عيونهم متلصصة،وأياديهم في جيوب وخزائن الآخرين دوما، لايشبعون، ولايندمون، ولايشعرون بعذاب الآخرين.وهم مفضوحون لكنهم آخر من يعلمون.
ياسر عمر الامين
10-09-2014, 11:46 AM
جئتها بدموع صامتة وخرجت منها بعد أربع سنوات بدموع علنية صادقة، بكيت من القدوم اليها سرا ، فابكتنى عليها علناً
كلما دلفت الى هذا البوست للاستمتاع بهذه السيرة الذاتية التى تكتب بماء الذهب تستوقفنى عبارات "قليلة" المبنى كثيرة المعنى تختصر كثير من الكلام الذى يمكن أن يكتب لتوضيح بعض الذى يراد له أن يصل القارئ...وهنا تصبح المتعة معرفة وتعلم منك استاذنا الكاتب الكبير صلاح سر الختم...
أبا إيثار
10-09-2014, 12:22 PM
أستاذي القامة والذي أحس بآهة البركان تخرج من حرفه الصادق
أعلم بأنك تسجّل في حروف الوعد صبراً يستشف مواقف من أتوا
بصدق كلماتك تخرج المكلوم من ظلمات المقنّع والهموم ..
هنا تجسيد لحالات حلم تودّع الإبداع فيهم ؟؟
ليتهم يكونوا في غمضة الميعاد حلم ؟؟
في امتداد كلم المطروح ماعاد يحتمل الضياع
وحتما في عميق النفس هم في دنيانا يراع مانعشق والتمني
وأنهم ذلك الإيمان الذي يسكننا لبريق ذلكم الطموح السامي .
كنت هنا وكان الفرح أن يلاقي حرفي حرفك .
صلاح سر الختم علي
11-09-2014, 04:17 AM
ياصديقي
الكريم أبا ايثار
شرفتنى كثيرا حروفك المضيئة هنا
صلاح سر الختم علي
11-09-2014, 04:21 AM
كلما دلفت الى هذا البوست للاستمتاع بهذه السيرة الذاتية التى تكتب بماء الذهب تستوقفنى عبارات "قليلة" المبنى كثيرة المعنى تختصر كثير من الكلام الذى يمكن أن يكتب لتوضيح بعض الذى يراد له أن يصل القارئ...وهنا تصبح المتعة معرفة وتعلم منك استاذنا الكاتب الكبير صلاح سر الختم...
الحبيب المشرف المتميز حقا اخى ياسر عمر
ليس هناك أحب الى نفس الكاتب من أن تصادف كلماته عقلا صافيا وقلبا واسعا
فتتجمل تحت وهج جميل
شكرا ياصاحب الوهج
صلاح سر الختم علي
11-09-2014, 11:05 PM
رحيل المجرات
كان رحيلهما فاجعا وقاسيا وصاعقة نزلت على من عرفوهما بلا مقدمات، كان رحيلا استثنائيا ودراميا،كان هشام محمد الحاج المولود بمدنى والمقيم بالخرطوم شابا فارع الطول عريض المنكبين ممتلئ الجسم نوعا ما لكنه رياضي رشيق صبوح الوجه لاتفارق الابتسامة شفتيه أبدا، والضحكة حاضرة دوما حيث يكون، فقد كان مرحا مهزارا خفيف الدم متعدد الحكايات، لايعرف الوجوم أو العبوس طريقا اليه،وكان عبد العزيز عمر دوسة المولود بالفاشر والمقيم بحى عريق من أحيائها والمنحدر من قبيلة الزغاوة من بيت كبير من بيوتها، شابا أبنوسيا وسيما متوسط الطول أنيقا بصورة لافتة باسما مثل نهر يغازل صحراء قاحلة فيحيلها خضرة ناعمة وحياة ، كان مثل صديقه محبا للضحك والنكتة والحكايات والقرقراب وكرة القدم و(العضة السمحة)،كانا بحق (فولة واتقسمت) كما يقول السودانيون، وكانا في ذلك الزمان زينة القضاة في الفاشر حيث التقينا،كنا مجموعة من القضاة قذفت بها الأقدار الى شمال دارفور، جئنا متوجسين ومثقلين بقصص خيالية عن النهب المسلح وعدم الاستقرار وجدنا بلادا تكسوها الخضرة على امتداد البصر ، ووجوها سودانية وسيمة عامرة بالطيبة والمحبة، ووجدنا مجتمع قضاة متماسك جدا تبدى تماسكه في ذلك التقليد الفريد الذى يقضى بان يقوم القضاة كلهم باستتقبال القادم الجديد بالمطار على بكرة أبيهم، نزلت من الطائرة القادمة من الخرطوم فوجدت وجوها أعرف بعضها مصطفة في المدرج بصحبة رجل ضخم الجثة أخضر اللون(بالتعبير السودانى والمقصود أسود البشرة) واسع العينين يلبس جلبية سودانية ناصعة ومركوبا من جلد النمر، كان ذلك هو رئيس الجهاز القضائي آنذاك(سبتمبر1999) مولانا طلحة حسن طلحة، وكان بمعيته جميع القضاة، كان شيئا مدهشا وجميلا فتح القلب ضلفتين على دارفور، كان هشام وعمر في طليعة المستقبلين، كنت أعرف هشام بحكم اننا ابناء مدنى وبحكم علاقتى باخيه الأكبر ساطع محمد الحاج، أما دوسة فقد كان ذلك لقائي الأول به، سرعان ماذبت في مجتمع الفاشر الجميل،كانت بيوت لقضاة مؤثثة وتقع في حى المطار وحى الكرانك،كانت اقامتى الأولى بمنزل بحى المطار مواجه لفضاء فسيح مغطى بعشب أخضر احتله الان معسكر ابو شوك ، كان هشام ودوسة يقيما بالميز بحى الكرانك فقد كانا عزابا وقتها، كان هشام يقود لاندروفر عتيق خاص بالميز كان يسميه ( الككو) وكان دوسة يقود عربة من ذلك النوع الذى كنا نسميه (اللاند كرور) وهى لاندكروزر قديم موديل السبعينات هي فى الأصل شاحنة صغيرة للنقل وليس للركاب لكن لطبيعة المنطقة ووجود ترس قوة بها باتت سيارة خاصة مخصصة للقضاة، كانا في أغلب الاحيان يتنقلان سوية بواحدة من العربتين ، وكان اجمل برامج الفاشر ذلك الدافورى لفريق الصنداى المكون من القضاة والمحامين وووكلاء النيابة وبعض ضباط الشرطة وموظفى المحاكم والاراضي، كان الدافورى يتم عصرا بملعب يقع بحى المطار جوار الهلال الأحمر السودانى وامام منازل القضاة، كان دوسة وهشام نجمين لامعين محبين لكرة القدم ويجيدانها، وكانت روحهما المرحة تطغى على الجميع فتضفي على التمرين روحا مرحة ساخرة، وعن طريقهما عرفت شخصية من أهم شخصيات الفاشر وهى فاطنة كتم بائعة الخضار الشهيرة بالفاشر فقد كانا زبونين دائمين لها وعن طريقهما عرف كل القضاة فاطنة كتم وطماطمها الجميل وخضارها المميز وروحها المرحة،دار الزمان دورة فتزوج الصديقان في توقيت متقارب، ودار الزمان ورزق كل منهما بمولود يتيم لم يكن من حظه ان يحظى بقربهما، ادركت المنية عمر دوسة بغتة وهو ينزل من سيارته الأتوس السوداء قادما من سوق الفاشر الى البيت حيث كان يستقبل ضيوفا على الغداء، غشاه ألم في الصدر، ثم رحيل مفاجئ لم يمهله للوصول للمستشفى، في الخرطوم كان هشام يشكو ألما بالقلب، وكان ينتظر اكمال اجراءات نقله الى الخارج للعلاج بلندن، بلغه نبأ رحيل رفيقه دوسة فبكى، وبعد أقل من أربعة أيام لحق هشام بصديقه على عجل كأنه يقول له بعدك الحياة عدم ياصديقي، اختلطت دموع الخرطوم بدموع الفاشر وغيب الموت قمرين لم يبقيا في سمائنا الشاحبة طويلا،رحلا كمجرة بعيدة غشيت دنيانا فلم يعجبها حالنا المائل فولت هاربة من القبح.رحم الله هشام وعمر وأسكنهما فسيح جناته.
ود الجعلي
12-09-2014, 01:05 AM
معتصم سوداني الأهلاوي الجميل
الاستاذ المحامي الراحل معتصم حسن ابراهيم الشهير ب (معتصم سوداني) رحل عن دنيانا وغيبه الموت نسأل الله له الرحمة
كان وجها جميلا من وجوه المدينة : رياضيا لايجاريه أحد في عشقه لسيد الاتيام اهلي مدني عرفته دار الرياضة حاضرا دائما مشجعا صعب المراس لمحبوبه عالي الصوت وعالي التهذيب صاحب طرفة وابتسامة دائمة وصوت عال يميزه لاعبو الاهلي جيدا كما يميزه رواد دار الرياضة مدني وهو عنيد في تشجيعه وفي حبه لهذا اللاعب وعدم استلطافه لذلك
ويحكي عنه الاصدقاء الطرائف منها انه كان دائم الانتقاد للاعب الاهلي الفذ الجيلي الله جابو والمطالبة بتغييره حتي انه بات يري في كل من يضيع هدفا الجيلي ويهتف فيه حتي انه مرة طالب باستبداله وهو غير مشارك.. ومع ذلك فهو وفي للاهلي ولاعبيه لطيف جدا معهم لايأخذون عليه شئيالمعرفتهم طبعه وغيرته، كان محاميا نشطا موفقا لطيف المعشر كثير الادب في تعامله مع زملاء المهنة والقضاة ورجال الشرطة والخصوم وصاحب سيرة مهنية لم تشبها شائبة...لم يعرف عنه ميل للخصومة او دخول في صراعات او معارك الا ما اقتضاه عمله كمحام ووفقا لاخلاق المهنة وتقاليدها التي تشربها من استاذه العالم سيف الدولة خضر عمر.. كان معتصم شهما كريما محبا للاخرين ودودا وكان بيت اسرته بشندي فوق التي يسميها محبة شندوق قبلة للجميع كل جمعة للتسامر والونسة وله اصدقاء دائمون هم كوارة ود المأذون الذي صار مأذونا ونجيب الذي يعمل بالمطبعة الحكومية وقام بتغليف معظم كتب محامي مدني والاستاذ فتح العليم محجوب والاستاذ صديق عيدروس واخرين سقطوا من الذاكرة وينحدر معتصم من اسرة جعلية من شندي من حي شندي فوق وقندتو حيث جذور والده ولكنه ارتبط بمدني ارتباطا قويا بحكم الميلاد والنشأة. له الرحمة ولاهله واصدقائه الصبر والسلوان. اللهم ارحمه واجعل قبره روضة من رياض الجنة.
يا استاذ صلاح
معتصم سوداني هو جارنا بشندي فوق وتربطنا علاقات جوار طويلة جدا وكان قمة في الاخلاق العالية والذوق الرفيع وكنا نحن اطفال نراه يوميا جالسا امام منزله ومعه اصدقائه يتسامرون وكان هذا منظرا يوميا مالوفا وكان صاحب نكتة ودائم الابتسامة
ولك الشكر استاذنا
صلاح سر الختم علي
12-09-2014, 07:52 AM
يا استاذ صلاح
معتصم سوداني هو جارنا بشندي فوق وتربطنا علاقات جوار طويلة جدا وكان قمة في الاخلاق العالية والذوق الرفيع وكنا نحن اطفال نراه يوميا جالسا امام منزله ومعه اصدقائه يتسامرون وكان هذا منظرا يوميا مالوفا وكان صاحب نكتة ودائم الابتسامة
ولك الشكر استاذنا
رحمه الله كان علما من أعلام ودمدنى
شهما كريما طيب القلب محبا للسمر والطرفة
شكرا ود الجعلى على تفاعلك
صلاح سر الختم علي
15-09-2014, 04:49 AM
كان هناك تنقل فريد في الأمكنة ظلت عائلتى تمارسه بانتظام طوال حقبتى السبعينات والثمانينات، فقد كنا نسافر سنويا الى مسقط رأس الوالدين ( أبوهشيم) في العطلة المدرسية في رحلة شيقة بالقطار الذى كان في ذلك الزمان مصنعا للجمال ومكانا لتلاقح أهل السودان، قطار السافل( الشمال) هو عالم فريد كان من حظنا أننا عشنا زمانه،كنا نقطن مدينة ودمدنى في قلب الجزيرة، نسافر منها الى الخرطوم بالبصات السفرية في رحلة تستغرق ثلاث أو أربع ساعات، نبيت في الخرطوم عند أحد الأقارب ، ثم نتوجه الى محطة السكة حديد بالخرطوم في الصباح الباكر والخرطوم العاصمة لاتزال نائمة في خدرها أو تتثاءب على مهل، وأتذكر ان قريبنا سائق التاكسي كان يتعمد المرور أمام القصر الجمهورى ، فكنا نستمتع برؤية أولئك الجنود الثابتين في أماكنهم كالجدران وذلك الريش فوق رؤوسهم يثير دهشتنا ويخلق رهبة في الدواخل،ثم ندلف الى المحطة، كان القطار منضبطا مثل الساعة، وهما في الحقيقة قطاران ( الأكسبريس) ونهاية رحلته هى مدينة وادى حلفا، وقطار (كريمة) ونهاية رحلته مدينة كريمة، وكانت ساعة انطلاق كل قطار من محطة الخرطوم محددة ومعروفة وكذلك اليوم من الأسبوع، حين نجئ المحطة نجدها غارقة في الضجيج، زحمة في موقف السيارات أمام المحطة، زحمة في المحطة التى تفور وتموج بالحركة، زحمة في اكشاك الصحف بالمحطة ، زحمة حول اكشاك الشاي السادة وشاي اللبن ،خليط من اللهجات والسحنات،القطارات الواقفة بالمحطة مزدحمة والرصيف مزدحم.كان نصيبنا في القطار هو عربات الدرجة الثانية دوما، وكان السفر بتصاريح السفر وهى أوراق تصدر باتفاقيات بين مصلحة السكة حديد والمصالح الحكومية المختلفة تخول العاملين وأسرهم السفر بالقطار من والى جذورهم بدرجة معينة بالقطار حسب الوضع الوظيفي، فهناك من يركب عربات النوم الفاخرة ومن يركب الدرجة الأولى أو الثانية، أما الثالثة فكانت متاحة للجميع بتذاكر أقل قيمة، لكن السفر بالقطار في أي درجة كان متعة لاتدانيها متعة، حتى من كانوا يعتلون سطح القطار ويسمون( المسطحين) لتفادى دفع التذكرة كانوا يستمتعون بالرحلة وبسطوحهم الخطير،كانت درجة نظافة القطار من الداخل تتناسب مع الدرجة، فكلما كانت الدرجة أغلى ، كانت نسبة النظافة في العربة أعلى، والعكس صحيح،أجمل لحظات السفر هى اللحظة الأولى التى يطلق فيها القطار صافرته إيذانا برحيله، ثم يرتج وينتر نترة قوية ، ثم يمسي الصوت رتيبا على القضبان، وكلما أوغل في سيره الى الأمام زاد الصوت رتابة، حينها نهرول نحو الشبابيك لنستمتع بمرآى الأشياء وهى تغيب في لمح البصر، أعمدة التلفون، الأشجار الصغيرة المنغرسة في صحراء قاحلة، البيوت الطينية الغاطسة في الرمل، الجبال الصغيرة والكبيرة التى تتواري على عجل كما تتوالى الصور في شاشة عملاقة من شاشات السينما فى مدنى،تتوارى معالم المحطة قبل ذلك كله، يبدو رأس القطار في المنحنيات يتلوى كأفعى أمام بصرنا،تبدو عرباته البيضاء والطوبية اللون مثل تلك العربات التى نصنعها بعلب الصلصة القديمة في قطارات من صنعنا في بواكير الطفولة، يبدو القطار يترنح مثل أولئك السكارى الذين كنا نراهم في طفولتنا وهم يترنحون ويهمهون بكلام غير مفهوم فنركض مفسحين لهم الطريق،يبدو القطار وهو يقطع الصحراء في حزم ،كائنا أسطوريا مرعبا لا تلين له قناة ولا يخور له عزم، يبدو القطار ثابتا في المكان، بينما هو في حقيقته متحرك وهو يحمل معه قيماً ثقافية تبدو هى الأخرى ثابتة في المكان، لكنها في الحقيقة تتبدل وتتفاعل مع الأمكنة التى تتنقل فيها ومع الناس الذين تتعامل معهم، تتفاعل ثقافات متباينة يحملها الركاب مع بعضها البعض تفاعلا سمته السرعة والقبول بالآخر وتجاوز الحواجز والأفكار والتصورات المسبقة،في القطار كونا معارفنا الأولى عن السودان ، نظرنا بدهشة وتمعن لأنواع الشلوخ على الخدود والجباه، سألنا عن الفروق ، وبتنا نعرف أن هذه الشلوخ وهذه الطريقة في الكلام خاصة بهذه القبيلة وتلك بتلك القبيلة، عرفنا أن هذه القراصة ذات الطعم المالح تخص هذه القبيلة ، وهذه القراصة تخص تلك، ولا أظننى ابالغ اذا قلت ان حصة الجغرافيا والتاريخ والتربية الوطنية التى تلقيناها في القطار كانت مشبعة لفضولنا ونهمنا للمعرفة أكثر من جميع حصص المدارس.كانت لافتات محطات السكة حديد التى تتبدل سريعا، وتلك الوقفات القصيرة حينا والطويلة حينا في تلك المحطات مصادر معرفة أضافية، فنحن نعرف المحطة ونعرف مايميزها عن غيرها، فمحطة الجيلي تميزها الفواكه، ومحطة شندى تميزها الطواقى الجميلة والفرد والطعمية، وعطبرة تميزها القطارات والخطوط الكثيرة والعجلات التى تندفع من الورش أنهارا زرقاء بسبب زى عمالها المميز ،ومحطة العبيدية تميزها جوافة نادرة، وهكذا . كنا نستمع بالرحلة محطة محطة حتى نبلغ أبوهشيم الغارقة في الرمال وتلك حكاية أخرى.
صلاح سر الختم علي
15-09-2014, 08:49 AM
أبوهشيم البيوت الغارقة في الرمال
عندما يبلغ القطار ابوهشيم يبطئ سرعته عادةعند خور أمور ذلك الوادى الضخم المنحدر نحو النيل بعد رحلة طويلة من شرق السودان والهضبة الأثيوبية ليرفد النيل بمائه الوفير في أبوهشيم، هناك ادرك الانجليز حين بنوا السكة حديد قوة ذلك السيل المنحدر في كل عام وخطورة تحديه فأقاموا جسرا ضخما في خور أمور بالخرصانة المسلحة واعمدة الصلب حتى لايقطعوا الطريق على السيل المنحدر ، بحيث يعبر القطار فوق الجسر على ارتفاع قد يبلغ الخمسة عشر مترا من الأرض، ليضمنوا بذلك ان تمضى المياه تحت الجسر بلا عوائق ويمضى القطار فوقه بأمان دون ان يعترض السيل سبيله في أوآن ثورته، هذا الدرس العظيم لم تفهمه السلطة الوطنية فجاءت في بداية الألفية الثالثة وشيدت طريق أسفلت بين عطبرة وأبوحمد وسدت طريق خور أمور بطريقة خاطئة ظنتها قادرة على كبح جماح المارد، فتسببت بفعلها الطائش فى أن يقوم السيل باغراق اجزاء عزيزة من أبوهشيم قبل عامين محدثا خسائر جسيمة ماكانت لتحدث لو أخذت سلطتنا الوطنىة الحكمة من المستعمر البريطانى الذى ترك لها الجسر عند خور أمور كدرس نافع وينبوع للحكمة، عودا الى ذكريات التنقل كنا ندرك ان القطار قد بلغ حدود أبوهشيم وطرق أبوابها بمجرد ابطائه لسرعته
ومن ثم نسمع صوت العجلات يتغير وهو يمر فوق علب خور أمور التى لدينا معها ذكريات حطيرة في عطلات سابقة حين نجئ الجسر ونرقد عليه وننصت علنا نسمع صوت قطار بعيد قادم،نعرف المنطقة جيدا، نعرف حتى الأعراب القاطنين عند الخورمن جهة الصحراء وهم اولاد ود حمود من عرب البشاريين الذين تربطهم بأبوهشبم خيوط كثيرة وعلاقات كثيرة،نعرف شجر الطندب والعشر والجسر الآخر الصغير قبالة الضياباب وقبل بلوغ المحطة والسوق، نعرف مشارع النهر واحدا واحدا، وشجرات الدوم قبالة مشرع الضياباب وتلك التى عند المحطة، انظر عبر شباك القطار على أرى ابناء خالى أو أحدهم مسابقا للقطار على صهوة حماره ليبلغ المحطة قبله أو معه، أود لو أصيح في قلب القطار ( هذه أبوهشيم بلدى واجمل بقاع الله مهما غمرتها الرمال وطمرتها)، انظر عبر النافذة أرى وجوها أعرفها ووجوها لا أعرفها على جانب الرصيف، أرى النادى خاليا من رواده فالوقت بدايات الصباح، شجرة الدوم التى تعانق بطولها السماء عند المحطة مكتظة بالحمير، وهذا يعنى ان القطاريحمل في جوفه كثير ممن سينزلون هنا معنا في ابوهشيم سواء كانوا يقصدون غربها أو شرقها،نهبط من القطار على عجل، اتعثر وانا اتلفت حولى باحثا عن المستقبلين وبصرى معلق باخوتى وأمى حتى لايأخذهم القطار المتعجل للرحيل معه،اتنفس الصعداء حين نمسي كلنا على أرض المحطة ونلوح باشارات الوداع لاسرة قاسمناها الرحلة من الخرطوم حتى ابوهشيم وتركناهم في جوفه ليواصلوا رحلتهم حيث (أبوهشيمهم الأخرى)
كما كانت تقول أمى حين نسألها ونلح في السؤال عن وجهتهم فتقول لنا بلهجتها المميزة( كل زول بي اب هشيمو..ماشين لى أهلم(تقصد أهلهم)). الجميل ان الرحلة من المحطة لى (تحت)_ يعنى للبيوت_ تكون مشيا على الأقدام أو على ظهور الحمير إن كنت محظوظا، فليس هناك تاكسي هناك وان وجد فلن يستطيع شق تلك الرمال الا اذا امتلك أجنحة، لذلك كنا نشق الطريق نحو البيوت في الضياباب حيث أهلنا، ويصادف أن تكون هناك زراعة فنشق الحقول الخضراء، حتى نبلغ تلك البيوت الطينية الغارقة في قيزان الرمال هى ونخيلها. تبدأ المقارنات بين (هنا) و(هناك) و(نحن )و(هم) منذ الوهلة الأولى، طريقتنا في ركوب الحمير مضحكة ومثيرة للسخرية عندهم، لهجتهم المختلفة تستوقفنا ونجد صعوبة في فهم بعض العبارات، يقف عراقي الدمورية شامخا في مواجهة البنطلون، قدرتهم صغارا وكبارا على السباحة واستهانتهم بالأمواج وخوفنا من النهر في المقابل، والطريف اننا ننحدر من المكان نفسه والجذور نفسها، نحن ولدنا هناك وهم ولدوا هنا، نحن نشأنا هناك وهم نشأووا هنا،كنت أحب خالى ود الحسين حبا لاحدود له، فهو الوحيد الذى يتقبلنا كما نحن، يأخذنى على ظهره ويسبح كتمساح في النهر ثم يفلتنى ويطلب منى أن اسبح وهو يضحك، يتملكنى الرعب، اضرب الماء بهلع ، يضحك وهو يراقبنى كالصقر، ثم يأخذنى مرة أخرى، تلفنى الطمأنينة وشيئا فشيئا اعود على النهر. ولكن هيهات ان استطيع ان اسبح كما يسبح هو وأولاده وبناته، فهم يسبحون كما يتنفسون.
صلاح سر الختم علي
15-09-2014, 08:31 PM
أبو هشيم والسرد على الهواء الطلق
في أبوهشيم حين يستقر بنا المقام نكتشف للتو اننا تحت عيون فاحصة ومدققة أينما ذهبنا،وكنا نرد على ذلك بالمثل ، فكل شئ تقع عليه أعيننا موضع سؤال وبحث وتمحيص وفضول لايشبع، هكذا كانت رحلتنا الى هناك حوارا صاخبا بين ثقافتين، ثقافة محتمية بالمكان متأثرة به وملونة بملامحه ومؤثرة عليه والمكان بدوره محتمى بها، وثقافة أخرى واردة من خارج المكان، لكنها بشكل ما تحمل بعض ملامحه، ثقافة هجين مطرودة من المكان كغزال شارد، لكنها لاتنفك تؤوب اليه ويعاودها الحنين لمحاورة المكان ومغازلته وهى لما تزال مسكونة به، كان الإحساس بالإختلاف سيد الموقف بين الطرفين، كنا نشعر بالزهو والفخر بالانتماء للمكان، لكن الإحساس بالاختلاف يملؤنا ويسد علينا الأفق، لهذا السبب كانت أيام العطلة سفرا مدهشا في عالم ملئ بالحكايات وشاحذ للخيال بلاحدود، فأبوهشيم مكان معطون في الحكايات ويدمن أهله الحوار الشفوى المتدفق سردا ووصفا بديعا، كل شئ هناك يصلح حكاية ومفتتحا لرواية لاتنتهى،فهنا تتناسل خيوط الحكايات بشكل مدهش، كل شحص في المكان هو في حقيقته حكاية تمشي بين الناس وتكتب بنفسها في كل ثانية سطرا جديدا ومضى بحبكها نحو منحنى جديد، كل شجرة نخيل هنا هى خزانة اسرار وكتاب تاريخ ينبض بالصراعات والحكايات والخيبات والانتصارات، وهى مثل الناس تصارع الرمال وتمد جذورها نحو النهر وتستغيث به كى تكافح شظف الحياة وتمد مائدتها للطير والسابلة فليس فيها شئ لايقدم نفسه لبنى الأنسان وكائنات الطبيعة ويضع نفسه تحت خدمتهم، فهى حين تتقاعد تمسي سقفا للمنازل أو حطبا للحريق أو سعفا لصنع السلال والبروش، ومثل النخلة كل شئ آخر في أبوهشيم: النهر المتمدد بقلب الصحراء كتمساح يمارس شقاوته فيهب الناس أسباب الحياة ، ويثور فيحصد أرواحهم وأرواح نخيلهم ومواشيهم أحيانا أخرى، فالنهر تاريخ الحكايات ومنبع الأساطير والكرامات والخيرات، كل حقل، كل نوع من القمارى أو العصافير، وحتى قضبان السكة حديد، وقيزان الرمال الذهبية، كل شئ هنا له حكاياته الى لاتنتهى وبريقه ومكانه في قصص الناس وسمرهم، كانت الحكايةتروي في أبوهشيم بألف طريقة وطريقة، بلا سيف مصوب نحو الرقاب كما هو الحال في الف ليلة وليلة، بل يتفنن الناس هنا في السرد على الهواء الطلق،تروى الحكاية من المنبع الى المصب أو بالعكس من الخاتمة الى البداية، أو كيفما أتفق، من وسط الحكاية أو أى موضع فيها،فالسرد هنا مهارة يتلذذ بها الرواة والسامعين معا ويتفننوا في تجديد طرائقها وتنويعها، فتسمع القصة عشرات المرات، وتبدو لك القصة نفسها في كل مرة قصة جديدة مغايرة لسابقتها، مهتديا بهذه التقنيات الروائية المتجذرة في المكان كتبت روايتى( الرمال يافاطمة) التى تتعدد فيها أصوات الرواة ومواقعهم، فالرواية ليس بها راو عليم أو مهيمن أو ممسك بكل الخيوط، بل تتوزع الحكاية على أكثر من راو، ولها أكثر من بداية ونهاية. فهكذا يفعل أهل المكان وهم يكتبون الحكايات على الهواء وهم في طريقهم الى السوق على ظهور الحمير أو راجلين، وهم في مجالس القهوة (مكوعين) بمزاج ، وهم في تجمعات الأفراح أو الأحزان، وهم عند ضفة النهر، أو معلقين بأعالي النخيل، أو وهم (يعزقون) الأرض فجرا لزراعتها ،في كل أحوالهم هم يمارسون سردهم الجميل بلا توقف، ويكتبون كتبا لم يقرأها الا السامعين فقط. هكذا كانت الرحلة الى هناك منبعا فريدا للحكايات ومدرسة مفتوحة لتعلم السرد وطرائقه ومشروعا دائما للكتابة، بدءا بالسرد الشفوى لرفاق الطفولة والصبا حين نعود الى المدينة، وسردا لابناء ابوهشيم عن المدينة، ثم تقدم مشروعى الروائي خطوات واسعة بفضل القراءة والكتابة،وولجت واعيا عالم السرد المكتوب الذى غزته لدهشة ولوعة الغياب القسري للاحباب الذى حدث لاحقا ابتداء من رحيل اختى الصغيرة انتصار مرورا بمقتل طه يوسف عبيد، وهكذا التحمت خبرات الطفولة والصبا مع كل شئ وتحول الأمر الى حمى الكتابة ومنبع دائم للحكايات.
صلاح سر الختم علي
27-11-2014, 05:05 AM
سوف اعود للتنقل في الكهوف السحرية مجددا
أبا إيثار
27-11-2014, 10:50 AM
كم أنت ماتع ومابك من كثب تحويها الرمال
شكراً لأني أرمقك كسندس يطل في الأفق
ورونقاً من الشفق ونخلة على الوهاد ساعة الغسق .
صلاح سر الختم علي
01-12-2014, 08:02 PM
شكرا ابا ايثار على مرورك هنا
صلاح سر الختم علي
31-12-2014, 07:49 AM
عاما سعيدا للجميع
ahmed algam
31-12-2014, 09:25 AM
عاما سعيدا للجميع
ان شاء الله نتمناه عاما ملئ بالابداع
شكرا مولانا صلاح سر الختم
صلاح سر الختم علي
17-01-2016, 11:42 AM
اشتقت اليكم والي كهوفي
Powered by vBulletin® Version 4.2.5 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir