المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رواية جديدة: خطوات وبصمات / صلاح الدين سر الختم علي



صلاح سر الختم علي
11-01-2013, 11:35 PM
1
كان نهارا شديد الحرارة علي خلاف الصباح في ذلك اليوم.... وكانت دواخلها متصالحة مع كل شئ منذ صباح باكر بدا مبشرا باشياء اخري غير التي باح بها النهار... لم تك تدري ان ثمة قطارات إنطلقت من أماكن مختلفة وسوف تلتقي في تقاطع ما...وبدأ كل شئ بلا مقدمات...

ففي ذلك الصباح خرجت وعبرت المدينة من اقصاها الي اقصاها للحاق بذلك الاجتماع الذي جاء بغير انتظار... كانت ضفيرتها الطويلة تئن تحت الحجاب الذي بات حاجزا بين عالمين فيها، كانت الضفيرة تبحث عن شمس وهواء طلق يتلاعب بها ، لكنها تبقي سجينة حيث تعلم هي وحدها بوجودها وطولها وكونها كانت الريح تلعب بها يوما ما،لكن ذلك الزمان ولي ولم تبق منه الا ذكريات تماثل رنين جرس الصباح في المدرسة وتقافز الفراشات نحو فصولهن بذلك الضجيج....هذا الصباح له طعم مختلف... لكنه لايبوح بأسراراه أبدا....كانت تشعر ان ثمة شئ ما ينتظر ليذيب جبل الجليد الساكن فيها و الذي كاد يمسي جبلا حقيقيا... كانت حاسة شمها قوية فيما يتعلق بالزلازل وكان كل شئ في ذلك الصباح الشتوي الجميل يقول ان ثمة زلزال يقترب... اسرعت الخطي والقلب يضطرب والخواطر تتهاطل عليها كالمطر بلا توقف..... وكانت ذكريات الجامعة حاضرة بقوة في ذلك الصباح لسبب غامض لاتعرفه كانت الذكريات تتداعي كالمطر في صباح غائم في ذاكرتها دون ان تستأذن او تطرق الابواب....
في الطريق توقفت عند كتابة علي حائط وهمست في سرها( ليتك قلت لها عوضا عن تلطيخ الجدار .... الجبناء والمراهقين وحدهم هم من يختارون الحوار مع الجدار عوضا عن الحوار مع إنسانة من لحم ودم... الحب عند هولاء مثل قضاء الحاجة :عمل فردي له ثماره باتجاه واحد... !!!) أبتسمت لغرابة الفكرة وفؤجئت بان أبتسامتها صادفت تحديقة شاب يسير في الاتجاه الآخر من الشارع فظن سهمه قد اصاب وحين أبتسم في وجهها علت وجهها تقطيبة وهي تهمس لنفسها بقرف: (سم!! ومن الذي يبتسم لك أيها الغبي!!!) وأسرعت لاتلوي علي شئ مبتعدة كالهارب من عدوي فتاكة....

محمد الجزولى
11-01-2013, 11:49 PM
شرف لي أن أكون أول الحاضرين هنا
أستاذي صلاح سر الختم
أتابع حروفك بكل الدهشة اينما وجدت
تسجيل حضور في مهرجان الإبداع

صلاح سر الختم علي
12-01-2013, 03:53 AM
شرف لي أن أكون أول الحاضرين هنا
أستاذي صلاح سر الختم
أتابع حروفك بكل الدهشة اينما وجدت
تسجيل حضور في مهرجان الإبداع

الله كم هي محظوظة روايتي الجديدة حين يستقبلها مبدع بقامتك اخي محمد
أيقنت الان انها ستمضي بسلاسة وتكتمل باذن الله علي ألق

تغريد
12-01-2013, 04:49 AM
تأبي حروفى الخجلة إلا وان تسجل حضور بين هذه الكلمات الأنيقة التي تبشرنا بقصة من العيار الثقيل


متابعة لما يخط قلمك سيدي الكريم


أحترامي

mahagoub
12-01-2013, 04:53 AM
الاستاذ صلاح
نتابع ايقاع حرفك
بخطا مسرعة تلهث انفاسنا
جهداً لنصل الى اعماق اغورارك
لنعيش اللحظة معك

صلاح سر الختم علي
12-01-2013, 05:01 AM
تأبي حروفى الخجلة إلا وان تسجل حضور بين هذه الكلمات الأنيقة التي تبشرنا بقصة من العيار الثقيل


متابعة لما يخط قلمك سيدي الكريم


أحترامي

اختي تغريد
باذن الله
نواصل الكتابة هنا علي الهواء للخطوات والبصمات ولاندري اين سترسو سفينتها وماهي الأنواء والأجواء التي ستصادفها

صلاح سر الختم علي
12-01-2013, 05:02 AM
الاستاذ صلاح
نتابع ايقاع حرفك
بخطا مسرعة تلهث انفاسنا
جهداً لنصل الى اعماق اغورارك
لنعيش اللحظة معك

اخي محجوب اتمني لك متابعة ممتعة باذن الله
ويشرفني كثيرا ان تكون من المداومين

صلاح سر الختم علي
12-01-2013, 05:24 AM
2
رن الهاتف بألحاح متسول ليس في وجهه مزعة حياء.. تجاهلته ولكنه أستمر في الرنين .. كانت تحمله في يدها مع مفتاح العربة الصغيرة التي تتركها كعادتها في ظل ما وتفضل السير علي الأقدام في دائرة العمل والسوق القريب.. مدت يدها لتغلق الهاتف ولكن فضولها دفعها لتلقي نظرة علي الشاشة الصغيرة المتوهجةنهارا لتقرأ اسم المتصل وحين فعلت علت وجهها الابتسامة من جديد ولكنها جعلت الوجه جامدا بسرعةوتلفتت حواليها حتي لايتكرر المشهد السابق..لم يكن هناك أحد بالقرب منها هذه المرة فوضعت الهاتف النقال علي الأذن الصغيرة _التي لم يتدلي منها قرط الافي المناسبات كما تحب ان تقول_ وأخذت تحادث نجلاء صديقتها وزميلتها الأثيرة بمودة ونبرة ضاحكة... كانت نجلاء تريد تذكيرها بمواعيد الدورة التدريبية التي أوشكت وتريد ان تقول لها كعادتها أنها محظوظة وأنها تحسدهاعلي معاملة المديرالخاصة لها وحكايات أخري كثيرة... كان مزاجها معتدلا فاستمعت اليها بتلذذ طفل يتناول آيسكريما في نهار حار... ومضت بعد أغلاق الهاتف نحو موعدها الأول مع المجهول القادم من زمن ما ومكان ما لكي يتقاطع مع أحلامها وأوجاعها في تلك الظهيرة التي يتصبب الناس فيها عرقا كقطعة قماش مبللة تعصرها أياد قوية.... بلغت مكان العربة فتحت بابها وألقت نفسها داخلها وأدارت المفتاح وقبل أن تنطلق لمحت في مرآة العربة لدهشتها الشاب الذي صادف ضحكتها وظنها له يتسكع في زاوية احد الدكاكين فضحكت بصوت مسموع وأنطلقت الي الأمام وهي تقول كأنها تخاطب شخصا معها في السيارة:تتصوري يانجلاء دائما يلاقيني النوع دا... دائما النمرة غلط... دائما الكهرباء قاطعة والزول يدق الهون بدل التلفون!!! تذكري بتاع الجامعة داك ..الولد الأريتو مانضم .. تذكريهو!!!اطلقت ضحكة طويلة هازئة وانطلقت الي الدورة التدريبية.

صلاح سر الختم علي
12-01-2013, 05:32 AM
3
دخلت القاعة الجميلة الواسعة المكتظة تماما بخطوات وقورة واثقة .. بنظرة سريعة اختارت موقعا ستجلس فيه كل ايام الدورة بلا تغيير كعادتها المكتسبة من ايام الجامعة ... كن ثلاث صديقات لايفترقن ابدا ولايغيرن مكانهن في القاعة والكافتيريا والداخلية وكان الناس يفرقون بينهن بالمناطق التي ينحدرن منها، تماما كما تلحق اسماء المدن باسماء الفنانين والفنانات ولاعبي الكرة... وكان الاصدقاء المقربون يسموهن عصابة البرايات الثلاثة لما لقوه منهن من مقالب ومكر ومتاعب عديدة..كان المكان هادئا وجميلا وباعثا علي الدفء...الالوان متسقة ومتفقة مع مكان مخصص للتدريب والهدوء يجعل الشهيق والزفير مسموعين كهدير مظاهرة باختصار كان المكان دعوة مفتوحة للمشي علي اطراف الاصابع والحديث رمزا وهمسا والشعور الجميل بالتميز والرقي، وكان ذلك هو الجو المفضل لديها رغم حبها للمرح والدعابة فقد كانت جادة جدا فيما يتعلق بالعمل والتعلم فضلا عن ذلك فقد اعادها المكان بسمته الاكاديمي الي ايام الجامعة الغنية بالقاعات المزدحمة التي يحفها الهدوء. فقط كان الفرق بين المكان وقاعة المحاضرات ان المقاعد مصفوفة بشكل غرفة اجتماعات دائرية بها فراغ في المنتصف تحتله زهور صناعية لاتبدو كذلك وتبعث نوعا من الحيوية في المكان ولم تكن مضطرة الي رؤية ظهور الاخرين او الاستدارة للخلف لرؤية من خلفها بل كان ميسورا لها ان تتصفح الوجوه كلها دون ان يلحظها احد. فقد كانت تحب ان تلاحظ كل شئ بمسحة سريعة وان تبدو في الوقت نفسه لامبالية .في مسحها السريع هذا وجدت وجوها تعرفها وطافت بذاكرتها كل المعلومات والقصص التي تعرفها عن اصحاب الوجوه وكانت بعض الوجوه جديدة ولاجديد ملفت فيها وبعضها مثيرة للاهتمام من زوايا متعددة
كانت النظرة الاولي سريعة خاطفة ولكنها قاتلة...من اين أتي هذا الشئ الغامض ؟ هذا البرق الخاطف الذي لمع فاضاء الدواخل ونشر الدفء الحميم وتلك الالفة وذلك التصالح مع الاشياء ذلك الشعور بانها تطير كفراشة في سماء الغرفة التي باتت منفتحة علي سماوات رحيبة.. كان وجها تشعر عند النظر اليه انك باعلي الجبل ، بل بأعلي قمة العالم كله..هو شعور اقرب الي الشعور بالانتماء واعادة اكتشاف الاشياء...قلبها يدق بصوت مسموع مثل صوت ساعة عتيقة ترن في مبني عتيق يسكنه السكون...ابتلعت ريقها بصعوبة حين خاطبها بصوت قوي واثق وخرج صوتها مبحوحا كانه ليس صوتها هي.. لم تدر ماقالت لكن تلك الابتسامة الوطن احتوتها برقة فخرج صوتها جهيرا واتسعت ابتسامتها حتي غطت علي كل شئ في المكان... من اين يأتي هذا الهدير؟
لم تكن تملك إجابة، ولم تكن راغبة في الإجابة....
فهي لم تدر أبدا من أين يأتي ذاك الهدير ولا كيف جري الذي جري ولكنها تتذكر كل التفاصيل الصغيرة حتي إبتلاع الريق بصوت مسموع و هروبها السريع في ختام اليوم واضطراب خطواتها واختلاط كل شئ، هذا احساس تعرفه وتخافه جدا ففي آخر مرة طرق ابوابها كان عاصفة مدمرة اقتلعت كل ثابت في حياتها وقلبت حياتها رأسا علي عقب .لكنها برغم ذلك كانت تبتسم بطمأنينة وسعادة حين تتذكر ذلك الأحساس بقربه وبأنفاسه التي أشاعت الدفء وعطلت كل أثر لأجهزة التكييف الكثيرة المنتشرة بالقاعة، كان دفئا خاصا بها وحدها حتي أنتابها شعور بان المكان بات مكانين : مكان يسع الجميع ومكان آخر يقع داخله لكنه مكان يضم أثنين فقط ويصنع لهما جدارا عازلا عن الكل،لم يعد بالمكان أنفاس وصدر يخفق الا أنفاسه وأنفاسها وصدره وصدرها هي ودقات قلبيهما المتسارعة . كانت تشيح بوجهها عن وجهه ولاتري سواه وتشعر بنظراته مسمرة فوقها لاتتزحزح قيد أنملة. في الجانب المقابل لها كان ثمة وجه نسائي يبتسم ابتسامة ذات معني لم تفتها فهمست لنفسها: (اللعنة علي راداركن لاتفوته شاردةولاواردة.) وتساءلت في سرها: هل تري كانت مشاعري مرسومة فوق وجهي كلافتة في مسيرة؟ أم انه هو من فضح بنظراته الثابتة النار التي تختبئ خلف وجوه تعمل جاهدة علي رسم الحياد؟
أفاقت علي صوت المحاضر يبطئ وهو يمضي نحو منتصف حصته الأولي ويفتح بابا للحوار.كانت تكتفي باستماع تحبه وتدقيق صامت في كل ما يقال، كان نقاشا شيقا أعادها الي أجواء المكان الذي يسع الجميع، حتي تحدث هو فعادت مع صوته وخيالها من جديد الي المكان الذي يسعهما فقط وظلت هناك حتي أنقضي الزمن كله وعمت المكان حركة قلقة وخرج الجميع الي استراحة أعادتها من جديد للمكان الذي يسع الجميع الى حين.

ملكة النحل
12-01-2013, 05:39 AM
جميعنا لهفة وشوقا في انتظار نهاية ذلك المجهول الذي يتقاطع مع إحساسها بالدفء وذلك العناد الذي نلمحه والكبرياء الذي تحاول ان تتجاهل من خلاله ذلك الغائب المدهش المنتظر ........ واصل أخي نتمنى لك كل التوفيق

صلاح سر الختم علي
12-01-2013, 05:48 AM
4
مضي الوقت سريعا كحلوي في فم طفل ،لكن النار كانت قد اشتعلت في الدواخل، دار المحرك بكل قوته،انطلقت السيارة بلا مكابح، كان ثمة شئ ما يشد كل منهما الي الاخر ولكن الصمت كان لغة ناطقة، كان الحديث يتدفق في كل اتجاه بينهما كصديقين حميمين التقيا بعد طول غياب فانفتحت كل ذاكرة علي الاخري ،ارتاد معها مراتع الطفولة وركضا حافيان علي حصي في ظهيرة حارقة دون إكتراث ،لعبا العابا كثيرة يذكرا بعضها ويغيب معظمها من الذاكرة ، كانت تركض في خياله نحيلة العود طويلة القامة وعلي الوجه ابتسامة ماكرة والجوقة تزفها باصوات مميزة في شوارع ترابية متعرجة: محمد ولد ..محمد ولد...،وكانت تتسلل معه الي طفولة شقية مسكونة بالمطر ونقيق الضفادع وبساط أخضر من الحشائش وفراش ملون وشوارع اليفةوبيوت مفتوحة علي بعضها البعض ، كان يمسي طفلا بحق وهو يحكي عن الطفولة، فتمسي طفلة وهي تستمع ويغيب الزمان والمكان ويتوقف الزمن في اللحظة الحاضرة الراحلة صوب كهوف الماضي الجميلة ،وحين تفيق تبتلع ريقها بصعوبة وتهمس فيحتبس الكلام في حلقها ولايخرج. كان الحب يحوم في المكان لكنه بات أبكما وأخرسا.وحين تتمالك نفسها وتودعه وتسرع نحو السيارة الصغيرة بخطوات تشعر بها تعود بها الي الوراء بدل المضي بها قدما،تلعن الزمن الذي يمضي في سرها وحين تفتح الباب باصابع مرتجفة لاتتمكن من مقاومة اغراء النظرة الاخيرة فتلتفت وحين تلتقي العينان بالعينين تشعر بشئ يحترق وشئ يخترق، فتنكس الرأس وتبحث باضطراب شديد عن موقع لقدمها علي دواسة الوقود وتبحث بيدها عن ملمس المفتاح يهدر المحرك وتنطلق هاربة نحو الأسفلت.

صلاح سر الختم علي
12-01-2013, 05:57 AM
5
كانت الدورة التدريبية تقترب من النهاية وذلك الشئ النابت بينهما يبدأ دورة حياة لايعرف أحد منهما كم تطول، كان الانجذاب قد تحول حوارا والحوار بات ألفة ، القواسم المشتركة كانت كثيرة، لكنها بطبعها كانت متحفظة دوما، كان أكثر ما تخشاه أن تطأ اقدامها جرحا كامنا فتتجرع الم تعرف جيدا انها لن تقوي علي احتماله، منذ صغرها كانت تخشي خيبة الأمل والفشل، كانت تفضل موت ألاشياء في داخلها صغيرة قبل ان تكبر، كانت تعرف بطريقة ما ان سقوط غصن صغير لايساوي سقوط شجرة عملاقة ، وكانت تعرف بطريقة ما انه من الافضل ان تتلقي ضربة السيف علي يدك بدلا من غوصه عميقا في احشاءك، لهذا السبب كانت مثل غزال شارد تفضل الركض بعيدا عن الأيدي ولاتغامر أبدا بالوقوع في الأسر،أن تركض بعيدا خير من السقوط تحت رحمة الصائد، هكذا كان شعارها، لذلك كانت حياتها كلها عبارة عن ركض دائم في مضمارات الحياة، ركض لاينتهي أبدا. وهي حين يثقبها الحزن تهرب الي ركن قصي فقد اعتادت ان تتقاسم الفرح مع الاخرين وتنكفئ علي الحزن وحدها تخبئه عن الاعين كسر عزيز تتظاهر بالنوم والأرق يفتك بها وتلوذ بالصمت والرغبة في البوح تفتك بها وتختار الوحدة في اكثر لحظات الاحتياج،وحين تبكي تبكي السماء معها بدمع غزير فالمطر وحده القادر علي غسل قطرات الدموع عندها... المطر وحده القادر علي فك طلاسمها حين تصمت.
كان يطرق أبوابها بالحاح فقد كان يعرف بطريقة ما أنها تطوي جوانحها علي سر عزيز، سر ما، يراه في عينيها وفي صمتها وإطراقتها الطويلة وفي أسفها الذي يعقب كل ضحكة من القلب تخرج منها في لحظات الصفاء، كان يعرف بطريقة ما أن ثمة بركان ما بداخلها يشتعل.

صلاح سر الختم علي
12-01-2013, 06:12 AM
6
كان خالد محقا في ظنه واستنتاجه،ولو قدر له مرافقة هبة في باقي يومها والدخول الي ذاكرتها من باب جانبي لكان شاهد عيان علي ذلك المشهد العاصف الذي أسلمها الي دموع أنستها أحداث نهارها الحافل كلها
مشهدا وحيداأحتل سماء الغرفة الصغيرة
وتمدد أمام ناظريها كمشهد تبثه شاشة عملاقة
كانت الشمس ساطعة بوهج غريب حين خرجن الثلاثة من الجامعة كسرب حمام صوب الشارع، كانت أحلامهن تتقافز من خلفهن وأمامهن كطفل شقي، وما كن يدرين أن العقد سينفرط وأنهن علي موعد مع لعبة
القدر المتربص، كانت ضفائر سارة الطويلةتتراقص فوق ظهرها كجريد نخلة باسقة تلعب بها ريح، وكانت هبةتضحك وأسنانها البيضاء النضيدة تلتمع كعقد فريد في عنق جميل،وكانت هاجرممسكة بيد سارة اليسري كطفل يخشي الضياع في الزحام حين افلتتها سارة وركضت عابرة الشارع ودوي الصوت...صرير كالنواح
وسارة تحلق عاليا كنسر جريح ثم تهوي علي وجهها وينفجر الدم كنافورة
وفي حلق هاجر ينحبس الصراخ وعلي الوجه يرتسم الذهول
كان مشهدا عسيرا علي الرحيل من الذاكرة، ضاقت به ذاكرة هاجر ، فلم تنطق هاجر بعد ذلك اليوم، لم يحتمل قلبها ولم يحتمل عقلها فتسربت روحها الي حدائق الذهول والصمت، أما هبةفقد كان فقدها فقدان في لحظة فاجرة :سارة وهاجر معا،ماتت الضحكة فوق شفتيها، غامت الدنيا في عينيها، وحين أفاقت كانت الدنيا قد باتت تمشي علي قدم واحدة، غابت سارة الي الأبد وبقيت صورتها تستدعي صرير عجلات العربة النعش والحزن الماطر، وخرجت هاجر الي مجهول لم تعد منه أبدا.

صلاح سر الختم علي
12-01-2013, 06:18 AM
7


ما بال الجمال مشيها وئييدا
أجندلا يحملن أم حديدا؟

كان تشييعا مهيبا ظل محفورا بالذاكرة ولم يغادرها
كانت الصبايا النائحات يمشين في موكب التشييع كأنهن في مظاهرة تجوب شوارع الخرطوم في صيف لاهب
كانت العمائم والجلاليب البيض يمشين معهن في إستكانة
كانت المدينة فاغرة فمها في دهشتين
دهشة رحيل الفراشة
ودهشة من هذا الموكب غير المسبوق في ذاكرة المدينة
فقد رأت المدينة مواكب عديدة
لكن النساء لم يكن أبدا بقلب الصورة
ولم يغبرن أقدامهن صوب المقابر
ولم يرافقن عزيزا أكثر من باب الشارع في رحلته الأخيرة
لكن الطالبات الباكيات كسرن القيود واخترقن المسافة بين الجامعة والمقابر كفرس جامح افلت نفسه من صاحبه والقاه أرضا وهام في المدينة كيفما شاء
كانت الشمس يومها حانية لطيفة لاتؤذي أحدا
وكانت السيارات صامتة الأبواق والعصافير صامتة بأعلي الشجر
نظرت حليمة بائعة الكسرة عند سور المقابر الي الموكب في دهشة
وهمست لجارتها بائعة الفول المدمس
من تراه ذلك الكبير الذي رحل اليوم يا عائشة؟
قالت عائشة بأسي:
طالبة بالجامعة يا حليمة
طالبة
أظنها كانت ملاكا
ليتك رأيت كيف بكنها أخواتها
كأنها أول مرة يعرفن فيها الموت..كانت عائشة صادقة تقريبا فمعظمهن كانت تلك زيارة الموت الأولي لحياتهن.

حتي هبة لم تقو علي الوصول ابعد من سور المقابر جوار عائشة وحليمة في ذلك اليوم البعيد الذي لايخرج من الذاكرة أبدا.

بدر الدين احمد الطائف
12-01-2013, 06:48 AM
شكرا استاذ صلاح على هذه الروائع .
متابيعن ان شاء الله.

ساريه
12-01-2013, 08:37 AM
تسجيل حضور ومتابعة ....

ياسر عمر الامين
12-01-2013, 09:09 AM
تحلو معك المتابعة استاذنا الحبيب صلاح سر الختم...

صلاح سر الختم علي
12-01-2013, 09:33 AM
جميعنا لهفة وشوقا في انتظار نهاية ذلك المجهول الذي يتقاطع مع إحساسها بالدفء وذلك العناد الذي نلمحه والكبرياء الذي تحاول ان تتجاهل من خلاله ذلك الغائب المدهش المنتظر ........ واصل أخي نتمنى لك كل التوفيق

ملكة النحل
شكرا علي نهرك الذي دلقتيه هنا .................. حضورك يحفز علي مزيد من الحروف

صلاح سر الختم علي
12-01-2013, 09:34 AM
شكرا استاذ صلاح على هذه الروائع .
متابيعن ان شاء الله.
يشرفني جدا حضورك ومتابعتك اخي بدر الدين

بدر الدين محمد
12-01-2013, 09:35 AM
1
كان نهارا شديد الحرارة علي خلاف الصباح في ذلك اليوم.... وكانت دواخلها متصالحة مع كل شئ منذ صباح باكر بدا مبشرا باشياء اخري غير التي باح بها النهار... لم تك تدري ان ثمة قطارات إنطلقت من أماكن مختلفة وسوف تلتقي في تقاطع ما...وبدأ كل شئ بلا مقدمات...

ففي ذلك الصباح خرجت وعبرت المدينة من اقصاها الي اقصاها للحاق بذلك الاجتماع الذي جاء بغير انتظار... كانت ضفيرتها الطويلة تئن تحت الحجاب الذي بات حاجزا بين عالمين فيها، كانت الضفيرة تبحث عن شمس وهواء طلق يتلاعب بها ، لكنها تبقي سجينة حيث تعلم هي وحدها بوجودها وطولها وكونها كانت الريح تلعب بها يوما ما،لكن ذلك الزمان ولي ولم تبق منه الا ذكريات تماثل رنين جرس الصباح في المدرسة وتقافز الفراشات نحو فصولهن بذلك الضجيج....هذا الصباح له طعم مختلف... لكنه لايبوح بأسراراه أبدا....كانت تشعر ان ثمة شئ ما ينتظر ليذيب جبل الجليد الساكن فيها و الذي كاد يمسي جبلا حقيقيا... كانت حاسة شمها قوية فيما يتعلق بالزلازل وكان كل شئ في ذلك الصباح الشتوي الجميل يقول ان ثمة زلزال يقترب... اسرعت الخطي والقلب يضطرب والخواطر تتهاطل عليها كالمطر بلا توقف..... وكانت ذكريات الجامعة حاضرة بقوة في ذلك الصباح لسبب غامض لاتعرفه كانت الذكريات تتداعي كالمطر في صباح غائم في ذاكرتها دون ان تستأذن او تطرق الابواب....
في الطريق توقفت عند كتابة علي حائط وهمست في سرها( ليتك قلت لها عوضا عن تلطيخ الجدار .... الجبناء والمراهقين وحدهم هم من يختارون الحوار مع الجدار عوضا عن الحوار مع إنسانة من لحم ودم... الحب عند هولاء مثل قضاء الحاجة :عمل فردي له ثماره باتجاه واحد... !!!) أبتسمت لغرابة الفكرة وفؤجئت بان أبتسامتها صادفت تحديقة شاب يسير في الاتجاه الآخر من الشارع فظن سهمه قد اصاب وحين أبتسم في وجهها علت وجهها تقطيبة وهي تهمس لنفسها بقرف: (سم!! ومن الذي يبتسم لك أيها الغبي!!!) وأسرعت لاتلوي علي شئ مبتعدة كالهارب من عدوي فتاكة....




شرف لي أن أكون أول الحاضرين هنا
أستاذي صلاح سر الختم
أتابع حروفك بكل الدهشة اينما وجدت
تسجيل حضور في مهرجان الإبداع

حروف جابت ود الجزولى أكيد حروف جزلى
متابعين .. مستمتعين
ورأيك شنو يا صلاح تجمعا لي اصمما ليك في كتاب؟؟؟؟؟

صلاح سر الختم علي
12-01-2013, 09:35 AM
تسجيل حضور ومتابعة ....

حضورك ضوء ينير طريق الكلمات ويحفز الخيال

صلاح سر الختم علي
12-01-2013, 09:37 AM
تحلو معك المتابعة استاذنا الحبيب صلاح سر الختم...

سلمت اخي ياسر واتمني لك متابعة ممتعة

صلاح سر الختم علي
12-01-2013, 09:42 AM
حروف جابت ود الجزولى أكيد حروف جزلى
متابعين .. مستمتعين
ورأيك شنو يا صلاح تجمعا لي اصمما ليك في كتاب؟؟؟؟؟

الحبيب بدر الدين تحية لك وللرائع ود الجزولي
الرواية لم تتم بعد لا في الواقع لافي خيالي
بل سأواصل كتابتها واتابع تطوراتها معكم
ومثلكم فالرواية عندي تأتي في جرعات ولا اكتبها مرة واحدة
واستمتع جدا بكتابتها علي الهواء في منتديات مدني
كما فعلت في روايتي نيران كامنة
تابع معي
وعندما تكتمل سوف اخبرك
وستعلم انها اكتملت من خلال المتابعة
اشكرك من قلبي علي العرض السخي
واتمني ان يظل قائما حتي انتهاء العمل في الرواية

البورتسودانى
12-01-2013, 11:29 AM
الاستاذ صلاح
سرد جميل
وقصه اجمل
واسلوب مدهش فى التصوير

ابداع ايما ابداع

حفظك الله


متابعه بشغف شديد

صلاح سر الختم علي
12-01-2013, 12:03 PM
الاستاذ صلاح
سرد جميل
وقصه اجمل
واسلوب مدهش فى التصوير

ابداع ايما ابداع

حفظك الله


متابعه بشغف شديد
هذا من طيب نفسك
شكرا اخي الكريم البورسوداني

خالد علونى
12-01-2013, 07:52 PM
استاذي صلاح سر الختم...
في حضرة حروفك يطيب الجلوس ...

صلاح سر الختم علي
12-01-2013, 08:16 PM
استاذي صلاح سر الختم...
في حضرة حروفك يطيب الجلوس ...

الحبيب خالد علوني
لك الود والتحيات

صلاح سر الختم علي
13-01-2013, 04:55 AM
8

كانت هبة تحاكي في حيرتها مركبا صغيرا أقتلعه التيار من مربطه ثم أخذ يلهو به بين الأمواج كما يشاء، كل جوعها الي الحنان أستيقظ في تلك الظهيرة، كل ما ظنته شبع موتا فيها عاد يتقافز في الشوارع كطفل شقي، كل أشواقها النائمة استيقظت وباتت غولا يحتل كل الفضاءات،من أين جئت أيها الفارع واسع العينين ودود الإبتسامة؟ من أين جئت لتشعل الدنيا من بعد طول سكون وكمون ؟! من أين جئت لتفتح نوافذ البيت العتيق وتطرد العتمة؟!
قال لها ضاحكا: أين ذهبت الأميرة؟!حلم ولا علم؟!
قالت دون تفكير: حلم...حلم ...حلم
ضحك هو حتي بانت أسنانه البيضاء كعقد نضيد، شهقت للداخل، رأت نفسها تقول لسارة في أذنها بصوت هامس:(ووب ياسارة...مرتين ما بتقدري تعايني...
هيبة هي.....سكتا واتبكمتا...بقيت أعاين.... الكتف جنب السحاب....ماحصل حسيت إني قصيرة كدا زي اليوم داك..........)
شهقت في وجه سارة في خيالها ، ففوجئت بالفارع يترنح من شهقتها عيانا بيانا، فهرولت بعيدا عنه دون أن تنبس ببنت شفة، كان صدرها يعلو ويهبط كعداء محترف في آخر لفة في السباق ، وكان صوت ريقها وهي تبتلعه مسموعا كطبل من طبول الحرب... كادت تتعثر وتسقط حين الفت نفسها بجوار كرسي ومائدة عامرة بالتي باقس واوأني القهوة والشاي وقطع البسكويت وحافظات الماء الساخن ، فسقطت علي الكرسي سقوطا وصوت ضربات قلبها يزداد حتي ظنت كل الحاضرين يسمعونه، رفعت رأسها فوجدتهم لاهين عنها فيما عدا صاحبة الرادار التي واجهت نظراتها بثبات وهي ترسم ابتسامة ماكرة انتقلت سريعا الي حيث كان خالد واقفا وحيدا وعادت بسرعة اليها كأنها تقول هذه الشهقة من ذلك الأسد، أطرقت هي ببصرها إطراقة من ضبط متلبسا بجرم، حاولت إستعادة سيطرتها علي نفسها ونهضت وتشاغلت بصب الشاي وإذابة لبن البودرة الذي لاتحبه فيه وتناولت قطعة من البسكويت لتخبئ خلف الانشغال بها بعضا من إضطرابها، كانت طوال الوقت تشعر بنظرات الرادار مثبتة فوقها ، فلم تنظر ناحيتها أبدا. في الوقت نفسه لم يعد خالد وحيدا، كان يحاكي يمامة أقبلت علي مورد ماء وحيدة، فإذ بالمكان يكتظ باليمام وبالطيور جميلة الألوان والصيادين ، كان وسط اليمامات ملكا متوجا تتبعه أينما مضي الوصيفات والنظرات، أشتعلت هي غيرة ، ويبدو أن الرادار التقط ضيقها وما أعتراها فعلت الوجه إبتسامة طويلة هازئة.

صلاح سر الختم علي
14-01-2013, 09:30 AM
9
كان المطر يتسا قط علي مهل كأنه دموع تتساقط من عيون حسناء لم تعتاد البكاء، كانت الشمس متوارية خلف الغمام كضيف ثقيل يعلم أن وجوده غير مرغوب فيه، لكنه لايقاوم رغبة مريضة في طرق الباب، كانت هي تمشي كأنها تحلق في الفضاء، لم تك تشعر بوقع خطواتها علي الأرض ، ولم تقو علي الإلتفات والنظر اليه، كانت تشعر به في كل ماحولها ، فالهواء مشبع به ، والمكان يتنفسه شهيقا وزفيرا، والصمت يصغي إليه،أما هي فكانت تلهث حتي لاتتخلف خطواتها عن خطواته،
كانت تبتسم وتعلم انه يراها مبتسمة،لكنها لاتنظر ناحيته وتتحاشي عينيه عمدا،تذكرت فجأة قول سارة الذي أضحكهن وصار رمزا وشفرة سرية بينهن( كنت أعرف عطره وأميزه حيثما عبر ، حتي أنني ذات مرة كنت أمشي في زحمة السوق العربي في ظهيرة حارقة حين أخترق أنفي عطره، رفعت رأسي وأخذت أجول بعيني في المكان ككلب بوليسي يتتبع لصا، لم يدم بحثي طويلا ، كان أمامي بأكتافه العريضة وشعره الكثيف وشنطته الأليفة المتدلية فوق ظهره كلبلاب متدل عبر سور الي الخارج، صرخت بأسمه بلا شعور، أستدار بسرعة حتي كادت نظارته الصغيرة تقع ، هتف بصوت ضاحك:سارة...لا أصدق...الملكة تتمشي مع الرعية!! أنفجرنا ضاحكين والف فاه مفغور ونظرة دهشة تتنقل بيننا ونحن نتقالد في وسط السوق ، كأننا رائدا فضاء أو مخلوقان فضائيان جاءا من القمر في التو والحين.) عندما فرغت سارة ،أنفجرت الغرفة الصغيرة بالداخلية ضحكا حتي أرتج الجدار المتشقق، وعلي صوت الضحك جاءت نجاة صاحبة النشرات مدفوعة بفضولها المعتاد وأقتحمت الجلسة، فعم صمت قصير،قطعته هاجر بضحكة طويلة وهي تقول: (الكلب البوليسي قاقرين....) ضحكن جميعا حتي نجاة أرتسمت دهشة علي وجهها وهمت بطرح سؤال ، ثم أبتلعت السؤال وأنفجرت ضاحكة أطرشا في زفة صادفها في الطريق. عندما أستعادت هبة هذا الشريط وقفت الدموع في طرف مقلتيها، خنقتها العبرات وهي تهمس بصوت باك: قاقرين عاد الي مركبته، حلق في الفضاء وحيدا،آه ياسارة، إختفي الكتف العريض والحقيبة الساكنة في الظهر ، لم يعد صاحبها بعدك هو الشخص نفسه، لم يره أحد بعدك أبدا كما كان وسيما ساحرا باسما.بل بات شخصا آخرا هائما في عوالم بعيدة يتنقل كالشبح دون أن يشعر به أحد.

أم سماح
21-01-2013, 02:55 AM
يا آخر المبدعين
هذا جمال ما بعده جمال .. وروعة لم تسبقها روعة
بحضورك يزدان المكان .. ويفوح منه العطر شذيا
شكرا على هذا السرد العميق .. الذى شحذ كل أحاسيسنا ومشاعرنا
شكرا" مولانا صلاح سر الختم ..
ومتعك الله بالصحة والعافية

صلاح سر الختم علي
21-01-2013, 12:07 PM
يا آخر المبدعين
هذا جمال ما بعده جمال .. وروعة لم تسبقها روعة
بحضورك يزدان المكان .. ويفوح منه العطر شذيا
شكرا على هذا السرد العميق .. الذى شحذ كل أحاسيسنا ومشاعرنا
شكرا" مولانا صلاح سر الختم ..
ومتعك الله بالصحة والعافية
شكرا كونك اعدت الموضوع الي الواجهة بعد ان ذهب نحو السكون
والسكون يقتلني ويقتل حرفي وشهيتي للكتابة
شكرا بحق
فقد أحييت عروقا تيبست وأملا كاد يحتضر
فما الكاتب بدون قارئ وقراءة وتفاعل؟
الكاتب بلا قارئ مثل اولئك المجانين المهووسين باستخدام شارات وصافرات رجال المرور
وعبثا ينفخون في الصافرة ويقفون في الهجير دون أن يأبه بهم أحد
أرجو
الا يتركنا القراء لمثل هذا الصمت القاسي

أم سماح
22-01-2013, 10:16 AM
كلام أحلى من الفل
تسلم مولانا صلاح سر الختم
يا رجلا من غيم فهلا أمطرت علينا روائعك
ونعدك ألا نصمت مرة أخرى

صلاح سر الختم علي
22-01-2013, 08:18 PM
كلام أحلى من الفل
تسلم مولانا صلاح سر الختم
يا رجلا من غيم فهلا أمطرت علينا روائعك
ونعدك ألا نصمت مرة أخرى
شكرا لك ام سماح
وان شاء الله نواصل

ودتابر
23-01-2013, 08:39 PM
استاذذي / صلاح

متابع انا بشغف .. وتقبل هذا المرور السريع ولي عودة لمعانقة حروفك فكم اشتقت إليها .. وانتهز الفرصة لأبلغك الحايا الخاصة والود الجميل .. ولي عودات .

صلاح سر الختم علي
23-01-2013, 11:13 PM
استاذذي / صلاح

متابع انا بشغف .. وتقبل هذا المرور السريع ولي عودة لمعانقة حروفك فكم اشتقت إليها .. وانتهز الفرصة لأبلغك الحايا الخاصة والود الجميل .. ولي عودات .
المبدع ود تابر
مرورك اثلج صدري وكلماتك حافز للمواصلة

صلاح سر الختم علي
24-01-2013, 12:20 AM
10
قاقارين وسارة كانا صفحة جميلة من صفحات الجامعة، كانا مشغولين عن الناس دوما بعالم جميل يضمهما معا، ولكن الجامعة كلها كانت مشغولة بهما، قاقارين كان طالب هندسة متنوع المواهب فهو رسام وشاعر وصاحب جيتار يتكلم حين تلامسه اصابعه الطويلة الرشيقة في رحلات الجامعة واحتفالات الروابط وجلسات السمر البرئية، كان قاقرين في احواله العادية صموتا قليل الكلام يتنقل بخفة في الأماكن كأنه يخشي أن يراه الناس، ولكنه مهما تخفي أو صمت يحدث حضوره في المكان أثراً مماثلاً لحضور قمر في ليلة مظلمة، فتتعلق به العيون وتتبعه النظرات، كانت هبة تقول لنفسها كلما رأته يجاهد للمرور بمكان دون ضجيج أو أثر ، ثم يحدث دوما الضجيج الذي يرغب في تحاشيه( غريبة هذه الدنيا، البعض يسعي للبريق بكل الوسائل، فلا يحصل سوي علي السخط والتبرم والتجاهل ، والبعض يتجنب الضجيج فيحيط به الناس إحاطة السوار بالمعصم حتي وهو غائب عن المكان يظل هو خاطف الأبصار.) كان قاقارين نجما من نجوم الجامعة تتبعه العيون وتحلم به الفتيات ويتبارين في التودد اليه، لكنه كان يتودد الي واحدة فقط، واحدة لم تكن لها بريق ولاشهرة مثله، لكن كان لها حضور مميز في كل مجلس تغشاه،ضاحكة باسمة ، ثغرها الصغير ينفرج عن اسنان منتظمة بيضاء كالحليب، عيونها الواسعة العميقة تجذب الناظرين كما يجذب الرحيق الفراش ،أكثر مايميزها تلك التلقائية وذلك الود مع الجميع بلا تكلف وبلا سوء ظن ، فهي حسنة الظن دوما بالآخرين،كان ذلك هو ماجذب هبة اليها في أيامها الأولي في الجامعة، كن واقفات في صف قصير لأكمال أجراءت ما بالكلية، كانت البنات يرمقن بعضهن خلسة دون أن يثرن الإنتباه أو يلفتن نظر بعضهن، وكانت الإنطباعات تتكون في صمت، كانت سارة واقفة خلفها مباشرة، دون أن تشعر داست علي قدمها، التفتت مسرعة لتعتذر فوجدت وجها صغيرا تملؤه اجمل ابتسامة في الكون عوضا عن التكشيرة وسمعت صوتا رقيقا يهمس ضاحكا(دوسي ساكت ولايهمك)، ضحكتا كصديقتين قديمتين من القلب وتصافحتا بالأيدي وأخذن ينقنقن حتي وجدن أنفسهن في مواجهة النافذة التي كانت تبدو بعيدة قبل تلك (العفصة اللمتنا) كما كن يقلن دائما للاصدقاء وهن يحكين قصة تعارفهن، فيما تبقي من ذلك اليوم كن يسرن سويا في زوايا الجامعة من المين رود الي الداون تاون وهن يتصفحن كتب حياتهن سويا بشغف وفضول ويطوين المساحات ويضحكن من القلب كأنهن ولدن وحبون في ذات المدينة وأرتدن ذات المدارس، في ذلك اليوم حكت لها سارة قصة لم تنساها أبدا، قصة جعلت دموعها تسيل انهارا،تلك هي قصة (الدود الدود ياحبوبة) وهي قصة تحكي عن قسوة قلوب صغيرة، كانت هناك أمراة عجوز تبيع السندوتشات في المدرسة للبنات، كانت سندوتشاتها أشهي من أي طعام تذوقته سارة في حياتها، كانت المرأة نفسها جميلة الملامح برغم كونها باتت حبوبة لاتملك في الفم الا سنتين فقط هن ماتبقي لها، مع ذلك كانت لها اجمل ابتسامة عرفتها سارة في حياتها، كانت كريمة في بيعها حد انها تعطي من ليس معها نقود خلسة دون ان يعرف أحد، وكانت سارة تحبها وتجالسها دوما فتغني جبوبة أم زميم لها اغنيات جميلة وليدة اللحظة لاتزال سارة تحفظها، لكن ذلك العالم الجميل غاب فجأة بسبب فعلة قبيحة لفتاة شريرة دست حشرة في سندوتش اخذته سليماً ثم هتفت وهي تخرج الحشرة منه أمام رفيقاتها( الدود الدود ياحبوبة) وتعالي الهتاف ( الدود الدود ياحبوبة) ، خرجت العجوز كسيفة من المدرسة والبنات يركضن خلفها ويهتفن (الدود الدود ياحبوبة...)لم ترفع رأسها، لم تلتفت الي الوراء، ولم تعد أبدا لتأخذ حاجياتها القليلة، بقي مكانها شاغرا يستدعي الدموع في عيون سارة التي ظلت تبكيها كلما حكت القصة.

mahagoub
24-01-2013, 03:47 AM
امتعتنا بهذا الخلط بين العربية والدارجه
فى سرد شيق
ممزوج ببراعة
بيد فنان ماهر

صلاح سر الختم علي
24-01-2013, 05:00 AM
امتعتنا بهذا الخلط بين العربية والدارجه
فى سرد شيق
ممزوج ببراعة
بيد فنان ماهر

شكرا اخي محجوب علي هذا المرور الباهي

صلاح سر الختم علي
25-01-2013, 10:12 PM
11
كانت الجامعة تضج بالاركان السياسية الملتهبة والليالي الشعرية والمعارض وأعياد ميلاد الحناكيش في الميدان الشرقي تحت القمر، كانت هاجر المفتونة بالقصة والرسم والشعر تقودهن الثلاثة من ركن الي ركن ومن ندوة الي ندوة ومن ليلة شعرية الي معرض وهن سعيدات بهذا العالم الذي انفتح أمامهن فجأة بغير إنتظار، وكان قاقرين حاضرا في كل تلك العوالم كأنه رابعتهن ، قالت هبة لسارة وهي تتحين فاصلا قصيرا غاب فيه قاقرين عن المشهد ليصعد خشبة مسرح مفترضة ليعزف مع فنان من فناني الجامعة( والله ياسرورة تكمل موية البحر وما تكمل نقتكم.... أريتو حالي المافي زولا عبرني بي كلمة) هتفت هاجر ( شفتى الحسادة ياسارة...قلت ليكي البنت دي اعملي حسابك منها.....) وانفجرن في ضحكة ظاهرة علي الوجوه ولكنها لاصوت لها، وحده قاقرين لمحها، فاحني رأسه علي جيتاره وابتسم.
كانت الجامعة تغلي كالمرجل ، وكن يتنقلن كالفراش بين اركان الاتجاه الاسلامي الصاخبة واركان الجبهة الديمقراطية والاخوان الجمهوريين الرصينة ظاهرا والصاخبة دوما ،كانت حكومة النميري تحتضر في تلك الايام، لكنهم جميعا لم يعرفوا ذلك الا بعد ذلك بسنوات عديدة، كان الشارع يغلي بالمظاهرات والجامعة تزدخم بالمايكرفونات والصحف الحائطية والندوات ، كن يتنقلن حائرات بين المتجادلين، يتحدث المتحدث فيبهر الحاضرين بسلاسة سرده وقوة منطقه وجمال الصورة التي يعكسها عما يؤمن به، فيكاد الحاضرون يوقعون طلبات فورية للانضمام الي جماعته، يتيح الفرصة للنقاش فيتقدم من يهد كل مابناه المتحدث من قصور رمال ومدن فاضلة، يزيح النقاب بقسوة ومنطق رصين عما تحت القصور والمدن الفاضلة ، يلتهب المكان بالخطب الرنانة والتهم المتبادلة وتلتهب الأكف ذاتها التي صفقت للمتحدث الأول بالتصفيق لمنتقديه، ثم تعاود التصفيق من جديد للمتحدث الأول حين يعقب، ويصيبهن الدوار فلا يعدن يعرفن اين ذهبت كرة الحديث
من شدة الركل الذي تعرضت له بين المتنافسين، تقول سارة ضاحكة(هاجر ..أخير لينا ناس حلمنتيش والمتجهجه الأممي والمتجبجب الودكي والجامعة بعدك كوم تراب لافيها طب لاصيدلة من ناس موضوعية ديل...رأسي لف....أرح نرتاح شوية.) في اللحظة ذاتها يعلو هتاف من ركن بعيد من اركان الجامعة ( لن ترتاح ياسفاح...السكر راح ياسفاح....الجامعة منار ولن تنهار...) فترتعش سارة كعصفور، ينفض سامر الواقفين هنا، يهرولون صوب الهتاف، يعم الهتاف الجامعة، تتقاطع امواج الطلاب وتتلاطم ، يلمحن قاقارين محمولا علي الأكتاف وهو يهتف بهتاف لايتبيننه، القبضات مرفوعة الي الأعلي ، قاقرين يعلو ويرتفع كسارية في عرض المحيط، تندفع الجموع خارجة ، تنفتح الارض عن عربات الاحتياطي المركزي المكتظة بجنود لهم وجوه قاتمة مرهقة وصارمة،الهتافات تعلو، المواكب تتشتت، سحب الدخان تتصاعد، وهن يركضن وسط الجموع كحمامات مفزوعة وضفائرهن يلعب بها الهواء، ثمة وجوه مألوفة كثيرة، ووجوه لايعرفنها أيضا،كانت المظاهرة قد بلغت ميدان ابو جنزير الان، الناس يتراكضون صوب الحافلات المكتظة والحافلات تبحث عن مخارج تقيها الضجيج ، اختلط ضجيج السوق بالمظاهرة، وكانت ناقلات جنود الاحتياطي تتوافد علي المكان ، تأخذ مواقعها والجنود يهبطون منها حاملين صناديق الغاز المسيل للدموع، كانت ثمة زغاريد تخالط الهتاف ، والسماء بات أسودا من أثر الدخان. وكن يهتفن باصوات باتت مشروخة تحت شمس الظهيرة الحارقة: السكر راح ياسفاح...لن ترتاح ياسفاح.....فيعود الهتاف هديرا قويا تردده أصوات قوية: لن ترتاح ياسفاح...ياخرطوم ثوري ثوري ضد الحكم الديكتاتوري.... كانت الخرطوم تغتسل تحت وهج شمس الظهيرة الحارقة من ذنوب لم تقترفها، وكان الموت كامنا في الأزقة والزوايا دون أن يدرين .

ريمون
26-01-2013, 10:02 AM
وكأني عدت الي المين رود واركان النقاش والحناكيش واعياد الميلاد ..
بل وكاني تعرفت علي قاقرين في عهد آخر من عهود الجامعه ..
تصوير شيق للاحداث ..
لا صبر لنا علي الانتظار ..
اتمني ان تواصل ولا تتوقف ابداً ..

صلاح سر الختم علي
26-01-2013, 08:28 PM
وكأني عدت الي المين رود واركان النقاش والحناكيش واعياد الميلاد ..
بل وكاني تعرفت علي قاقرين في عهد آخر من عهود الجامعه ..
تصوير شيق للاحداث ..
لا صبر لنا علي الانتظار ..
اتمني ان تواصل ولا تتوقف ابداً ..

شكرا ريمون
هو عالم مدهش مقيم بدواخلي ويبحث عن منافذ الخروج
ولكنه يخرج كالحمي من الجسد
فقط
حين يريد
الكتابة
عمل ساحر ومجنون ومدهش

ريمون
26-01-2013, 11:53 PM
شكرا ريمون
هو عالم مدهش مقيم بدواخلي ويبحث عن منافذ الخروج
ولكنه يخرج كالحمي من الجسد
فقط
حين يريد
الكتابة
عمل ساحر ومجنون ومدهش
تعرف يا استاذ انا لما القي ليك عمل جديد ما بفتحوا الا لما يوصل الصفحة التانيه او اقل ..
بشحتف روحي لما اقرأ مشاركه مشاركه ..
وهسه روحنا مشحتفه في انتظار حمي الجنون ...

صلاح سر الختم علي
27-01-2013, 08:09 AM
تعرف يا استاذ انا لما القي ليك عمل جديد ما بفتحوا الا لما يوصل الصفحة التانيه او اقل ..
بشحتف روحي لما اقرأ مشاركه مشاركه ..
وهسه روحنا مشحتفه في انتظار حمي الجنون ...
هي فعلا حمي الجنون
هل تصدقي انهم لايدعونني انام
اينما ذهبت كانوا معي يتوقون الي اسماعي حكاياتهم وجعلي أري عذاباتهم
يتزاجمون
كل يريد انتزاع الخشبة وسرد الحكاية من موقعه ووفق التفاصيل التي يملك

صلاح سر الختم علي
01-02-2013, 06:39 AM
12
في تلك الظهيرة سال الدم في الأسفلت سقطت طالبة مضرجة بالدم في بقعة وفي بقعة أخري سقط طالب آخر، عادت معظم الطالبات الي الجامعة والداخليات حافيات ودموعهن جارية ، تم اعتقال مجموعة من الطلاب وتم اقتياد مجموعات أخري الي اقسام الشرطة متلبسين بالتظاهر والهتاف وعدم القدرة علي الفرار من عربات الاحتياطي المركزي المكتظة بالجنود والهراوات والغاز المسيل للدموع،لم تعرف هبة هل تضحك أم تبكي وهي تري أحد زملائها من ابناء كوستي بحجمه الضئيل وهو يهتف في وجه جنود الاحتياطي (يا بوليس ماهيتك كم رطل السكر بقي بي كم...) كانت قوة الشرطة في مواجهته ، ولم يكن يدري ان من حوله كانت هناك قوة اخري بملابس مدنية لها دور ما في قمع التظاهرات ،كان لايزال يهتف حين تقدموا منه وحملوه فوق اكتافهم ويمموا به صوب عربات الاحتياطي، وحين أدرك المكيدة كانت فرصة النجاة قد باتت مستحيلة فتم الالقاء به داخل العربة ولم يعد ظاهرا ولكن الخراطيش السوداء للجنود ظلت ترتفع وتنخفض مثل عصا في يد منجد بارع يشتغل علي كومة من القطن، أما هي فقد أطلقت ساقيها للريح هي والمجموعة التي كانت معها،عصرا كانت سارة تمازحها قائلة :(السودان لو كان عارف مواهبك في الجري كان وداك الاولمبياد ياهبة...الاولاد ماقدروا يحصلوك، شجرة وجارية، والله انا قعدت اضحك بس وقلت اليحصل يحصل...كان قبضوني بغني ليهم خواطر فيل واعمل فيها عابرة طريق ساكت....الله سترها واتخارجنا غايتو....)
لكن ضحكاتهن البرئية تحولت الي دموع غزيرة حين تواترت الانباء عن مقتل طالبة وطالب، أخذت الجامعة تغلي كالمرجل تلك الليلة، تبارت المكرفونات في الصراخ في وجه السلطة وتباري المتحدثين في استخدام الاشعار الملتهبة والهتافات ، بدت الجامعة بأسرها جالسة فوق فوهة بركان هائج يقذف الحمم بلا هوادة ولاتوقف،برزت مانشيتات صارخة في صحف النشاط الطلابية تنادي باطلاق سراح المناضل فلان والمناضلة علانة واخري معممة تنادي باطلاق سراح المعتقلين السياسيين والغاء القوانين المقيدة للحريات واخري تصرخ بالمجد والخلود للشهداء الابرار،جاء ود كوستي البطل الذي سيق الي عربة الاحتياطي غدرا ، جاء محمولا علي الاعناق حين جاءت عربة حكومية خجولة بثلة من المقبوض عليهم والمعتقلين واطلقت سراحهم قبالة داخلية ترهاقا ومضت لحال سبيلها مسرعة في خطوة فسرت بانها رغبة في أمتصاص الغضب الطلابي علي جريمتي القتل في الظهيرة، أهتزت الجامعة بالهتاف وهي تستقبل المفرج عنهم والغضب يتصاعد والحماس قد بلغ ذروته: الجامعة منار ولن تنهار....مليون شهيد لعهد جديد ...مليون شهيد لعهد جديد.... تسقط تسقط طغمة مايو...داون داون يو اس اي....... كانت البروق تتلامع في جباه المحمولين علي الاعناق والاصوات تتداخل والنهر الهائج يتلاطم في طريقه الي حيث نصبت منصات الخطابة في الميدان الغربي بالجامعة.

صلاح سر الختم علي
02-02-2013, 12:28 AM
13
في تلك الايام برز قاقارين علي مسرح الجامعة بشكل لافت ، فعلي منصة الخطابة في الميدان الغربي برزت موهبته وتجلت مع الكورال الذي كونه تحت مسمي مجموعة إرهاص للفنون، وقف قاقرين بسمته النحيل وطوله الفارع وأصابعه الرشيقة علي الجيتار وسط مجموعة الكورال وغنوا كما لم يغنوا من قبل ، غنوا شعرا يجعل صوفة جلدك تكلب كما عبرت عن ذلك هاجر بلغتها الفريدة، غنوا أشعار محجوب شريف التي تحمل صوته من السجن مناجيا أمه مريم ( يا والدة يا مريم ياعامرة حنية انا عندك زيك كم يا طيبة النية ....ياوالدة دينك كم دين الوطن كمين.....) يغني الجميع ودموعهم تجري علي الخدود وهم يبكون زميلا و زميلة لهم حصدهما رصاص غادر لانهما هتفا مجرد هتاف لايهز عرش باعوضة، لكن الباعوضة لم ترضه،فحصدت روحيهما، وكانوا يبكون مع الشاعر شوقه الي أمه البعيدة وهو يناجيها معتذرا( ماني الوليد العاق لاخنت لاسراق والعسكري الفراق بين قلبك الساساق وبيني هو البندم والدايرو ما بنتم يا والدة يا مريم)
ثم يرتفع صوت الكورال من جديد عاليا:
يمـة السجن مليان
رجالّة ما بتنداس
الختّو قبلي الساس
والشالو هّم الناس
والفات وليدًا ليه
وما مسّكو الكراس
ما سمعو يتكلم)
يتلوي قاقرين مع انغام جيتاره التي باتت عالية كهدير مظاهرة من مظاهرات تلك الايام ، وتعلو الأصوات والايادي ، فيبدو المشهد كأنه صلاة جماعية. وتتواصل الاغاني الملتهبة، ثم تخفت الموسيقي ويتناول خطيب ما المكرفون ويصرخ في الجموع بهتاف فيرددوا خلفه بصوت كهزيم الرعد والأرجل تدق علي الارض، فيبدو للجميع أن السماء ستسقط علي الأرض فزعا وخوفا.. ويتوالي الهتاف وتتوالي الخطب وفواصل الاناشيد ، وحين يأتي الصباح تدق الارجل الملتهبة حماسا الشوارع ويرتفع الهتاف عاليا ، وتتلون سماء الخرطوم بسحب دخان الغاز المسيل للدموع وتهاجر حجارة الارصفة صوب قبعات جنود الاحتياطي هجرتها الموسمية
وتختنق الاسماك في نهر النيل برائحة الغاز المسيل للدموع وتهرب العصافير من الشجر علي وقع الهروات علي الاجساد الفتية.وهناك كان قاقرين حاضرا يحمل حجارة بدلا من الجيتار نهارا ويهتف بصوت مبحوح مع الهاتفين وشعره الأسود يكسوه غبار.

mahagoub
02-02-2013, 10:26 PM
لست ادرى ما اعترانى
وجدتنى اعيش احداث اكتوبر الاخضر
وانا اسابق خيل السوارى
امتعتنا بوصفك التفصيلى
فكثر منا من عايش تلك اللحظات

صلاح سر الختم علي
03-02-2013, 04:11 AM
لست ادرى ما اعترانى
وجدتنى اعيش احداث اكتوبر الاخضر
وانا اسابق خيل السوارى
امتعتنا بوصفك التفصيلى
فكثر منا من عايش تلك اللحظات

هي فترة لاحقة له ولكن ربما تكون هناك ملامح مشتركة
سلمت اخي محجوب

صلاح سر الختم علي
04-02-2013, 06:37 AM
14
كان شيئًا عسيرًا علي الوصف ،شيئًا لم يحدث من قبل ولابعد، كانت أمواجًا بشريةً متلاطمةً تتدفق علي الشوارع بأصرارٍ عجيب، يختلط الهتاف وصوت العربات المسرعة والخطوات علي شوارع الاسفلت ووجوه العساكر المرهقة ، كن الثلاثة في قلب المظاهرات ، حيثما ذهبت المظاهرة ذهبت أقدامهن النحيلة وبحت حلوقهنّ بالهتاف، بدأ الأمر كلعبة خطرة أنجذبنّ اليها بروح المغامرة والفضول وحب الاكتشاف لعوالم جديدة لم يرتدنها من قبل، لكن كل شئ تبدل منذ قتلت تلك الطالبة ( التاية) ، ظلت عيونها المطلة من صورها المزروعة في كل ركن بالجامعة تناديهن سرًا وعلانيةً وتشحذ همتهنّ للبحث عن ثأر يعلمن انه عند الحكومة التي قتلتها وعند الجنود ذوي القبعات الحديدية والهروات السوداء وعلب البمبان وناقلات الجنود، بات الأمر شيئًا شخصيًا له ملامح معروفة لديهن، باتت المسافة بين وجهها وناقلات الجنود مسافةً مسكونةً بالخطرٍ والموتٍ الكامنٍ والهتاف والإصرار المستمر ،باتت هاجر خطيبةً بارزةً في الجامعة ينظر اليها الأولاد بإعجابٍ وترمقها البنات بنظراتٍ هي خليطُ من الاحترام والحسد، أما هي فبدت وكأنها كانت منذ ميلادها سياسيةً خبيرةً في مخاطبة الجموع وإثارة المشاعر وحشد الناس خلف مواقفها،إختارت هاجر مؤتمر الطلاب المستقلين رايةً لها تريحها من كثير من الإستقطابات التي ظلت هدفًا لها من مجموعات الجبهة الديمقراطية والاتجاه الاسلامي المتنازعة علي مسرح الجامعة نزاعًا يماثل في ضراوته نزاعات انصار الهلال والمريخ التي تجعل الجامعة عامرةً بالضجيج وبالجدال حين تقترب مباراة بين الخصمين أو يقترب الدوري من نهايته. إختارت هاجر منبرها وبقيت صديقتاها علي بعد مسافة من منبرها ولكنهن لايفترقن في كل المظاهرات والتجمعات، كانت سارة قريبة دوما من قاقرين وجبهته الديمقراطية وأصدقائه الذين يتحدثون شعرا ولاتفارق الكتب أياديهم ، لكنها ظلت حريصة مثل هبة علي وجود مسافة تظهر للجميع أن صداقاتها وإنتماء أصدقائها شئ يخصهم وحدهم ، أما هي فهي عصفور حر من كل أنواع القيود.لكن الجامعة وقتها لم تكن تلك المدينة الفاضلة أبدًا، فحين وقع صدام بالأسلحة البيضاء في ساحات الجامعة وداخلياتها بين طلاب التحالف بما فيهم الجبهة الديمقراطية وطلاب الاتجاه الأسلامي ، كان نصيب سارة وهبة من العلقة التي نالها طلاب التحالف أكبر من نصيب الطلاب المنتمين الي أحزاب التحالف ، لم تكن تلك المسافة التي تشبثن بها في أيام الحوار الحر كافية لدرء الأذي عنهن حين بات صراع الفكر صراع هراوات وسيخ ومعط شعر وركض ومطاردات لاتري في أكثر افلام الاكشن الاميريكية إثارة. هكذا نبتت للحمامات الثلاث أنيابُ ومخالبُ وأظافرُ ، ولم يعد لهن خيار سوي طي المسافة الوهمية والولوج في دفء القطيع،التحمت سارة بالجبهة الديمقراطية وباتت من أعلامها وزادت هاجر التزامها بمؤتمر الطلاب المستقلين ضراوةً وأضافت الي قاموسها نقد لاذع لأصخاب الايدلوجيا والعنف حسب تعبيرها، أما هبة فبقي فيها شئ من هبة ولم تتزحزح عن موقفها وإن اقتربت أكثر من صديقتيها وأضافت الي أصدقائها من كل بحر مراكبًا وضفافًا وأصدقاءًا.

صلاح سر الختم علي
07-02-2013, 09:07 AM
15

كانت الاجواء بالجامعة متوترة ، أنقسم مجتمع الطلاب الي مجموعات ، باتت كافتيريا النشاط كتلة من اللهب حيث باتت مسرحا دائما للندوات الصاخبة والصحف الحائطية ذات العناوين الصارخة والمثيرة ، ثمة وجوه غريبة كثيرة تتجول في المكان، خاصة في ندوات المساء، الفضول واشياء أخري دفعت كثيرا من الناس من فئات مختلفة لارتياد ذلك المكان المسكون بالأخطار والإثارة، ثمة طلاب بجامعات أخري تجذبهم صداقات وارتباطات سياسية أو صلات قربي الي الجامعة وزخمها، وثمة طلاب دراسات عليا وثانويات يجذبهم حنين وشوق الي عالم ساحر يتحرقون الي دفء الوجود فيه، كان سارة وقاقرين عالما قائما بذاته داخل ذلك الضجيج،كان المكان المحبب اليهما هو تلك البنشات التي تجمع بين الكتلة الخرصانية الصلبة وخشب متين وأشجار قصيرة القامة تحيط بها، كانا ينسرقا دوما الي بنش بعيد ويغيب الكون عنهما كمن يدخل في جوف غيمة تخفيه عن الهجير وعن الأرض ، عصفورين حالمين يتحدثا همسا بلا إنقطاع وبلا صوت كمن يصلي صلاة مقدسة،كانت ضفيرة سارة الطويلة المصففة(ذيل الحصان) منسدلة فوق ظهرها وهي جالسة في مواجهة قاقرين وكان القمر يبحث عن مكان بينهما لينصت إليهما،كان قاقرين في حضور سارة شخصا مختلفا عن ذلك الشخص الذي تعرفه الجامعة كلها بركانا ثائرا يلهب الأكف بالتصفيق حين يتحدث وحين يغني وحين يكتفي باللعب باصابعه علي الجيتار،كان قاقرين مفتونا بجيفارا حد الجنون، كان دائم الحديث عنه حتي ان سارة حفظت قصة حياة جيفارا عن ظهر قلب وحفظت ملامح وجهه وتسريحة شعره التي يقلدها قاقرين،رأته في خيالها في شوارع بيونس ايرس عاصمة الارجنتين بسمت نحيل وحقيبة مماثلة لحقيبة قاقرين علي ظهره أبان دراسته الطب وهو يئن من الربو الذي عاني منه وكان سببا في اعفائه من التجنيد القسري لكنه لم يمنعه من التجند طائعا في صفوف الثوار مستقبلا، ورأت جيفارا في سنته الاخيرة في الطب جائلا في امريكا الجنوبية بدراجة نارية ضخمة من بلد الي بلد متشبعا برائحة الناس والشوارع حتي بات وطنه قارة بأكملها بدلا عن وطن صغير فيها، ثم رأته وهو يصافح فيدل كاسترو لأول مرة في المكسيك قبل ان يعرف العالم كاسترو،وسمعت بخيالها جيفارا يؤدي قسم الانضمام الي الثورة الكوبية الوليدة في المكسيك أمام كاسترو،ثم رأته يدخل هافانا هابطا من جبال سييرا علي رأس ثلاث مائة مقاتل منتصرا مع المنتصرين. ورأته يقاتل في احراش زائير مع باتريس لومببا رافضا الفراش الوثير والسلطة في كوبا . وبكت سارة كمن يبكي عزيزا وهي تستمع الي حكاية اعدام جيفارا في بوليفيا في غابة فالي غراندي في اليوم التاسع من اكتوبر 1967.كان قاقرين يبكي بصوت مسموع وهو يحكي قصة أسر غيفارا واستلقائه علي الارض وعيناه المغلقتان ووجهه المتورم ودمه علي الارض يسيل ليسقيها رجولة وثورة مستمرة كما أراد. كانت سارة تبكي حتي بعد ان تعود الي الداخلية حين يهجعن وتحكي لهن كل ما حكاه قاقرين وتصف دموعه ودموعها تبلل خدودهن الثلاث. كان جيفارا حاضرا دوما في سهراتهن التي أردن لها ان تكون سهرات أسرار البنات ، فإذا بقاقرين وجيفارا يحيلاها ألي سهرات الغابات والرصاص والثورة المستمرة.

صلاح سر الختم علي
13-02-2013, 04:23 AM
16
(سارة غيمة سارة ) هكذا كان قاقرين يقول دوما عندما تجئ سيرة سارة، كان مستودعا لكل أسرارها الصغيرة، كانت كتابا مفتوحا أمامه مثلما كان هو كتابا مفتوحا أمامها، حدثها عن المطر في أواسط الخريف في طفولته في مدني وصوت الرعد المخيف والبروق المتلامعات وذلك الصوت المخيف الذي يقول الصغار انه صوت صاقعة وقعت في مكان قريب ، ويركضوا بأقدامهم النحيلة بحثا عن ملجأ منها،كان ثمة قصص كثيرة مرعبة عمن صادفتهم الصواعق وأحالتهم الي كتل متفحمة سوداء، كان ثمة همس أن كل من يكذب أو يسرق أو يقترف سوءا قد تصطاده صواعق الخريف وتدكه دكا،كان صوت المطر حين تنفتح أبواب السماء ساعات طوال متصلات صوتا جميلا، علي عكس صوت الرعد والبرق،كان ثمة صلة ما بين صوت المطر وصوت العصافير علي السقوف المصنوعة من الزنك، وكان منظر العصافير المبللة بالمطر منظرا حبيبا الي نفسه ، كانت تبدو سعيدة بالمطر ، وكان صوت الماء المندفع في الخيران الكبيرة المعدة لتصريف ماء الخريف صوتا فريدا هو الآخر، وكانت السبلوقات الصغيرة الراعفة بماء المطر ذات سحر آخر،أما الجنون الجميل فكان هو ركضهم تحت المطر في سعادة وفرح حين يجئ نهارا وهم يغنون: (يامطيرة صبي لينا في إيدينا....يامطيرة صبي لينا في إيدينا....) كانت الأمهات يصرخن فيهم وهن يلمحن الملابس المبتلة والمطر المتساقط منهم أسوة بذلك الساقط من السبلوقات، حين يتوقف المطر ويحل الظلام ويعلو نقيق الضفادع المنتظم، يركضون صوب دفء المواقد والحطب المشتعل والشاي باللقيمات الصغيرة السابحة في زيت الأغاثة الذي غزا بيوت الكمبو الصغيرة في مدني، كان دقيق القمح قمح الإغاثة أيضا، أما الحطب فهو حطب يجلبه الأباء من الخلاء البعيد علي ظهور عربات المؤسسة الفرعية للحفريات التي تنقلهم الي حيث يغيبون عن صغارهم وبيوتهم شهرا كاملا ، حيث يعملون في شق الطرق والقنوات المائية لما عرف بمشاريع التنمية في ذلك الزمان، كان والد قاقرين أحد اولئك العمال ، وكان قاقرين أحد اولاد الرفاهية، واولاد الرفاهية مصطلح اطلقه بعض ابناء الكمبو علي ابناء الكمبو بسبب طبيعة عمل الاباء التي تحتم عليهم الغياب الدائم عن دفء الأسرة في الخلاء البعيد حيث يعيشون في الخيام ولايسمح لهم العمل برؤية أسرهم الا بضعة ايام في نهاية الشهر يذهبون فيها حاملين الماهية ومواد الإغاثة من دقيق وزيت طعام ، يقوموا في تلك الايام القلائل بشراء احتياجات أسرهم وإحتياجات ميزهم المكون من دقيق الذرة والقمح واللحم المجفف المسمي الشرموط ، وفي تلك الأيام المسماة ايام الرفاهية ينعموا بدفء الأسرة وتنعم الأسرة بدفئهم، لذلك سمي البعض اولادهم أولاد الرفاهية، كان قاقرين يضحك وهو يقول( ابناء الرفاهية الذين لم يعرفوا الرفاهية أبدا، تصوري رفاهيتنا ياسارة كانت الذهاب الي الحلاق للحلاقة والمكتبة لشراء لوازم المدرسة وربما الحلواني لأكل حلوي أو شرب عصير طبيعي، كانت فرصتنا الوحيدة للتمخطر بصحبة ابائنا هي أيام الرفاهية تلك)
نظرت سارة اليه مليا وهي تري عيونه تلمع بالفرح ، رأت فيها مطرا غزيرا يعربد في شوراع تتلوي فرحا في شبق وهي تشربه، رأت بروقا تتلامع فوق أسنانه البيضاء، سمعت صوت الرعد، ورأت دمعة تسقط أرضا بصوت مسموع وهو يخفي آثارها بطرف كمه علي عجل، قالت له وصوتها يأتي من أغوار بعيدة: لا أتذكر شيئا من طفولتي سوي وجه جدتي وفمها الخاوي من الأسنان ونظارتها ذات العدسات الكبيرة وضحكتها الجميلة التي لاصوت لها أبدا لكن وقعها أكبر من هدير مظاهرة في مكان مغلق،لكنني لا أنسي ابدا تلك الأيام البعيدة القاسية في تلك المدرسة التي لم أحبها قط ولم تحبني هي أبدا،كانت مدرسة مختلطة، كنت صغيرة وغريرة ولم يك بمقدوري أبدا فهم تلك الدوامة التي وجدت نفسي في قلبها، وحيدة، وعديمة الخبرة، وقليلة الحيلة،أظنني كنت جميلة أو كان الناس يرونني كذلك، وأظنني كنت مختلفة، جرئية،محبة للمرح ، مشاغبة،واثقة من نفسها حد أنها تبدو لبعضهم مغرورة، محبوبة من الكل حد أنها تبدو لبعضهم مسيطرة ومتغطرسة وترغب في جعل كل من حولها خدما لها،لم اك شيئاً من تلك النعوت القاسية في الحقيقة، كنت مجرد طفلة باتت أنثي دون أن تلحظ ذلك، فظلت تتصرف كطفلة،فجلب لها ذلك متاعب لاحصر لها، كنت أفتح درجي الصغير في المدرسة صباحا فتخرج الأرض أثقالها، رسائل غرام ساذجة وقلوب محبين يخترقها سهم ، وعبارات رنانة: (مجنونك الي الأبد، حلمي ،أميرتي،) أشعار مختارة بعناية،زهور ذابلة داخل رسالة معطرة، شتائم بخط أنثوي: مغرورة، واهمة، أفعي سامة،........ اقسي ما وجدته كان رسما علي ورقة بيضاء يجسد ثعبانا بلا توقيع ولا تعليق سوي كلمة وحيدة: (الكوبرا)....يومها بكيت بلا توقف وخرجت من ذلك المكان البغيض ولم أعد اليه أبدا ...كان ذلك أول قرار اتخذته في حياتي ، وكانت تلك أول لطمة لطمتني لها الحياة بلا سبب ولاحكمة ظاهرة
كان ذلك شيئا لاينسي أبدا....

mahagoub
13-02-2013, 08:26 PM
امتعتنا بسردك ووصفك
لادق الفاصيل
فكأننا نعيش بينهم
نستنشق عبير الحريه
يسرى ويغلغل فى الاعماق

صلاح سر الختم علي
13-02-2013, 08:56 PM
شكرا اخي محجوب علي الاطراء والمتابعة

صلاح سر الختم علي
17-02-2013, 04:09 AM
17
تصاعدت وتيرة الأحداث في الجامعة وجامعات البلاد كلها، كان الجمهوريون فرسان الساحة وقتها ببيانهم الشهير المناهض لقوانين سبتمبر ، كان زعيمهم محمود في محبسه وهم يلهبون الحماسة في الجامعات التي كانت تغلي وتفور،وما أن افرج عنه حتي خرجوا بذلك البيان،كان قاقرين برغم خلافه الكبير معهم معجبا بالاستاذ اعجابا يماثل اعجابه بجيفارا، كان يقول لسارة همسا وجهرا( كم تمنيت التقاء محمود بجيفارا أو العكس، أحدهما كان سيذيب جبل الآخر في نيران عقله الجبار، كانت البشرية وجدت مخرجا من هذه الظلمات.. الاستاذ هو غاندي افريقيا وجيفارا هو والد الثورة المسلحة.) كانت سارة تضحك وتقول له بصوت خفيض أنت مجنون يا عصام... مجنون بشهادة.) هكذا كانت تفعل دائما، تخاطبه باسمه المجرد في حضوره، ولاتتحدث عنه في غيابه الا باللقب السائر عليه في الجامعة كلها، لم تك سارة تدري أن القادم في أشكال أخري ووتيرة متصاعدة شئيا لم يك يخطر لاببالها لا ببال أكثر المتشائمين،سريعا صدر حكم محكمة العدالة( الناجزة) بحق الاستاذ وتم تأييده، وتداولت وكالات الانباء العالمية خبر محاكمة العصر، ظلت الجامعة تغلي كالمرجل والشوارع تفور بالمظاهرات نهارا، والجامعة تعج بالندوات الملتهبة مساء،قال الرئيس ان المخرج هو التوبة أن اراد الاستاذ واتباعه السلامة،تواترت الانباء عن زيارات للشيخ في محبسه لاقناعه بالتخلي عن افكاره مقابل السلامة ، قالوا : كان يبتسم ولايعلق، مساء الخميس في نشرة التاسعة قال المذيع(سيتم غدا صباحاعند التاسعة تنفيذ حكم الاعدام في المرتد محمود) ووالي المذيع بقية اخباره ، كأنه يتحدث عن مباراة في كرة القدم،كانت الخرطوم شاحبة، الشوارع مكتظة بناقلات الجنود المتجه صوب ساحة الإعدام في سجن كوبر بمدينة بحري،كانت الجامعة تغلي ، كانت الجامعة فريقان، فريق متلهف للغد مغتبطا سعيدا، وفريق واجم ساخط لايملك سوي خطب ذرتها الرياح ، فلم تبلغ أعواد المشنقة في تلك الجمعة، جئ به شيخا في السادسة والسبعين يرتدي جلبابا أبيضا، يداه موثوقتان خلف ظهره، وجهه مغطي، كشف الحراس القناع عن وجهه لبرهة يسيرة، كان يبتسم،مثلما كان يبتسم حين رحل فلذة كبده وهو يقول(أنه ذاهب الي أب أرحم مني...)، كان لازال يبتسم حين سحب الحارس قطعتين من الخشب كان يقف عليها، ثم عم السكون.... وفي كراسي المتفرجين كان ثمة رعشة لاتخطئها العين، ثم دوي هتاف ....وبكي الراوي حتي جفت الدموع. وظلت الجامعة واجمة وميكرفوناتها صامتة خرساء في تلك الظهيرة ثم عاود خيلها الصهيل. كان قاقرين يبكي مثل طفل صغير وكان جيتاره مكسورا عند أقدامه ومفتتا الي عدد لايحصي من القطع الصغيرة.

صلاح سر الختم علي
19-02-2013, 03:44 AM
18

بات قاقارين فجأة في قائمة المطلوبين أمنيا، أكتشف ذلك بالصدفة، كانت أمسية من أماسي الجامعة الصاخبة، كان بالجامعة ندوة سياسية كبيرة تحدث فيها متحدثون من خارج الجامعة وداخلها، وكان قاقرين حاضرا بلا جيتار ولا أغاني، كان يلهب الأكف بالتصفيق و يشعل القلوب حماسة، في الصباح جاءت الأخبار عن حملة إعتقالات واسعة طالت معظم المتحدثين في الندوة، تواترات الاخبار عن أختطاف الأمن لطالبين من قيادات الطلاب من أمام داخلية ترهاقا، أحدهما من ابناء الجنوب الناشطين في الجبهة الوطنية الأفريقية في الجامعة كان يتمشي قاطعا الطريق من الجامعة الي الداخلية حين توقفت عربة بوكس مسرعة بطريقة استعراضية وقفز منها رجال أشداء وفي لمح البصر حملوه كحمل صغير والقوا به في جوفها وأنطلقت العربة مسرعة كما جاءت علي عجل، عربة أخري حاصرت مجموعة من الطلاب في شارع ضيق كانوا يتمشون فيه علي مهل بعد عشاء في مطعم فول قريب من الجامعة، كان هدفهم محددا، ركزوا عليه وأخذوه من بين رفاقه ومضوا علي عجل نحو المجهول الذي جاؤوا منه،ودع قاقرين سارة والشلة الصغيرة وأختفي من كل مكان كان حضورا فيه،لأول مرة في حياته كان ركوب البص من مدني الي الخرطوم بالنسبة اليه مخاطرة غير مأمونة العواقب، لذلك سافر الي الحصاحيصا بحافلة صغيرة مرتديا جلابية وعمة لم يرتديهما في حياته من قبل، بات شخصا آخرا، وكان بداخله شخص آخر يضطرب ويمور بغضب كبير، كانت إبتسامة ذلك الرجل تقف بوجهه دوما، يصر علي أسنانه في غيظ كظيم، يجتاحه شعور طاغ بأنه جبان ولافائدة فيه، تنتابه رغبة مجنونة في ممارسة خطابة ملتهبة في قلب سوق الحصاحيصا المزدحم باكشاك المرطبات المقابلة لبنطون رفاعة، ينظر الي أشجار النيم الكبيرة التي تنتشر في المكان وينتشر ظلها علي الحشود التي تملأ المكان، المطاعم الصغيرة، رائحة الشواء، زجاج مشروب الفرات الذي يميز المدينة، تنتابه رغبة في الوقوف وسط المكان والإفصاح عن هويته وسب النظام بكل ما يخطر علي البال،ينظرالي مدينة رفاعة فيتذكر أن صاحب الابتسامة الأخيرة كانت له صلة خاصة برفاعة، يتساءل هل هي الأقدار التي جعلته يختار الهروب علي مراحل لتكون رفاعة أمام ناظريه وهو يفكر في المواجهة غير المتكافئة بدلا من الهروب، تتهاطل الأسئلة عليه، ينظر في الوجوه، لايري إنعكاسا لما جري،هل تراه كابوس من كوابيسه الكثيرة؟...لا ..هاهي الحافلة تنهب الطريق الي مدني نهبا وهاهو يفكر من جديد: ماذا ينتظرك في مدني يا تري؟ هل عرفوا بهروبك؟ هل ينتظرونك عند مداخل المدينة بالأصفاد؟ هل من الأفضل أن تهبط من الحافلة قبل وصولها السوق الشعبي؟
قبل ان يعثر علي الإجابة كانت الحافلة تجتاز مدرسة المؤتمر وتتجه صوب الصينية قبالة نادي الإصلاح، ثم أنعطفت يمينا لتدخل السوق الشعبي
وتتوقف قبالة مكاتب مواصلات الجزيرة بلونها البرتقالي المميز حيث سبق له في صباح ما أن تعرض لعضة كلب كلفته رعبا وخوفا من خطر مجهول وعددا لايحصي من الحقن المؤلمة. كان المكان هادئا وعاديا ولم يكن ثمة أثر لخطر كامن أو كمين، أخذ حقيبته الصغيرة وتوجه سيرا علي الأقدام صوب الكمبو عابرا السوق الجديد من أقصاه الي أقصاه.

mahagoub
19-02-2013, 04:52 AM
واصل يا الحبيب

صلاح سر الختم علي
19-02-2013, 11:44 AM
19
قبالة سينما أمير توقف قاقرين، وجد نفسه مدفوعا بعاداته القديمة يتوجه الي صالة السينما حيث تلصق ملصقات أفلام الأسبوع، وقف متفحصا لها بالتفصيل وقد عادت به الذاكرة الي أيام ماضية كانت السينما ودار الرياضة في مدني أجندة ثابتة في برنامجه لاتغير فيها حتي زنقة الإمتحانات شيئا،خرج من الصالة وأشتري تسالي كأنه قادم من البيت كما كان يفعل في السابق قبل دخول السينما، كان في الحقيقة جائعا جوعا طويلا الي تلك الاجواء حد أنه فكر ان في الوقت متسع لادراك الدور الثاني الليلة، ثم تذكر أنه لم يبلغ الدار بعد، وان هناك أسئلة بلا أجابة حول وضعه المرتقب في الأيام المقبلة،واصل سيره والأفكار تتقافز من حواليه،في شقاوة حتي بلغ الدار والظلام قد بدا يرخي سدوله وثمة لسعة شتوية خفيفة تخترق عظامه النحيلة، دفع الباب بلا طرق ودلف الي الداخل، كانت رائحة اشجار الحنة تملأ المكان ولكن رائحة أخري كانت أقوي منها، تلك رائحة اللبن الذي كان علي النار، كان اخوته متحلقين حول حاجة زينب والموقد الذي كان لهب الحطب اسفله يتراقص مثل اشباح تتسلل في الظلمة، حين سمعوا صوته تدافعوا جميعا نحوه وفي لحظة اختلط دفء اللقاء بدفء المكان ودفء اقداح الشاي باللبن بالعناق الحار مع حاجة زينب،، تسرب الدفء الي روحه فنسي كل شئ يتعلق بظروف قدومه من الخرطوم هاربا من خطر اعتقال وشيك،ظل يقهقه ويثرثر ويضحكون حتي فرغوا من الشاي ولقيماته، وتمدد الليل حتي جاءت حاجة زينب بالفطير باللبن وغاصت اصابعه الخمسة فيه بلذة لايعرفها الا من تذوق الفطير باللبن الدافئ في ليالي الشتاء الطويلة،كان سريره معدا بعناية في الحوش الأمامي في الهواء الطلق، المخدة الصغيرة والبطانية نفسها التي تدثر بها آخر مرة كان بالبيت كانت كأنها لاتزال في نفس مكانها، نظر الي السماء ونجومها اللامعة علي قلتها،كان يسمع أصوات اولاد الفريق وهم يعبرون بجوار المنزل من الخارج ويسمع ضحكاتهم ومناداتهم بعضهم بالألقاب الشائعة فيضحك، يكاد يهبط من السرير ويلحق بهم فهو يعلم انهم بعد الثامنة مساء لايقصدوا الا أماكن بعينها فهم أما انهم ذاهبون الي عثمان علفكو لتظبيط الفول أو انهم ذاهبون الي النادي للضمنة والكشاتين أو انهم ذاهبون الي السينما الدور الثاني وغالبا تعقبها حفلة عرس في حي من الأحياء القريبة.
لكن حاجة جسده للراحة من جراء ارهاق طويل متصل وأرهاق السفر كانت أقوي منه عزيمة فراح يغط في ثبات عميق.

صلاح سر الختم علي
22-02-2013, 07:40 AM
20
في الصباح أفاق قاقرين نشيطا ورشف شاي الصباح مع أخوته بتلذذ وتمهل وكانت أمه سعيدة كطفل وهي تروح وتجئ بين مجلسهم في البرندة الصغيرة ومطبخها، كانت أجمل أيام حياتها حين يجتمع شملهم جميعا في الدار الصغيرة فتستعيد ذكري أيام كان البيت مكتظا فيها بالبنين والبنات والجيران والأهل والضحكات والجدتان اللتان ظلتا في حالة سفر وقدوم دائمة بين مدني والشمالية حيث الجروف والنخيل والحقوق والجذور والبيوت الطينية شبه الخاويةالغارقة في بحور من الرمال،تكفلت الجامعات البعيدة بالبنات والأولاد ، وغيب الموت الجدتان واحدة تلو الأخري،بقيت حاجة زينب مع اخوته الذين لم يبلغوا المرحلة الجامعية بعد،تنتظر في لهفة أوبة البعيدين وعودة الضجيج المحبب معهم الي الدار،في ذلك الصباح كان قاقرين صاحب الحظوة والإهتمام كله ، كان الأفطار فطيرا ساخنا بالروب المسكر، لايكاد الصحن يقارب نهايته حتي تضيف اليه حاجة زينب فطيرة جديدة وكمية أخري من الروب اللذيذ، أكل قاقرين كأنها المرة الأولي التي يتذوق فيها فطير أمه الشهير في الكمبو كله.
اعقب الفطير شاي منعنع قدمته أحلام بفخر كأنها تقدم الكون كله له.وكانت النشرة المحلية طويلة جدا ، شملت اخبارا عديدة القت علي عاتقه مهمات جليلة، تمتد من المباركة الي العزاء، الي زيارة مريض، الي السلام علي عائد من غياب طويل.أما اقسي الاخبار فكان هو زواج سمية من أحد أقاربها، تحينت احلام فرصة غياب قصير لشقيقه الأكبر عمر وزفت اليه النبأ وحذرته من السؤال عن سمية أو الاشارة اليها من بعيد أو قريب وهمست:(عمر حالتو تصعب علي الكافر. لكن تصدق انو اكتر زول في اولاد الفريق خدم في المناسبة)،عاد عمر قبل ان ينبس قاقرين بكلمة فصمتت احلام ومضت بعيدا في سكون ،سرح قاقرين بخياله بعيدا واخذ يسترجع شريط علاقة سمية وعمر، كانت علاقة يضرب بها المثل بين اولاد وبنات الفريق،كان عمر نابغا متفوقا وطويلا ووسيما ومحبوبا من الصغير والكبير في الكمبو، كان لاعب الكرة الماهر محبوب الجماهير عند عشاق الكرة والمغني العاشق للكاشف واغنياته والمجيد لها بشكل مذهل ونجم كل حفلة وبارتي صغير في الحي والاحياء المجاورة وكان فتوة الفريق عند اللزوم في مواجهة عصابات الاحياء الاخري اذا حدثت مشكلة وكان مرسال الجميع الذي يكلفه كل واحد بأي مهمة فينوم غفا كما يقولون فهو هميم ومتفان في خدمة الاخرين،أما سمية فهي شقيقة صديقه المفضل وصديقة اخواته وزينة بنات الفريق في رصانتها ورزانتها، كان الجميع يبتسم حين يري عيونها متعلقة بعمر حين يمضي من المكان كما تتعلق الاضواء بشمس غاربة،وكانت النسوة يتهامسن بخبث حين يرين عمر خارجا من منزل أهلها أو قادما اليه بصحبة شقيقها أو بدونه، وكن يتغامزن في الحفلات حين يغني عمر بصوته الجميل وعيونه متعلقة بسمية كأنه يغني لها وحدها، كان الجميع يعرف بطريقة ما ان عمر لسمية وان سمية لعمر ولم يفكر أحد أبدا في احتمال آخر، لكن المغترب القادم من المجهول وكون عمر تعثر لسبب غير مفهوم في دراسته واكتفي بشهادة ثانوية تقل كثيرا عن احلام أهل سمية، كل هذا قاد فيما يبدو الي هذه النهاية التي لم يتوقعها أحد،لكن الذي لم يفهمه قاقرين هو كيف تقبل عمر هذا الأمر بالصورة التي سردتها احلام، كيف استطاع ان يقف في صيوان عرسها كأنه لم يحبها يوما ولم يتمناها وكأن قلبه لاينزف دما وهو واقف كالجبل ظاهرا؟

mahagoub
23-02-2013, 05:20 AM
وصف جميل
لزمن لا نزال نعشقه
ونتمنى أن يعود
فقد كانت هى حياتنا
بكل تشابك العلاقات
والامتزاج بين ناس الفريق
كأنهم جسد وفكر واحد

صلاح سر الختم علي
23-02-2013, 08:11 AM
وصف جميل
لزمن لا نزال نعشقه
ونتمنى أن يعود
فقد كانت هى حياتنا
بكل تشابك العلاقات
والامتزاج بين ناس الفريق
كأنهم جسد وفكر واحد


نعم اخي محجوب كانت حياتنا تتدفق عذوبة وطهرا وجمالا وطمأنينة وكان الحب طاهرا برئيا وعلي مشهد من الجميع ينمو نبتة طيبة وحين يموت او تعترض سبيله ظروف يكون الفارس نبيلا والود باقيا فليس هناك رصاص ولاكشف حال ولا كراهية بعد محبة

صلاح سر الختم علي
24-02-2013, 04:04 AM
21

أختلي قاقرين بعمر في أول سانحة تهيأت له وصارحه بحقيقة موقفه وكونه ملاحقا بسبب نشاطه السياسي بالخرطوم وأنه يتوقع أن تمتد الملاحقة الي هنا بمجرد أن تتبين الجهات التي تلاحقه أنه غادر الخرطوم، عمر لم يك من بين أهتماماته ساس يسوس ، عالمه كله كان محصورا في عشقه لكرة القدم والطرب كما يقول عن الغناء، كان يفخر دوما بانه ينتمي الي حزب البهجة والكفر والوتر، كان يقول لعصام في ونسات الليل الطويلة بينهما في الحوش الصغير ببيت الأسرة بحي 114 المعروف بالكمبو لدي ساكنيه( تعرف يا وهم السياسة دي وهم كبير ساكت،كضب في كضب، الحكومة والمعارضة الاتنين ببيعوا الوهم وطوالي شغالين يا كديسة سكي الفار ويتجادعوا بالحجار، كورتنا دي الشكل ذاتو فيها فن وظرافة، والله تحضر ليك كورة في ميدان بانت الحكم فيها ود الشول ولا ود المبارك أحسن مليون مرة من الحطب الطويلة وهتافات المظاهرات، والله نقرشة عود ود اللمين تلم الناس وتحببهم في بعض أكتر من اجعص جكومة في البلد دي، يا اخي قوم لف، سياسة شنو، هم وغم وتقلة دم...) تضحك من قلبك ياقاقرين وتصمت في حضرة عمر ، فطول حياتك كنت مفتونا بطريقته في الحياة وفلسفته الخاصة التي جعلته اكبر أهلاوي في مدني وأقربهم الي قلوب ناس الاتحاد الذين يسميهم( البقر) بسبب شعارهم الأصفر ، ولايغضبوا منه ولاتراهم في حضرته الا سعداء باسمين، كانت صداقاته تشمل نيلاوية لايشجعون لونا سوي اللون الأزرق والابيض ولا يغيبون حتي عن تمرين النيل، وتشمل صداقاته محبين لجزيرة الفيل وشعارها الاخضر ومحبين للنهضة بشعارها زي اللونين الأزرق والوردي،وكانت له صداقات حميمة مع لاعبي وأداري أندية الشعلة والمدينة والموردة
المتجاورة في العشير والدباغة ترجع بعض تلك العلاقات الي أيام خلت كانت الأسرة فيها من سكان حي البيان وكان عمر لاعبا مرموقا في فريق ناشئين من تلك الفرق التي تغذي أندية بانت والعشير والدباغة بالنجوم، وكانت المدرسة رباطا آخرا ربط بينه وبين بعضهم،وحين أنتقلت الأسرة ذات صباح خريفي ملئ بالفراشات الملونة والحشائش الخضراء الي حي 114 في أقصي جنوب مدينة ودمدني، ظل عمر لفترة ليست بالهينة يساسق بين الكمبو وبانت وميادينها واصلا لصلاته القديمة ومشبعا لجنونه بكرة القدم، ثم عرف الطريق الي فريق المشعل ممثل 114 في الرابطة الجنوبية وعرفته ميادين الرابطة نجما لايشق له غبار، وانفتحت شبكة علاقاته الواسعة جنوبا لتشمل كل أندية الرابطة الجنوبية ومنافسيها من الروابط المجاورة، كانت روابط الناشئين في ذلك الزمان في قمة بريقها وسطوعها، وكانت مدني عامرة بالمواهب، لكن عصام فيما يتعلق بكرة القدم ظل في الظل دائما، بيد أنه كان مفتونا مثل عمر بالطرب وكان يفوقه بقدرته علي عزف أكثر من آلة موسيقية، ولكن المحبب عنده ظل هو الجيتار دوما،كانا نقيضين في اختيار الاصدقاء، بينما كانت شبكة عمر الاجتماعية أوسع من شبكة الفيس بوك التي ظهرت بعد تلك الفترة بسنوات عديدة وكانت تشمل خليطا من البشر يبدو متنافرا للوهلة الاولي ، لكن سرعان مايكتشف المرء ألف رابط مشترك بين أهله، بينما مال عصام الي أصدقاء لهم ميول متشابهة أو متقاربة مع ميوله، كانت القراءة والكتابة والشعر والرواية والموسيقي والرسم هي الشروط المؤهلة للدخول في عالم عصام، بينما كان عالم عمر يتسع حتي لشلة الغطس في ترعةأم شوكة البعيدة ودراويش المولد أصحاب الجبب المرقعة الخضراء ، وكان عمر الي ذلك مهووسا بالكوتشينة ومولعا بالقول أنه جاء في صندوقها، وكانت قمة سعادته حين يصرخ في الخصوم بتلك العبارات الماركة المسجلة حين يتعسهم الحظ ويعطوه كرت الفتوح المنتظر، كانت طريقته في الاحتفال في الكوتشينة هي ذاتها طريقته في الاحتفال بإحراز هدف في شباك الخصوم في كرة القدم، كان غياظا للخصوم من الدرجة الأولي وظريفا عند الجميع بذات القدر ولكنه مع ذلك خرخار كبير كم تسبب في أحداث صاخبة حين ينهزم في مباراة أو تمرين. في تلك الليلة كان عمر شخصا مختلفا، صمت طويلا ، نظر الي السماء الصافية كأنه يسألها حلا، ثم قال لعصام بصوت جاد لاأثر لشخصيته المرحة المشاغبة فيه: (حاجة زينب حقو ما تعرف حاجةياعصام.... دي اهم حاجة...الحاجة التانية قول للجماعة انك مزرور في الامتحانات وحتقعد مع أصحابك في معسكر مذاكرة عشان تبرر غيابك ، لانو أول حتة حيسألوا فيها الجماعة ديل اذا جو هي البيت وأحسن تكون بعيد منو،احسن تقعد مع شلتنا بتاعت الكوشتينة في بيت العزابة بي جاي، خليني انا اتابع الموقف حول البيت) ...كان يتصرف كأنه سياسي محترف وخبير فيما يتحدث عنه، فلم يقل عصام شيئا وماتت كل أسئلته بشأن سمية علي طرف لسانه. وفي الصباح التالي كان قد انتقل الي بيت العزابة كما خطط عمر.

فيض التشبع
24-02-2013, 07:36 AM
الاخ الاستاذ المبدع صلاح احببت المشاركة في قراءة كتاباتكم الرائعة اولا ثم ابداء رايا نقديا بعبر عن راي كاتبه المتواضع من باب الفائدة - الرواية جيدة الفكرة تتلمس افكارا وموضوعات شتى
وبسيطة الصياغة وضوحا يفيد المتلقى فقط اتمنى ان تراجع بعض العبارات التى قد لا يحتاجها المعنى في احيان كثيرة مثل ( وكونها كانت الريح تلعب بها) وكالمطر في( والخواطر تتهاطل عليها ) حيث تفهم من السياق و(تستأذن أو تطرق الابواب) حيث يمكن الاكتفاء بأحد المعنيين وهكذا .. الملاحظات لا تعيب النص فالفكرة جيدة وكتاباتك رائعة

صلاح سر الختم علي
24-02-2013, 08:33 AM
شكرا اخي الكريم علي مرورك

mahagoub
24-02-2013, 09:23 AM
جولة مجانية
بين فرق واحياء مدنى
وكانت جميلة وصافية مثل نيلها
وماخده من لونك اصالته ونضرته

صلاح سر الختم علي
25-02-2013, 03:34 AM
جولة مجانية
بين فرق واحياء مدنى
وكانت جميلة وصافية مثل نيلها
وماخده من لونك اصالته ونضرته
هي مدني مدينتي وحبيبتي التي ترعرعت فيها وشربت من عذبها ومن أنفاسها ملأت منطادي وحلقت وروحي دوما تشتهيها كما تقول اغنية ود اللمين

صلاح سر الختم علي
26-02-2013, 05:09 AM
22
زوار الفجر لم يتأخروا كثيرا، ففي اليوم الثالث لهروب قاقرين من الخرطوم الي مدني ظهرت وجوه غريبة في الكمبو وأخذوا يسألون عن عصام بالحاح تحت ذرائع مختلفة، تارة زميل له يريد منه بعض الكتب، وتارة أخري هناك رسالة مرسلة معه من أحد الزملاء، وثالث يسأل إن كان عاصم هنا أو لايزال بالخرطوم،عمر فهم حقيقة الأمر وأرسل الي عصام من يحذره، كان عصام وقتها في النادي مندمجا في قيم ضمنة مشتعل، حين همس الكنقس صديق عمر في أذنه بكلمات، بات الأمر شأنا عاما في لحظات، عقد اجتماع صغير للتفاكر حول المخرج وأستقر الرأي علي ضرورة مغادرة عصام للكمبو بليله هذا وتبرع الاستاذ حامد صاحب العربة الوحيدة التي كانت بالنادي وقتها وهو من ابناء الكمبو الذين رحلوا الي بيت مملوك للاسرة في حي مايو لكن علاقته بالكمبو وشلة النادي جعلته ساكنا بحي مايو وناديه لايزال هو نادي الكمبو،تبرع حامد بالمخاطرة بنقل المطارد عصام بعربته ، كانت فقرة غاية في التشويق فقرة إخراج عصام من النادي الي حيث العربة ليبقي منخفض الرأس بداخلها حتي أكمل حامد لعبه بالنادي بتربيزة الكوتشينة بشكل طبيعي وخرج في مواعيده المعتادة وحيدا نحو العربة، أدار محركها وأنطلق، وهكذا غادر عصام الكمبو داخل تلك العربة البيجو التي اصبحت فيما بعد صديقة له لسنوات طويلة ظلت فيها رفيقة وفية لصاحبها المعلم المهاب في مدني من أقصاها الي اقصاها لكنه كان ساعة الشدة مجرد ولد فريق مخلص لاولاد فريقه وعلي استعداد للتضحية بوظيفته ومكانته لاجلهم دون أن يسأل حتي من لون ولد الفريق السياسي، كان ذلك موقفا فريدا حفره الزمان في ذاكرة قاقرين خاصة حين إكتشف بعد تلك السنوات ان استاذ حامد قيادي بارز في الحركة الاسلامية التي كانت علي النقيض مع جبهته الديمقراطية. في تلك الليلة انتقل عصام مرة أخري تحت جنح الظلام من بيت استاذ حامد سيرا علي الأقدام الي منزل اهل الكنقس صديق شقيقه عمر القريب من منزل استاذ حامد وهناك كان مخططا له ان يختفي زمنا طويلا حتي تنقضي الهجمة الشرسة، لكن تطورات الأحداث اللاحقة فرضت عليه مسارا آخرا،بعد يومين من اختفائه اقتادت عناصر أمن النميري والده الشيخ الي مكاتبهم قبالة سجن مدني الكبير، كان والده هادئا وغاضبا، هادئا بطبعه وغاضبا لان ابنا من صلبه قاده الي موقف مماثل وهو الذي قضي حياته كلها باحثا عن سترة الحال ومتجنبا كل ما يمكن ان يسئ الي اسمه،قال لهم صادقا لا أعرف اين ابني ولم اكن موجودا عندما عاد من جامعته، كنت في الخلاءاعمل كثور في ساقية لاجله ولاجل اخوانه، لا أعرف أين هو.ابقوه حبيسا عدة ساعات وهم غير مصدقين ما يقوله، قالوا له ستبقي معنا حتي يأتي ولدك، قال لهم بصوت غاضب: في شريعة منو تقبضوني انا بدل ولدي؟ قالوا له بصفاقة: في شريعتنا نحن، ولدك لو ما عمل شوشرة ما كان في زول سأل فيهو، قال لهم : شوشرة؟ كيف يعني؟ كتل ولا سرق ولا حرق؟ قالوا له: أسوأ من ذلك .ولدك طلع مظاهرات وعمل ازعاج للسلطات وماعندو شغلة في الجامعة غير المناشير والخطب ، عامل فيها عنتر..نظر اليهم طويلا ثم صمت ولم ينبس بكلمة، تركوه وتجاهلوه نهارا كاملا، حين جاء عمر يسأل عنه وجدوا الحل من ورطة ابقاء أبيه في الإمساك به
، نادوه وقالوا له: ياحاج انت امشي بيتك نحن ما عندنا معاك حاجة، لكن ولدك دا قصاد داك، يجينا البطل داك ولا تجيبوا نفك ليك دا...يلا اتوكل...نهض الوالد ونظر الي عمر في عينه طويلا ، قال له عمر: امشي يا أبوي، امشي وخليها علي الله ، عوجة مافي. وفي المساء كان الكنقس غاضبا وهو يحكي الحكاية بتفصيلاتها لعصام وعند الختام نهض عصام وذهب سيرا علي الاقدام الي مكاتب الأمن قبالة السجن، سأل عن مكتب الضابط ، أشاروا اليه بلا أكتراث، فلم يكن فيهم من يعرف طريدتهم الشريرة،دخل عصام المكتب، وجد شابا في منتصف الثلاثينات وحيدا يكتب بالقلم في ملفات أمامه، لم يرفع وجهه لينظر اليه، حتي بعد ان القي عليه السلام، لم يرفع الرجل رأسه إلا حين قال عصام بصوت واثق: أنا عصام عبدالله الذي تبحثون عنه جئيتكم بنفسي.نهض الرجل واقفا ونظر اليه طويلا دون رد علي ما قاله، ثم قال له بصوت مهذب خفيض :أجلس ياعصام. في تلك الأمسية خرج عمر من حبسه وولج عصام سجن مدني الكبير في عنبر المعتقلين السياسيين المكتظ بكل الوان الطيف السياسي وقتها وبه عدد معتبر من قيادات النقابات العمالية، كان أصغر معتقل سياسي يلج في تلك الأيام، كان هناك محامون لامعون ، واطباء، ومعلمون ونقابيون كثر، كان العنبر منقسما الي قسمين، قسم به الاسلاميون الذين كانوا حلفاء الأمس القريب، وقسم فيه معارضون من أطياف متعددة أخري، الي ذلك القسم إنضم عصام.

صلاح سر الختم علي
26-02-2013, 11:58 PM
23

كان عنبر المعتقلين السياسيين مكتظا، فقد كانت البلاد مضطربة من أقصاها الي أقصاها، وكان السجن هنا هو صورة طبق الأصل لسجون متعددة في مدن السودان أكتظت بالمعتقلين من كل شرائح المجتمع، لذلك لم يشعر عصام بأي نوع من العزلة أو الخوف، خاصة ان افراد جهاز الأمن لم تكن لهم أدني علاقة بالسجن،فقط كان يخاف شيئا واحدا وهو أن يتم ترحيله الي الخرطوم كما فعلوا مع أثنين من زملائه ( طالب وطالبة) صادفهما في معتقلات الأمن لكن الأحداث المتلاحقة والأضطرابات المستمرة بالعاصمة فيما يبدو شغلتهم عنه، لذلك أقبل علي حياة المعتقل بشهية مفتوحة كأنه ولد هنالك، كان كل شئ مرتبا ولكل معتقل حصة في العمل موزعة بينهم، فالكل يطبخ ويحاضر ويغسل ملابسه ويكويها وفي نفس الوقت يتقاسمون الاخبار الواردة من الخارج والافكار والقصائد وحكايات الصمود وتاريخ الحركة السياسية وفتحت مواهب عصام المتعددة الطريق أمامه فبات ركنا ركينا في برامج المعتقلين الثقافية، كان يغني ويلحن بدون جيتار مكتفيا بأي شئ يصلح طبلا،وحين يغني وعود العاصفة لمحمود درويش بصوته القوي كان دوما يلمح دموعا تترقرق في عيون لم يتخيل يوما أن لها نصيب في الدموع، الغريب ان جهاز الأمن انتابته نوبة كرم مفاجئة فأمطر المعتقلين بكميات من سجاير البرنجي والبحاري والشاي، جلبها مأمور السجن وسلمها الي المعتقلين مبتسما فتقبلوها متوجسين، ثم ضحكوا وبعضهم يقول متفائلا: يبدو ان نهاية الطغمة دنت ، فارادوا استمالة القلوب، اضربوا خيراتهم فهي لنا في الأصل.سمعتوا ليكم بي سجارة كتلت ليها زول ولا شاي سمم ليهو زول؟ اضربوا ياجماعة وخلوها علي الله. في تلك الايام تناهت الي مسامعهم اخبار عن مسيرة الردع التي خرج بها انصار النميري تأييدا له في شوارع الخرطوم وكيف انها كانت وبالا عليهم ،وكان التفاؤل في محله فبعد ايام قلائل من ذلك في اليوم السادس من ابريل عام 1985 تحلقوا جميعا داخل السجن حول راديو صغير يستمعون الي بيان من وزير دفاع النميري عبد الرحمن سوار الذهب وهو يعلن انحياز الجيش الي الشعب بعد انهار المسيرات الشعبية المطالبة برحيل الدكتاتور.
كان صوت الرجل يأتي هادئا لا أثر للثورة أو الغضب فيه:
"لقد ظلت القوات المسلحة خلال الايام الماضية تراقب الموقف الأمني المتردي في انحاء الوطن، وما وصل إليه من أزمة سياسية بالغة التعقيد، ان قوات الشعب المسلحة حقناً للدماء وحفاظاً على استقلال الوطن ووحدة اراضية قد قررت بالاجماع ان تقف الى جانب الشعب واختياره، وان تستجيب الى رغبته في الاستيلاء على السلطة ونقلها للشعب عبر فترة انتقالية محددة، وعليه فإن القيادة العامة تطلب من كل المواطنين الشرفاء الأحرار ان يتحلوا باليقظة والوعي وان يفوتوا الفرصة على كل من تسول له نفسه اللعب بمقدرات هذه الامة وقوتها وأمنها".
ارتفع هتاف هنا وهتاف هناك :
عاش كفاح الطبقة العاملة
الله أكبر ولله الحمد
خيبر خيبر يايهود جيش محمد سوف يعود
بدأ السجن مسكونا بالغرابة،وارتفع الهتاف ، وبكي الرجال،وتصافحوا،ثم عادوا،الي وجومهم مجددا،همس البعض أن الأمر مجرد مسرحية فقط.ساد صمت ثم علا الجدال وأشتد،وانتهي الجدل حين جاءت جموع هادرة الي السجن
وخرجوا منه محمولين علي الاعناق وسط بحار هادرة من البشر في هجير شمس ابريل الساطعة في مدني

mahagoub
27-02-2013, 03:06 AM
قضة كفاح بطل
فهى تصوير ورمز لكل سودانى هميم
لا يرضى الضيم له ولوطنه
فلا ادرى لم استكان

صلاح سر الختم علي
27-02-2013, 03:22 AM
24
بات البيت الصغير المكون من غرفتين ومطبخ وراكوبة معروشةبالشرقانيات اللامعة كالذهب والذي تتوسطه شجرة قرض عملاقة، بات مزارا للأهل والأصدقاء الفرحين بسلامة عصام وإنقشاع الغمة عن الوطن،كان التلفزيون لايزال يبث مناظر المتظاهرين في الأيام الأخيرة للنميري وهم يحملون أغصان شجر النيم ويهتفون وهم يعبرون كباري العاصمة سيرا علي الأقدام، كانت الاناشيد الوطنية تصدح من الراديو والتلفزيون بلا انقطاع، كان عصام النجم المتوج في الكمبو في تلك الأيام، كان والده يبتسم وهو يحكي بفخر قصته مع شريعة أولئك الذين أتخذوه رهينة ولم يطلقوا سراحه الا بعد حبس عمر رهينة ولم يطلقوا عمرا الا بعد حضور عصام وتسليمه نفسه وكان يحلو له ان يختم قصته بآيات القرآن (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ
اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) ، كان عمر مبتسما هادئا يتجاذب أطراف الحديث مع اصدقائه الذين ضاق بهم المكان فتجمعوا خارج الدار الصغيرة في كراسي وشقت أصوات قهقهاتهم عنان السماء وكان استاذ حامد حاضرا هو الآخر بسمته الوقورولم ينبس ببنت شفة عن مغامرته الليلية في تهريب عصام من الكمبو، بقي مستمعا ومتداخلا بكلمات بسيطة وهادئة وأنصرف في هدوء كما جاء، كان عصام ينظر اليه ويود لو يأخذ كل واحد من الحاضرين جانبا ويحدثه عن شهامة الرجل وشجاعته ومخاطرته بنفسه في تلك الايام القاسية، لكن هاتفا خفيا قال له ان الرجل لا يحب ذلك فلاتغضبه ولاتجرحه، فلاذ بالصمت، وقفزت الي ذهنه صورة معلم من نوع آخر ، كان استاذا متعاونا في الجامعة وقاضيا في الوقت نفسه،، لاحقت قوات الاحتياطي المركزي طلابه حتي قاعات الدرس وضربتهم بقسوة وحملتهم كالنعاج الي ناقلت الجنود ومن ثم الي قسم شرطة والي قاعة محكمة كان الاستاذ قاضيها،نظر الي وجوه طلابه المتورمةوملابسهم الممزقة ولم ير فيهم سوي ما هو مكتوب باوراق البلاغات(مثيرو شغب)لم يكلف نفسه عناء النظر اليهم أو الاصغاء اليهم وأوقع عقوبة الجلد بهم، وحين وقف عصام وظهره للشرطي في ذلك الفناءوأرتفع السوط في يد الشرطي لم يهتز له جفن ولم تصدر عنه أنة حين لسع السوط ظهره كأنه حصان كارو هزيل يسومه صاحبه العذاب، حينها أرتفعت زغرودة من طالبة ما، تعالت الزغاريد ، ولم يعد عاصم يشعر بشئ، وحين توالت العملية في ذلك الفناء، أزدادات الزغاريد فقد كانت الموظفات بالمكان دامعات الأعين قد شاركن بلا وعي في الزغاريد، نظر عصام الي القاضي الأستاذ فوجد رأسه منكسا الي الأرض وصوت الشرطي يوالي النطق بعدد الضربات: 12/ 13/ 14....... وكانت الشمس ساطعة بوهج غريب

صلاح سر الختم علي
27-02-2013, 03:23 AM
قضة كفاح بطل
فهى تصوير ورمز لكل سودانى هميم
لا يرضى الضيم له ولوطنه
فلا ادرى لم استكان
شكرا اخي محجوب علي متابعتك الجميلة وتعليقاتك المحفزة

mahagoub
27-02-2013, 09:34 PM
تداعيات زمن عاشه الفرد
بكل ما فيه من معاناة
وتتوالى الحكومات
وليس فيها ما ينفع الناس
وتدور الساقية مرة آخرى

صلاح سر الختم علي
27-02-2013, 11:34 PM
تدور الساقية ويريدون شيئا ويريد الله شيئا ويفعل الله ما يريد

صلاح سر الختم علي
02-03-2013, 06:32 AM
25
كجبل صنعه طفل من رمال إنهار نظام النميري ومضي الي زوايا النسيان، برز في الساحة سادة جدد تلمع فوق اكتافهم صقور ومقصات ونجوم ويعطيهم الزي العسكري بريقا وهيبة، كانت الجامعة لاتزال مغلقة، ولكنها باتت من مراكز صناعة الحدث، ترك الأساتذة قاعات المحاضرات وخاضوا في وحل السياسة حتي الركب كما طاب لعمر وصف الأمر، بات نقيب الأطباء رئيسا للوزراء يتحدث عن زهور وأشياء لم ترد ببال من الهبت ظهورهم السياط وهتفوا تحت شمس الخرطوم في وجه رجال الاحتياطي حد الموت، حتي الأحزاب صاحبة السحر والمكانة الخاصة عند الطلاب قبل الانتفاضة باتت باهتة وظهرت لها وجوه عديدة أكثرها قبيح، باتت أحزابا في العلن لها مقرات معلومة وسيارات تجوب المدن بالميكرفونات التي تدعو لليال سياسية صاخبة كانت ذات يوم مثل الغول والعنقاء والخل الوفي،ظهرت في عالم السياسة مصطلحات جديدة شاعت في الأستعمال اليومي ( سدنة مايو) (بقايا مايو) وفي المقابل ( شراذم اليسار) (أحزاب السفارات)، خرجت صحف عديدة متشاكسة مسحت الأرض بكل شئ، بدا سوق السياسة نسخة مكررة من هتافات الباعة المتجولين في السوق العربي: (قرب جاي ...علينا جاي....قرب...قرب ...أوع يغشوك....تعال هنا الأصلي...الرخيص بي رخصتو يضوقك مغستو والغالي بي غلاتو يضوقك حلاتو....قرب..قر....ب ......) كان عمر أول الساخطين: (قلت ليك يا عصام ...السياسة في البلد دي وهم وضياع زمن...والله النميري بي استبدادو اخير من المولد دا.... والله ديل يدوهم فريق كورة ينزلوه من الاولي للتالتة في موسم واحد...يا اخي خلينا بالله...) ، كنت قد تعلمت فضيلة الصمت ياعصام في تلك الأيام، علا صوتك في الفترة الأولي وعلا صوت جيتارك في كل ركن في مدني ومن بعدها الجامعة والدور الحزبية والمسارح ، غنيت كل شعر وقعت يدك عليه وغازلت كل أمنية طافت بذهنك في أيام الحزن الكثيرة قبل سقوط النميري، غنيت بثقة من يري المستقبل أخضرا باسقا جميلا أمام عينيه، غتيت بكل إحساس فيك:

مساجينك مساجينك مساجينك

تغرد في زنازينك

عصافيراً مجرّحه بى سكاكينك

***

نغنى ..

ونحن فى أسرك

وترجف ..

وانت فى قصرك

كنت تنظر في وجه سارة وهي منفعلة مع النشيد ، فيعلو صوتك علي صوت الكورال:

برغمك نحن مازلنا

بنكبر بى زلازلنا

بنعشق فى سلاسلنا

وبنسخر..

!من زنازينك

مساجينك مساجينك مساجينك

تلتهب أكف الحاضرين بالتصفيق، تتحول الاغنية الي مظاهرة جميلة لايعكر صفوها جنود الإحتياطي وخوذاتهم الشبيهة بالرصاصة.
ثم يتغير الإيقاع ويصدح صوت جميل لتلك الفتاة :

حنبنيهو البنحلم بيهو يوماتى
وطن شامخ وطن عاتى
وطن خيّر ديمقراطى
وطن مالك زمام أمرو
ومتوهج لهب جمرو

فتبكي واياديك تعبث بالجيتار بمودة وتتذكر صوتا كان يغني ذلك النشيد كاملا في ظلمة السجن، كان صوتا خافتا لكنه صوت لاينسي وصاحبه لاينسي، فصاحب الصوت تاريخ يمشي بين الأحياء، نقابيا في أحد مصانع النسيج حيث يعمل حين أعتقلوه كان، نقابيا بينه وبين السجن عشرة طويلة ممتدة،وكان بينه وبين حبل المشنقة قاب قوسين أو ادني،قال ذلك وهو يبتسم كأنه يتحدث عن زيارة صديق ، استيقظ فضول عصام دفعة واحدة، لكن الرجل الصموت صمت ومضي. وبعد جهد جهيد تجمعت فصول حكايته من أفواه رفاق السجن كأنها قطع متناثرة من الزجاج كانت فيما مضي قطعة واحدة. كان عثمان ذات يوم شريكا في إنقلاب عسكري ضد النميري، كان دوره خطيرا وصغيرا لكنه كان كافيا للحكم عليه بالإعدام في حمي الإعدامات التي تعقب إنقلابات العالم الثالث الفاشلة دوما،لكن صدفة ما ونزوة ما للرئيس القائد حولت حكمه من الإعدام الي المؤبد، فنجا، وعاش ،وخرج من السجن مدنيا ليلتحق بوظيفة عمالية ويواصل انقلاباته المدنية ورحلاته صوب المحققين والسجون. كانت سارة تستمع الي قصص عصام الكثيرة عن رفاق السجن الغامضين، تتفرس فيه مليا وتقول بصوت هامس : (تغيرت كثيرا يا عصام، والعالم كله تغير حولنا، أشعر ان عالمنا الذي عرفناه يتهدم وينهار.....) يلفكما صمت، تقول لها في سرك قصدا فيخرج الكلام كما يخرج الهواء من صدرك حرا وعاليا:( أنت كوني الجميل الذي لايتغير يا سارة....انت غيمتي السارة) تبتسم سارة وتشيح بوجهها بعيدا خجلا.

صلاح سر الختم علي
02-03-2013, 09:54 AM
26
لكن كونك الجميل تهدم بغتة، كنت بعيدا في أطراف امدرمان لاهثا خلف إجتماع صغير يظن من يلهثون اليه أنه سيغير العالم وأن كل العيون متعلقة بنتائجه الخطيرة، كنتم تتجادلون جدلا عقيما حول الثورة وأعداء الثورة ، حول جدوي التغيير ، كان ثمة كلمات كبيرة تقال، ساعات طويلة من إستعراض العضلات اللفظية والفكرية، كنت مرهقا ويائسا بشكل ما ومرتبكا، كان ثمة شئ ما يحترق بداخلك، فجأة وجدت نفسك تخرج من الحجرة الصغيرة العابقة بالدخان الذي يبحث عن مخرج وأرضها ممتلئية بالسعوط وأعقاب السجائر، كدت تختنق، خرجت بلا مقدمات، لم تستمع لصوت من ناداك، مضيت راجلا حتي تجدد الهواء في رئتيك وأستعدت شيئا من توازنك، بحثت عن أقرب محطة مواصلات ويممت صوب الجامعة، كنت تحتاجها وحدها، هي وحدها غيمتك السارة القادرة علي أن تعيد الي كونك أوتاده وتوازنه، هي وحدها القادرة علي إعادة ترتيبك،كانت الحافلة تعبر النيل عند المقرن في هذه اللحظة ، فتحت صدرك للهواء وتنفست تنفسا عميقا كعادتك كأنك تريد التزود بمؤونة عام بأكمله من نسيم المقرن العليل، كانت أجمل لحظات حياتك هي حين تمر بهذه البقعة وتتنسم هذا الهواء ،كانت الحافلة تتهادي علي مهل ، من الإتجاه الآخر كانت هناك سيرة عريس تعبر النيل في الإتجاه المعاكس متجهة الي أمدرمان، كان صوت الدلوكة عاليا وصوت فتاة ما يرتفع بأغنية مشهورة من أغاني السيرة تتحدث عن ود القبائل السائر الي عروسه بالعديل والزين، ابتسم عصام وتخيل نفسه عريسا مخضب الأيادي بالحنة وعلي جبينه هلال ، ورأي في الخيال سارة السارة تعبر النيل من الخرطوم صوب أمدرمان بفستان أبيض متخذة شكل غيمة كبيرة يغطي ظلها المكان ويحجب أشعة الشمس ، رأي أشعة الشمس تتعلق بها وتجذبها نحو النيل، والنيل يرتفع الي الأعلي ، ثم ينحني عند قدميها الصغيرتان، تبتسم سارة، تنبت زهور ملونة علي أمتداد الضفتين، تظهر أسراب من الفراشات الملونة يرفلن في ثياب بيضاء ويحطن بسارة إحاطة السوار بالمعصم، تغيب سارة رويدا رويدا في النيل، لايبقي طافيا منها شئ سوي شعرها الفاحم السواد، يبدو متهاديا فوق الموج والأزهار البيضاء والملونة تحيط به كأنه حورية نصفها في الماء ورأسه طافيا فوقه، تصرخ بأعلي صوتك فلايخرج من حلقك شئ، تهزك يد ما، تسمع صوت الكمساري يقول لك ان الحافلة بلغت محطتها الأخيرة. تنظر حولك، تري أرتال من البشر، تسرع نحو ميدان ابو جنزير تقفز في حافلة من حافلات بحري، تنزل قبالة الجامعة، تسرع الخطي، تركض مسرعا حتي تلحق باليمامة قبل أن تغادر موقعها، مابالهم ينظرون اليك نظرات غريبة؟! مابالهم لايردون التحية بل يفتحون الأفواه في بلادة ثم يصمتون؟! بلغت الركن الأليف، كان العش خاليا من سارة السارة ومن هاجر ومن هبة ومن أي أثر، عدت أدراجك بخطوات بطئية إستشعرت شيئا غير عادي في المكان، كان ثمة دموع في عيون تعرفها،وحين احتضنك سامي وهو يبكي كالأطفال، بكيت دون أن يقول، بكيت، وكنت تسأل بجنون: الحاصل شنو؟ الحاصل شنو؟
نطق سامي.....لم تسمع شيئا ولم تر بعدها......غاب الوجود وغبت عن الوجود......

صلاح سر الختم علي
04-03-2013, 11:20 AM
27
باتت الجامعة جحيما لايطاق، وبات الوطن كله نعشا كبيرا لا أزهار منثورة فوقه ولامعزون متشحون بالسواد ولانساء نائحات ، لكن الفجيعة سكنت حتي أجنحة الطيور وأغصان الشجر ومقاعد الأسمنت المطعمة بالخشب في كلية القانون، حتي المين الرود الراقص دوما علي وقع الصبايا المسرعات شاخ فجأة وبات خرابة مهجورة تخرج منها العفاريت نهارا وتلاحقك بالسؤال عن الغيمة السارة، عن عيونها الواسعة وشفتاها المنفرجة دوما عن إبتسامة ضاحكة، حتي علب سجاير البرنجي التي كنتما تتبادلان الرسائل والرسومات علي ظهرها باتت هي الأخري خناجر تخرج من الظلمة وتنهض من الأرض وتستوي علي قدميها وتطاردك بالسؤال عنها، تبكي وتركض ، فتركض الاشجار علي جانبي الطريق خلفك وتلاحقك حتي البوابة حيث سفح دم الحمامة، هناك فقط تجفل الأشجار وتركض عائدة الي مواقعها، تبقي وحدك تتلوي علي جانب الأسفلت وتبكي حتي يدركك الرفاق ، تحملك الأيادي كما حملت الحمامة حين وقعت الواقعة، تستكين في أيديهم وتكاد تصرخ بهم ليسرعوا بك الي حيث رقدت حمامتك في قلب الخرطوم رقدتها الأخيرة دون أن تتزود منها بنظرة أخيرة حتي، لكنهم لن يحققوا مبتغاك ، تجد نفسك في قلب البركس، مروحة عتيقة تدور فوق رأسك وعيون محبة تحيط بك وشريط حياتك يدور أمام ناظريك كأنه فيلم من الأفلام العديدة التي شاهدتها مع سارة في سينما الbn ، تكاد تسمع صوت أنفاسها في الظلام، تكاد تري صدرها يعلو وينخفض، وتكاد تسمع صوت أرتطام دمعتها بالأرض في المشاهد الحزينة، تدرك الآن ان هذه الجامعة وما حولها تحولت الي مشنقة لن تقوي علي الوقوف تحت أعوادها ماتبقي لك من سنين دراسة، تدرك أن ثمة شئ ما ذهب مع سارة ولن يعود، تنهض، تلملم حاجياتك البسيطة، تنظر الي الجيتار نظرة طويلة، تراه دامع العينين باكيا كحصان يتوسل اليك في ضراعة الا تتركه هنا، تتوقف عن المسير، تتردد قليلا، ثم تتناوله في صمت وتسرع خارجا، لاتنظر حولك عمدا، تركض عابرا النفق الي الشارع، تقفز في أول حافلة وتغيب في جوفها، هكذا بهذه البساطة انتهت علاقتك ياعصام بدراستك هنا، لم تعد أبدا الا بعد سنوات عديدة. ظن الزملاء والأصدقاء أنك بحاجة الي استراحة ما، ظنوا أنها موجة حزن عابرة ستمضي الي حال سبيلها، لكن الأمر بالنسبة اليك كان مختلفا جدا. في الحقيقة كان كل شئ يتهدم ويتبدل ويمضي في اتجاهات لم تكن بالحسبان،كان الوطن قد بات مزعة لحم صغيرة تتجاذبها أياد كثيرة،المجلس العسكري بات مركزا من مراكز الإستقطاب وطرفا في لعبة ترويض الثورة النمرة، الثوار تفرقت بهم السبل، كل كتلة منهم سعت جهدها لتكون صاحبة النصيب الأكبر في كيكة السلطة القادمة كحصان سباق جميل وقوي لامالك له، بعضهم بات وزيرا في حكومة الجزولي دفع الله التي تمد يدا في العلن للتجمع الذي قاد الانتفاضة وتجاهر بأنها تمثله، ولكنها تمد يداً أخري في السر للمعسكر الآخر الذي سعي أهل المعسكر الأول غاية جهدهم لعزله وإبعاده عن دائرة الفعل، وكانت البزات العسكرية تمارس دور حمائم سلام بين المتنازعين وتمارس الرقص علي كل السلالم حتي سلم الحريق كما قال عمر وهو يصف الحال ويؤكد علي نظريته الخالدة حول السياسة والسياسيين( السياسة دي وهم كبير ساكت وكضب في كضب....هم وغم وتقلة دم وآخرتا خم)، كان عمر قد توقف عن الدراسة في مرحلة الثانوي العالي باختياره،كان ابوكما يريده مهندسا ولكن عمر المتفوق والأول الدائم علي دفعته لم يك يرغب في دراسة الهندسة، تصادمت الإردتان، كانت النتيجة رفضا قاطعا للمسار المرسوم ونتيجة متواضعة علي غير المتوقع، فأستشاط الوالد غضبا ، وعندها قرر عمر ان يعمل بشهادته تلك عله يستطيع إكمال تعليمه لاحقا، هكذا بات المهندس المرتقب مضيفا بريا في شركة مواصلات الجزيرة، الي حين، لم يكن يدرك مداه عمر. في هذه الاجواء الملتهبة قدر عصام أن الأسرة غير مهيأة لتحمل صدمة أخري،ولم يجد بداً من مواصلة دراسته عند اعتاب المشنقة.

mahagoub
04-03-2013, 09:14 PM
كم بكينا على وطن
تلاعب به الساسة والعسكر
فلا هم لهم سوى المصلحة الخاصه
فلم يأتى من همه الوطن والمواطن
ليبنى ويعمر وطن ملئ بالخيرات

صلاح سر الختم علي
05-03-2013, 04:34 AM
كم بكينا على وطن
تلاعب به الساسة والعسكر
فلا هم لهم سوى المصلحة الخاصه
فلم يأتى من همه الوطن والمواطن
ليبنى ويعمر وطن ملئ بالخيرات

ولايزال البكاء مستمرا ياصديقي

mahagoub
05-03-2013, 07:41 AM
ولايزال البكاء مستمرا ياصديقي

يعنى بقى فلم هندى

صلاح سر الختم علي
05-03-2013, 09:25 AM
28
تثاقلت خطي عصام تجاه محطات كثيرة كانت فيما مضي لها الأولوية في سلم إهتماماته، بدا ساخطا ومتبرما في الإجتماعات ، مدفعا سريع الطلقات، لايعجبه العجب ولا الصيام في رجب، متطرفا، حادا، وعشرات الألقاب والصفات التي طغت علي لقب قاقرين ، كان مادة دسمة في موائد مايعرف بالثرثرة في أوساط رفاقه الساخطين مثله من كل شئ، سكت الجيتار مع رحيل الغيمة السارة مرة واحدة، صمت المغني الأول والمؤسس لكورال أرهاص الذي بات الفرقة المفضلة في كل الجامعات، بات عصام ينفق جل وقته في الرسم ، كان يرسم كأنه يصلي ، ساكنا، صامتا، مستغرقا بكل مشاعره فيما يرسم، كانت عيون سارة حاضرة في كل لوحة، يرسم عصفورة فتجد العيون عيونها، يرسم الموناليزا ويستبدل عيونها بعيون سارة، كان يرسم عشرات الوجوه النسائية لكنها جميعا لها عيون واحدة ، كان لهاجر نصيب من لوحاته،كتب عليها أن تبقي عمرها كله صامتة تحدق في المجهول، كان المجهول عصفورا ملونا ميمما صوب السماء ،الوجه وجه عصفور والجسد جسد عصفور والعينان لسارة، زرفت هبة دموعا غزيرة وهي تنظر الي اللوحة وصوت سارة يأتيها من مكان ما : ( كنت أعرف عطره وأميزه حيثما عبر ، حتي أنني ذات مرة كنت أمشي في زحمة السوق العربي في ظهيرة حارقة حين أخترق أنفي عطره، رفعت رأسي وأخذت أجول بعيني في المكان ككلب بوليسي يتتبع لصا، لم يدم بحثي طويلا ، كان أمامي بأكتافه العريضة وشعره الكثيف وشنطته الأليفة المتدلية فوق ظهره كلبلاب متدل عبر سور الي الخارج، صرخت بأسمه بلا شعور، أستدار بسرعة حتي كادت نظارته الصغيرة تقع ، هتف بصوت ضاحك:سارة...لا أصدق...الملكة تتمشي مع الرعية!! أنفجرنا ضاحكين والف فاه مفغور ونظرة دهشة تتنقل بيننا ونحن نتقالد في وسط السوق ، كأننا رائدا فضاء أو مخلوقان فضائيان جاءا من القمر في التو والحين.)
بين دموع هبة وصمت هاجر ولوحات قاقرين مضت الأيام ثقيلة علي القلب، بات قاقرين كثير الشجار ، لكنه في الوقت نفسه بات هدفا يدغدغ أحلام الكثيرات في الجامعة، الوسيم القلبي رادو، الوجه الآخر للأسطورة سارة السارة، صاحب البريق والحريق واللوحات والجيتار والأشعار غامضة المعاني والعروق النافرة التي تجعل منه صورة مجسمة للفارس علي حصانه الأبيض، قال له عمر وهما ينظران سويا الي السماء المرصعة بالنجوم في ليلة خريفية قطعت الكهرباء فيها عن مدني بأكملها(البلد دي كل شئ سمح فيها محرم علي ناسها، لو لقوا طريقة النجوم دي ذاتا بشيلوها مننا....) ، غني عمر أغنيات الكاشف التي يحبها بصوته المجروح المسكون بحزنه علي سمية، غني بصوت موجوع :
رفا قلبي بجناح النسائم
وراح وشافك شاف جمالك وانت نائم
شافك لقاك اجمل ملاك
وردة ربيع غطاك نداك
يا وردة احلى من الزهور
مالو القمر ياحلوة خلاه الظهور
رسلت ليك قلبي هناك
جاني ورجع محتار معاك
احتار انا احتار انا
انا حبي وين
انا عمري وين
عمري المعذب كم سنة
احترت في عمرك سنين
يا من هناك ولا الهنا
بقت حياتي مقسمة
نص في الارض ونص في السماء
................... وجد عصام نفسه يغني مع عمر ودموعه تتهاطل :
احتار انا احتار انا
انا حبي وين
انا عمري وين
عمري المعذب كم سنة
احترت في عمرك سنين
يا من هناك ولا الهنا
بقت حياتي مقسمة
نص في الارض ونص في السماء

.....ثم صمتا فجأة....وأرتفع نشيجهما معا ،بكي كل ليلاه، كانت شجرة القرض الكبيرة تتمايل في الظلام كأنها ترتج مثلهما بالبكاء، ولم يدر أي منهما أن دموع ثلة من أولاد الكمبو سالت تضامنا معهما ، فالغناء كان عاليا والدموع كانت مسموعة والأحزان في الكمبو كانت مثل الأفراح مشاعة يتشاركها الجميع. في تلك الليلة غسلت السماء التي انبهلت بمطر غزير دموعهما وأجبرتهما علي لملمة فراشيهما والدخول في البرندة الصغيرة ومواصلة النقنقة مثل ذلك المطر المعروف بالشكشاكة في مدني. يومها قال عمر حكمة من حكمه الكثيرة: (انا لم اك استحق سمية ياعصام، كنت مشغولا بمباريات المجد والمشعل والأهلي والأتحاد أكثر من دروسي وحياتي وما كان ممكنا ان تنتظر سمية سرابا...بكت و قالت انها ستنتظرني عمرا وطلبت مني أن اتقدم لها حتي لاتباع..قلت لها: هل تريدين مني أن أضحك عليك أم عليهم أم علي نفسي؟ بكت بحرقة ودقت بيدها علي صدري كطفل حرموه لعبته الأثيرة، لكنني وقفت كجبل لاتهزه ريح وقصاب لاتهمه فرفرة الذبيحة، أغمدت خنجري في أحشائي ومثلت دور الشهيد وركضت في الظلام الي ابعد بقعة خالية وبكيت حتي جف في حلقي البكاء..... في ذلك اليوم أستقر العرقي لأول مرة في جوفي ، وفي الصباح لم أقو علي النظر في عين أمي حين نهضت لتؤدي صلاة الفجر في خشوع، كنت ملتفا داخل البطانية متمنيا أن تنشق الأرض وتبتلعني، فيما بعد لم أقو علي النظر في عيني سمية، بت محض شبح يتنقل في سكون كالظلال، لست بطلا ياعصام، طول عمري كنت أكره دور البطل..حتي في الافلام الهندية حيث يسبق صوت لكمته حركة يده ،ولهذا السبب رفضت الهندسة ورفضت الجامعة،أردت أن اكون ما أريد لا مايريد أبي، ولكن في النهاية قلت لنفسي بعد سنوات عديدة: ليتني كنت ما أراد أبي......ليتني ماعاندته)

صلاح سر الختم علي
10-03-2013, 11:10 PM
29

عمر لم يبق كثيرا بعد ذلك، كان يشعر دوما أن المكان قد ضاق به بعد زواج سمية وسفرها، كانت تلميحات الأصدقاء تضايقه كثيرا حتي وإن اتخذت شكل المزاح، كان كلما غني للكاشف في بارتي من بارتيات الحي الكثيرة لمح في العيون نظرات شفقة لاتخطئها العين، كان يفتقدها ويحاول التخلص من الذكري ولكن كل مايفعله للتخلص من ذكراها كان يعيده الي عالمها، لذلك قال يوما لعصام بطريقته تلك في اتخاذ القرارات الكبيرة:( البلد الفقر دي أنا كرهتها،تاني لو قطعوا رأسي ما بقعد فيها يوم.....بلد أضيق من خرم الابرة وغير الهم ونزف الدم ما بتدي حاجة....انا حاسافر...اغور اي بلد والسلام....) ، نزل الخبر كالصاعقة علي ابناء الكمبو وتناقلوه مثلما يتناقلوا أخبار مباراة الأهلي والأتحاد في كل مجلس ومناسبة ومكان، في النادي في عشرة الضمنة صرخ (عصام قبلة) صديق عمر وهو يعلن قفلته ويطرح قطع الضمنة خاصته علي الطاولة:( حربوز قالوا خلاص مسافر يا شباب) وحربوز هو تحريف للقب عمر الكروي السائد في الكمبو (حربة)، في بيت العزابة صرخ السماني : خمسين.... طار الكرت من التربيزة الي الهواء..وحين استقر علي الارض قال السماني مخاطبا الشلة: سمعتوا بي سفر حربة دا يا جماعة؟!، في تمرين فريق المشعل قفز بهاء الدين رومينغا عاليا ووضع الكرة في شباك الحارس (حسن القدون) الذي حاول عبثا صدها، وحين نهض( القدون) تحول الموضوع الي نقاش طويل حول سفر كابتن حربة المنتظر،ثم انتظم الحي كله في حفلات وداع لاتنتهي لدرة شباب الحي،أقيمت مباريات ملتهبة بين فرق المشعل والمجد وركن الجنوب في ميدان فريق الوحدة الذي اندثر وورث المشعل والمجد ميدانه الذي سطت عليه فيما بعد مدرسة السني الثانوية وضمته اليها وبات نسيا منسيا،في تلك المباريات شارك عمر ولم يترك هوايته الأثيرة في مكاواة الخصوم عند المراوغة أو احراز هدف ولم يترك عادته السيئة في الاحتجاج علي قرارات الحكام فكان نصيبه كرتا أحمرا في مباراة المشعل والمجد ليكون أول محتف به ينال بطاقة حمراء يوم تكريمه،ثم توالت البارتيات الخاصة بالوداع وكان أكبرها الذي اقيم في البيت ، اكتظ البيت الصغير وفاض وامتلأ بشباب الكمبو من الجنسين ونسائه ورجاله، كان احمد بوب هو المغني الأساسي وتخللت البرنامج فقرات بذلك الاستيريو الضخم وكلمات مؤثرات ونكات ولكن الفقرة الأجمل كانت حين غني عمر بصوته الحزين أروع أغاني الكاشف :
أنا يا طير
أنا ياطير بشوفك

فرحان وبتغني
وحبيبك معاك
وحبيبي
غاب عني

أنا ياطير موله
محزون لاني
وحيد
حبيبي غايب

و آه يا طير
و تاني علي مصايب
من ادهى الغرايب
لي اجمل حبايب
صدوا
وراحو مني

أنا ياطير حبيبي
للآلام تركني
وبدلل عليّ
وبالهجران هلكني

زعلان مني صد
وبي رايو استبد
اتناسى المودة
واعتاد التجني

همست حلوم لجارتها وهي تتتفرس في وجه عمر: (والله كان عاينتي كويس تلقيها في وشو وفي عيونو ظاهرة....ياها ذاتا..... الله يصبرك ويصبرنا.....) ثم تنهدت وغيرة شديدة تفتك بها وهي تقول لنفسها سراً ( ماعارفا العاجبو شنو فيها قشيرة دي...لكن الله بدي الجنة).... يستمر عمر في الغناء:
ياريت
كنت زيك
لو يجدي التمني
حبيبي يكون
معاي

وفي الاشجار نقيل
وبالاغصان نميل
بخفة جناحك
وحرية سراحك
....فيهتف الجميع بصوت كورالي عال:انا يا طير .....انا يا طير بشوفك
وتمضي الأمسية نحو نهايتها، ينزوي عمر جانبا ويمسح جبهته بمنديله ويمسح دمعة تسللت بسرعة ثم يعود الي موقعه وسط الأصدقاء. كانت أمه جالسة وسط النسوة كقمر في صفحة سماء تحيط به النجوم ، مبتسمة سعيدة كاشفة عن سن ذهبية تميزها مع تلك الشلوخ العريضة علي خدها، كانت سعيدة بكون ولدها يتمتع بكل هذه المحبة من أهل الكمبو، محبة تباروا جميعا في إظهارها ، حتي باتت الضيفة والمناسبة في بيتها، فنسوة الكمبو وبناته واولاده قاموا بكل شئ، لم يتركوها تفعل شيئا، لكنها في داخلها كانت حزينة لفراق ثاني ابنائها، فالكبير خطفته الوظيفة وقبلها الدراسة وجعلته مواطنا عاصميا يهل في الأعياد وايام الخميس والجمعة فقط،والأوسط أخذته الجامعة وهاهو عمر ييمم صوب الخليج. كانت تنظر اليه بمحبة ظاهرة وهو يتوسط أصدقائه باسما كأنه عريس في ليلة عرسه، فتبسمت، ودت لو كان بمقدورها أن تقبلهم جميعا وتشكرهم علي هذا الحب الطاهر لفلذة كبدها، كان أحب أولادها الي نفسها هو عمر،خيب ظنها وظن أبيه فيما يتعلق بدراسته بذلك العناد الذي لاتدري من أين أتي به ولكنها لم تكن غاضبة عليه أبدا، كان لومها كله موجها نحو أبيه برغم كونها في داخلها تشفق علي الأب وتعلم ان عناد ابنها ليس سببه الوحيد هو ضغط والده، كانت تعرف بطريقة ما أن عمر لديه مخطط خاص به لحياته وليست هناك قوة في الأرض قادرة علي زحزحته منه قيد أنملة.
بعد ذلك بأيام قليلة كان عمر في قلب الخليج ، حاملا جرحا نديا وامالا عريضة لم تشفع له فاستقر في وظيفة تصغر كثيرا عن تلك الأحلام وعاوده ذلك الاحساس القديم عندها: ليتني كنت ما اراد أبي.

mahagoub
11-03-2013, 08:47 PM
ليس كل ما يتمنى المرؤ يدركه
فحياة عمر عاشها كثير من الشباب
شكراً على السرد الرائع الذى يشدك من اول حرف

صلاح سر الختم علي
11-03-2013, 09:47 PM
شكرا استاذ محجوب علي القراءة المتصلة

صلاح سر الختم علي
15-03-2013, 03:49 AM
30


رن هاتف هبة ، كانت جالسة مع نجلاء في ركنهما المفضل علي ساحل البحر الأحمر، كانت أقدامهن غائصة في الماء كعادتهن، وكن يثرثرن بلا هدف ولاتوقف ، وضحكاتهن ترن في الساحل الخالي في تلك الساعة التي كن يتعمدن الحضور فيها لكون الساحل يكون خاليا تماما ، فشمس الظهيرة هي عدو لكل رواد الكورنيش علي أمتداد الساحل، تجاهلت هبة الهاتف، لكن نجلاء ابتسمت بخبث وهي تشير نحو الهاتف( يمكن يكون هو....هبوبك يارب....)تبسمت هبة وتناولت الهاتف الصغير ونظرت في الشاشة، تغيرت ملامحها، بدت اللهفة علي محياها وهي تهمس بصوت خفيض: ( قاقرين!! معقول....) وضعت الهاتف الصغير علي أذنها وهي تهتف بذات العبارة بصوت عال هذه المرة:( قاقارين...مامعقول....ما بصدق ...) أرتفع معدل فضول نجلاء حتي بلغ أقصاه، لكن هبة أنسحبت من قربها ومضت بهاتفها بعيدا عن صديقتها وهي لاتزال تمشي باطراف حافية علي حافة الماء في حذر،مياه كثيرة مرت تحت الجسر منذ ايام الجامعة التي أنطوت سراعا،تغير قاقرين كثيرا، وتغير الناس وتغيرت الحياة من حولهم لكن شجرة الصداقة الظليلة ظلت وارفة ولم يفرق بينهم عودة كل منهم الي مدينته بعد انتهاء سنوات الدراسة، عاد قاقرين الي مدني ثم عاد مجددا الي الخرطوم ليستقر فيها استقرارا دائما، عادت هبة الي بورتسودان واحتلت وظيفة باتت محور حياتها لكن روحها كانت تحلق بعيدا دوما وكانت تنتظر طائرا ميمونا يحلق بها بعيدا، وبقيت هاجر بالخرطوم حبيسة بيت أهلها بالشجرة،كان قاقارين دوما هو الساخط الاكبر
كانت هبة تشعر بسخطه كلما التقته أو هاتفته أو راسلها كتابة كما يحب أن يفعل دوما مع الاصدقاء ، سقطت السياسة من دائرة اهتماماته تماما، لكن حل محلها حلم دائم بالسفر بعيدا، تجرأت هبة مرة وقالتها له في لحظة صفاء نادرة: (عصام ...اظن لحدي هنا وحقو تقيف وتفكر....سارة لو ربنا قدر ليها تعيش وتشوفك بتخاصم كل شئ بتحبوا وبتتعامل مع الدنيا تعامل زول راكب ليهو بص دايرو ينقلب ويريحو ما كانت قبلت ليك كدا...عصام انت ليه مصر انو توقف الزمن هناك؟)....صمت عصام طويلا...أكثر مما توقعت...لمع في عينيه شئ يشبه الدمع...نهض وهو يقول: هبة عليك الله اعذريني...اعذريني....ثم أسرع مبتعدا ، بدا كأنه يهرب من شئ ما....بقيت هبة مشدوهة ومصدومة من تصرفه ، لكنها لم تغضب، كانت تعرف أن المه أكبر مما تتصور ، وانها وطأت موقع الجرح، كانت تظن أن تلك السنوات كانت كافية لكي يصبح الألم أقل ضراوة، لكنها كانت مخطئة.بعد ذلك اليوم لم تطالب عصام بتوضيح أو اعتذار ولم يفعل هو شيئا من ذلك، ودون نقاش أسدلا ستارا علي الحدث، لم تفتح الموضوع ثانية. وساعد تباعد اللقاءات علي طي الأمر.لكن عصام كاتبها وشرح لها الكثير مما كانت تجهله، شعرت وهي تقرأ كلماته المبللة بالدموع وخيبة الأمل واليأس والقنوط أنها تبكي نفسها وترثي نفسها وهي تبكي علي وقع كلماته، شعرت ان القدر الذي جمعهم هو نفسه بات سجنا كبيرا يصعب خروجهم من ظلامه،كانت هبة أينما ذهبت تسمع صوت عصام يخرج من الأوراق:(سارة لم تكن مجرد زميلة ياهبة
كانت كونا غاب بأكمله....) كان وجه سارة يتمدد في الفضاء ويحتل السماء كلها ، كان كل نورس يحلق في الساحل يأخذ شكل وجهها وابتسامتها، كانت هبة تشعر وقتها بان بورتسودان باكملها تعرف سارة وتحبها مثل قاقارين ومثلها.كان قاقرين في تلك الظهيرة يتصل ليقول انه قادم الي بورتسودان في مهمة عمل تستغرق بضعة ايام ، قالت له هبة في لهفة لم تستطع اخفائها ان هذه الايام هي اجمل ايام بورسودان: هي ايام الغيم والمطر الجميل والنسيم العليل
وازدحام المدينة....عازماك سمك في السقالة ما تناساهو عمرك كلو.....ضحك عصام وشكرها وانتهت المكالمة.بات مزاج هبة معتدلا بشكل ظاهر وحكت بحماس لنجلاء ملخص الحوار، كانت نجلاء تعرف عصام وقصته مع سارة وتعرف أكثر من ذلك أن ثمة وميض نار في قلب هبة تجاه عصام لكنها تخفيه بعيدا، فتبسمت نجلاء بغموض متعمد لم يفت هبة ملاحظته ولم تفتها عبارة نجلاء الموحية( بورتسودان نورت والله وسمك السقالة دا ما يفوتنا......)..لكن هبة أختارت الصمت وتجاهل الإشارات الخفية في نظرات وكلمات نجلاء.

صلاح سر الختم علي
15-03-2013, 07:48 AM
31

رن الهاتف مرة أخري بالحاح ، نظرت هبة الي نجلاء وابتسمت وهي تقول : هبوبك يا رب...هو المرة دي، كان المتصل هو خالد هذه المرة، كان قد اعتاد ان يتصل عليها في هذا التوقيت بالذات فهو يعلم انها تكون عند الساحل وان اقدامها تكون في الماء وان مزاجها يكون معتدلا ، ضحكت حين قال لها ذلك كله عند بدء المحادثة كعادته ولكنها فأجاته بالقول انها بعيدة عن الماء وان كانت بالساحل كما توقع،لم تشعر بانها كانت تتمشي وهي تكلمه الا حين ارادات مداعبة نجلاء فتلفتت ولم تجدها بقربها، كانت قد ابتعدت كثيرا عنها دون ان تشعر وصوت خالد العميق يأخذها الي عوالم بعيدة، ارادت ان تحكي له عن قاقرين لكن شيئا ما منعها ووجدت نفسها تتحدث معه في كل شئ الا المكالمة السابقة وما أحدثته في روحها من هزة أرضية، لكنه بحدسه الرهيب توقف اثناء الحديث وقال لها بلا مناسبة: هبة شكلك ما مجمعة...في حاجة مضايقاك؟... بلعت ريقها بصعوبة وهي تقول في تعثر من ضبط بجرم مشهود: لا والله ابدا مافي حاجة...ليه يعني؟ عشان سكتا كم مرة اثناء الكلام...عادي...ما تشغل بالك.....لكن باله انشغل...وبالها هي انشغل أكثر، لم تدر لم اضطربت كل هذا الاضطراب ولم شعرت بانها كذبت علي خالد اول مرة في علاقتها به، ولم تدر لم اربكها سؤاله كل هذا الارتباك...هل تراها محقة في تلميحاتها نجلاء؟ هل تراها منجذبة نحو عالم قاقرين مذ كانت شاهدة علي ولادة علاقته مع سارة وحتي رحيلها الفاجع؟ هل تراها تفكر في الجلوس في العرش مكان الغيمة السارة؟ هل بلغ بها عدم الوفاء حد تحريض قاقرين علي النسيان لمصلحتها هي؟ هل كانت كاذبة وهي تناديه بالخروج من الماضي وكهوفه وتستشهد بان سارة ما كانت لترضي منه هذا الانكفاء علي الماضي؟ هل جننت يا هبة؟ طال صمتها وكان صوت خالد يأتي من بعيد مملؤا بالقلق: هبة.هبة ..انتي معاي....بلعت ريقها بصعوبة أكبر وقالت: ايوة معاك...معليش معاي نجلاء ومفروض نمشي ...بضرب ليك بعدين...واغلقت الهاتف كالهاربة من شئ ما.

مرتضى يوسف العركي
15-03-2013, 08:26 PM
أبهرتنا سيدي بالمستوي الفكري الرائع
سواء في التحرك أوالخفة والتنقل من خصوصيات إلي عموميات
بهذا الطرح الدرامي والذي يبدو خفيفا
برغم محدودية أطره وشخوصه وموضوعاته
بيد أنه غني بما يتدثره من عمق فكري وفلسفي بإذدواجية التأثير والأثر
بما يجزل عمق الرؤية وسهولة تلقيه أيما كان.
المتأمل لطرحكم ربما يلاحظ
مدى تلازمه مع أدب النقد الألماني مع حذف سخريته فقط
وإلى رمزه الكاتب الرائع فريدرش دورنمات في روايته ظل الحمار ...
التي تتحدث عن المسئولية الأخلاقية فهو لا يتبنى في ظاهره إجابة ما عن هذا السؤال
بقدر ما يتحرك الخاص نحو العام ... ويتساءل من المسئول أخلاقياً عن النتائج؟
وإكتفائه ...
ما يدرك بالعقل لا يصل إلا بالعقل ..وما يدرك بالحس لا يصل إلا بالحس
شكرا أستاذنا وتقبلني متابعاً فهي نافذة نحتاجها برغم لهث الإغتراب الممل

mahagoub
15-03-2013, 09:07 PM
كما عهدتك دائماً
تجرفنى حروفك الى الاعمق

صلاح سر الختم علي
15-03-2013, 09:11 PM
32
مضي المساء ببطء قاتل، كانت هبة ساهمة شاردة وهي متناومة بلا نوم يجئ، كانت الأفكار تتهاطل عليها كالمطر، كانت تسترجع شريط حياتها كله سطرا سطراوتتوقف أكثر عند تفاصيل صغيرة لم تكن تبدو ذات أهمية في وقتها لكنها الان تقفز الي الصدارة، تتذكر الأيام الأولي في الجامعة وعلاقتها الضاحكة دوما مع قاقرين، عرفته قبل معرفتها بسارة وقبل معرفته وسارة ببعضهما بوقت طويل، كانت تحب الشعر محبة لاتخفيها وتطارد الأنشطة الثقافية بحماس دافق، تستمع وتصفق وتحفظ بعضه وتقرأه وتكتب سرا وتمزق ما تكتب في أغلب الأحيان، فقد كانت تبدأ بكتابة قصيدة وينتهي بها الأمر وهي تسرد حكاية مخبؤة في اعماقها ومنتزعة من ذاكرتها،كان الشعر يقودها دوما الي القصة والنثر وهي تشعر دوما بان القصة تعريها وتفضحها خصوصا أمام من يعرفها جيدا،تتذكر اول مرة التقت بعصام، كان ثمة ندوة شعرية وكان الشعر ينساب مثل معزوفات موسيقية كلاسيكية، كانت تصفق بحرارة وتهتز مع الايقاع كأنها موشكة علي المسير، شعرت فجأة ان هناك من لاتنزل عيناه عنها،ابتلعت ريقها بصعوبة، استدارت ببطء شديد لتضبطه متلبسا بالتحديق فيها، لكنها لم تجد سوي شاب هادئ السمات يستمع في انصات المنبهر وهو ينظر أرضا، لكنها أدركت بحس الأنثي فيها انه هو الناظر اليها، نظرت اليه طويلا فشعرت به يضطرب وضربات قلبه تتسارع، أشاحت بوجهها وابتسمت بخبث، التقط عصام شبح ابتسامتها فتشجع قليلا، ابتسم هو الاخر ثم همس :( انا عصام عبدالله، من مدني، برلوم جديد لنج زيك...) ضحكت وقالت بطريقتها المألوفة:( القال ليك منو انا برلومة؟!في ختم في جبهتي ولا عرفت من طريقتي في التصفيق؟) ضحك عصام ومد يده فصافحته بحرارة اصدقاء قدامي
وانساب الحديث وتدفق بينهما، غاب المكان الذي يسع الجميع ، وولد المكان الذي يسعهما فقط، كانا متحمسين للتعارف بشكل غريب،لم تكن هبة من ذلك النوع الذي يتواصل بسرعة مع الجنس الآخر، لكنها وجدت نفسها تتصرف مع عصام بطريقة مختلفة وتنجذب نحو عوالمه انجذابا لم تقو علي مقاومته او التحكم بايقاعه ابدا، بعد وقت يسير انسحبا من المكان المزدخم ومن الضجيج وانتحيا ركنا هادئا في الجامعة وطفقا يقلبان سويا صفحات حياتهما، حدثته بحماس عن بورتسودان وسنكات والعقبة المخيفة وكيف ان اطرافها تتيبس طيلة فترة عبور البص للعقبة وهو قادم الي بورتسودان أو خارج منها، حدثها عن مدني والخريف والفراش الملون واللعب بالطين والسباحة في الترعة دون خوف من البلهارسيا الكامنة، قرأ لها اشعارا كثيرة يحفظها بطريقته الخاصة التي تجعل منها فراشة تحلق مع كل كلمة ثم تهوي مع السكون حين يغيب صوته، ارتادت معه مدنا لم تسمع بها من قبل وشوارع وازقة وسير ذاتية لشعراء وكتاب متمردون، سمعت لاول مرة بأمل دنقل ويحي الطاهر عبدالله ولوركا الاسباني وعيون الزا ، كان عصام كونا فريدا مبهرا، كانت تتحين فرص استغراقه في القراءة فتتأمله خلسة وتكاد تري الدم الجاري في العروق، تشعر نحوه بأمومة غريبة، تنظر الي شعره وهي تبذل جهدا خارقا حتي لاتمد يدها لتلامسه،كان بركانا زلزل سكينتها، وكان منطادا حلق بها نحو الأعلي ، ارتادت معه أفاق بعيدة في ماضيه وفي مستقبل كان يحلم به، كان حين يحدثها عن ابيه وعن عرقه الطاهر وعمله تحت شمس قاسية
وتغربه في خلاء بعيد تري شلوخ والده وشلوخ والدها، وتسمع صوت قطار يحمل في جوفه والدها دوما بعيدا عن اطفاله، قالت له انها بقدر ما احبت القطار كرهته حين أدركت انه يحرمها من حضن والدها الدفئ، كان والدها سائق قطار يجوب المحطات البعيدة ولايملك سوي دار صغيرة بها قطية اسمنتية في سنكات، وكان والده سائق كراكة يتنقل في مشاريع الزراعة ولايملك سوي بيت حكومة صغير في الكمبو في مدني،كانت ثمة تفاصيل كثيرة متشابهة وثمة اشواق كثيرة متشابهة بينهما،اما الان بعد كل هذه السنوات فقد توقف القطار وخرج سائقه من البيت ابو قطية الي دار فسيحة في كوريا في بورتسودان وبات بطريقة ما تاجرا صغيرا في المدينة، وهناك توقفت الكراكة وترجل صاحبها وانتقل من البيت الصغير في الكمبو الي بيت فسيح في حي مايو تموله اياد خرجت من صلبه وشقت طريقها في الحياة وقالت لصاحب الظهر النبيل آن لهذا الفارس ان يستريح ، قالت هبة لنفسها وهي تسترجع هذا كله: لماذا تصرين علي حذف الجزء الخاص بها من الرواية؟ لماذا تنكرين وجودها بهذا الشكل الغبي المفضوح؟
لم تكن تملك اجابة، كان صوت المؤذن رخيما عذبا وهو يؤذن لصلاة الصبح،فزعت وهي تتبين انها لم تنم حتي اللحظة ثم غشيتها طمأنينة تغشاها دوما عندما تسمع الآذان، ادت صلاتها ثم غابت في نوم عميق.

صلاح سر الختم علي
15-03-2013, 09:18 PM
أبهرتنا سيدي بالمستوي الفكري الرائع
سواء في التحرك أوالخفة والتنقل من خصوصيات إلي عموميات
بهذا الطرح الدرامي والذي يبدو خفيفا
برغم محدودية أطره وشخوصه وموضوعاته
بيد أنه غني بما يتدثره من عمق فكري وفلسفي بإذدواجية التأثير والأثر
بما يجزل عمق الرؤية وسهولة تلقيه أيما كان.
المتأمل لطرحكم ربما يلاحظ
مدى تلازمه مع أدب النقد الألماني مع حذف سخريته فقط
وإلى رمزه الكاتب الرائع فريدرش دورنمات في روايته ظل الحمار ...
التي تتحدث عن المسئولية الأخلاقية فهو لا يتبنى في ظاهره إجابة ما عن هذا السؤال
بقدر ما يتحرك الخاص نحو العام ... ويتساءل من المسئول أخلاقياً عن النتائج؟
وإكتفائه ...
ما يدرك بالعقل لا يصل إلا بالعقل ..وما يدرك بالحس لا يصل إلا بالحس
شكرا أستاذنا وتقبلني متابعاً فهي نافذة نحتاجها برغم لهث الإغتراب الممل
يد خبيرة هي التي مرت من هنا
تناولك للرواية مبهر يجعلني انا كاتبها اراها من جديد
والله سعدت كثيرا بكل حرف
وكلمة
شكرا لك اخي مرتضي علي هذا العمق في الطرح والتناول

صلاح سر الختم علي
15-03-2013, 09:20 PM
كما عهدتك دائماً
تجرفنى حروفك الى الاعمق

ياصديقي صدقني انت الأعمق وانت من يزين النص

صلاح سر الختم علي
16-03-2013, 12:06 PM
33
تزينت هبة علي طريقتها الخاصة في ذلك الصباح، كانت لاتحب الإسراف في التزين ولاتميل الي الأكسسورات الكثيرة التي تميل اليها بنات جنسها، خصوصا الأساوروالسلاسل والأقراط والرموش الصناعية ، وكانت قد اكتسبت عادات جديدة في فترة ما بعد الجامعة، فقد باتت تلبس شرابات سوداء طويلة في قدميهاوتغطي بها ساقيها وتحرص علي تغطية شعرها تماما، كانت تعرف جيدا ان مكامن قوتها في عينيها الواسعتين وأسنانها البيضاء المنتظمة كعقد نضيد من اللؤلؤ،وقوامها الفارع، وكان ذلك حسبها،كانت اربع سنوات قد إنقضت علي آخر لقاء جمعها بعصام وكانت حريصة علي ان تبدو في مظهر حسن أمامه،أطالت النظر الي نفسها في المرآة وهي تتخيل نظراته الفاحصة التي يختلسها في لحظات يظن فيها انها غافلة عنه وهو لايدري ان اللحظات التي تبدو فيها الأنثي غافلة هي أكثر اللحظات التي تكون فيها منتبهة ولاتفوتها فيها شاردة ولاواردة، بدت لنفسها نحيفة جدا في ذلك الزي فاعادت النظر ثم اتخذت قرارا بتغييره، استغرق الأمر منها وقتا أكثر مما تصورت حتي انتهت الي اختيار ظنته مناسبا، كانت لمستها الأخيرة هي رشات العطر المفضل،ثم تناولت حقيبتها الصغيرة واستدارت خارجة ومفتاح العربة يتدلي من يدها علامة الخروج، القت نظرة علي زهورها في الحديقة الصغيرة الملحقة بالبيت الصغير،وهي في الحقيقة مجرد سور صغير من القنا اطلقت عليه تجاوزا اسم الحديقة،أدارت المحرك وأنطلقت من ديم المدينة حيث تسكن الي فندق الهيلتون في وسط المدينة حيث ينتظرها عصام. لم تستغرق الرحلة وقتا طويلا، توقفت السيارة في حديقة الهيلتون الخضراء الواسعة التي تنتهي بمواقف انيقة مسفلتة أمام مبني الفندق. ترجلت هبة وسارت علي مهل وهي تسمع صوت ضربات قلبها أعلي من صوت خطواتها علي الأسفلت، دخلت البهو الواسع للفندق المزين في الأعلي برسومات ملونة تمثل البيئة البحرية باسماكها الملونة وشعبها المرجانية، ثم عاد بصرها ليمسح صالة الاستقبال التي كان بها عدد يسير من النزلاء، توقفت عيناها عند ظهره المميز الذي لاتخطئه عينها ابدا، كان منكبا بوجهه وهو يقرأ في كتاب كان بين يديه،وكأن نسمة ما عبرت به توقف عن القراءة واستدار استدارة كاملة ليكون وجهه في مواجهتها تماما،
سقط الكتاب، ونهض هو ببطء عوضا عن الانحناء لالتقاط ماسقط منه، توقفت هي مأخوذة كأنها لم تكن تعلم باحتمال تواجده هنا، ساد صمت قصير، أحست بحلقها جافا، ابتلعت ريقها بصعوبة وخرج صوتها هامسا بالسلام وهي تمد يدها صوب يده، غابت يدها في يده القوية كما تغيب أبرة صغيرة في كومة قش وقطعة ثلج صغيرة في سطل من الماء،لمعت الذاكرة بصور سريعة متتابعة كبروق خاطفة في ليلة ماطرة، شعرت بالدموع تقف عند محجريها، انهارت جالسة في الكنبة الوثيرة قبالته بلا استئذان وجلس هو كمن تلقي أمرا بالجلوس. بدا صوت تنفسهما كأنه طبول تدق بلا توقف في ليلة من ليالي المولد.استعاد عصام رباطة جأشه سريعا، تبادلا التحايا بحرارة، قالت له بحماسة مفاجئة( لازلت وسيما لامباليا......) ضحك وقال لها ( ولازلت اطول النخلات وأقلهن كلاما) فتبسمت وصمتت. بخبث أنثي قضت ليلتها ساهرة في انتقاء الكلمات قالت له: (فقدت الشعور بانني أنثي، اظن هتاف رفاق الطفولة محمد ولد محمد ولد لازال يلاحقني ...ظللت دوما شبحا في الزوايا المظلمة لايكاد يتبينه أحد...)قال لها بلطف باد وحماس توقعته( لا ...انت تبالغين ياهبة....كنت دوما أنثي لايمكن لأحد ان يتجاهلها، كنت دوما قمرا منيرا ....كنت....)ثم صمت فجأة كأنه اكتشف للتو انه تجاوز خطوطا حمراء.....تبسمت عمدا حتي يبين بياض اسنانها وهي تنظر الي الأسفل لتمنحه فرصته في اختلاس النظر،لكنه نهض فجأة وقال لها( هيا بنا الي الكافتيريا فهي أفضل من هذا المكان، انا بحاجة الي القهوة وانت بحاجة الي عصير بارد)، مضي أمامها فلحقت به وذهبا سوية الي الكافتيريا.وهناك كان يقلب السكر في قهوته المرة ويستمع اليها استماعا طويلا، وكانت هي تتناول عصير البرتقال الغارق في مكعبات ثلج تحبها وتستمع الي ما فاتها من يوميات قاقرين وبعض اشعاره وبعض ما يحفظ من شعر، نظر اليها فجأة اثناء الحديث وقال بلا مناسبة( كنت اتخيلك دوما في زي يتكون من أسكيرت ازرق وبلوزة بيضاء وجاكت أزرق وربطة عنق...لم أتخيلك مطلقا في زي خلاف ذلك)،بلعت ريقها بصعوبة وقالت همسا( وانا أيضا..لكننا لانلبس مانحب في هذه البلاد.....) وجدت نفسها تتدفق في ثرثرة طويلة عما تحبه ولاتستطيع بلوغه وما تفعله مكرهة بلا محبة حقيقية له وهو يستمع اليها ويحادثها عن أحلام حلمها ولم يقو علي تحقيقها وعن اشياء اراد فعلها ولم يستطع فعلها.. نظر اليها طويلا كأنه يراها لاول مرة، ثم قال فجأة(كلما نظرت الي أذنيك تخيلت أقراطا تتدلي منها والريح تلعب بها وتلعب بضفائرك التي تتدلي بجوارها) دون أن تشعر تحسست أذنيها بيدها ، ثم تبسمت، وساد صمت جميل. نهضت قالت بصوت مخنوق( غدا عصرا انت مدعو لاجمل وجبة سمك في حياتك في السقالة...أما الان فيجب ان نفترق الي حين)

صلاح سر الختم علي
16-03-2013, 10:16 PM
34
كانت النوارس تمارس هوايتها المحببة، تحلق علي علو منخفض ثم تهبط بسرعة نحو الماء وتختطف سمكة صغيرة أو قطعة سمك مما يلقيه الناس لها ثم تحلق بسرعة ومن لم يظفر بالغنيمة منها يطارد من ظفر بها بأصرار بغية انتزاع الغنيمة منه، كان عصام يراقب المشهد مذهولا مثله مثل كل من يراه أول مرة، كان يهمس لهبة وهو مستغرق في المتابعة للنوارس( الأ تشبه هذه النوارس الناس؟يحلقون عاليا بحثا عن فريسة أو غنيمة ، ثم يطاردون بعضهم البعض ، كل منهم يسعي لانتزاع اللقمة من فم الاخرين واولئك يعضون علي لقمتهم وأحيانا ما زاد عن حاجتهم بالنواجذ)...صمتت هبة، بدا لها التشبيه مرعبا وقاسيا...علا صوت سفينة بعيدة...وفي ذات اللحظة رسا القارب الصغير ذي القاع الزجاجي علي حافة السقالة وبدا ركابه في الهبوط منه،دعت هبة عصام للصعود لزيارة البحر ومشاهدة قاعه الملون العامر بالشعب المرجانية، تردد عصام قليلا، ثم صعدا علي متن القارب الصغير، انطلق القارب وفي قاعه الزجاجي كان قاع البحر ظاهرا كأنهم يشاهدون حلقة من حلقات ذلك البرنامج التلفزيوني الشهير عن البحار، كان ثمة اسماك ملونة ومخلوقات بحرية غريبة الاشكال وجبال من الشعب المرجانية في القاع تبدو كأنها جبال حقيقية، ثمة شئ يثير الرهبة في النفوس، ساد صمت، كان عصام يتابع المشهد متقطع الانفاس صامتا والف صورة وصورة تسبح في خياله كما تسبح تلك المخلوقات البحرية في عالمها الغامض، كانت هبة تمرر يدها علي سطح الماء ثم تستعيدها فجأة كأنها تخشي أن يلتهمها وحش بحري،بدا القارب الصغير كأنه غير قادر علي ركوب تلك الأمواج التي ارتفعت فجأة، تسرب القلق الي عصام، ابتسمت هبة فهي ابنة البحر الاحمر التي عاشت هذه اللحظات عشرات المرات، انتقلت الطمأنينة الي عصام، طفق ينظر اليها وكأنها المرة الأولي التي يراها فيها، كانت الريح تعبث بشعرها الطليق نوعا ما بعد ان حررته من أسره ليوم واحد، كانت حين تبتسم تكشف عن عقدها الثمين من تلك الاسنان ويبدو أنفها الصغير مبتسما هو الآخر، همس عصام بصوت خافت لها( تبدين اليوم حورية خرجت من أعماق البحر ياهبة)...ابتلعت ريقها بصعوبة ونظرت في البعيد، كانت مزهوة بكلماته ولكنها خائفة، خائفة حتي أنها شعرت ببرودة تسري في أطرافها، ودت لو ان يده أمتدت اليها واحتوت يده وحملت اليها من دفئها دفئا، لكنه كان مشغولا في هذه اللحظة بتأمل السماء التي تبدو كأنها منحنية علي البحر لتقبله، بدا له البحر ملتصقا بالسماء في البعيد في عناق حميم فهتف بحماسة( يا للروعة ياهبة....يا للروعة....ليتني أحضرت الكاميرا معي....هذا جنون لايصدق.....) مد يده الي الماء وصرخ بصوت عال( أيها البحر الجميل...ايها البحر العاشق....) ثم غاب في صمت متأمل، كانت هبة ترتعش كعصفور أدركه المطر في فضاء فسيح لاملجأ قريب فيه، ظلا هكذا حتي اكمل القارب جولته وعاد الي ضفة السقالة، وعادا الي منضدة سرعان ما باتت عامرة بسمك النايجل الجميل الساخن، كان عاصم سعيدا كطفل وهبة تتمني لو كان بمقدورها ان تقدم الطعام اليه قطعة قطعة .كان مشغولا بالنايجل وكانت مشغولة به حتي أنها خافت أن تلتهمه بدلا من التهام حصتها من السمك.

صلاح سر الختم علي
17-03-2013, 11:45 AM
35

نهض عصام بعد ان تناولا وجبة السمك الشهية، حمل في يديه قطعا من السمك واتجه صوب حافة السقالة حيث النوارس تحلق علي مهل وتروح وتجئ لالتقاط مايرميه الناس لها من قطع السمك في الماء بلا وجل ولا خوف، ظل واقفا هناك كطفل يرمي قطعة ويتابع النوارس وهي تهبط نحوها لتخطفها قبل ان تستقر في جوف البحر، ثم يتابع المطاردة التي تعقب ذلك وهو يتبسم كطفل وجد لعبته الأثيرة، ناداها بصوت منفعل: (هبة تعالي... لاتفوتي هذا) ضحكت ونهضت وهي تقول له بلطف شديد( ومنو القال ليك انو أنا بفوت حاجة؟...والله كان عاينت كويس للنوارس ديل تلقاني في نصهم القط معاهم في السمك .....) ضحك عصام من القلب ، وجلس علي أمشاطه عند حافة السقالة الأسمنتية وأخذ ينظر الي القاع بفضول شديد،تبسمت هبة وسمعت في خيالها تعليقه المتوقع عن اختلاف قاع البحر عن قاع النهر وكيف يكون صافيا ومبيناً لما في أعماقه، فقد كان كل قادم جديد الي بورتسودان يتوقف عند تلك الحقيقة حين يأسره صفاء قاع البحر، لكن صمت عصام طال، اقتربت منه علي مهل وهمست ( مشيت وين؟ ...نحن هنا.... اوعا الحوريات يكونن اتسلطن عليك من اسه...)
جاء صوته خافتا في البدء ثم أخذ يعلو رويدا رويدا:

(ويهطل ليل
فتنفضّ عنها خطى السابلة
فتنزع أسمالها تتعرّى ، وتلبس ثوبا جديدا
ووجها جديدا ،وجنسية ، ثم تأخذ زينتها وحلاها
وتقعي بعيدا ، تضاجع ليلتها المقبلة
وقار السكينة يغدقها هالة من نقاء مريب وهالة
فهذي المدينة
لها كل يوم لبوس ووجه ، وفي كل ليل
لها ألف زينة .
هاهي ذي تسفح الضوء ماجمّعته خلال النهار
خيوطا قبيل المغيب ، وتنسى أساها
وتلقي وشاحا من الظل أسود فوق المساكن
عند الديوم ، فتخنقها إذ تراها
تلملم أشعاثها ، فالمسارجُ شمْعَةْ
تغالب حشرجة في الرياح ، ودمعَةْ
تسيل، وتطفر أخرى، فتسكبها في حشاها .
وبورسودان تحمل في الصدر نارا ، جراحا
وتفرغها في الديوم مُدًى ، ونصالا ، وآها .
وبورسودان ثاكلة في الديوم ،مشردة في الشوارع ، عاهرة في المواني
وفي ديم " جابر " " كوريا " و " ديم المدينة "
يساومها الموت حتى النخاع، وبالسلّ ، بالعار ، بالخوف ...
تشرب قهوتها المرّة الطعم ، جائعة ، مستكينة

بورسودان طفلة .
بورسودان ناشزة غافلة .
بورسودان غانية مترفة .
بورسودان تفرد ساقيها ، فللبر ساق
وساق إلى البحر ، كسلى لعوب
وحين تجيء السفائن تمخر بينهما ثم ترسو
تقيئ حمولتها في الرصيف.
وتمضي لتأتي سفائن أخرى ، وأخرى ، وثالثة ،
وهي ما أتعبتها المضاجعة المستمرة ، ما أرهقتها ... )
............................................. ثم صمت ....كانت انفاسها متسارعة وهي مأخوذة بهذا النهر المندفق، كان من حولهما يستمعون اليه في شغف وفضول كأنه كان يلقي بقصيدته من علي منبر مخصص للإلقاء...قالت له بلا تردد: لمن هذا النشيد؟ أهو لك؟ أهو وليد اللحظة؟
ابتسم عصام وهو يقول لها ( ليته لي ، ولكن من أين لي بمفردات عالم عباس محمد نور وقريحته ومخيلته الرائعة ياهبة؟ لا أصدق ان فردا من أهل بورتسودان لايحفظ هذه المعلقة لعالم عباس في عشق بورتسودان...اول مرة شاهدت بورتسودان فيها كانت في خيالي عبر هذه القصيدة الجميلة....)
ثم هتف عصام ( اسمعي هذا الوصف ياهبة..... كنت اعرف ان الشعر جنون ولكنني لم اكن اعرف ان الشاعر يملك كاميرا تصور ادق التفاصيل....اسمعي هذا الجنون العالم عباسي:

(ويبتلع الصمت ديم " السلالاب" " جابر" " كوريا" و " ديم المدينة "
وتمتزج النسوة السائرات، زكائبَ، حمراءَ، زرقاءَ،
صفراء، خضراء، تمضي،
تواصل رحلتها في السكينة .
ومن بينها تنْبُضُ الأعينُ الزئبقيةُ ومضاً خلال الخمار،
وتنأى،
تذوب معالمُها في حواري المدينة .

يجيءُ الليلُ عبر مدينتي بجحافل الْحُمّى فيخنقها،
ويكاد يخفيها.
تقاومها منارتُها، وأضواءٌ صمَدْنَ هناك،
ومضاتٌ محشرجَةٌ،
كأنَّ الحزنَ يطفيها. )
كانت النوارس لاتزال تروح وتجئ، والشمس قد مالت الي الاحمرار وأخذت تلملم أشعتها رويدا رويدا، واعداد الناس قد أخذت في التناقص،كانت هبة لاتزال تتصفح مع عصام مافاتها من صفحات في كتاب حياته في تلك الفترة التي فرق الزمن فيها بينهما، كانت تلتهم التفاصيل التهاما وهي تبحث بفضول الأنثي عن رائحة عطر نسائي أو ملامح ملهمة جديدة او أثار نبتة جديدة تفتحت في ذلك القلب الكبير الذي لايعرف الدسدسة والمراوغة، لكنها لم تجد سوي الغيمة السارة وحزن كبير وخيبة ظاهرة، تنهدت تنهيدة راحة حين أسفر تنقيبها عن نتيجة هي المفضلة لديها ولكنها لم تستطع في المقابل كبح جماح رغبة مجنونة في البكاء علي صدره بلا انقطاع اعترتها فجأة، فقد شعرت بأنه وحيد وحزين وفي حاجة الي بحور من الحنان، لكنها كما تفعل دوما، سمحت لرغبتها تلك بالتدفق الي داخلها هي فقط، ورسمت علي وجهها قناعا لايشف عما تحت الرماد من وميض.

mahagoub
17-03-2013, 08:09 PM
وصف تجاوز حدود الروعة
فكأنما نعيش معهم اللحظة
بكل تفاصيلها
واصل إبهارنا وإمتاعنا

صلاح سر الختم علي
17-03-2013, 09:09 PM
وصف تجاوز حدود الروعة
فكأنما نعيش معهم اللحظة
بكل تفاصيلها
واصل إبهارنا وإمتاعنا
تتناسل الحكايات هنا الي ما لانهاية
فنهر الحياة عامر بالحكايات التي تمشي علي قدمين
والأقدام التي تمثل كل خطوة تخطوها حكاية شيقة الفصول

صلاح سر الختم علي
19-03-2013, 05:48 AM
36

قال عصام لهبة وهما عائدان بالعربة الي قلب المدينة حين عبرت العربة الجسر الصغير الي يربط البر الشرقي بالبر الغربي( مهما تخيلت ماكنت تخيلت مكانا بهذه الروعة،زمان ايام الكمبو في مدني كان خالد جبرا معجبا ببورسودان اعجابا شديدا ، لكنه كان يشكو من حرارتها الشديدة والرطوبة ويحكي قصصا خرافية عن سقوط الادروبات ضحية لها ، فبقيت في اعماقي السلبيات فقط... هذه مدينة ساحرة أظنني ساقيم فيها أطول مما خططت..) تشعب الحديث وانساب شجيا وجميلا حتي بلغا الفندق، دعاها عصام للبقاء قليلا ، تمنعت بلا حماس ، ثم هبطت من العربة معه واتجها الي زاويتهما الأثيرة نفسها بلا سابق أتفاق، حكي لها عصام عن حياته، كيف طرق ابواب الحكومة فوجدها موصدة أمامه بسبب تاريخه السياسي، فتح مكتبا صغيرا في شارع الجمهورية وضع عليه لافتة صغيرة( سارة للتصميم الهندسي والمقاولات) لكنها سرعان ما انزلها حين جلبت اليه جيوشا من مفتشي الضرائب والزكاة والمحليات الذين ينقبون في كل صفقة أبرمها وكل عمل أنجزه بغية تحديد نسبة الحكومة التي لفظته الي الشارع فيما يحققه من كسب محدود،ضحك عصام بطريقته المعهود وقال كأنه يتحدث في ركن من اركان الجامعة الملتهبة في الأزمان الغابرة( تبدو الحكومة دوما رباطيا لايترك الناس في حالهم ويهاجمهم بقسوة ويأخذ أتاواته بالقوة من جيوب يسكنها العنكبوت) لهذا السبب قررت اغلاق المكتب نهائيا والعمل بطريقة ستات الشاي النبيلات وصبية الورنيش وعمال اليوميات، هولاء أدركوا أن خير وسيلة للعيش في هذا البلد ان تتحرك في الظلام بعيدا عن الأضواء الجالبة لنحل الحكومة وعساكرها،لذلك قررت العمل بطريقتهم، تركت صفة المهندس راضيا وبت مقاولا له مجموعة من العمال والأسطوات التابعين له، مقاولا يعقد اتفاقاته في قهوة أو ظل شجرةأو جوار سيارة متعطلة، ويتابع اعماله ميدانيا، ليس له مستندات ولا فواتير ولاعقود، ويركز دوما علي أطراف بعيدة لاتبلغها أرجل موظفي المحليات ومفتشي الضرائب، حينها فقط ابتسمت الحياة ياسارة، بت مهندسا ثريا حيث يريد الناس رؤيتي كذلك، ومقاولا يعرف الف باء البناء ولايستنكف من المساهمة في عملية البناء نفسها مستعيدا ذكريات جميلة حين كنا أنا وعمر نعمل باليومية التي لاتدفع لنا مع معلم بناء اسمه أدم الزاكي كان يقوم ببناء بيت الأسرة في حي مايو،لم اكن أتصور حينها ان تلك المهمة الثقيلة التي فرضها ابي علينا فرضا ستمسي ذات يوم هي وسيلتي لكسب العيش بطريقة أو اخري. صمت عصام واخذرشفة من قهوته وجال ببصره في المكان الهادئ، وقال لها (بالمناسبة توجد مجموعة كبيرة من اولاد مدني هنا...حتي خالد جبرة ، تصوري انه مقيم هنا منذ سنوات ويشغل وظيفة حكومية مرموقة،) سرت برودة مفاجئة في اطراف هبة والسؤال يلمع في ذهنا كالبرق:( هل يكون خالد جبرة هو نفسه خالد؟! اللعنة عليك يامدني وعلي القاب اهلك الكثيرة.... ويح قلبي لو كان هو...)

صلاح سر الختم علي
19-03-2013, 05:51 AM
36

قال عصام لهبة وهما عائدان بالعربة الي قلب المدينة حين عبرت العربة الجسر الصغير الي يربط البر الشرقي بالبر الغربي( مهما تخيلت ماكنت تخيلت مكانا بهذه الروعة،زمان ايام الكمبو في مدني كان خالد جبرة معجبا ببورسودان اعجابا شديدا ، لكنه كان يشكو من حرارتها الشديدة والرطوبة ويحكي قصصا خرافية عن سقوط الادروبات ضحية لها ، فبقيت في اعماقي السلبيات فقط... هذه مدينة ساحرة أظنني ساقيم فيها أطول مما خططت..) تشعب الحديث وانساب شجيا وجميلا حتي بلغا الفندق، دعاها عصام للبقاء قليلا ، تمنعت بلا حماس ، ثم هبطت من العربة معه واتجها الي زاويتهما الأثيرة نفسها بلا سابق أتفاق، حكي لها عصام عن حياته، كيف طرق ابواب الحكومة فوجدها موصدة أمامه بسبب تاريخه السياسي، فتح مكتبا صغيرا في شارع الجمهورية وضع عليه لافتة صغيرة( سارة للتصميم الهندسي والمقاولات) لكنه سرعان ما انزلها حين جلبت اليه جيوشا من مفتشي الضرائب والزكاة والمحليات الذين ينقبون في كل صفقة أبرمها وكل عمل أنجزه بغية تحديد نسبة الحكومة التي لفظته الي الشارع فيما يحققه من كسب محدود،ضحك عصام بطريقته المعهود وقال كأنه يتحدث في ركن من اركان الجامعة الملتهبة في الأزمان الغابرة( تبدو الحكومة دوما رباطيا لايترك الناس في حالهم ويهاجمهم بقسوة ويأخذ أتاواته بالقوة من جيوب يسكنها العنكبوت) لهذا السبب قررت اغلاق المكتب نهائيا والعمل بطريقة ستات الشاي النبيلات وصبية الورنيش وعمال اليوميات، هولاء أدركوا أن خير وسيلة للعيش في هذا البلد ان تتحرك في الظلام بعيدا عن الأضواء الجالبة لنحل الحكومة وعساكرها،لذلك قررت العمل بطريقتهم، تركت صفة المهندس راضيا وبت مقاولا له مجموعة من العمال والأسطوات التابعين له، مقاولا يعقد اتفاقاته في قهوة أو ظل شجرةأو جوار سيارة متعطلة، ويتابع اعماله ميدانيا، ليس له مستندات ولا فواتير ولاعقود، ويركز دوما علي أطراف بعيدة لاتبلغها أرجل موظفي المحليات ومفتشي الضرائب، حينها فقط ابتسمت الحياة ياسارة، بت مهندسا ثريا حيث يريد الناس رؤيتي كذلك، ومقاولا يعرف الف باء البناء ولايستنكف من المساهمة في عملية البناء نفسها مستعيدا ذكريات جميلة حين كنا أنا وعمر نعمل باليومية التي لاتدفع لنا مع معلم بناء اسمه أدم الزاكي كان يقوم ببناء بيت الأسرة في حي مايو،لم اكن أتصور حينها ان تلك المهمة الثقيلة التي فرضها ابي علينا فرضا ستمسي ذات يوم هي وسيلتي لكسب العيش بطريقة أو اخري. صمت عصام واخذ رشفة من قهوته وجال ببصره في المكان الهادئ، وقال لها (بالمناسبة توجد مجموعة كبيرة من اولاد مدني هنا...حتي خالد جبرة ، تصوري انه مقيم هنا منذ سنوات ويشغل وظيفة حكومية مرموقة،) سرت برودة مفاجئة في اطراف هبة والسؤال يلمع في ذهنها كالبرق( هل يكون خالد جبرة هو نفسه خالد؟! اللعنة عليك يامدني وعلي القاب اهلك الكثيرة.... ويح قلبي لو كان هو...)

صلاح سر الختم علي
19-03-2013, 05:52 AM
عذرا حذفت هذه المشاركة للتكرار

mahagoub
19-03-2013, 08:41 PM
لا عليك احياناً الكيبورد
يعطيك عدة الوان

صلاح سر الختم علي
19-03-2013, 10:31 PM
37
لحسن حظ هبة لم يدم الغموض طويلا في موضوع خالد جبرة، ففي اثناء جلستهما تلك دخل الي الكافتيريا ثلاثة شبان ، احدهم طويل القامة ممتلئ الجسم أسمرا، والثاني قصير القامة مربوعا لونه أقرب الي الخدرة، بينما الثالث اطول قليلا منه ولكن لايبلغ الطول الفارع للأول، دخل الثلاثة مبتسمين وأبصارهم مركزة علي عصام الذي هب واقفا وعلي وجهه ابتسامة محبة عريضة وهو يهتف: (جبرةياكارثة....لميت في الشفوت ديل وين؟) تنهدت هبة تنهيدة راحة وسري خدر لذيذ في جسدها فقد أدركت ان خالد جبرة ليس هو خالدها بأي حال طالما انه احد هولاء الثلاثة، استمتعت بمصافحتهم الحارة لبعضهم البعض ، كانوا فرحين كالاطفال باللقاء الذي يبدو انه تم بعد فراق طويل، وكما اخبرها حدسها كان خالد جبرة هو أطولهم، بينما كان لكل من مرافقيه لقب كما توقعت فقد همس لها عصام بان هذا هو عليوة احرف سوداني مر علي تاريخ مدني الكروي_ مشيرا الي القصير_ ثم أشار الي الاخر قائلا أنه علي قلد أحد احرف لاعبي أهلي مدني، سلم الثلاثة عليها بحرارة وجلسوا جميعا والضحكات هي عنوان اللحظة. شعرت هبة بان المكان لم يعد يسعها وان وقت انسحابها قد حان، همست في اذن عصام بانها ستذهب،توسل اليها بصوت مسموع ان تبقي وانضم اصدقائه الي الطلب ، تبسمت واوضحت لهم ان يومها كان طويلا وان ذهابها لابد منه، ووعدتهم بلقاء قريب وانسحبت في هدوء طالبة من عصام أن يبقي كما هو. في الطريق الي البيت بدت لها بورتسودان فعلا غانية مترفة كما تقول قصيدة عالم عباس محمد نور،لأول مرة في وجودها في هذه المدينة تنظر اليها بعيون غيرها، شعرت شعورا صادقا بانها تراها للمرة الأولي، همست لنفسها (أكثر ماشدني اليك ياعصام هو انني معك دوما أري الاشياء بشكل مختلف، كل شئ يبدو عاديا حتي تراه عينك او تتحدث عنه،أظن سارة نفسها كانت عادية جدا حتي وقعت عينك عليها) تنهدت تنهيدة عميقة وقالت لنفسها وهي تتوقف علي جانب الطريق( ثم ماذا بعد ياهبة؟حين كدت ان تشفي من قاقرين وتدخلي عالما جديدا مع خالد جاء قاقرين من الماضي كتنين أسطوري وطفق ينفث الحمم باتجاهك، لم تعدي ترين غيره، سقط خالد من ورقتك الخضراء قبل أن يلجها، ماذا لو كان عصام لازال بعيدا عنك كما كان دائما؟ماذا لو كانت مودته تجاهك لانك جزء من العالم الذي يستدعي عبره غيمته السارة من المجهول؟ماذا لو كنت لاتزالين بعيدة عن مدي الرؤية؟ ماذا لو كانت مجرد شجرة صداقة قديمة مثل صداقته باولئك الفرسان الثلاثة الذين جعلوا منه طفلا في لحظة؟) أدارت المحرك ثانية ومضت والهواجس تفتك بها فتكا ذريعا بلا هوادة ولارحمة ولاشفقة

mahagoub
22-03-2013, 09:09 PM
ينقل القلب الهوى
ويترنح به
وما الحب الا للحبيب الاول

صلاح سر الختم علي
23-03-2013, 01:28 AM
ينقل القلب الهوى
ويترنح به
وما الحب الا للحبيب الاول
وبعض الحب شفاء وبعضه سقم وبعضه هناء وبعضه ألم
تسلم محجوب

صلاح سر الختم علي
25-03-2013, 01:35 AM
38

لم يبق عصام طويلا ببورتسودان، مضت الأيام علي عجل، كانا يلتقيان يوميا تقريبا، يتحدثان في كل شئ وعن كل شئ الا عنهما، كان ثمة حقل الغام مزروع في تلك المسافة الخضراء ، لم يجروء أياً منهما علي تجاوز تلك المنطقة، إكتشفت هبة أن عصام ليس هو عصام ذاته، هناك أشياء كثيرة تغيرت فيه،صحيح انها لم تلاحظ ذلك في البدء ، لكن سرعان ما بدأت تلاحظ ، كان يصمت فجأة أثناء الحديث، يبدو ساهما في عوالم تترآى له وحده، ينتفض كمن لسعته حشرة ما، يبدو مذعورا، ثم يتصبب عرقاً ، يلقي برأسه الي الوراء ، ثم يصمت طويلا كالنائم، وحين تنتهي النوبة، يعود طفلا، ينظر اليها متأملاً ، كأنه يتساءل عما فعل في غيبوبته القصيرة، تبتسم هبة مطمئنة له، تواصل حديثها من حيث توقفا، فيتنهد تنهيدة راحة ويبدو أقل توترا، ورويدا رويدا يعود عصام الذي كان، كانت تغافله وتنظر اليه طويلا، تتفحصه بدقة كمن يبحث عن أثر ما في الجسد، لكنها أيقنت بعد طول تفحص أن عطبه في الروح وليس الجسد، كانت حين تعود الي البيت تتتساءل بصوت عال في غرفتها الصغيرة( ماذا فعلوا بك ياعصام يا تري؟ هل آذووك؟! هل رأيت أشياء فظيعة هزت اركان سلامك الداخلي؟! أم أن الأمر لاعلاقة لهم به بل يرجع الي رحيل غيمتك السارة ؟!) كانت تعرف ان عصام تعرض الي تجربة اعتقال قاسية خرج منها منهك القوي وظل يخضع سرا لجلسات تأهيل نفسي عند طبيب نفسي شهير كان من اصدقائه بالجامعة، كان يكاتبها بتفصيل عن تلك الجلسات، يحكي ببراءة عن اعتقاداته الخاصة المترسبة بأن كل من يرتاد طبيبا نفسيا هو (زول فاكة منو عديل كدا) وان الامر كان مجرد حوار مريح للنفس بين صديقين قديمين( لست مجنونا الا بمقدار ما يكون العالم نفسه مجنونا وهو يسلم خيرة شبابه الي مجموعة من الوحوش الآدمية ثم يتفرج عليهم بلا مبالاة...شعرت بعطف شديد علي كرة القدم حين خرجت من ذلك المكان، شعرت بذنب كبير تجاهها، كيف كنا نركلها بقسوة من مكان الي مكان ونقهقه والبعض يصفق لبراعتنا والمسكينة تتوجع بين أقدام الراكلين وتبحث عن مخرج فلاتجد مخرجا الا اذا انفجرت وباتت تالفة وخرجت من كل حساب أو اذا تصادف ان ركضت بعيدا نتيجة ضربة قدم قوية أخرجتها مؤقتا من الملعب، كما فعلنا بكرة القدم فعل بنا يا هبة..ذلك ماحدث....)،لم يك يفصح أكثر من ذلك، يقول( قال لي دكتور عامر ونحن نتمشي ذات مساء سويا : الكرة قد تنفجر إذا تعرضت لضغط كبير، كذلك الانسان ،إذا لم يخفف بعض ما يحمل من ضغوط ويتقاسمه مع الآخرين قد ينفجر،انت لست مريضا ياعصام، انت لديك حمل زائد يجب تخفيفه) ثم ضحك وقال( هل تريد ان تلعب الكرة قليلا؟) قلت برعب حقيقي:( لا...البتة...كرهت هذه اللعبة اللعينة) ضحك عامر وقال جادا( هي من وسائل تخفيف الضغط والحمل الزائد، هي ليست مجرد لعبة كما يقول البعض، وحتي لاتظنني أبرر مافعلوه بكم اقول ان مافعلوه ليس لعبة وليس لمجرد تخفيف الضغط، بل هو شئ آخر مختلف تماما
وليس له سوى أسم قبيح واحد........) شعرت بالراحة حين أخرج دكتور عامر كرة القدم براءة من ظني بها. وجدت حوارنا ممتعا ومنعشا كزجاجة ببسي أو ليمون من دكان اليماني في مدني في ذلك الزمان، وهكذا تعددت الجلسات، لكنها لم تكن كلها بهذا الهدوء وهذا الانعاش، كان ثمة جلسات تشابه جمع الحطب كله ودلق بنزين عليه واشعاله والقائك مكتوفا بقلب اللهب....
بدا عصام حزينا ويائسا ومحطما وجميلا في الوقت نفسه، شعرت هبة بان ذلك الرأس المزدحم بما يحمل مكانه صدرها مرة واحدة والي الأبد، شعرت بأن يدها تهرب منها وتغوص في شعر عصام برفق وحنان وهو نائم كطفل في حجرها، بدا لها المشهد الذي لمع في خيالها مشهدا حميما مألوفا وعادياً وشعرت أنهما زوجان منذ عشرات السنين، سمعت ضجيج أطفالهما ورأت بعين الخيال احدهم واسمه عمر متعلقا برقبة ابيه والاب يحكي له عن سجون كانت تسود البلاد وعن وحوش لها سبعة رؤوس كانت تسكنها وكانت تلهب ظهور الفقراء بالسياط حتي يسل دمهم علي البلاط فتنحني تلك الوحوش وتلعقه حتي لاتترك منه شيئا ثم تعاود إلهاب الظهور بالسياط، يلتصق عمر بابيه مرعوبا، يبتسم الأب، يحدثه عن طيور رقيقة القلب خرجت من قلوب الفقراء المتعبين وحلقت في المكان ، غنت أناشيد الحرية وهي تنتفخ بها وتغني فتنتفخ بها وتغني مزيدا من الأناشيد فتنتفخ مزيدا من الانتفاخ حتي باتت مخلوقات عملاقة داست بأقدامها الغليظة علي رؤوس الوحوش فهشمتها ، ثم داست علي القضبان وأنتزعتها، باتت السجون حدائق فسيحة، بات الفقراء ملاكا للأراضي الخضراء، عادت العصافير عصافيرا كما كانت، نام الصغير مطمئنا في حجر أبيه. وأفاقت هبة من حلمها، كان عصام لايزال صامتا واجما وهو يسترجع ذكريات تلك الأيام ويتوجع. وهكذا عاد عصام الي الخرطوم والنقاط لم توضع علي حروفها بعد.

صلاح سر الختم علي
25-03-2013, 01:09 PM
39

الرائعة هبة
كانت أياما عسيرة علي النسيان ، استعدت فيها طعم ايام مضت وكنت أظنها ولت بغير رجعة، كنا صغارا، وكانت أحلامنا أكبر من خصر الكرة الأرضية، كان كل شئ بكرا ونديا وحقيقيا، كان الجيتار صديقا وفياً، وكانت الجامعة نفسها شيئا حقيقياً عصياً علي كل محاولات التدجين والتزييف، كان انتماؤنا شيئا عادياً مثل انتماءاتنا الكروية وانتماءاتنا الي المدن التي ننحدر منها ، وكان صراعنا في الجامعة مثل مباريات الكرة له قواعد وحكام وأخلاق رياضية تحكمه ومرح يتخلله وتنافس ليس فيه كراهية، حتي الخرزج في مظاهرة كان مثل محاضرة في قاعة من القاعات بالجامعة، تجربة وإكتشافاً وجزءا من الحياة الجامعية والحلم الكبير بموقع في ساحة الفعل، لكن روحا شريرة مدمرة وجدت موطئ قدم وأخذت في تبديل كل شئ الي شئ مختلف، أظن ذلك بدأ بالاغلاظ في القول في الاركان السياسية وسيادة روح التهكم وتلطيخ ثوب الاخرين، ثم تصاعد الأمر،ظهر السيخ وظهرت اشياء اخري كثيرة، بدا الغضب طافحا في الوجوه، ظل صراع الديكة اللفظي يتصاعد وأقسام كثيرة من الطلاب تتباعد عنه، يجلبها فضول ويبعدها خوف ووجل وأشياء أخري، ثم تصاعد كل شئ، مات طالب باياد طلابية في احداث طلابية، صراع في الجامعة يشبه فيلما هندياً ردئياً في اتساع مسرحه وغرابة نتائجه وتفاهة اسبابه،اضحك من نفسي وانا احكي لك، اعلم انك تعلمين وانك عايشت الكثير، لكنني انقب مثل أحمق عن أبرة في كوم من القش، أعرف ان هناك علاقة دوما بين الجد والحفيد، وماجري هو جد الحفيد الذي كان ماجري لنا، كل شئ ولد هكذا في لحظة فاجرة، هل ترانا ساهمنا في جمع الحطب والوقود وكل مقومات الحريق الذي اكتوينا بناره؟!
دعك من تآملاتي البيزنطية، كانت اياما ساحرة هي تلك الايام القلائل ببورتسودان، نمت ملء جفوني بعد سهاد طويل، عدت مع اصدقائي بذاكرتي وشعوري الي ايام جميلة عشناها في مدني...كنت اتساءل دوما لم شعرت أنني لم انجز ماذهبت لاجله؟ لم شعرت أن ثمة حوارا لم يكتمل بيننا؟!
................................... قاقرين.........................................
سالت دمعة من عيون هبة وهي تتشمم الوريقة الصغيرة بقوة باحثة عن عطره المميز بلا طائل...اعادت القراءة مرات ومرات وهي تشعر أن ثمة رسالة أخري مكتوبة بحبر سري بين السطور، رسالة لها لغة تعرفها هي وحدها ويعرفه عصام، أغمضت عينيها وطفقت تقرأ الرسالة الأخري المخبؤوة بين السطور:
غيمتي الكبري هبة
كم كنت متلهفاً لرؤيتك وكم كنت أتوق الي اسماعك ماتحبين وكم كنت اتمني سماع ما احب
تعبت من الركض
وتعب حصاني من الركض خلف غيمتي الكبري....... ليس عدلا ان يظل الصمت لغتنا الوحيدة

كانت هبة تحمل الرسالة الآن كأنها تحمل طفلا بين ذراعيها وتتمايل طربا مع كلماتها
وجدت نفسها تطير ، اخترقت السقف ووجدت نفسها تسبح في الفضاء
كان حولها سرب من الحمام وأسراب من الطيور تزفها كما تزف عروس الي عريسها
كانت الأرض بساطا أخضرا ممتداً تتخله بحيرات صافية مياهها كثيرة طيورها تحفها أشجار عملاقة علي الضفاف
كانت قطرات المطر تتساقط علي الأرض ورائحة عطور جميلة تفوح منها
كان عصام مبتسما ويده حول خصر سارة............... شحب وجه هبة......صرخت ..لا...لا..........أفاقت فوجدت نفسها غارقة في العرق وربما الدموع
في غرفتها وحيدة والورقة ملقاة علي أرض الغرفة هامدة كجثة.

صلاح سر الختم علي
29-03-2013, 09:26 PM
40
ليس هناك من يعرف هذا الاحساس سواك يا هبة، حين يتبدل لون الأوراق في الشجرة رويدا رويدا ، ثم تجف وتأخذ في التساقط واحدة تلو الأخري فتكنسها الريح وتأخذها بعيدا ، ثم يأتي من يضرم النار فيها ، حياتنا فيها شبه كبير من ذلك المشهد، يتقدم بنا العمر ولاندري ولاننتبه، لكن الناس لايرحمون والنسوة بالذات يمسكن سوط عذابهن ويلسعن الظهور به بلا رحمة ولاشفقة، يتبارين في التذكير بان اليد لم يخضبها حناء والأصابع لم تلبس خاتم الخطوبة ولا الزواج وان العمر قد تقدم وان الفرص تتضاءل وان علي الفتاة الاجتهاد قبل ان يفوتها القطار وان (ضل راجل ولا ضل حيطة) ، ويكثر الهمس ويكثر الغمز واللمز وتتعدد الأساليب والجرح واحد، فمنهن من تدعى الاهتمام بك والحدب علي مصلحتك وتحكي لك قصصا مملة عن فتيات عانين وصبرن وظفرن بالعريس بعد مجهودات كبيرة وأحيانا بلا مجهود علي طريقة( سعد الشينة )و(الله بدي الجنة) أو( زيارة الزريبة) أو (وضع البروفايلات عند الخاطبات) ، كانت مضطرة لسماع ذلك كله بصبر وسعة صدر وتحمل ما يلمس كرامتها فيه وكل صنوف الدوس علي الجروح، لم يك ممكنا ان تشرح حكايتها لإحداهن ، كانت تدرك ان الرد حاضر في قاموسهن وهو علي شاكلة( دعك من التعلق بخيوط العنكبوت) و(بعضهم مثل شوكة الحوت لابنبلع لابفوت) و(البيت الواقف الله يكفيك شرو)، ثم تحكي قصص عديدة عن نساء انتظرن بلا كلل وتابعن السراب والوهم ، وحين انتهت كل حجج العريس المنتظر دس يده في إبط عروس تصغره بعشرين عاما وادار ظهره لمن تنتظر،يصرخن في كوابيسها الليلية:(الرجال لاعهود لهم...الرجال لاينظرون لمن تنظر اليهم أو تنتظرهم) ( خلاص المرأة في عقلها وهلاكها في قلبها) ...كانت تتخلل الكوابيس صور عديدة لعصام وهو متأبط ذراع نساء تتبدل وجوههن كما تتبدل المشاهد والوجوه في شاشة التلفاز في كل ثانية،ينتابها احساس بانها داخل فصل كبير جالسة وحيدة علي كرسي متهالك وامامها كومة من الامتحانات المعقدة وعقلها وذاكرتها شاشة بيضاء تماما ترفض مدها بأي شئ، تسيل دموعها، تنظر الي ساعتها في قلق، يرن ناقوس في داخلها وتسمع صوتا غليظا يقول بعد كل برهة من الزمن (تبقي من الزمن.......)، تنتفض كمن لدغته عقرب، تستدعي المعلومات من الذاكرة والذاكرة ترفض التعاون مثل حمار حرون، يخطر العرسان ببدلاتهم السوداء أمام ناظريها في تيه وكبرياء ولكنهم ينظرون خلفها ولايرونها، لايمد أحدهم يدا اليها، تصرخ بأعلي صوتها في القاعة، يختفون، يبقي صوت الأوراق وذلك الصوت الرتيب الغليظ( تبقي من الزمن.....) فتنفجر باكية وتمزق الأوراق بجنون وتركض صوب الباب المفتوح، تدلف الي الشارع، تجد نفسها في قلب السوق العربي، ضجيج الباعة المتجولين وصخبهم ، بضائعهم التي يكسوها غبار، كلاب بوليسية ضخمة وشبعانة تطاردهم وهم يركضون باقدام نحيلة نحو المجهول، بلدوزرات البلدية تجرف حبات الطماطم الحمراء وتدهس الترابيز المتهالكة التي كانت معروضة فوقها، اصحابها ينظرون الي حبات الطماطم كأنهم ينظرون الي قلوبهم مدهوسة تحت سنابك البلدوزرات ، أطفال بارزي العظام يبدون ميتين وهم محمولين بيد وامهاتهم يمدن الأيدي سائلات لقمة وكساء باصوات مشروخة خافتة، صوت المؤذن يؤذن لصلاة الظهر فينتفض نشال يرتدي قميصا لايستر خروم فانيلته الداخلية
فيخرج يده من جيب جاره كمن يخرج يده من جحر أفاع. تنتبه هبة وهي تري فتيات في عمر الزهور يركضن مذعورات، خلفهن رجل كثيف اللحية مصفر الاسنان يحمل سوطا ويركض بجنون خلف الفتيات ويلهب ظهورهن وهو يكبر كمن يرمي الجمرات....تركض هبة كأنها عداء مسابقات مسافات قصيرة محترف دون ان تلتفت الي الوراء.

mahagoub
29-03-2013, 09:58 PM
بين امس واليوم
وبين هبة وسارة
تمتد حبال الشوق
فتختنق بها هبة
فهل من خلاص ؟؟

صلاح سر الختم علي
29-03-2013, 11:27 PM
بين امس واليوم
وبين هبة وسارة
تمتد حبال الشوق
فتختنق بها هبة
فهل من خلاص ؟؟

قارئي الجميل المحجوب ..... والله لا أدري ماذا سيفعل الزمان بهبة
وما يخبئيه لها ....انا استمع اليها والي عصام وهما يتناوبان السرد
تارة تزيحه من الطريق وتقول ما تريد ان تقول وتدخلني في اعماقها لاسرح وامرح كما اشاء
تدلني علي اماكن الجروح والعذابات فالامسها فتتوجع
وتارة يزيحها عصام قاقرين ويلج بي كهوفه الموحشة حيث انتهكت انسانيته وحيث داس الزمان عليه وعلي غيمته السارة
وبينهما اتنقل مذهولا ومفجوعا ومستمتعا حينا

صلاح سر الختم علي
02-04-2013, 05:41 AM
41

كان عصام يسرع الخطي نحو اطراف المدينة ، كان تلك الرحلة المتكررة هي سره الكبير الصغير الذي لايعرفه أحد، كان بيتا صغيرا من الطين الأخضر ، بابه مصنوع من خشب قديم يتميز بصلابة ظاهرة لكنك اذا لم تنتبه ستجد سريحة حادة منه قد استقرت في كفك حتي آلمتك، في مدخل البيت راكوبة صغيرة خضراء بسبب ذلك النبات المتسلق الذي يلتف حول الاعواد الخشبية المكونة لها ويصعد سقفها ليتدلي من الجانب الآخر، في تلك الراكوبة تقع العين علي سريري حديد مفروش عليهما مراتب مغطاة بملايات ملونة بها ورود كبيرة،ثمة كراسي بلاستيك قديمة نوعا ما موضوعة بطريقة مرتبة تتوسطها تربيزة صغيرة من الحديد تغطيها فوطة مشغولة من التريكو ، ثمة حمام صغير بلاسقف يبدو الدش بداخله من الخارج منحنيا مثل شخص طويل القامة يحنيها حتي لاينتهك خصوصية جيرانه، وثمة غرفتان من الطين الأخضر متلاصقتان وأمامهما برندة صغيرة مفروشة بالرمل وبها عنقريبين من الخشب بلا مراتب وعلي كل واحد مخدة صغيرة من القطن عارية بلا كساء وتبدو البقع التي تسببها رؤوس النساء المعطونة في الدهن والزيت ظاهرة عليهما من علي البعد، وعلي الجانب الايمن من البرندة توجد مزيرة بها ثلاثة ازيار عتيقة أسفل كل واحد منها اناء صغير لنقاط الماء،في تلك الدار تعيش الحاجة ست نور والدة الماحي بصحبة أرملته وطفلتيه، في تلك الدار عرف عصام مع(الماحي) واسرته الصغيرة دفء الحياة الحقيقي ومعني الصداقة واشياء كثيرة اخري يصعب وصفها وتسميتها،الماحي ينحدر من منطقة الباوقة حيث نشأ وسط اسرة ووسط كله مزارعين أبا عن جد، لكن نبوغه وولعه بالميكانيكا دفعا به دفعا الي ان يصير عاملا ، ثم نقابيا، ثم صديقا دائما للسجون السياسية، كان يضحك في ليالي الاعتقال الموحشة وهو يحكي لهم قصته ببساطة ورحلاته في سجون البلد ويقول ببساطة( نفضت يدي من الطورية والعراقي ومسك الموية في الشتاء والصيف ، لبست البنطلون وبقيت مرتاد سجون......) شاخ الماحي قبل اوان شيخوخته وحين وجد نفسه بغتة عند اعتاب الخمسين وهو لايزال عازبا ، قرر بين اعتقالين أن يتزوج وينهي صفحة العزوبية، عاد الي أهله وعاد ومعه عروس صغيرة وأمه ست نور لتصبح رفيقة للزوجة خين يأخذه زوار الفجر في رحلة لايعرف متي تنتهي، كان الماحي يضحك حين تجئ سيرة أمه ويقول ( مريم محمود وست نور اتعذبن معانا انا ومحجوب شريف عذاب الله اكبر .... الله يديهن العافية)، هكذا كان يتحدث ببساطة شديدة وينتهي حديثه بقراءة لقصيدة محجوب شريف يا والدة يامريم ياعامرة حنية ويتبعها بقصيدة محجوب شريف التي ينعي فيها امه مريم محمود ويبكي الماحي عندها كطفل صغير ويبدو كأنه يبكي أمه ست نور رغم انها لاتزال علي قيد الحياة.، كان صوته يعلو فجأة بالنشيد
مجنون الحزن المسجون
بارود الحزن المسحون
جواي انا شافع محزون
عن امو بفتش فتيش
فتش فتيش هبش هبيش
دقش دقيش
يصرخ ياناس
مريم محمود راحت شقيش
في زنك اللحمة وفي الزحمة
مريم محمود راحت شقيش
في منحنيات الاسواق
مريم محمود راحت شقيش
ولا آه يا مريم محمود
آه يامريم محمود
ياذات الضل الممدود
ياذات القلب الساساق
حتلت جواي الاشواق
حتلت جواك الاشواق
وكنت الولد المحبوب
لا هجراً ليك ولا عاق
حبيتك ذي ما حبيت
الوطن
الوالد
البيت
يصمت الماحي طويلا ، يصمتون، ثم يعلو صوت احدهم مكملا:
منك خطفوني تماسيح
كم مرة وخلو التباريح
كم جيتك راجع مسحور
بذات الوجه المفرور
البيني وبينك عصفور
علي قلبو منشن صياد
ظلموك يامريم ظلموك
حرموك يامريم حرموك
خلوك الدمعة تفصد خدك في الاعياد
مشوك في الشوك علي حد السيف
اتعلمتي الشك في الغربا
وكنتي ملاذ الشتا والصيف
سرقو امانك وإطمئنانك
قلبك كل ما باب الشارع دق يدق
إيدك ترجف في الصقاطة
وشك شاحب ربنا يستر يمكن هم
تفرحي فرحاً قدر الدنيا
إذا ما كان الطارق صاحب

يعم صمت تتخلله دموع صامتة وصور وجوه امهات عديدة تومض في ذاكرة كل منهم. تتوهج الوجوه ويتمدد الصمت. كان صمتا موجعا ذلك الصمت الذي عم حين لم يعد ذلك الرجل صاحب الشلوخ والابتسامة الواسعة من جلسة التحقيق التي كان يعود منها أكثر هزالا في كل مرة، لكن روحه أكثر توهجا، لم يعد يستطيع الانشاد، كان مضعضع الحواس منهك القوي،يبتسم بصعوبة ويقول( دا كلو بنتهي.....) فعلا أنتهي ذلك كله، غربت شمسك ياماحي، محوك ولم يعرفوا ان التاريخ يكتب ولايمحو أبداً، ماذا تراهم رأوا في عينيك في تلك اللحظات الفاصلة؟ من منهم سيصيح بما قلت في لحظاتك الاخيرة يا تري؟ وبماذا تراها شعرت ست نور في تلك اللحظة وهي بعيدة عنك؟1 هي اسئلة بلا أجوبة لكنها ترن كناقوس في باحة خالية في الظهيرة.

صلاح سر الختم علي
02-04-2013, 12:43 PM
42
يتذكر عصام جيدا تلك اللحظات التي قابل فيها ست نور بعد فترة طويلة من رحيل الماحي ، تلك الدموع ، ذلك الصوت الذي بعث الراحل حيا في لحظة ،لم يلحظ ذلك التشابه بين ست نور وابنها من قبل ولم يتوقف عنده ، حتي في ليالي الاعتقال التي كان صوت الماحي فيها هو الأعلي، كانت الايام تتشابه ، رتيبة مملة ، الهزيمة ساكنة في المكان وفي المفاصل ،كانت الكوابيس في ازدياد وساعات النوم في تناقص، وكل شئ مر كالعلقم،كان مستاءا في أيامه الاولي في تلك المحنة وموقنا بأن ثمة خطأ ما قد حدث في مكان ما، وكان يظن لسذاجته ان ذلك الخطأ سيكتشف عاحلا أم آجلا، سيعتذرون له بكلمات لطيفة ويخرج الي حيث نهر الحياة، ثمة مبان لم يكملها ينتظره اصحابها علي احر من الجمر ، ثمة التزامات لصالحه في ذمة اشخاص كثر تقطعت بينه وبينهم السبل سيقضي وقتا طويلا في ملاحقتهم واسترداد امواله طرفهم، حين قال ذلك للماحي في ساعة من ساعات نادرة كانت تتوفر لهما ضحك الماحي ملء شدقيه وقال له وهو يلمح دهشته( عصام انت لسه بتفكر بي طريقة واحد زايد واحد يساوي اتنين في زمن بقي واحد زايد واحد يساوي ما يطلبه الحكام الجدد، هولاء ليسوا بحاجة الي مبرر لوضع ناموسة في السجن أو اعدام زهرة ،عندهم من العار ان يكون هناك مبرر للفعل .....) لم تفهم حينها مايقوله، استدرت وقلت لنفسك(انا برئ......) ثم نظرت اليه، وجدته يبتسم بغموض، شعرت بالخجل ، احسست انه قرأ افكارك وسمع مناجاتك الداخلية، سمعته في مناجاتك الداخلية يقول( وهل نحن مذنبون ياعصام؟ بالله عليك هل فينا مذنب واحد؟) ازداد شعورك بالخجل وانت تتذكر كم من المرات كان يعود من حصته اليومية مثخنا بالجراح ليستمع الي تفاهاتك التي لاشك انها كانت أشد وطأة مما عاناه، كم كان نبيلا وهو يستمع بصبر، يطيب خاطرك، يرسم لك املا لم ترسمه له ولاتستحقه، اطرقت طويلا، اردت ان تقول شيئا، لم تستطع، انهمر دمعك غزيرا، وجدت نفسك تبكي مثل طفل علي ذلك الكتف النبيل. لم يقل شيئا، ولم تقل شيئا، لكنك ادركت انك لم تعد عصام الذي ولج هذا المكان رغم أنفه وفكر في الخلاص منه بطريقة خاطئة رغم أنفه وكان يمكن له أن يبقي وتلك العصابة السوداء علي عينيه وقتا اطول وربما الي الأبد. منذ ذلك اليوم بت تري في الماحي شمعة تحترق علي مهل، تذوي رويداً رويداً، وبات عالمه مفتوحا علي مصراعيه أمامك، بت انت مفتوحا امامه ومفضوحا تماماً، حين قال لك ذات يوم وهو يبتسم ( طول عمرك كنت تحب هبة ، وكنت تعلم بذلك، لكن شيئا ما كان ينكر ذلك ويكابر ) لم تندهش أبدا، فمع الماحي وحده كنت تحاول دوما معرفة نفسك والعالم بطريقة افضل، كنت تكون أكثر صدقا ، وتبوح كمن يخضع لعملية تنويم مغناطيسي، كنت تعرف انك تحتاج لرؤية قاع نهرك بشكل افضل، كنت تعلم ان ثمة مناطق مجهولة لديك منك، كانت سارة أول من نبهك الي ذلك، تلك الطفلة فيها شئ لله، فيها صدق يغريك بالبوح والتعري من كل الاقنعة في حضرتها، كنت ترتاح في وجودها وتنساب كزورق بلا كوابح يتمشي علي صفحة نهر وريح هادئة تدفعه بلطف، كانت سارة هي الطفل فيك،أما هبة فهي الأنثي التي تنجذب اليها لكنك تخاف ان تبوح، تخشي ان يتكسر زورقك عند صخورها التي ربما تغطيها المياه التي لايكشف سطحها ما هو كامن تحته، لم تك تدري ذلك بهذا الوضوح، كنت تلتقي سارة فتنطلق وينطلق لسانك من عقاله، وحين تلتقي هبة تشتعل نيران ساكنة فيك، يتوهج لهبها حتي تخبو وتصير رمادا ولكن لسانك ينعقد وصوت تفكيرك وحوارك مع نفسك صمتا اعلي من أي حوار مع هبة، كنت تشعر حين يداهمك هذا الأحساس بقربها أنك تخون سارة وتمشي علي الحبال بينهن، ينتابك شعور باحتقار الذات يزيد من صمتك، كنت تعرف فقط انه سيأتي يوم يكون عليك فيه الاختيار بين الأنثي والطفلة بين الغيمة السارة وهبة السماء، لامجال لالتقاء الساكنين، لامجال للمماطلة أكثر مما ماطلت. الماحي لم يتردد ، منذ الوهلة الأولي أدرك كل ما يعتمل بدواخلك وأدرك انك مارست الاختيار فعلا، لكنك لم تقو علي التصريح باختيارك، وادرك ان رحيل سارة بتلك الطريقة جعل قدرتك علي التصريح أضعف مما كانت عليه. وفي المقابل بت تعرف كل شئ عن الماحي.

صلاح سر الختم علي
06-04-2013, 09:34 PM
43
الماحي كان طفلا كبيرا ياهبة، كان عنيدا ومشاكسا منذ طفولته كما قالت ست نور، جين دخل السجن معتقلا أول مرة كان لايزال طالبا داخليا بمدرسة ثانوية لكنه كان مشاغبا كبيرا كما قال لهم ذلك المسؤول الذي طرقوا بابه ليساعدهم في رؤيته والافراج عنه، كان الرجل القصير صاحب الاصابع البضة كأنثي يقول بلهجة ناعمة(هذا الولد تعرض لغسيل مخ كبير...واذا لم تلحقوه سيصبح البصلة التالفة التي تفسد كل البصل....) ، لم تفهم ست نور كيف يتم غسل المخ وتساءلت ( الشياطين ديل وصلوا المخ دا كيف؟)، ابتسمت في سرها حين تذكرت الماحي في صباه وهو يتصدر كل حدث ومناسبة في البلدة الصغيرة النائمة علي ضفة النيل(كان مشاغبا كبيرا )
لكنهم لايعرفون انه لايمكن ان يؤذي ذبابة ( لكنهم آذوه ياعصام.... آذوه كثيرا....حسبي الله ونعم الوكيل...حسبي الله) كنت أريد ان اسألها كيف عرفت أنهم آذوه، هل رأته نائما نومته الأخيرة؟ هل تفرست في مواقع الأذي؟ هل ملكت القدرة علي النظر اليه؟ لكن الكلام في حلقي احتبس حين نظرت اليها، كانت شلوخها المميزة تبدو ضامرة وعيونها تبدو منطفئة والشعيرات البيض في شعرها تبدو متأهبة لتسود الرأس المحني كله، بدت لي في تلك اللحظة شخصا يمتطي هوادج الرحيل وينظر باتجاه احبابه الراحلين ولايسمع ولايري عداهم، بدت لي سفينة غائصة في بحور من الرمال تشدها بشبق وجنون الي الأسفل وتمنعها الرحيل، كان الصمت هو الشئ الوحيد الجائز قوله في تلك اللحظات. تذكرت عندها لهفة الماحي لملاقاتها وحديثه الكثير عنها، فادركت ان ثمة شئ ما يربط بينهما، شئ اقوي من السجن والغياب القسري والموت، شئ لايموت.دفنت رأسي في صدرها وبكيت بلا انقطاع، بكيت بلا توقف ويدها المعروقة تجوس باصابعها في شعري ثم تربت علي كتفي بلا كلام. أكملت اغتسالي في نهر ست نور في تلك الظهيرة الحارقة وحين خرجت من تلك الدار بت اري وجه الماحي خارجا من كل جدار وكل زقاق وكل شجرة وعصفور،كنت مفعما بالغضب والشجن حتي اني لا اذكر كيف ومتي بلغت الدار. وحين نمت تمدد الماحي وست نور في الحلم، رأيتهما معا وهما يرتديان ثيابا بيضاء نظيفة وامامهما قطيع من الحملان والاغنام تسير مطمئنة علي بساط أخضر ينتهي بقلب النهر، ثمة عصافير كثيرة ملونة وغير ملونة تحلق فوقهما مثل غمامة راحلة، تبتسم ست نور، تمسح علي رأس الماحي بيدهافي محبة، فيبدو أكثر وسامة، يلج القطيع النهر، يمشي علي الماء كأنه بجع ، تلمع العيون الصغيرة للاغنام والحملان، يرتفع الماء، يبدو القطيع سابحا ببراعة، والعصافير لازالت تحلق فوق الرؤوس وتحجب الشمس ، ثمة أزهار علي الضفتين ترفع اعناقها الخضر، تنبت اجنجة للماحي وست نور، وقبل ان يحلقا تغيم الرؤي، أصحو صحوا جزئيا، انظر حولي ، لاشئ سوي الظلام والسكون وصوت عربات حظر التجول تجوب المدينة الغارقة في الظلام والخوف.

صلاح سر الختم علي
07-04-2013, 07:16 AM
44
كانت ست نور وحيدة حين طرق الباب ذات يوم علي غير المعتاد في بيوت يصفق الداخلون اليها بايديهم وهم بداخلها ولايطرقون بابا، كانت حنان أرملة الماحي وطفلتيها قد غادرن الدار بعد الافطار ولم يعدن، صاحت ست نور بصوت خفيض ( اتفضل...ابقي داخل......)، تناولت ثوبها والقته فوق جسدها النحيل وتوجهت نحو الباب، انفتح الباب عن وجه مضطرب لشاب ثلاثيني اسمر اللون،حيته ست نور بابتسامة عريضة وهي تدعوه للدخول فتردد ترددا واضحا لكنه لم يملك امام الحاحها اللطيف شيئا سوي الدخول ، اعطته ست نور ظهرا مطمئنا وسبقته علي الراكوبة الصغيرة، شدت الملاية علي السرير ودعته الي الجلوس، توجهت نحو المزيرة ملات الكوز ماءاً وقدمته للضيف وهي لاتزال تمتم بترحاب( الله يسلمك...الله يبارك فيك....)، تناول الغريب الكوب ورفعه يريد الشرب لكن شيئا ما منعه، هوت يده بالكوب وانفجر في نوبة حادة من البكاء بلا مقدمات، أخذ الرجل يرتج كأنه مكنة لوري جاز توقف لتوه، تملكت الدهشة ست نور، ثم استدركت، ظنته احد اصدقاء الماحي الكثيرين الذين ظلوا يفدون الي الدار الصغيرة بين الفينة والاخري ويجهشون بالبكاء، ترقرقت الدموع في عينيها وتمتمت بصوت هامس( الحمد لله يا ولدي....الحمد لله.....كان الدموع بتجيب شئ ياوليدي كنا بكينا بدل الدموع دم....استغفر الله....استغفر الله) انفجر الغريب في البكاء بشكل اكبر كأنها حرضته عليه ولم تنهه عنه،كان ينهنه بعبارات غامضة لم تتبينها في البدء ثم ميزته يقول(استغفر الله العظيم واتوب اليه من كل ذنب عظيم ....استغفر الله العظيم ) ثم انحني عند قدميها فجأة واخذ يبكي ويصرخ بصوت مخنوق( سامحينا يا والدة....سألتك بالله تسامحيني يا والدة.....انا عيوني ما ضاقوا النوم...... سامحيني يا والدة.......) ثم اجهش بالبكاء، بقيت ست نور مذهولة واجمة حائرة في تفسير ما يجري، شعرت فجأة ان ثمة شيئا ما يربط بين طلب السماح والعفو وموت الماحي، لكنها بقيت عاجزة عن الفهم، همست بصوت مخنوق( يا ولدي الزول غير يومو يتم ما بتجيهو عوجة، والزول مهما كان هو البيختار حياتو، كان كنتو اصحابو ولا ما كنتو الماحي من زمان عرف دربو ومشي فيهو.....انتو ما اديتهو عوجة ابدا....ياها القسمة يا وليدي) امتدت يدها بحنان دافق ومسحت علي رأس الغريب بلطف، فقفز كمن لسعته عقرب وصرخ( يا والدة ما تكتليني وانا اصلا ميت، ياوالدة انا ما صاحب الماحي، انا واحد من الساقوهو منك، انا واحد من الطلعوا بي نعالهم فوق رقبتو، انا واحد من الناس القطعوهو حتة حتة، وما رحموه....انا شيطان يا والدة.....شيطان كان قايل نفسو الملاك، انا الواقف قدامك دا ما ضربتو ، والله ماضربتو، لكن سكتا والساكت علي الحق شيطان اخرس، ........) ثم انهار باكيا عند قدميها، نظرت اليه من عل، استعادت يدها كمن سحبها من فوق قطعة من النار، تصلبت عضلات جسدها، احتبس الكلام في حلقها
وكان الغريب لايزال يرتعش عند قدميها كعصفور بلله مطر.

صلاح سر الختم علي
08-04-2013, 11:26 AM
45



باتت قصة حياة الغريب كتابا مفتوحا أمام ست نور، رواها بنفسه بين دموع واستغفار وآهات ،كان اسمه مصطفي عابدين لكن مهنة الاب طغت علي اسمه فبات معروفا بمصطفي ود الفران ، فقد كان الاب يعمل فرانا في مخبز بلدي صغير في حي كوارث علي اطراف المدينة يظل في مواجهة النيران نهاره كله منذ طلوع الشمس حتي غروبها ليصنع خبزاً يتخطفه الناس وترقد نقودهم المتسخة في درج تنتهي حصيلته الي حساب صاحب الفرن وجيوب تجار الدقيق والحطب وينال العمال فتاتا يسيراً منها، كان بيت عابدين الفران عبارة عن غرفة واحدة من الطين الأخضر امامها حوش صغير مسور بالخيش والقنا تقع داخل حوش كبير به عدد من السكان يسكنون بذات الكيفية حيث يستأجر كل منهم غرفة لها حوش صغير مماثل ، اما المنافع فهي مشتركة مثلها مثل منافع الداخليات، ولسبب ما كان البيت يسمي بيت البقر ، كان بيتا مكتظا بالسكان والضجيج وفيه متسع لزراعة تحتل بعض نواحيه ممثلة في نبات العوير واللبلاب الأخضر المتدلي فوق الرواكيب الصغيرة ومنها الي الأسفل، في تلك الغرفة عاش عابدين واسرته المكونة من زوجته ونصف دستة من الاطفال هم اربعة بنات وولدين..منذ نعومة اظافره شب مصطفي وقلبه متعلق بالمساجد وآيات القرآن، كان حمامة مسجد كما يقولون، ينهض باكرا ليدرك الفجر حاضراً في المسجد الصغير ويظل بالحلقة المنتظمة هناك حتي طلوع الشمس ليتعلم التجويد وعلوم الحديث ثم يذهب للحاق بالمدرسة القريبة التي كان يعرف بطريقة ما انها هي الجناحان اللذان سيمكناه من التحليق بعيداً عن حي كوارث ويمكنا والده من الهروب من جحيم الفرن الذي اصطلي به عمراً، كان عقله يعمل علي حل المسائل كمدية علي قطعة من اللحم، لايوقفها شئ ولايستطيع اللحم لها رداً، كان معلموه يرمقونه باعجاب ويتحدثون عنه بفخر ومحبة ظاهرة. وتعززت مكانته تلك حين حقق نجاحا باهراً للمدرسة الواقعة في الاطراف في امتحانات الثانوية العامة وجعل اسم المدرسة يرن في الاذاعة ويلمع في الصحف السيارة بشكل لم يسبق له مثيل جعل وزارة التربية تتباهي بان مدرسة من مدارسها الحكومية فاقت المدارس الخاصة بإمكانياتها الكبيرة ونظمت الوزارة تكريماً للمدير والاساتذة جلب كاميرات التصوير لاول مرة الي حي كوارث. كان عابدين الفران جالساً في الصفوف الأمامية بجلباب لم تفلح كل الجهود لاخفاء الكرفسة الواضحة فيه ولا الخروم الصغيرة البارزة فيه ، لكنه كان صاحب أكبر ابتسامة في المكان وهو ملتصق بابنه النابغة كأنه يريد التأكيد علي انه ابنه هو دون سواه وكأنه يخشي ان يسرق منه شخص ما تلك الصفة. لم يتغير مصطفي حتي بعد ان حلق به نجاحه خارج حي كوارث وادخله مدرسة ثانوية علياحكومية مميزة في قلب المدينة، ظل كما هو حمامة المسجد الدائمة ومحبوب الكبار والصغار في حي كوارث، اصبح الناس يقدمونه أماماً في الصلوات حتي في وجود الكبار ويقدمونه في كل المناسبات التي تتطلب وعظاً أو تعبيراً عنهم امام مسؤول أو في أي مناسبة، بدا هو مستمتعاً بهذه السلطة الجديدة التي سعت اليه سعياً، تمددت سلطته لتشمل البيت وما يجب ان تفعله اخواته وما لايجب، مايلبسنه هن وامه وما لايجوز لهن لبسه، تخلي الوالد طائعاً عن سلطاته كلها للابن النابغة. ولان النجاح يجعل الناجحين في الواجهة بات مصطفي هدفا، ولم يقاوم، كان يشعر بقوة خفية داخله تدفعه نحو افاق ارحب من عالمه الصغير، كان يشعر ان ثمة طاقات كامنة فيه تنتظر ان تتفجر، هكذا وجد نفسه عضواً في جماعة تريد تغيير الكون كله وليس واقعه الصغير فحسب،لكنه بدأ يتغير من الداخل كثيراً دون ان يشعر، لم يلاحظ أبداً ان رحلته اليومية الي المسجد تحولت من عمل طوعي أرادي بحت ليس له أي ظلال دنيوية الي عمل يؤدي ويسأل عنه تنظيمياً وتصاحبه واجبات تضعها الجماعة لا روحه هو وان صادفت هوي منه،باتت نظرته الي القادمين الي المسجد نظرة صياد الي فريسة محتملة وتقربه منهم بات هدفاً مرسوماً وليس شيئا عفوياً عارضا ، باتت مسألة تقدمه ليؤم الناس او تقديمه خطيبا سلطة خاصة به وحق ينتزعه انتزاعاً أكثر منها شيئا يفعله الناس طوعاً، بات يتضايق اذا لم يقدموه، وبات يتظاهر تظاهراً زائفاً بالزهد وهو في الحقيقة لايقبل بغير تقدمه( الناس يا والدة لديهم قدرة غريبة علي صنع الطغاة بأنفسهم وتحوير الاشياء لتصبح ليست هي الاشياء ذاتها، يصبح الباطل حقا والحق باطلاً في لمحة عين، وجدت نفسي اسعي دوماً لكي اكون القائد المتوج وبت أشعر شعورا خفياً بان ذلك حق أصيل لي دون ان اجد لذلك سببا، لكنني بت اتشب به الي حد انهم اذا لم يقدموني كنت اتقدم من تلقاء نفسي بلا تردد، حتي التظاهر بالزهد والتواضع الزائفين تخليت عنهما في مرحلة لاحقة وبت واضحا في تسليمي بانني الأفضل والأجدر....كان ذلك هو بداية رحلة التبدل والتحور) يتنهد الغريب من الأعماق ويواصل حديثه ( كنت لازلت طالبا بالثانوي العالي حين لبست زي الجيش المموه وكتبت وصيتي وسلمتها أميري وذهبت الي احراش الجنوب مقاتلا يحمل روحه بين كفيه ويمضي طائعا صوب رحلة مقدسة ، في حين كان أبي يعيش علي وقع كذبتي البيضاء التي تقول انني في رحلة علمية تابعة للجامعة، هناك عرفت رجالا يصعب وصفهم بالنفاق أو اللهث خلف الدنيا، رجال قدموا أنفسهم للموت علي طبق من الفضة، صعب جدا الا تصدق رجلا يقبل ان يمزقه لغم مغروس في الأرض الي مئات القطع الصغيرة دون أن يري عدوه أو يطلق طلقة واحدة، والأصعب ان لاتصدق نوايا رجل يركب طائرة نعشاً تكفي طلقة من سلاح محمول فوق الكتف لتحيلها جحيما حارقاً،كان الموت عن يمينهم ويسارهم ومن فوقهم وتحتهم، في الظلمة والظهيرة، في الغابة والسهول والشجر والجبال والنهر ، كان الموت يرقص رقصته المرعبة عند رؤوسهم في كل ليلة ،هولاء لايشبهون من يتحدث من غرفة مكيفة الهواء في الخرطوم أو أي عاصمة أجنبية في شئ،، كنت معهم هناك، وحين عدنا من هناك والشمس قد لوحت بشرتنا والصور المرعبة لاشلاء كانت اشخاصا عرفناهم ورافقناهم واستمعنا الي احلامهم ومخاوفهم وتلاوتهم تسد علينا الأفق وتصادر نومنا ، حينها وجدنا دنيا أخري لاتشبه تلك التي عشنا علي حافتها الحادة المشتعلة، بتنا أشخاصا مميزين عند البعض ووممقوتين عند البعض الآخر،مجاهدين عند البعض ومتطرفين ودعاة حرب عند البعض الآخر،، حتي نحن تبدلنا، بات بعضنا في غرف مكيفة يطلق التصريحات يمنةويسرة ويوزع الشهادات والاتهامات الخطيرة يمنة ويسرة، في هذه الظروف حققت نجاحي الأبرز وولجت الجامعة ، كان دخولي الجامعة حدثاً فريداً وانجازاً لم يسبقني عليه طالب من ابناء حي كوارث مطلقاً، كان اقصي ماحققه من قبلي هو الحصول علي شهادة ثانوي نجاح ومن ثم يذوب في وظيفة صغيرة متواضعة لابريق لها. لذلك كان انجازي مبهرا ، وكان دخولي كلية الهندسة فتحا جديدا، وكان للقبي الجديد(الباشمهندس) وقعا سحرياً جعل اعناق بنات حي كوارث تميل ونظراتهن تلاحقني اينما ذهبت..

صلاح سر الختم علي
13-04-2013, 02:16 AM
46
ولجت الجامعة ، تتابعت سنوات الدراسة عامرة بالضجيج والأحداث الكثيرة التي زلزلزت الجامعة وامتد أثرها خارجها مثل نبات اللبلاب المتسلق الذي يتسلق الجدران ليمد عنقه الي الشارع ويظل يتمدد بلا توقف، كنت مثل مركب صغير تدفعني الأمواج الي الأمام موجة إثر أخري وانا مستسلم لمصيري،تذوقت طعم هراوات البوليس مرات عديدة وحملت سيخا في حرم الجامعة في صدامات طلابية، لم أؤذ أحداً وتعرضت للأذي ، وقفت خطيبا انتف ريش الجماعات الأخري وخاصة قبائل اليسار التي شكلت عدوا لدوداً لنا دائماً، أنقضت سنوات الجامعة وولجت سوق الله أكبر من أوسع ابوابه، عملت في شركة تملكها الجماعة في البدايات الخجولة، امتلكت عربة عادية وأستطعت استئجار دار واسعة في حي من احياء الطبقة الوسطي بقلب الخرطوم وأوقفت أبي من مواجهة نيران الفرن ، قلت له بمحبة وصدق( آن لك ان تستريح يا أبي، آن لك ان تكون لك غرفة خاصة بك وان تتفرغ للعبادة ولمواصلة الارحام، لن تحتاج شيئا أبداً) ابتسم ابي ابتسامته الجميلة تلك ولم يقل شيئا وقتها، لكنه بعد فترة قصيرة قال لي بصوته الخفيض( أريد ان اعمل يا ولدي ولو بائعاً في دكان، لا استطيع البقاء في البيت بلا عمل هكذا، طول عمري كنت اعمل واجد نفسي في عملي.....) لم أقل له شيئا، لم أرفض ضراعته، فانا اعرف ابي اذا قرر شيئا لايرجع عنه ابدا، كان طلبه أمراً، نفذت ما طلبه، استأجرت دكانا صغيرا في ذات الحي، ملأت رفوفه بالبضائع التي تشكل احتياجا يوميا للسكان وسلمته له، بات سعيداً كطفل وسرعان ما أزدهرت تجارته وتوسعت مع الأيام، أما انا فقد جاءني من الاخوان من دعاني للتحرر من التبعية لرب عمل والدخول معه في شراكة تجارية وقد كان، وسرعان ما انتقلت الي موقع اعلي من مخدمي السابق، جري المال في ايدينا وتعززت معه مكانتي في الجماعة،وان كنت قد بت متحفظا حسب توجيهات صدرت لي بعدم ممارسة انشطة ظاهرة قد تضر بمركزي التجاري وهو مركز مهم،كان ثمة مياه تجري تحت الجسر، كنت اعلم عنها شيئا يسيرا واجهل الكثير، ولكن حين حدث التغيير ذات يوم من ايام الجمعة أيقنت ان تغييرات كبيرة قادمة،وكما حدث من قبل وجدت الموج يدفعني بقوة، موجة وراء موجة، حتي وجدتني قد بت من حراس النوايا في ذلك المكان الذي التقيت فيه الماحي ، يعلم الله انني وقفت عاجزا عن الفعل وعاجزا عن رد الفعل، وقفت أخرساً والساكت عن الحق شيطان أخرس، نظرت حولي، ثم نظرت بداخلي فلم أجدني، هرولت الي الخارج حيث السماء، نظرت اليها بدت شاحبة في الظهيرة،شعرت انني اختنق، تحسست عنقي فلم اجد فيه ربطة عنق وكانت زرايري مفتوحة ولكنني كنت مختنقاً، ركضت صوب سيارتي،ركبتها وانطلقت أضرب علي غير هدي في شوارع الخرطوم، وآيات القرآن تطاردني كما تطارد الشرطة مجرما فاراً بغنيمته في رابعة النهار، يجئني الصوت رخيما عذبا من مكان مجهول(كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى ،أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى،إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى،أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى،أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى،أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى،أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى،كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ،نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ،فَلْيَدْعُ نَادِيَه،سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ،كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ.)، وجدتني ابكي وارتعش من رأسي حتي قدمي، لمعت في ذهني صورة من طلبوا السماح لهم بالصلاة ومنعوا بفظاظة، يا آلهي ماذا فعلنا؟! يا آلهي كيف صار ما صار؟! ضغطت بقوة علي دواسة الوقود، جاءني الصوت ثانية رخيما وعذبا (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) بكيت بحرارة وانا اتذكر كل ماعلمته عن سورة العلق وكونها أول سورة من سور القرآن العظيم ، برز لي من الظلمة وجه شيخ وقور يحدثنا بصوت عميق في باحة مسجد صغير في حي كوارث المسكون بالفقراء الاتقياء عن السورة واسباب النزول ، سمعته يقول وكأنه في السيارة الي جواري: ﴿أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى * أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى * أرأيت إن كذب وتولى * ألم يعلم بأن الله يرى﴾.(أرأيت ؟) للتشنيع والتعجيب والاستنكار. ويجيء التهديد الملفوف (ألم يعلم بأن الله يرى ؟) يرى تكذيبه ونهيه للعبد المؤمن إذا صلى. ثم يجيء التهديد الحاسم الرادع، (كلا. لئن لم ينته لنسفعن بالناصية. ناصية كاذبة خاطئة. فليدع ناديه. سندع الزبانية). وفي ضوء هذا المصير الهيب تختم السورة بتوجيه المؤمن الطائع إلى الإصرار والثبات على إيمانه وطاعته. (كلا. لا تطعه، واسجد، واقترب). بكيت كما لم ابك من قبل، توقفت علي جانب الشارع، اخرجت مصلاتي من السيارة، بحثت عن ماء للوضؤ وتوضأت، ثم شرعت في الصلاة ، صلاة طويلة لم تنتهي الا بعد زمن طويل. وحين ذهبت الي بيت الله الحرام حاجاً في ذلك العام ووقفت لرمي الجمرات وجدتني خائر القوي منهاراً مجهشاً بالبكاء، كان وجه الماحي يقف بيني وبين صلاتي وبين وبين نومي ، فايقنت انه لاراحة لي الا اذا بحت ببعض ما اعتراني وجئت طالبا غفرانكم عسي أن يغفر اللهلي. عندها صمت مصطفي. صمتت ست نور.حان دورك في البكاء الآن ياست نور، بكيت بلا توقف وانت تقرأيين بين سطور الكلام ما لم يقال وتتصورين الصور التي استعصت علي الخروج من القاع، ثم تمالكتي نفسك وسألت الغريب بصوت خافت يكاد يمسي همساً( هل.....هل تألم كثيراً؟....هل كان قوياً؟)بلع الغريب ريقه بصعوبة ظاهرة وقال بلا تردد(كان قوياً جداً، أكثر مما ينبغي...كان قوياً جداً.....) ثم أضاف بصوت خافت(ولهذا السبب كان نصيبه من الألم كبيراً جداً...الصمود كان شيئاً غير محبوب في ذلك المكان، كان شيئا مشعلاً للنيران وشهوات كثيرة تجعل منهم وحوشاُ.) ساد صمت طويل، نظر الغريب نحو ست نور في ضراعة وهم بفتح فمه وقول شئ، لكنها أشارت عليه بالسكوت، ومضت نحو الباب الصغير بخطوات ثابتة وفتحته وأشارت الي الغريب أشارة ذات معني، نظر اليها متضرعا في صمت، فنظرت الي الأعلي نظرة فهم الغريب مغزاها، ادار ظهره ومشي بخطوات متثاقلة نحو الباب ، وظلت هي عند الباب المفتوح تراقب شبح الغريب حتي اختفي عن ناظريها تماما، عندها أغلقت الباب وأجهشت بالبكاء وهي مستندة عليه بظهرها.

صلاح سر الختم علي
13-04-2013, 02:18 AM
46
ولجت الجامعة ، تتابعت سنوات الدراسة عامرة بالضجيج والأحداث الكثيرة التي زلزلزت الجامعة وامتد أثرها خارجها مثل نبات اللبلاب المتسلق الذي يتسلق الجدران ليمد عنقه الي الشارع ويظل يتمدد بلا توقف، كنت مثل مركب صغير تدفعني الأمواج الي الأمام موجة إثر أخري وانا مستسلم لمصيري،تذوقت طعم هراوات البوليس مرات عديدة وحملت سيخا في حرم الجامعة في صدامات طلابية، لم أؤذ أحداً وتعرضت للأذي ، وقفت خطيبا انتف ريش الجماعات الأخري وخاصة قبائل اليسار التي شكلت عدوا لدوداً لنا دائماً، أنقضت سنوات الجامعة وولجت سوق الله أكبر من أوسع ابوابه، عملت في شركة تملكها الجماعة في البدايات الخجولة، امتلكت عربة عادية وأستطعت استئجار دار واسعة في حي من احياء الطبقة الوسطي بقلب الخرطوم وأوقفت أبي من مواجهة نيران الفرن ، قلت له بمحبة وصدق( آن لك ان تستريح يا أبي، آن لك ان تكون لك غرفة خاصة بك وان تتفرغ للعبادة ولمواصلة الارحام، لن تحتاج شيئا أبداً) ابتسم ابي ابتسامته الجميلة تلك ولم يقل شيئا وقتها، لكنه بعد فترة قصيرة قال لي بصوته الخفيض( أريد ان اعمل يا ولدي ولو بائعاً في دكان، لا استطيع البقاء في البيت بلا عمل هكذا، طول عمري كنت اعمل واجد نفسي في عملي.....) لم أقل له شئيا، لم أرفض ضراعته، فانا اعرف ابي اذا قرر شيئا لايرجع عنه ابدا، كان طلبه أمراً، نفذت ما طلبه، استأجرت دكانا صغيرا في ذات الحي، ملأت رفوفه بالبضائع التي تشكل احتياجا يوميا للسكان وسلمته له، بات سعيداً كطفل وسرعان ما أزدهرت تجارته وتوسعت مع الأيام، أما انا فقد جاءني من الاخوان من دعاني للتحرر من التبعية لرب عمل والدخول معه في شراكة تجارية وقد كان، وسرعان ما انتقلت الي موقع اعلي من مخدمي السابق، جري المال في ايدينا وتعززت معه مكانتي في الجماعة،وان كنت قد بت متحفظا حسب توجيهات صدرت لي بعدم ممارسة انشطة ظاهرة قد تضر بمركزي التجاري وهو مركز مهم،كان ثمة مياه تجري تحت الجسر، كنت اعلم عنها شيئا يسيرا واجهل الكثير، ولكن حين حدث التغيير ذات يوم من ايام الجمعة أيقنت ان تغيييرات كبيرة قادمة،وكما حدث من قبل وجدت الموج يدفعني بقوة، موجة وراء موجة، حتي وجدتني قد بت من حراس النوايا في ذلك المكان الذي التقيت فيه الماحي ، يعلم الله انني وقفت عاجزا عن الفعل وعاجزا عن رد الفعل، وقفت أخرساً والساكت عن الحق شيطان أخرس، نظرت حولي، ثم نظرت بداخلي فلم أجدني، هرولت الي الخارج حيث السماء، نظرت اليها بدت شاحبة في الظهيرة،شعرت انني اختنق، تحسست عنقي فلم اجد فيه ربطة عنق وكانت زرايري مفتوحة ولكنني كنت مختنقاً، ركضت صوب سيارتي،ركبتها وانطلقت أضرب علي غير هدي في شوارع الخرطوم، وآيات القران تطاردني كما تطارد الشرطة مجرما فاراً بغنيمته في رابعة النهار، يجئني الصوت رخيما عذبا من مكان مجهول(كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى ،أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى،إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى،أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى،أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى،أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى،أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى،كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ،نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ،فَلْيَدْعُ نَادِيَه،سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ،كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ.)، وجدتني ابكي وارتعش من رأسي حتي قدمي، لمعت في ذهني صورة من طلبوا السماح لهم بالصلاة ومنعوا بفظاظة، يا آلهي ماذا فعلنا؟! يا آلهي كيف صار ما صار؟! ضغطت بقوة علي دواسة الوقود، جاءني الصوت ثانية رخيما وعذبا (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) بكيت بحرارة وانا اتذكر كل ماعلمته عن سورة العلق وكونها أول سورة من سور القرآن العظيم ، برز لي من الظلمة وجه شيخ وقور يحدثنا بصوت عميق في باحة مسجد صغير في حي كوارث المسكون بالفقراء الاتقياء عن السورة واسباب النزول ، سمعته يقول وكأنه في السيارة الي جواري: ﴿أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى * أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى * أرأيت إن كذب وتولى * ألم يعلم بأن الله يرى﴾.(أرأيت ؟) للتشنيع والتعجيب والاستنكار. ويجيء التهديد الملفوف (ألم يعلم بأن الله يرى ؟) يرى تكذيبه ونهيه للعبد المؤمن إذا صلى. ثم يجيء التهديد الحاسم الرادع، (كلا. لئن لم ينته لنسفعن بالناصية. ناصية كاذبة خاطئة. فليدع ناديه. سندع الزبانية). وفي ضوء هذا المصير الهيب تختم السورة بتوجيه المؤمن الطائع إلى الإصرار والثبات على إيمانه وطاعته. (كلا. لا تطعه، واسجد، واقترب). بكيت كما لم ابك من قبل، توقفت علي جانب الشارع، اخرجت مصلاتي من السيارة، بحثت عن ماء للوضؤ وتوضأت، ثم شرعت في الصلاة ، صلاة طويلة لم تنتهي الا بعد زمن طويل. وحين ذهبت الي بيت الله الحرام حاجاً في ذلك العام ووقفت لرمي الجمرات وجدتني خائر القوي منهاراً مجهشاً بالبكاء، كان وجه الماحي يقف بيني وبين صلاتي وبين وبين نومي ، فايقنت انه لاراحة لي الا اذا بحت ببعض ما اعتراني وجئت طالبا غفرانكم عسي أن يغفر الله لي. عندها صمت مصطفي. صمتت ست نور.حان دورك في البكاء الآن ياست نور، بكيت بلا توقف وانت تقرأيين بين سطور الكلام ما لم يقال وتتصورين الصور التي استعصت علي الخروج من القاع، ثم تمالكتي نفسك وسألت الغريب بصوت خافت يكاد يمسي همساً( هل.....هل تألم كثيراً؟....هل كان قوياً؟)بلع الغريب ريقه بصعوبة ظاهرة وقال بلا تردد(كان قوياً جداً، أكثر مما ينبغي...كان قوياً جداً.....) ثم أضاف بصوت خافت(ولهذا السبب كان نصيبه من الألم كبيراً جداً...الصمود كان شيئاً غير محبوب في ذلك المكان، كان شيئا مشعلاً للنيران وشهوات كثيرة تجعل منهم وحوشاُ.) ساد صمت طويل، نظر الغريب نحو ست نور في ضراعة وهم بفتح فمه وقول شئ، لكنها أشارت عليه بالسكوت، ومضت نحو الباب الصغير بخطوات ثابتة وفتحته وأشارت الي الغريب أشارة ذات معني، نظر اليها متضرعا في صمت، فنظرت الي الأعلي نظرة فهم الغريب مغزاها، ادار ظهره ومشي بخطوات متثاقلة نحو الباب ، وظلت هي عند الباب المفتوح تراقب شبح الغريب حتي اختفي عن ناظريها تماما، عندها أغلقت الباب وأجهشت بالبكاء وهي مستندة عليه بظهرها.

mahagoub
13-04-2013, 03:56 AM
تمضى بنا الحياة
وتحتوى على كثير من الدروس والعبر
لمن وعىما حوله
وتعامل من البشر كبشر

غبت عنك كثير
فأرجو السماح

صلاح سر الختم علي
13-04-2013, 04:22 AM
شكرا اخي محجوب
حقا الحياة حافلة بالدروس وبالعبر
ومن المهم ان نحاول الفهم وان نعتبر بدروسها
وان لانصدر الاحكام جزافا ثم ننام

صلاح سر الختم علي
18-04-2013, 08:56 PM
47
تمضي وحيدا يامصطفي ، الرياح تزأر في الشوارع، والهواجس تفتك بك، الأفكار تهطل كالمطر، تتذكر وجه أمك، يختلط وجهها مع وجه ست نور، تشعر بالرغبة في البكاء،تنظر في وجوه الناس المسرعين، بدت الوجوه شاحبة مذعورة ومتعبة، بدا لك كأنهم جميعا يرمقونك شذرا، زاد ارتباكك وتثاقلت خطاك، سمعت صوت مؤذن بعيد، بحثت بعينيك عن مسجد قريب، هرولت اليه مسرعاوحين وقفت تصلي كانت الصور تخرج من مكان ما داخلك مثل الماء من النهر بلا توقف ،كنت تبكي وترتل آيات القرآن بصوت متهدج باك بدا لك كأنه ليس صوتك،وحين خرجت من ذلك المسجد الصغير في ذلك اليوم كنت قد بت شخصا آخرا، اشياء كثيرة تركتها هناك واقسمت الا يكون لها وجود في حياتك،كانت أمك تبتسم في خيالك ابتسامة واسعة وهي تدعو لك بدعاء طيب كما تفعل دوما، لم يك الأمر سهلا كما ظننت،ليس سهلا ان تتخلي طوعا عن حياة باكملها لصالح المجهول، ان تقفز في الفراغ_ كما قال لك احد الاخوة_ ليس شيئا حكيما، ابتسمت وقلت له الفراغ ياخيري كان هو حيث كنت، كانت ثمة هوة مظلمة تتهيأ لابتلاعي، الحمد لله الذي انار بصيرتي، الحمد لله الذي جعلني أري بقلبي، نظر خيري اليك نظرة حائرة وصمت، كان صديقك وكان شاهدا علي محطات كثيرة في حياتك، تقاسمتما لحظات وايام واسرار كثيرة، كان بطبعه صموتا
وكنت علي النقيض منه تماما، كل ما تفكر فيه تفكر فيه بصوت مسموع،لكنك تعلمت من خيري الا تبوح بافكارك الخطيرة بالذات الا لمن تثق فيه،حين بحت له بما يعتريك لم يخف خيري رعبه وقال لك بلا تردد( مصطفي...ما تقوله خطير...اظنك تحتاج اجازة طويلة والخروج من دائرة الضغوط هذه) كان هذا ماقاله بلسانه لكن عيناه كانتا تقولان ما هو أقسي( هل جننت يارجل؟ هل بت تنظر الينا بعيون الاعداء؟) فهمت ما اراد قوله ولكن شرح الموقف كان صعبا، صعبا جدا، لذت بصمت ولاذ هو بصمت، وكانت الافكار التي تدق في رأسيكما عارية أمامكما، كنت تعرف انه بظنك قد بت إما خائنا أو مجنونا، وكان يعرف انك تعرف ما يجول برأسه ولكنه لم يك منزعجا من ذلك، قلت له بانفعال ظاهر( لقد تحررت من عبادة اصنامي ياخيري اخيرا، لن اكون ذئبا في قطيع بعد اليوم ولن أسلم نفسي لأحد ليعبث بي كما يشاء،لن افعل شيئا يرفض قلبي فعله مهما كانت المبررات قوية) لم يقل شيئا ولفكما صمت ناطق، صمت غريبين التقيا في رصيف محطة وتوشك قطاراتهما علي السير في اتجاهات متعاكسة.

صلاح سر الختم علي
22-04-2013, 11:52 AM
48
في ذلك اليوم نفسه قررت ان تفض شراكتك الناجحة التي تتضمن خيوطا عنكوبتية في داخلها قادرة علي ان تكبل خطاك في كل مفترق طرق جديد، قلت لنفسك في ظلمة الليل وانت تهتز ودموعك تغسل خديك( من الاصنام ما نحبه ونخترع الاسباب لاعطائه مشروعية نعلم انها زائفة وانها لن تعصمنا من الله اذا الطوفان جاء...أخطر اصنامي هي تجارتي اللعينة،شهوة المال اللعينة اذا لم اتحرر منها فلا فائدة ولاحرية من أي قيد) تتذكر الآن كل شئ. تعض بنانك ندما،بدا الأمر نبيلا وجميلا ومشروعا، الدعوة تحتاج المال والرجال، وما العيب في التجارة؟ ما العيب في تنمية مال الجماعة؟ وما العيب في ان تختص بالقليل منه،كل عمل يستحق من يديره أجرا علي ذلك ، انت لاتسرق ولاتأخذ شيئا غصبا،وهكذا مشيت حتي آخر الشوط مع سياسة (ما العيب)، قال خيري بغضب باد( وما العيب في سياسة ما العيب يامصطفي؟ ألم أقل لك انك بت ترانا بعيون أولئك الكفرة لا بعينيك؟) قلت له بثقة (المشكلة ليست في العين التي تري ، المشكلة هي ان الله يري ما لانراه وما لانحب رؤيته يا خيري، الدعوة ليست مهنة لنتقاضي عنها اجرا، والجهاد ليس صكوك غفران أو شيكات مسحوبة علي بنوك ملزمة بدفع فاتورة ما لبعض الاشخاص....هناك شئ ليس في محله ياخيري ....هناك خلل بين.... الا تري؟)
خيري لم يك مستعدا لكي يسمع، لم يك واحدا ممن تقاضوا أجرا أو طرقوا الابواب لتحصيل ديون مستحقة لهم في ذمة أشخاص غير مرئيين، كان هو خيري نفسه الذي عرفته منذ ان كنتما عضوين في أسرة واحدة تقتسما إعانة الجامعة للطلاب الفقراء مع التنظيم وتقطعا مشاوير مضنية سيرا علي الأقدام، وكان هو نفسه الذي حمل السيخ في الجامعة دون ان يرمش له جفن حين اقتنع بان ذلك جهاد ضد أعداء مفترضين للدين، وكان هو نفسه شريك تجربة الاعتقال والسجن الطويلة قبل سقوط النميري، وكان ولايزال هو خيري نفسه الذي يقيم في بيت اسرته بالشجرة في غرفة صغيرة وبرندة مماثلة لغرفة وبرندة ست نور والدة الماحي بل كانت الازيار نفسها في البيتين باقية في زمن باتت الثلاجات فيه بضاعة بائرة متوفرة في كل بيت،لكن خيري كان مثل الماحي قوي الرأس في اتجاه مغاير، كان لديه ثوابت لايقبل المساس بها ولا يقبل أي مراجعة فيها، كان رجلا نبيلا مخلصا حد انه قبل طائعا ان يضع نظارة سوداء فوق عينيه وكنت تعلم ان الجبل قد يتغير والنهر قد يجف ولكن ان يتغير خيري فذلك هو المستحيل نفسه ولكنك كنت تحبه محبة يصعب معها ان تتركه في الظلام يتخبط وحيدا، وفي المقابل كان هو يحبك محبة صادقة ويتمني ان تجتاز محنتك بسلام وان تبقي كما كنت.كانت أمنيته مستحيلة وكذلك أمنيتك. بعد ذلك اليوم بسنوات عديدة كنت تتابع نشرة الأخبار غاضبا وحزينا فقد كانت النشرة تبث صورا يقشعر لها الوجدان للأسري المسلمين في قاعدة غوانتنامو العسكرية الأمريكية. كنت تنصت باهتمام
للتقرير الذي يقول (ان قاعدة غوانتانامو الأمريكية هي منشأة تقع في منطقة تبلغ مساحتها 117.6 كيلومتراً مربعاً، من الأراضي الكوبية، وتم احتلالها عام 1903. وقد جاء ذلك محصلة معاهدة خاصة بمحطات التزويد بالفحم والمحطات البحرية، وُقّعت بين حكومة الولايات المتحدة وحكومة كوبا، برئاسة توماس إسترادا بالما، وذلك في ظروف لم تكن هافانا تتمتع فيها عملياً بأي استقلال.

وجاءت السيطرة الأمريكية على غوانتانامو انطلاقاً من فرض تعديل أقره الكونغرس الأمريكي، ووقعه الرئيس ماكينلي في شهر آذار (مارس) من عام 1901، وعُرف باسم تعديل "بلات". وتم ذلك وقت كانت تخضع فيه كوبا لاحتلال جيش الولايات المتحدة الأمريكية، بعد تدخله في حرب الاستقلال التي خاضها الشعب الكوبي ضد الدولة الإسبانية المستعمِرة.ولم تكن مفاجأة للعارفين بسياسات الدول الكبرى أن يمنح ذلك التعديل الحق للولايات المتحدة بالتدخل في كوبا، بل تم فرضه على نص الميثاق الدستوري الكوبي في عام 1902، كشرط لانسحاب قوات الولايات المتحدة من الأراضي الكوبية. وبموجب تلك المادة تم توقيع المعاهدة المذكورة في شباط (فبراير) من عام 1903 في هافانا أولاً ثم في واشنطن.
كانت تلك المعاهدة، التي يشعر الكوبيون بمرارة كبيرة إزاءها، تشمل منطقتين من أراضي كوبية هما؛ باهيّا أوندا وغوانتانامو، مع أن الأمر لم يصل أبداً لإقامة قاعدة بحرية في المكان الأول.) كانت الصور تتوالي علي الشاشة مع صوت المذيع. في ثانية كان وجه خيري بشحمه ولحمه يملأ الشاشة راسفا في الأغلال بذلك الزي الأحمر المائل للبرتقالي...نعم هو خيري وليس سواه.

صلاح سر الختم علي
22-04-2013, 12:55 PM
49
كان خيري قد اختفي منذ فترة.عاني كثيرا، لكنه لم ينقطع عنك، كان ثمة اتفاق صامت بينكما علي عدم فتح الحوار حول كل ما يمكن ان يؤثر علي المودة التي بينكما، قبلك كما صرت وقبلته كما أراد ان يكون،لكن حالتك يامصطفي لم تك حالة وحيدة، كان ثمة آخرون قرروا التخلص من أصنامهم والتمرد عليها،كان ثمة انهيارات كثيرة، مياه كثيرة تحت الجسر،بات الهمس جهرا،فهمس خيري في إذنك انه سيهاجر ، ثم أضاف ان هجرته ليست لمال يصيبه أوعمل يرتزق منه بل هي هجرة خالصة لله تعالي،دعوت له بالتوفيق، ولفكما صمت، كنت تفكر في أشياء كثيرة وتود قول الكثير له ، لكن ثمة شئ ما جعلك تمسك عن الحديث وتختار الصمت، كنت تعرف حساسيته الشديدة تجاه بعض الأشياء وكان يعرف انك تعرف ويحترم ذلك فيك فلم تشأ ان تخيب ظنه فيك. غادر خيري وعاد اليك بعد بضعة اسابيع فودعك بحرارة وسلمك مظروفا مغلقا كنت تعرف محتوياته
ولمن ستسلمه ومتي ستفعل، لم تتمالك نفسك فبكيت وانت تقلده قلدة قوية صادقة كأنك تطلب منه العدول عن هجرته، لكنك تدرك ان الآوان قد فات وانه لن يستمع لشئ آخر سوي ذلك الشوق الذي يسكنه.ضحك خيري وتلك عادته حين يكون متوترا ، قال لك انه لايملك شيئا كما تعرف سوي نصيبه في بيت ابيه وزوجة وطفلتان ليس لهم من بعده سواك.قلت له ولسانك يتمرد عليك ان ارض السودان فيها متسع للدعوة ولايحتاج الأمر الي هجرة بعيدة، نظر خيري اليك نظرة فاحصة ولم يقل شيئا ولكنه قال ما اراد قوله بتلك الطريقة، لذت بالصمت ثم ودعته بحرارة وافترقتما، لم تره بعدها ثانية الا في ذلك التقرير المصور لقناة الجزيرة في تلك الأمسية الكئيبة الراعفة. حين سمعت ذلك الأسير الاردني يحكي قصته كان وجهه يغيب عن ناظريك وتري وجه خيري في كل فصول الحكاية:

- اعتدت الخروج في سبيل الله الى باكستان والعودة الى الاردن عبر ايران فالعراق فالاردن لكن هذه المرة قامت الاجهزة الامنية الايرانية باعتقالي من داخل منزل احد رجال التبليغ السنة في ايران في منطقة مشهد.
ليتم تسليمي بعد ذلك الى الافغان من قبل الايرانيين في 3/1/.2002

في افغانستان التي يباع فيها الانسان بدولار تم سرقة اموالنا واغراضنا وقام محققون امريكيون بالتحقيق معي واستجوبوني عن امور طبيعية واسئلة عامة في سجن افغاني في مدينة كابول لمدة سنة وشهرين في سجن سيئ تحت الارض مع 10 اشخاص من بينهم اوزبكي و يمنيان وتونسي وعراقي واردني وطاجيكي واثنان من الافغان.



وبعد هذه السنة جاءنا محقق امريكي ومعه مترجم لا يعرف من العربية الا القليل وسألني عن اسباب تواجدي في ايران وقبلها في باكستان وعن علاقتي بتنظيم القاعدة.
- هنالك اساليب كثيرة للاهانة والتعذيب تعرضت لها انا واخوتي في المعتقل من بينها ان بعض الاخوة ظلوا 3 شهور بدون استحمام وعندما كانوا يسمحون لنا بالاستحمام كنا نستحم بالماء البارد.

كانوا يتعمدون اهانتنا وكانوا يشتموننا ويضربوننا ويركلوننا, فكان ذلك امرا طبيعيا. لكن ظروف الاعتقال الاصعب كانت في معتقل غوانتنامو ومن قبله في باجرام.

عندما دخلنا باجرام تم تمديدنا على الارض وكانت اعيننا وآذاننا معصوبة فيما كممت انوفنا ولا ادري لماذا كل هذا وتم تقييدنا ايضا بسلاسل وقيود في اليدين والرجلين ووسط ذلك كله كانت تنهال علينا الشتائم من كل جانب ومن الجنود والمجندات.

ثم كانوا يأتون بالكلاب لتقوم بملامستنا والنباح علينا وشمنا ونحن في رعب حقيقي خوفا من ان تهاجمنا وفي نفس الوقت كانوا يستعملون معنا اسلوب الترهيب على سبيل المثال كانوا يقومون بتشغيل مناشير خشبية وسط صياح بعض الاخوة من الضرب لايهامنا بانهم ينشرونهم بهذه المناشير او يقطعون اطرافهم.

في احد الايام ادخلوني الى غرفة في معتقل باجرام ورفعوا عني عصابة العينين في غرفة فيها اكثر من 30 جنديا ومجندة امريكيا وسط اعلام امريكية كبيرة وفي وجهي رجل اسود ضخم يصرخ " انت الان في سجن امريكي واتعهد لك بان تمضي بقية حياتك هنا" كان يلقنني قواعد الاعتقال امريكيا فيقول بان السؤال ممنوع والاعتراض على أي شيء ممنوع والنظر الى اعلى ممنوع كما ان محادثة أي معتقل اخر امر ممنوع.
- ببساطة تعمدوا اهانتنا واذلالنا عبر اجبارنا على التعري من ملابسنا بوجود المجندات الامريكيات ومن ثم تصويرنا ونحن عراة تماما من الامام والخلف ثلاث صور.

اما الاكثر اهانة واذلالا فهو الفحص الطبي الاجباري اسبوعيا وهو فحص وحيد لا علاقة له باوضاعنا الصحية وهو فحص الشرج.

في " باجرام " التي قضينا فيها 40 يوما وتحديدا في شهر 4/2003 البسونا ملابس سجن حمراء وطلبوا منا الحديث عن علاقتنا بتنظيم القاعدة فرفضنا وتعرضنا للضرب والاهانة عبر حلق لحانا ورؤوسنا واجبارنا على الاستحمام ونحن عراة وبشكل جماعي امام المجندات مرة اخرى وهن يطلقن النكات ويضحكن ويتفوهن بكلمات بذيئة.

لم يكن لدي أي امل بالخروج من باجرام حيا فالمعاناة كبيرة والتعذيب شديد على سبيل المثال كانوا ينادوننا كل 3 ساعات ليس باسمائنا وانما بارقامنا فقد تحولنا هناك الى مجرد ارقام ولم نكن نعرف طعم النوم بسبب الام التعذيب والشبح والضرب كنا نستيقظ في السادسة وننام في العاشرة.

اكثر من 70 شخصا كانوا معي في نفس المعتقل الذي كان على شكل سياج حديدي كل ستة اشخاص في غرفة حديدية خالية من كل شيء.

لم يكن يسمح لنا بالصلاة في كثير من الاحيان وكذلك قراءة القران الكريم الذي كانوا يتعمدون اهانته .
في تلك الليلة لم نستطع النوم بعد ان ابلغونا بنيتهم ترحيلنا الى معتقل غوانتنامو وكنا نسمع عن الظروف الصعبة للمعتقلين هناك.

قيدونا فجرا بسلاسل وحملنا الجنود ورمونا رميا داخل احدى الطائرات وكانت القيود مثبتة باخرى داخل الطائرة مما سبب لنا الاما وجروحا كثيرة.

وخلال 26 ساعة من الطيران المتواصل في الرحلة الى " غوانتنامو" عانينا الامرّين.

بعد ان وصلنا الى كوبا وتحديدا معتقل " غوانتنامو" اخذنا مباشرة الى التحقيق رغم اننا كنا متعبين بسبب القيود وبسبب اجبارنا على الجلوس في اوضاع مرهقة ومتعبة لدرجة ان البعض غمي عليه.

ومع ذلك حققوا معنا لثلاث ساعات متواصلة ووجهوا لنا نفس التهم ونفس الاسئلة واجبنا بدورنا بنفس اجاباتنا السابقة لياخذونا بعدها الى الزنازين.

وفي غوانتنامو كان الوضع اكثر سوءا حيث الزنازين عبارة عن اقفاص حديدية مغلقة لا نوافذ لها مطلقا وبدون أي فراش للنوم اما الطعام فكان قليلا ومن صنف واحد وفي كل يوم كان يزداد سوءا.

دون غيري من الاخوة تم عزلي في زنزانة انفرادية والقيد في يدي وقدمي طوال اليوم وكان يتم تفتيش عورتي بشكل اجباري يوميا لاهانتي.) كان الوجه اردنيا ، لكنك كنت تستبدله بوجه خيري وصوته فتفتك بك الكوابيس وتبكي ، ثم تنهض تتوضأ وتلج في صلاة طويلة جلها دعاء واستغفار وتضرع ، تصرخ باكيا في جنح الليل: (اللهم لاتسلط علينا بذنوبنا من لايخافك ولايرحمنا.)

mahagoub
25-04-2013, 03:41 AM
الحبس والسجون تحتوى على الكثير من المظاليم
وكثير منهم هلك قبل أن يرجع اهله
وليس من هم الداخل السجون هم المظاليم
بل هنالك من يعيشون تحت الشمس
وقد احتواهم الظلم من كل الجوانب

صلاح سر الختم علي
25-04-2013, 11:32 AM
شكرا المحجوب علي مرورك الجميل

صلاح سر الختم علي
30-04-2013, 11:08 AM
غدا
نعود
ونواصل

صلاح سر الختم علي
01-05-2013, 08:43 PM
50

تغيرت الدنيا يامصطفي، سكن الجنون الكون كله، لم يعد هنالك شئ في محله، بات خيري الرجل الصادق الوحيد الذي عرفته أرهابيا في نظر العالم يقبع في سجن أمريكي في بقعة مغتصبة من بلاد هي العدو الأول للأمريكان، وبات بعض رفاق الأمس حكاما لهم أصابع ناعمة رشيقة مثل أصابع النساء وعرفوا الطريق الي ثراء سريع مريب وركوب الطائرات والظهور المستمر في القنوات الفضائية، بل جلس بعضهم جلوس الند للند مع بعض المسؤولين الأمريكيين وتبادلوا البسمات والمجاملات امام فلاشات الكاميرات وعيونها، لم يك خيري حاضرا بالطبع في تلك الحوارات الودية فقد سقط من ذاكرتهم جميعا،غابت عن الشاشات الوطنية صور شهداء حرب الجنوب وغابت تتر برنامج ساحات الفداء وحلت محلها برامج تنتج في كل يوم فنانا جديدا وفنانة كل مواهبها هي قدرتها الفائقة علي تبييض وجهها وتضييق الملابس عند الخصر وامتلاك رموش وعدسات مزيفة،فاضت الصحف باخبار الجريمة وصور القتلي واخبار كرة القدم، فاضت مجالس المدينة الخاصة بقصص مرعبة عما يجري في الغرف المغلقة والكواليس وحكايات الثراء السريع والأثرياء الجدد وزيجاتهم الكثيرة ونزواتهم التي تشبه نزوات السلاطين ،وحين تلتقي البعض تجدهم لايزالوا يتحدثون عن ثورة تجري وعن دولة اسلامية، ينعقد حاجباك من الدهشة، لاتتمالك نفسك تنفجر في وجوههم بكل الغضب الساكن في الاعماق، يصمتون، ينظرون اليك كقادم من المريخ، يبتعدون عنك كالهارب من عدوي فتاكة، تحل ضيفا في معتقل ما، تخرج مرة أخري تطوف بالشوارع لتحصي القصور الجديدة التي بنيت في غيبتك القصيرة تستنطق الاحجار الصماء عن ملاكها وساكنيها والنهر الذي يساقط عليهم ذهبا ونقودا بلا حساب،يعلو صوتك أكثر، ينفتح باب جديد ويغلق خلفك، يشير عليك بعض الاصدقاء بضرورة السفر وضرورة الحصول علي جواز سفر اجنبي يعطيك امانا لايعطيك اياه جوازك الوطني في وطنك، أي جنون هذا الذي استوطن الوطن؟ هل نحتاج الي خلع ملابسنا كاملةحتي لاتتم تعريتنا؟! تصرخ في وجه ذلك المسؤول الكبير السابق والقيادي المعروف الذي اكلت معه الفول والعدس في داخليات الجامعة وطفتما العاصمة سويا من اقصاها الي اقصاها في زمن ما سيرا علي الأقدام ، ثم أنتهي به الأمر حاملاًجوازاً أجنبياً ومقيماً ببلد اجنبي وضيفاً دائماً علي قنوات أجنبية متحدثاً عن وطن خلع طائعاً أو مكرهاً جنسيته ،تصرخ في وجهه في بهو فندق أجنبي: كلكم فعلتم نفس الشئ، كلكم خلعتم جلدكم وتنكرتم لأصلكم، كلكم باع وأشتري بطريقته الخاصة وقبض الثمن....اللعنة عليكم...اللعنة علينا جميعا. نظر الرجل اليك مرعوباً ومندهشاً،ثم أستدار ومضي في صمت من لايملك الإجابة، بدا ظهره محنياً أكثر مما هو في الحقيقة.

صلاح سر الختم علي
02-05-2013, 01:02 AM
51
عدت من خارج البلاد يامصطفي إنسانا جديدا، أكثر سخطا وأكثر تبرما،خضعت لاستجواب مكثف حول سفرك واسبابه وعودتك وسببها وسئلت كثيرا حول علاقتك بالمسؤول السابق المعارض الحالي،لم تقل لهم انك شتمته وحاكمته حضوريا، بل ابتسمت في وجوههم ابتسامة لها الف معني ومعني وقلت لهم بنبرة تحد: ومتي كانت مقابلة صديق دراسة قديم جريمة؟! نعم قابلته وصافحته بحرارة وضحكنا وتجاذبنا اطراف الحديث في كل شئ وخصوصا السياسة،أفعلوا ما شئتم، فقد استوت الاشياء عندي....) نظر المحقق اليك في حيرة وغضب ولكنه آثر الصمت.علي غير المتوقع تم اخلاء سبيلك بسهولة وسرعة...خرجت من الغرفة الصغيرة ذات المنضدة الوحيدة والكرسي الواحد والمروحة التي لاتدور أبدا الي فضاء فسيح مكتظ بعربات من أحدث الموديلات عامرة بمكيفات الهواء الحديثة تنتظر فراغ أصحابها من عملهم ليمتطوها في طريق عودتهم الي بيوتهم، ضحكت مع نفسك حين فكرت انك انت( عملهم) وكان يمكن جدا ان تبقي واحدا منهم لو لم تكن تملك هذه الأسئلة الخطيرة التي تدق كنواقيس كنيسة قديمة بلا توقف في داخلك، هي الاسئلة الخطيرة نفسها التي جعلت من خيري سجينا منسيا في غوانتنامو ينتظر شمسا لايدري متي تشرق، حين تذكرت خيري انقبض قلبك ويبدو ان تعابير وجهك تغيرت فقد نظر اليك مرافقك نظرة من ينظر الي رجل فقد عقله وبات يحادث نفسه وهو يسير في الشارع وحيدا،قال لك ( هل قلت شيئا؟) هززت رأسك علامة النفي وابتسمت ، فلاذ الرجل بالصمت حتي بلغتما البوابة الكبيرة حيث مكتب الاستقبال غامض الملامح الذي يجلس فيه رجال بملابس مدنية يتابعون بتركيز شديد فيلما اجنبيا علي قناة الmbc علي شاشة صغيرة لتلفاز موضوع في مواجهتهم. في ثوان كنت خارج المبني حرا طليقا تتمشي علي مهل في شوارع الخرطوم وكأنك عائد من مشوار عائلي عادي من مشاويرك الكثيرة. كنت تقول لنفسك وانت تتفحص الوجوه في الطريق( سأغتسل بطريقتي الخاصة، سوف اترك كل مافات خلف ظهري، سافتح مدرسة أعمل فيها علي تنظيف عقول الصغار من كل الترهات والتشوهات، سأحكي لهم حكايتنا كلها كما عشتها وعرفتها، ساحكي لهم عن الماحي وست نور وخيري وعن مصطفي ود الفران الذي مات وعاد من جديد، ساحدثهم بم حدثته نفسه وكيف راودته التي هو في بيتها عن نفسه، وكيف سقط في شراك الغواية، ساهتف في طابور الصباح باعلي صوتي: مصطفي ود الفران لم يك رسولا، ولم يك ملاكا، ولكنه اراد الا يكون شيطانا،لذلك سقط ونهض ثم سقط ونهض وسيظل عمره كله يحاول ان يمنع نفسه من السقوط ويغتسل مما الحقه بنفسه من أدران....مصطفي ود الفران حقيقة ماثلة مثل الماء والهواء، هو موجود في كل واحد منكم ، فاحذروه....) كنت تمشي علي غير هدي، كانت الشمس ساطعة، كنت تتصبب عرقا، الحافلات تئن بحمولتها علي يمينك فوق الأسفلت، الصبية العاملين فيها يطرقعون باصابعهم ويجمعون نقودا متسخة من الركاب ويتشاجرون معهم بلا توقف حول تعريفة المواصلات، جندي المرور يتفحص السيارات العابرة بنظرات كنظرات الصقر باحثا عن فريسة محتملة ويده علي دفتر المخالفات الفورية، عناصر الأمن التي تتابعك تتصبب عرقا خلفك ولاتكف عن التحديق في كل القادمين من الاتجاه المعاكس،ثمة شعارات قديمة علي جدران مبان حكومية أدرك جزء منها المحو وبقي جزء آخر مطلا من الجداركمزقة ثوب قديم ، تحاول اكمال العبارة من ذاكرتك
فتجدها حاضرة ، ترددها في خيالك فتنفجر ضاحكا بصوت مسموع وتصفق بيديك متعجبا وانت تصرخ كممثل علي خشبة مسرح(ما أوسع الهوة بين الفكرة والواقع وبين الفكرة وحاملها........) تقترب عناصر المراقبة منك بلا احتراس لتلتقط الكلمات، فتجدك في هوة صمت جديد.

صلاح سر الختم علي
02-05-2013, 09:35 AM
52
مساء كنت تصلي بلا انقطاع والناس نيام كنت تقرأ سورة يونس حتي بلغت قوله تعالي:( وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) )* فبكيت ، بكيت وانهمرت دموعك مدرارا، كنت ترتجف رهبة وخوفا وندما، طفقت تدعو الله كيفما أتفق وملامح خيري لاتفارقك، تراه راسفا في الأغلال وكلابهم الضخمة تحيط به وهو يتلو آيات القران بثبات وهدوء ، تراه داخل هالة من الضوء، عملاقا يتوسط أقزاما،تتضرع الي الله أن ينجيه من محنته كما نجا يونس من بطن الحوت ، ويرتفع صوتك مجددا((وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. )** صرخت في الظلمة بصوت باك متهدج( لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )
تمر حياتك كلها امام عينيك في ثانية، تبدو تافهة عديمة المعني، يبدو كل ماكان مفخرة لك في زمن ما شيئا عديم القيمة، تنظر في داخلك، تكتشف فجأة ان اجمل ايامك كانت أيام كنت مقبلا علي الدين بقلب مفتوح وعقل صاف لايخالطهما شئ من أغراض خالطتهما لاحقاً، كانت الدنيا تلاحقك بصخبها وضجيجها وتلف أنشوطتها حول عنقك الذي سلمته لها طائعا مختارا، سرقتك السكينة وركضت مع الراكضين وعلي أعينكم عصابة سوداء وفي آذانكم شئ يمنعكم سماع ما لاترغبون في سماعه، كان ممكنا ان تمضي في الشوط الي نهايته، لكن تلك اللحظات السوداء وتلك النظرات في وجه الماحي كانت فاصلا بين عالمين، كانت حدا فاصلا، شعاعا شق الظلمة ويد خفية ازالت العصابة السوداء عن الأعين ونظفت الأذنين مما اعتراهما،الان يغيب وجه الماحي، يحل محله وجه خيري بتلك الملابس الحمراء، تري نفسك مع أولئك المتحلقين حوله ممسكا كلبا ضخما له انياب بارزة ، تطلقه في اتجاه خيري وانت تتكلم الانكليزية بلهجة امريكية صافية بما فيها من صلف ووقاحة، تري في عيون خيري ذات النظرة التي رأيتها تعتلي وجه الماحي، تسمع ذات الكلمات تقريبا تخرج منه، تسمعه ينطق بالشهادة وهو يدعو لك بالهداية وعلي وجهه ابتسامة تماثل ابتسامة طفل وليد،تسمعه يكرر وصيته علي مسامعك مجددا، تنهض من الأرض مرتاعا، تبحث عن زر النور ، لاتجده، تخرج من الغرفة الصغيرة الي الحوش الوسيع ، كان القمر بدرا، السماء مرصعة بالنجوم كمن يبتسم كاشفا عن طلع نضيد، تسمع صوت مؤذن بعيد يؤذن لصلاة الفجر بصوت رخيم عذب، تشرع في الوضوء ، وحين تفرغ منه، تسرع علي عجل صوب المسجد ونسمات الصبح تلفحك والنواقيس ترن بداخلك بلا انقطاع، وعلي طول الطريق كان الماحي وخيري عن يمينك وشمالك مثل طفلين يقتفيا أثر أبيهما ويتعثران خلفه في الطريق الي المسجد في صباح عيد من الأعياد.تقول لنفسك وانت تهم بالدخول الي المسجد ( لايزال البحر موجودا امامنا والحوت يتهيأ لابتلاعنا، بحرنا بحر أوسع مدي، بحر الكرة الأرضية المتلاطم الملئ بالجيوش والأسلحة الفتاكة، وحوتنا حوت افظع حوت بمقدوره ان يدك بيوت الآمنين ويسويها بالأرض بلا سبب في لمحة عين دون ذرة من الندم....حوتنا هو أنفسنا الأمارة بالسوء التي تقودنا الي المهالك.....)تهتف بصوت عال (( لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.))






* سورة يونس.
** سورة[الأنبياء: 87].

صلاح سر الختم علي
05-05-2013, 10:42 AM
53


عصام لم ينم هو الآخر، كان الفراش الوثير يناديه، لكن كوابيسه المتكررة تقف حائلا بينه وبين النوم منذ سنين عديدة،أخذ يذرع الغرفة جيئة وذهابا بلا جدوي، فتح حقيبته الصغيرة أخرج أوراقا بيضاء وأخذ يكتب بلا توقف كأنه يسابق الصور التي تترآى أمام ناظريه( كان الليل قد بدأ يرخي سدوله في قلب الخرطوم، كانت عربات الجيش الخضراء تتمخطر في الشوارع والدبابات والعربات المدرعة مرابطة في كباري العاصمة الثلاثة محدثة رهبة لاحدود لها في النفوس، كانت تلك ايام حظر التجول والبيانات الملتهبة التي تتحدث عن فساد الاحزاب وعن حالة الجنود المزرية في الجنوب وعن انهيار الاقتصاد وعن وعن ، كنت وحيدا في داري الفسيحة ببري اللاماب علي غير العادة، فهي دوما دار مكتظة بالاصدقاء والجيران والأهل فنحن ناس الكمبو لانعرف عيشة الوحدة والتباعد عن الناس ، كنت استمع الي التلفزيون الذي بات ثكنة عسكرية في تلك الايام حين طرق الباب طرقات متوالية قوية وصاخبة وآمرة، مضيت نحو الباب وآخر شئ يخطر علي بالي كان هو المشهد الذي انفتح الباب عليه، شاب طويل صارم الوجه ومعه مجموعة من الجنود منتشرة حول البيت ومجموعة اخري علي ظهورعربات ماركة اللاندر كروزر بك اب، القيت التحية متسائلا، كان بعض الجيران قد أطلوا برؤوسهم فضولا، ذكر الشاب اسمه وهويته وافادني بانني رهن الاعتقال، قلت له بدهشة صادقة: أنا؟! هل تعرفني ياسيد.....؟ اظنك مخطئا....، قال باصرار: اعرفك ياسيد عصام منذ ان كنت تغني في كورال ارهاص وتشتم الناس في الجامعة وتصف المجاهدين بتجار المخدرات.... اركب.... قلت له انني بملابس البيت ...نظر الي عساكره فتقدموا نحوي بعيون يلمع منها الشرر، تقدمت نحوهم اعتليت العربة،لمحت عامر ابن الجيران قلت له ياعامر خلي بالك من البيت ... كان مضطربا وخائفا وهو يهز رأسه مطمئنا، ثم دار محرك العربة وانطلقت العربات بغنيمتها، ثم توقفت بعد مسيرة قصيرة امام بيت صغير ، هبط الجنود من العربات قبل توقفها بطريقة مسرحية حاملين أسلحتهم وأنتشروا حول سور المنزل الصغير، نزل الضابط نفسه، طرق الباب الصغير بذات الإلحاح الآمر،خرج رجل ستيني الملامح علي وجهه شلوخ أهل الشمال المميزة عرفت فيه نقابيا عماليا معروفاعرفته وجمعتنا بعض الاعمال المشتركة، كان الماحي مبتسما وبيده حقيبة صغيرة كأنه ذاهب في رحلة معتادة، لم يتحدث معه الضابط ولم ينبس هو ببنت شفة، صعد العربة بهدوء، لوح الي صغاره الذين بانوا الان عبر الباب المفتوح، كانت وجوههم شاحبة وحزينة، وكان هو مبتسما، حياني بحرارة من أدرك حقيقة وضعي، قبل ان يكمل تحيته دفعه أحدهم من الخلف حتي انكفأ علي وجهه علي سطح العربة وصوت أجش يصيح فيه( عامل فيها عنتر....حتشوف ياعنتر...)رفع الماحي رأسه بهدوء ونظر الي محدثه بلا كلام، تحرك الموكب، ثم توقف بعد مسيرة قصيرة أمام منزل ثالث، حين فتح الباب وخرج ذلك الرجل الاربعيني القصير الممتلئ وتوجه صوب السيارة في صمت، انفتح الباب ثانية وخرجت منه أم مفزوعة باكية لاحقت ابنها حتي العربة،تحدثت الي الضابط فلم يرد عليها، ظلت واقفة تنظر الي ولدها كأنها تود إختطافه من داخل العربة وحين تحرك الموكب ظلت تركض خلف العربة حتي غابت عن النظر، لمحت دمعة في عين الرجل اخفاها بطرف كمه ولم ينظر ثانية الي الأعلي أو الأمام، تعددت مشاهد التوقف وتعددت الوجوه الصاعدة،وواصل الموكب سيره في شوارع خالية لمدينة تبدو كمدينة سكنها الطاعون أو الجدري فهرب الناس من شوارعها، فجأة توقف الموكب، صعد رجال بملابس مدنية الي السيارة التي جمعونا علي ظهرها، عصبت أعيننا من الخلف بأحكام وسط قهقهات متصلة منهم تتخللها عبارة بدت متفقا عليها( ارفع رأسك يا وهم.... اقيف كويس يا وهم....) ثم تحرك الموكب، سار مسافة قصيرة، ثم أبطأت السرعة، سارت العربة علي مهل شديد، وفجأة وجدت نفسي مدفوعا بقوة علي وجهي أرضا وقدم غليظة تدوس علي عنقي بقسوة وأخري علي ظهري، ثم فجأة بدأ ركل متصل، ركل كركل لاعبي كرة القدم للكرة، وصوت مشروخ يهتف( بدأت التشريفة يا وهم......) .كان ذلك أول الغيث وقديما قيل أول الغيث قطرة.

صلاح سر الختم علي
05-05-2013, 11:34 AM
54
حين باحت لي ست نور بحكاية مصطفي ود الفران في ظهيرة حارقة كنت ساعتها أسيرا لمشاعر كثيرة متناقضة ، الغضب الشديد كان الأبرز، كيف يجروء مثله علي بلوغ هذه الدار ومن أين أتي بالقدرة علي مواجهة ست نور؟،حين عاتبتها وقلت لها بدون تفكير ( كيف احتملت وجود مثله هنا؟!) صمتت ست نور طويلا، نظرت الي الأرض كأنها تبحث في باطنها عن اجابةوحين تحدثت كان صوتها هامسا وحزينا(والله يا ولدي طول عمري بصدق قلبي ، وقلبي ما اباهو، قلبي صدق دميعاتو وصدقوا في كل شئ قالوا،صحي قلبي وجعني علي جناي بعد ما اتاكدت انو مات ميتة رجال ...قلبي وجعني يا جنا حشاي.....) ثم بكت بلا انقطاع،بكت وهي تستغفر وتمسح دموعها بين كل دمعة واخري وتحاول التماسك، ثم صمتت.ونهضت فجأة وقالت لي بصوت قوي ليس فيه حزن ولكنه يحمل صيغة الأمر(الماحي بين يدي الما بظلم والبعرف الجوة القلوب....والحي ابقي من الميت....والانتقام مو فعل المؤمن ، الزول الماسك في الله بيعرف انو ما في شئ بضيع عندو وانو هو بغفر ويسامح.....الله يعدل طريقكم يا ولدي....الله يغسل قلوبكم من الكراهية....مصطفي الله يهديهو ....الله يسامحو....... الله يهديكم)ثم نهضت بظهر منحن استأذنتني وغابت في غرفتها الصغيرة ، وكانت تلك علامة الدخول في صلاة طويلة، استدرت عائدا، حين فتحت الباب الصغير ولفحني هواء الظهيرة الساخن في الخارج وجدت نفسي امشي متمهلا في الشوارع المكتظة واتصفح وجوه العابرين كأنني اراهم للمرة الأولي، بدا لي في الماشين اكثر من ماحي ومصطفي يركضون مسرعين باحثين عن ظل يقيهم حر الهجير وعن رغيف يسكت جوعهم وعن لافتات تغازل احلامهم ثم تسحقهم كما يسحق الفيل نملة بعد ان تبلغ بهم تلك الرايات مبتغاها، بكيت باعلي صوتي وانا استعيد كلمات ست نور وصور ماجري لنا تدق علي باب الذاكرة مشعلة نيرانها وست نور تبذل وسعها باياديها النحيلة كي تطفئ النيران، واري في الخيال النار تمسك بطرف ثوبها فيمسي كتلة من اللهب ولكنها لاتصرخ بل تزغرد
باعلي صوتها....اترنح وانا اتعثر في الشوارع والناس يهربون مني يمنة ويسرة، ولا اتوقف ابدا...

صلاح سر الختم علي
13-05-2013, 08:36 AM
55
كان رتل السيارات اليابانية الصنع المموهة بلون يحاكي لون الأرض والرمال في هياكلها ومموهة بأغصان أشجار يحملها الراكبون علي ظهرها تنهب الأرض في حزم وأصرار في شكل صندوق قتالي، كانت الأرض جرداء، رمال ليس لها أول ولا آخر، شمس حارقة تجعل رائحة الكاوتش النفاذة ترافق السيارات علي طول الطريق، كان المقاتلين علي ظهور السيارات ملثمي الوجوه فيما عدا العيون والانف والفم لكن وجوههم متعبة يكسوها غبار من لم يذق طعما للاستحمام منذ زمان بعيد، وكانت المدافع فوق بعض السيارات تأخذ شكلا غريبا من جراء التمويه فتبدو شخصا محدودب الظهر حيناوتبدو شجرا يسير حينا آخرا، كانت الحجبات تتدلي من الرقاب وعلي السواعد وكان الصمت سائدا، صمت مملوء بالتوتر وانتظار المجهول، العيون تتفحص الطريق وتمسحه أماما ويمنة ويسرة ولاتنسي ان تتفحص السماء والآذان مرهفة ، فقد كانت التجارب قد علمتهم أن أصعب مراحل التحرك هو السير نهارا في مناطق مكشوفة للطيران المتربص بهم،كل انواع المعارك يمكن تنظيم الصفوف بسرعة واستعادة المبادرة فيها الا المعارك مع طائرة معتصمة بالعلو والبعد عن مرمي النيران،كان حسن سبيل متوترا أكثر من الجميع، كان شريط حياته يمر بأكمله أمام عينيه وهو يتفقد الطريق والسماء بمنظار مقرب متدلي علي رقبته،يتذكر أيام الدافوري في الفاشر وتلك الاجواء الحميمة التي غابت وأندثرت كما غابت أشياء كثيرة وأندثرت، يتذكر أيام الصمت التي فرضها حاكم شمالي الجذور علي دارفور يوما وتلك القدلة بحصان يتمخطر في العاصمة الفاشر مستعيدا زمنا أسطوريا، يتذكر أيام الجامعة الممتلئة حماسا وأناشيد جهادية وخطب حماسية حين كان النهر نهرا واحدا ولم يمس خيرانا صغيرة منعزلة عن بعضها البعض في البدء ثم جيوشا متقاتلة فيما بعد،يتذكر الان يوم افاقت الفاشر علي صوت انفجارات لأول مرة في عمرها الطويل، اشتعل المطار وارتفع الدخان فغطي السماء، كان وقتها خارجا من صلاة الفجر يوم جمعة عادي مثل بقية الأيام،وكان هو نفسه مواطنا عاديا سوي انه تعرض للاعتقال مرات عديدة متقطعة بات فيها بعض سجانيه اصدقاء له ولو ظاهرا،كان يطوف الفاشر من اقصاها الي اقصاها مهنئا ومعزيا بحسب الحال وكانت الجسور مفتوحة بين الجميع والحياة عادية،لم يكن هناك مايشير الي ماحدث لاحقا، علي الأقل بالنسبة له، لم يكن يتصور في أكثر حالات تشاؤمه ان تصير ميادين الفاشر الواسعة التي يتمرن فيها مريخها وهلالها متجاورين ويتمرن فيها موظفيها وطلبتها ، ان تصير ميادين معركة تقصف فيها المدينة وتستخدم فيها المدافع والكلاشات ومن بعد الطائرات،لم يكن يتصور حجم ماحدث وهو يتجول مع الأهالي الذين كان واحدا منهم بعد انجلاء المعركة انه سيكون يوما واحدا من بعض من فعلوا ذلك،استمرت اصوات الطلقات حتي منتصف النهار،ثم حلقت طائرة عسكرية من طراز عتيق والقت قنبلة او قنابل في ميدان المريخ حيث الجماعات المهاجمة تزحف صوب قلب المدينة، ثم أختفت الطائرة وانسحبت جموع المهاجمين، استفاقت المدينة من الصدمة وخرجت لتحصي خسائرها وجرحاها وجروحها وآثار المعركة القصيرة.في حي الكرانك قرب نادي الجيش شاهد بأم عينه اربعة من القوة المهاجمة جثثا يحتفي بها الذباب وهم في اسمال بالية أسفل شجرة هجليج ضخمة كانت علي فروعها بعض اجزاء أجسادهم حين فتكت بهم الطلقات حيث كانوا مرتكزين،كان ثمة أمراة تبكي بهستيريا وهي تلعنهم وتكاد تركلهم لولا يد بها بقية عقل منعتها بحزم،كانت تبكي ابنها الذي مات برصاص المتقاتلين ،كان الغضب حاضرا والموت ناشرا جناحه فوق المدينة، عند بئر قونجي كان هناك حصان مبقور وبجواره راكبه مجندلا علي الأرض وحوله بركة من الدم، كان احد المهاجمين، كان جسده جسد رجل ووجهه وجه طفل في السادسة عشر.بقيت تلك الجثة يوم ثم يومان والناس تتفرج علي الحصان وصاحبه الذي انتفخت جثته ،واخيرا تبرعت جهة ما ووريت الجثث. في تلك الجمعة اختفي طالب قروي كان مقيما معكم في حي شوبا وعرفتم بعد بحث طويل انه يرقد جثة مجهولة بمستشفي السلاح الطبي الذي كان يعج بالجرحي والجثث. كانت المدينة لاتزال مفزوعة والاخبار غامضة حين واريتم جثته الثري. تتذكر الان ياحسن سبيل كم كنت غاضبا مثل كل اهل الفاشر وثائرا علي اولئك الذين جاؤوا من المجهول وعاثوا في مدينتكم وعادوا الي المجهول مثل الكابوس أو سرب من الجراد.لم يكن يخطر ببالك ابدا انك ستكون يوما جزءا من السرب وانك ستذهب الي مجهول يسلمك الي مجهول. وتتذكر كيف باتت الفاشر بعد الحدث، تلك المسيرة الضخمة التي احتشدت لها الالوف، الخوف علي الوجوه ، عربات الجيش المنتشرة والمدافع علي ظهورها ، الجلاليب البيض لرجال الادارة الاهلية الذين وجدوا انفسهم بغتة بين شقي الرحي (غضبة الحكومة وتعاطف قبلي باطني مع الغاضبين)، كان بعضهم يشعر وهو في قلب الحدث ان بعض المشاركين في مسيرة الشجب لهجوم الجمعة يظنون من هاجموا الفاشر قد خرجوا فجرا من بيته وأشعلوا الحريق بتوجيهاته، كانت نظرات شك وريبة تنطبع علي الظهور اينما استدارت حتي واصحابها يهتفون مع الهاتفين بما يهتفون،كان حسن يعرف ويشعر بذلك كله.لذلك وقف عند عمارة المحامين المطلة علي ميدان النقعة يرقب المواكب وهي تتجمع والرايات المكتوبة علي عجل وهي ترفع، وحين بدأت الخطب الحماسية تقدم حتي بات في قلب الجموع وأخذ في الانصات وانصت باهتمام اكبر الي المتحدثين الذين يشعرون بانهم موضع اتهام ولم تفته الرعشة في اصواتهم وهم يحاولون نفي التهم المعلقة فوق رؤوسهم ولم تفته نظرات الشماتة والتشفي عند بعض من يستمعون.كان التوتر والخوف هما سيدا الموقف، لذلك لم تفت حسن بعض النظرات المنطبعة علي ظهره برغم الزحام. منذ ذلك اليوم بات كل شئ يدفع حسن سبيل بعيدا صوب المجهول. حسن سبيل الذي حارب في احراش الجنوب واهله آخر من يعلمون بعد ان كتب وصيته وسافر خلسة مجاهدا الي ارض العمليات وهو لايزال طالبا بالثانوي بات هدفا مشروعا للباحثين عن خونة وطابور مندس في مدينة نما فيها وحبا وشرب من بئرها الذي لايفلت من شرب منه من محبتها والرجعة اليها مهما طال الزمن حسب اساطير المدينة،لكن حسن خرج منها مكرها ذات يوم ومات بعيدا عنها ظامئا وحيدا ووجهه غائص في رمال بعيدة لاتحبه ولايحبها كما سيروي الرواة فيما بعد.

صلاح سر الختم علي
15-05-2013, 04:53 AM
56
بلغ رتل السيارات هدفه بلا مفاجأت،حين لاحت لهم معالم غابة هرمبا استرخي الجميع وعمهم احساس عام بالراحة وانهم في مأمن من شرور الأرض والسماء البشرية ولو الي حين، انطلقت صافرات وعلت أصوات فوضي أليفة يمارسها الجميع في اللحظات المماثلة، تفحص حسن سبيل الوجوه من حوله وشعور غريب يجتاحه بأنه عاش هذه اللحظة بكل تفاصيلها من قبل عشرات المرات، كانت بعض الوجوه ضاحكة كأنها عائدة من نزهة، وبعضها غاضبة متنمرة كأنها لاتزال في قلب الاشتباكات الدامية التي خاضها الرجال،وبعض الوجوه متعبة وجائعة وحزينة، الي هولاء الاخيرين كان أكيدا انه ووجهه ينتميان، يتذكر الأيام الأولي القاسية له بعد التحاقه بالمجموعات المسلحة،كانت الوجوه عدائية ومتشككة، لغة الحوار تكاد تكون معدومة بالرغم من ان من قدمه الي الرجال أسهب في سرد سيرة حسن سبيل اسهابا جعل حسن يشعر بان الرجل يتكلم عن شخص آخر لايعرفه، وحين قال في معرض خطبته الطويلة(الاخ حسن سبيل مقاتل قديم من اجل ثورة المهمشين منذ ان كان بالثانوي وعرفته الجامعات رجلا لاتلين له قناة وعرفته غابات الجنوب مقاتلا شرسا.....) عندها نهض احد المقاتلين وقال بسخرية ظاهرة مقاطعا(مع أي مهمشين كان الرفيق المجاهد يقاتل في الجنوب....؟)فحدجه المتحدث بنظرة صارمة وهو يقول(هل بمقدورك ان تخبرنا اين كنت انت وقتها وماذا كنت تفعل ايها الرفيق؟......في جيش الثورة لانسال الناس اين كانوا بالأمس ، فالمهم اين هم الان،منا من كان في جند الحكومةشرطيا ومن كان في جيشها ومن كان يعتقد مثل ارسين لوبين ان النضال بندقية تقتل ورجال ينهبون مالا ويهربون من يد الحكومة،كان الحكام دائما يشعلون الحروب ليخوضها الجنود وتطمرهم الرمال ويظفروا هم بالنياشين والأموال وتخليد التاريخ ، الثورة تريد ان تجعل الجماجم المطمورة في الرمال للقواد الكاذبين والمجد للجنود الشجعان.......) واستمر الرجل في خطبة طويلة آسرة ، بينما أطرق الرجل المتجهم وصمت وهو ينظر الي الأرض.لكن تلك كانت مجرد بداية ولم تكن نهاية كما تصور،كان اينما سار يشعر ببعض نظرات عدم القبول والتقبل منطبعة علي ظهره،وكان يشعر بها في طريقة الكلام وردود الأفعال، لم يكن شيئا سهلا أن تحل ثقة ومحبة محل نظرات شك وريبة طويلة،كان المقاتيلين مثل ركاب جمعهم قطار أو بص يقصد هدفا مشتركا ، لكن الفوراق موجودة لايذيبها الهدف المشترك أبدا،بعضهم كانوا رعاة ومزارعين لم يغادروا مناطقهم الا مكرهين بعد ان دفعتهم هجمات الخصوم المتكررة لذلك، بعضهم ترك نيرانا مشتعلة وقودها ذويه وأهل بيته ونجا بمعجزة من ذات المصير لكن نيرانه المشتعلة بداخله لاتموت أبدا ولاتهدأ،وبعضهم كانت الحرب مهنته في زمن الحروب القبلية ولم يختلف الأمر بالنسبة له كثيرا حين صار الخصم جهة أخري خلاف الخصوم القدامي أو بالاضافة اليهم، هولاء لايهمهم تحت أي شعارات يقاتلون بقدر ما يهمهم من هو الخصم وأين مكانه المتمترس فيه، كانت الحرب بالنسبة اليهم لعبة خطرة محببة الي النفس.وبالنسبة اليهم كان حسن سبيل في احد الايام جزءا من الخصم الحالي ومن يدري لعله لازال بقلبه شئ من وفاء قديم لذلك ظلوا يرمقونه شذرا ويتهامسون وحين يقترب يصمتون.كان موقعه الجديد كقائد يوجب عليهم احترامه ولكن موقعه القديم يجعل الاحترام مخلوطا بتوجس وعدم ثقة لايمكن اخفائها، وكان حسن مدركا لذلك كله وقد وطن نفسه علي احتماله وتجاوزه مثلما حدث أيام حرب الجنوب، فقد كان بعض من يقاتلون معهم ينظرون اليهم بتوجس مماثل وعدم قبول ويرون فيهم دخلاء علي الجيش النظامي ويقابلون كل تودد منهم ببرود أكبر، والآن هاهو التاريخ يعيد الكرة مرة أخري ولكن هذه المرة بات حسن من بين المتمردين الذين يقاتلون جيشا كان يوما يفتخر انه يقاتل تحت رايته....كان ينظر الي دخله ممتعضا حين يصل تفكيره الي هذه النقطة يتخيل كل ما يمكن ان يقوله اصدقاؤه القدامي عنه وعمن اختاروا خياراته ويتسائل ببراءة تساؤلا يبقي حبيس دواخله( هل تري كان قول من قالوا ان تلك الحرب ليست حربا مقدسة ولادينية كان قولا سديدا؟ تري هل ضاعت دماء أولئك سدي؟!....) وتستمر الأسئلة الموجعة تدق في رأسك مثل الطبول....تتذكر تلك الوجوه التي يرقد أصحابها الان تحت أرض وسماء بعيدين وقد طواهم النسيان وتتشكك حتي أنت الذي قاتلت الي جوارهم في جدوي قتالهم وتقف عاجزا هنا عن الرد علي ذلك السؤال لذلك المقاتل المتجهم الذي سدد ضربته ثم صمت(مع أي مهمشين كان الرفيق يقاتل في الجنوب؟)....نعم ياحسن سبيل قل لي بربك مع من كنت تقاتل هناك ولم قاتلت؟!...اعرف انك لاتملك الاجابة الان وربما لاتملك اجابة مطلقا....المهم انني اعرف لم اقاتل الان....لكن ثمة صوت خافت يسألك(لما؟؟) فتحار في الاجابة.

صلاح سر الختم علي
19-05-2013, 04:30 AM
57
وتتذكر ياحسن سبيل كيف التقيت صديقك القديم مصطفي في عاصمة اجنبية في صالة فندق يعج بمن شردتهم أوطانهم لاسباب مختلفة ومن اختاروا الرحيل عنها بمحض إرادتهم،، كان آخر عهدك به في غابات الجنوب وحيدين الا من جثث بعض من كانت عروقهم تنبض بالحياة وحناجرهم تكبر وتهلل قبل وقوعكم في ذلك الكمين، كان أول الكمين لغم انفجر في طليعتكم فتطايرت الاشلاء مزقا وانهمر الرصاص من كل مكان ، من الأرض ومن الأشجار ومن النهر ومن الجبل البعيد، من كل الاتجاهات، دوت أصوات القصف المركز،كان ظهرك علي ظهره وظهره علي ظهرك وانتما تدوران وسلاحيكما يدوران مع حركتكما، ثم أخذتما تزحفان علي بطنيكما وسط الأدغال الكثيفة بحثا عن مخرج،كنت تري في زحفك الأشجار المملؤة بمقاتلي العدو تهتز، فتسكن حركتك،ثم تواصلا الزحف ولغة العيون هي اللغة الوحيدة المتداولة بينكما،وحين مر بجوارك ذلك الثعبان الضخم الهارب من الضجيج دون أن يلقي بالا اليكما أو يتوقف كنت تقرأ كل ماتحفظ من سور القرآن بلا توقف وكان الموت بلدغة ثعبان أو في جوف أصلة أو بالرصاص قد بات سيان عندك، لم ترتجف ولم تصرخ واصلت زحفك وواصل مصطفي وانتما تفسحان الطريق للثعبان بينكما كأنكما تقودان عربة في وسط العاصمة وتفسحا لعربة قادمة من الاتجاه الآخر ،واصلتما الزحف الصامت وقد باتت العيون تتفحص الطريق بحذر أكبر، لم يكن ثمة مجال لتفادي الأخطار الزاحفة، ذلك أن التنقل عبر الأشجار مخاطرة كبري، فالاشجار هي خنادق المتمردين المفضلة وهي موضع تركيزهم وتنشينهم، لذلك لم يكن امامكما مفر من مواصلة الزحف وسط الحشائش الكثيفة أسفل الأشجار،رويدا رويدا خفت صوت الرصاص والمدافع وبات بعيدا ومتقطعا مما يعني أنكما خرجتما من نطاق الكمين، ولكن المصيبة ان ذلك لايعني النجاة فقد تكونا ذاهبين بأقدامكما طوعا الي معسكر من معسكرات العدو أو الي كمين آخر"،فقررتما عدم الخروج الي منطقة مكشوفة والبقاء وسط الحشائش الي حين هبوط الظلام ومن ثم صعود شجرةآمنة والبقاء فيها أحتراسا من شرور الطبيعة،اتفقتما ان يصعد مصطفي الشجرة أولا حتي لاتقعا سويا في الفخ ان كانت شجرة بها عدو، وتبقي أنت بالأسفل حتي يعطيك مصطفي شارة الأمان المتفق عليها، وقد كان، ظللتما أياماعلي هذا الحال تتنقلان نهارا وتتخييرا شجرة آمنة ليلا، وانتما تحاولا بلوغ منطقة آمنة حتي قيض الله لكما العثور علي قوة من قواتكم في خاتمة المطاف سالمين وقد فتك بكما الجوع ونهشت الحشرات جسديكما وفتكت بكما حمي الملاريا حتي بتما لاتدركان الهلوسة التي كنتما تمارسانها.التقيتما بعد سنوات في ذلك الفندق في تلك العاصمة الاجنبية، فأنفتحت كوة الذكريات الدامية المرعبة، صافحت مصطفي بمحبة وشوق وصافحك هو بمثلهما ، لكن شيئا ما كان غائبا عن اللقاء،شيئا تركته أنت في الفاشر وجئت وتركه هو حيث كان وجاء،كنت تعرف طرفا من اخباره وكان يعرف كل شئ عنك، كان يجلس مع ذلك القائد الذي كان يوما مثلا أعلي لكليكما، سمعت طرفا من حوارهما، كان حوار غريمين لا صديقين، لم يعد مصطفي هو مصطفي الذي عرفته من قبل ، وكان هو ينظر اليك وهو يتحدث في حضور ذلك القائد وكأنه يقول لك انت لست حسن سبيل الذي عرفته، كنت صامتا ومطرقا طوال زمن المقابلة، وحين ذهب ذلك الرجل وبت وحدك مع مصطفي لفكما صمت طويل، كان يسترجع ذكريات كنت تسترجعها في الوقت نفسه، كان يسمع صوت القصف في الوقت نفسه، ويحس بملمس الثعبان الذي شق طريقه بينكما في الوقت نفسه الذي طافت فيه صورته بمخيلتك،لكنك كنت تعرف انكما لم تعودا نفس الرجلين،نظر هو اليك وقال لك (كنا مفتونين بذلك الشعار الذي كتبناه علي كل جدران الجامعة ياحسن، هل تذكره؟ الاسلام هو الحل....نعم الاسلام هو الحل ياحسن وليس فوهة البندقية، وليس الحريق.... الان يحق لي ان أسالك ياحسن هل لازلت نفس الرجل الذي عرفته؟)
قلت له بسرعة مدفع سريع الطلقات( لا ...لست الرجل نفسه الذي عرفته....الرجل الذي عرفته كان يحمل روحه بين كفيه في كل صباح في مدينة يمشي في شوارعها أعزلا الا من كلمة لايستطيع نطقها ولكنها تلاحق حتي وهي في امعائه وحتي وهي فكرة لم يبح بها الا لنفسه، يطارد لاجلها ويزج به في زنزانة حقيرة وتلاحقه صفة ملصقة به تشكل تصريحا مفتوحا بالقتل لكل مراهق يحمل بندقية....هل كان علينا في ذلك اليوم ان ننتظر الموت الزاحف؟!حين يكون كل شئ ليس هو ذات الشئ فكيف يكون الرجل هو الرجل نفسه؟....أراهن انك لاتملك الاجابة يامصطفي ببساطة لان الايدو في الموية ما زي الايدو في النار....)

صلاح سر الختم علي
20-05-2013, 04:35 AM
58
شحب وجه مصطفي وانفجر في وجهك مباشرة( ومن قال لك يا حسن ان يدي في الموية؟!هل تظن ان السجون كانت حصرية فقط عندكم في الفاشر؟ هل تظن ان شوارع الخرطوم أو مدني أو عطبرة كانت أكثر أمناً من شوارعكم؟!علي الاقل في الفاشر لم تجد نفسك يوما شريكا في عمل لاتقره ، ولم تجد مملكة بنيتها بعرقك تنهار وكل الابواب توصد في وجهك عنوة وعمداً بسبب فكرة في رأسك ورفضك ركوب الأمواج العالية الملعونة، برأيي ان ركوب الأمواج وأشعال النيران هما ذات الشئ ، مهما اختلفت المسارات والمبررات هو الشئ نفسه...اللعنة علي كل شئ ياحسن.... من يصدق ما جري لنا؟ من كان بمقدوره ان يتخيل كل ما جري..........) كان صدره يعلو وينخفض كسارية في عرض المحيط وعيونه محمرة وهي الي البكاء أقرب، كنتما تنظران الي بعضكما كملاكمين أخذ منهما التعب مأخذه ولكن الجولة لم تنته وآلاف العيون ترقبهما منتظرة انتهاء الجولة،لكنكما كنتما بحاجة الي التقاط الأنفاس ، لذلك عم الصمت، كان ثمة
ضجيج في صالة الفندق،كانت ثمة مجموعة من رفاقك الجدد في ركن غير بعيد من مكانكما، كانت أصوات ضحكاتهم ترن في الصالة فيبدو كأنهم يضحكون عليكما،كانوا خليطا من المقاتلين الذين لم يحلموا يوما بالخروج من مناطقهم ابعد من الخرطوم أو ابشي، كانوا ضالعين يوما في حروب قبلية لاتنتهي وليس فيها عدو دائم واحد ، بل يتبدل العدو في كل معركة ومشكلة، فقد كان العدو دوما قبيلة أخري قابلة لان تكون حليفا غداً،كانت الحكومة بالنسبة لهم هي الأسطي الكبير القادر علي جمع المتحاربين واطفاء النيران ودفع الديات،أما هم فقد كان صديقهم الدائم هو سلاحهم وإبلهم أو خيلهم بحسب الحال،لم يكن يهمهم في شئ من يحكم وكيف يحكم، ولم يرتاد معظمهم مدرسة أو جامعة ولم يعرفوا حزبا أو جماعة، ثم وجدوا نفسهم بغتة جزءا من جيش يصنع ثورة وله عدو واحد لايتبدل هو حكومة الخرطوم، هم ليسوا نسيجا واحدا منسجما كما كنتم يوما، يذكرونك دوما باولاد الفريق في صباك ياحسن سبيل هم مجموعة واحدة لكنهم مختلفون عن بعضهم في كل شئ، ففيهم حمامة المسجد وفيهم من يترنح مخمورا في رابعة النهار، وفيهم الوديع الأليف ومن تأكل الغنماية عشاهو وفيهم الأسد الشرس الذي لايلين ولايتراجع عما اعتزمه،فيهم المغامر الذي يعرف متي وأين يتوقف ، وفيهم من يحمل روحه بين كفيه ولايبالي ويؤمن صادقا بان الموت حياة وان قضيته لاتحل الا عبر فوهة البندقية، وقبل ذلك فيهم من داست عليه أقدام همجية لاتعرف الرحمة سبيلا الي قلوبها وجعلت قريته وأهله أثراً بعد عين وانتقل الحريق الي قلبه المشتعل غضبا ورغبة في الإنتقام، كنت تعرف ياحسن سبيل في اعماقك كل ذلك وكنت تخشي لسبب ما ان يعلم مصطفي انك تعلم وانك تقول لنفسك ببساطة انهم جميعا مكرهون وليسوا مختارين ، لايوجد إنسان عاقل يمكن أن يختار الحياة تحت أسنة الرماح إذا كان ثمة طريق ثالث أمامه ، أن تموت واقفا خير من أن تموت نائما ومستسلما لمصيرك..... نظر مصطفي اليك طويلا كأنه قرأ ماجال برأسك ، قال لك فجأة بصوت خافت( هل عرفت ما حدث لخيري يا حسن؟) انقطع حبل افكارك ، انتفضت كمن تعرض لصدمة كهربائية، قلت له( لا ...لا أعرف وان كان خبرا سيئا مثل كل اخبار هذه الايام لاتقله من فضلك يا مصطفي.....) قال مصطفي بصوت محايد(خيري معتقل بغوانتنامو تحت رحمة كلابهم الضخمة الآن يا حسن....خيري كان يبحث مثلي ومثلك عن طريق ثالث فانفتح أمامه الجحيم الأمريكي الملعون........) لفكما صمت طويل،تتذكر الان، كنت انت من دفع خيري الي أولي عتبات الجحيم الأمريكي، كان طالبا منعزلا انطوائيا لايخالط أحدا، يتكلم العربية بلهجة النوبيين المكسرة تلك،كنتما في ذات الكلية وذات الدفعة، كنت غربا يحن الي الشمال ويتوجس من أهله فقد كانت فترة الجامعة أول عهدك بهم وبه،وكان خيري شمالا بعيدا منكفئا علي نفسه عن بقية أهل الشمال،بسبب كونه لم يخرج من ديار أهله تلك الا للجامعة فقط، وهكذا جمعت بينكما مخاوف كامنة في الأعماق وأحساس بالغربة (تري هل كان ميل المهمشين الي بعض؟) لمعت في ذهنك الفكرة الأخيرة كأنها تريد ان تؤكد لك صحة مقولتك القائلة بأن الرجل يتغير حين تتغير الأشياء من حوله....تتذكر الان كيف اندفع خيري كطلقة هاربة من جوف مدفع الي عالمك وكيف بات من أهم العناصر في التنظيم ( الرجل الصامت الحامل للأسرار) وكيف بت انت نفسك تشعر بالضآلة والرهبة في حضوره الغامض المهيمن،ليتني تركتك في صمتك وانظوائك ياخيري لربما ما كنت عرفت طريق الجحيم الأمريكي يوما....ربما....

صلاح سر الختم علي
23-05-2013, 10:33 AM
59
تتذكر الان ياحسن سبيل جيدا بدايات تحول خيري، كنت وقتها بالعاصمة لاتزال، كانت الاشياء لاتزال هي نفسها الي حد ما والغشاوة لم تنزاح عن الأعين كما تقول الآن حين تتذكر تلك الايام،بلغه همس مفاده ان خيري الصامت مثل ابو الهول قد خرج عن صمته فجأة وبات غريب الأطوار كثير المصادمات وجالبا للمتاعب لكل من حوله، انعقد حاجباك دهشة وقلت لهم ( خيري؟! مستحيل ....) لكن المستحيل بات واقعا، بات خيري الساخط علي الساخطين فجأة من أكبر الساخطين، سحبت منه صلاحيات كثيرة واحدة تلو الأخري، ومع كل صلاحية تسحب كان صوته يعلو أكثر، حتي كان يوم ، ورد أسمه في قضية خطيرة طرد علي اثرها من الخدمة العسكرية وأودع السجن ،حين خرج من السجن تمدد صمته ، عاد صامتا صمتاً خطيراً ، حين التقيته شعرت بانك أمام شخص لاتعرفه، شخص مختلف جدا، كان ثمة حاجز انتصب بينه وبين كل شئ، لم تفلح في استنطاقه أبدا،كان يعرف كثيرا ، لكن صمته كان كبيرا بمقدار معرفته،ثم عرفت من بعض أهله المقربين انه يخضع لعلاج نفسي سراً
وان ليله بات محتلا بالكوابيس والحديث مع أشخاص مجهولين ، ونهاره صامتا ، مستغرقا في صلوات لاتنتهي،وشيئا فشيئا غاب خيري عن المشهد، غاب مصطفي ، وابتلعتك الفاشر ياحسن حتي لفظتك يوما الي ذلك الطريق الطويل الموحش الذي مضيت فيه الي آخر الشوط، كان خيري الصامت دوما حاضرا في ذاكرتك وفي خيالك، ظللت تتابع اخباره الشحيحة وتجمع اسرار صمته قطعة قطعة حتي أحطت بكل ومعظم التفاصيل التي قذفت بالرجل الصامت كاتم الأسرار الي السخط ثم السجن ثم الصمت المطبق ثم الي السجون الامريكية فجأة متهما بأخطر تهم العصر الحديث. تتذكر ياحسن سبيل حبوبة كريمة جدتك فارعة الطول ضخمة الجثة الباسمة دوما واسئلتك الكثيرة لها واجاباتها التي تستدعي اسئلة جديدة، تتذكر انك سألتها عن الأبكم الوحيد بالحلة( لماذا لايتكلم عباس ياحبوبة كريمة؟ هل اغضب الله فعلا فأخرسه؟) ضحكت حبوبة كريمة حتي بان فمها الخاوي من الأسنان وقالت (ماتصدق كلام العيال ياوليدي...عباس دا الله بدورا،وعشان كدا الله ابتلاهو.....) قلت لها فجأة( شنو يعني الزول يموت ياحبوبة؟ كلنا بنموت ياحبوبة؟ انتي بتموتي ياحبوبة؟) ضحكت حبوبة كريمة( وليدي يامشوطن ، كلام دا تجيبي من وين؟)ثم أردفت بعد صمت يسير(....الموت دا حمامة بيضاء تطلع من الزول تمشي السماء ياوليدي....) قلت لها( والزول بفوت وين ياحبوبة؟)
قالت بهدوء( الزول بمشي محل ماجا ...بمشي الواطة).... فلفك صمت وانت تتخيلها حين تموت تنقسم نصفين نصف يطير الي السماء حمامة بيضاء ونصف يبقي في الأرض...
كنت تحكي لخيري حكايات جدتك كريمة دائما فيضحك حتي ينكفئ علي ظهره وهو يقول ( صدقت حبوبة كريمة انت مشوطن )..... تقول له في سرك الآن وانت تتلقي خبر محنته( هل تراك تصير حمامة بيضاء تتجه الي السماء وجسد يبقي بأرض غريبة مقيدا بالسلاسل بعد الموت ياخيري؟)

صلاح سر الختم علي
23-05-2013, 10:40 AM
60
كانت الصحف تحمل صورة حسن سبيل في هجعته الأخيرة رأسه مستند علي الرمال ووجهه مشوه وبصره شاخص نحو السماءو في يده ورقة بيضاء و شفاهه متشققة ونازفة وفمه محشو بالرمال ، حول الجثة وقف رجال مدججون بالسلاح كأنهم يخشون نهوض الميت من موته، غير بعيد كانت ثمة اجزاء بشرية متناثرة في المكان. كان مصطفي ود الفران يتابع المشهد علي شاشة التلفزيون في وجوم والصور تتابع في ذاكرته من مكان مجهول كأنها فيلم سينمائي فوجد نفسه يحاور حسن سبيل كأنه واقف أمامه كالايام الخوالي في ناصية من نواصي الجامعة يحتسيان الشاي الأحمر أو يتهامسان في شأن ما، سمع نفسه يقول له في خياله:
(تري كيف كانت هي الصور الأخيرة التي مرت أمام عينيك ياصديقي والموت الذي تمنيناه شبابا يحاصرك من كل صوب وناحية لكن ليس في احراش الجنوب بل في رمال ناعمة وقاسية ؟!
هل رأيتنا في الجامعة نهرول نحو المسجد ثم نخرج منه بعد الصلاة حاملين سيخا ؟أم تري هفت نفسك لمنظر من يلعبون كرة القدم في ميادين الفاشر الفسيحة والخضرة هي خلفية المشهد؟أم تذكرت الصبي الوديعة الذي قضي نحبه في جمعة الهجوم علي الفاشر حين كنت هناك طرفا محايدا بلغته نيران المتقاتلين غصبا عنه؟
أم أنك رأيت حمامة بيضاء طارت نحو السماء كما قالت لك جدتك يوما حين سألتها عن الموت بأصرار ولما اعييتها بالسؤال إثر السؤال قالت لك الموت حمامة بيضاء تطير نحو السماء وجسد يغيب في التراب!
افهم الان فقط سر تلك الضراعة التي بدت في صوتك في ختام مقابلتنا العاصفة تلك وانت تهمس في أذني( مهما يكن يامصطفي، عندما تحاكمني تذكر دائما اننا تعاهدنا علي الطاعة واننا تركنا حريتنا الشخصية خلف ظهورنا حين اخترنا هذا الطريق ، وانني أكثر من احب الفاشر ،وغادرتها مرغما برغم محبتي لها ولشارعها الصاعد الهابط
وأولاد ريفها ونقعتها وكرانكها والخير خنقا ومكركا وروائح الشواء في سوق المواشي، يعلم الله انني ما تركت ذلك كله باختياري، لكن قدر الله وماشاء فعل، وربما تفهم يوما حديثي هذا وربما لا.... الله معاك يا اخوي.الحي بلاقي.) هكذا ختمت الكلام فجأة بجملتك الأثيرةالتي اشتهرت بها في الجامعة وفي الفاشر. تصافحنا بحرارة كما الأيام الخوالي ونسينا كل شئ في لحظة، داهمني حزن فبكيت بلا سبب كأنها المرة الاخيرة التي نلتقي فيها ، وقد كانت بالفعل هي المرة الأخيرة.نهضت واعطيتني ظهرا عريضا وغبت في قلب مجموعتك حتي بلغت الباب رفعت يدك وارتسمت ابتسامة كبيرة علي وجهك، حين اتذكرها الان يبدو لي الوجه مضئيا مطمئنا لايشبه أبدا ذلك الوجه المشوه المنغرس في الرمال.هل تراك لازلت حيا في مكان ما ياصديقي ويكون الذي مات سواك؟!
لا ياصديقي ...لا ...لن أكذب علي نفسي وعلي أحد، الموت هو الحقيقة المطلقة الوحيدة في هذا العالم...الموت حمامة بيضاء تطير نحو السماء...

صلاح سر الختم علي
23-05-2013, 10:32 PM
61
لم تستطع يامصطفي ان تفتح المدرسة التي أزمعت افتتاحها،فقط سطرين بل كلمتين من مسؤول كان يوما يحمل صفة المجاهد كانت كفيلة بقبر أكبر أحلامك مرة واحدة الي الأبد، كم كنت ساذجا حين ظننت انهم سيسمحوا لك بإنشاء منصة خطابة دائمة تعريهم وتفضحهم تحت سمعهم وبصرهم، كم كنت ساذجا وطيبا حين ظننت ان الاشياء ستبقي هي الأشياء في عالم يتبدل،كان زبائنك يهربون منك كالهارب من عدوي وجيوش الضرائب والزكاة والعوائد تلاحقك مثلما تلاحق الشرطة قاتلا هاربا،كنت تظن بحسن نية أن ذلك شئ عادي، لكن أحد الأصدقاء القدامي ممن بقوا ماسكين العصا من المنتصف همس في أذنك في مناسبة عزاء ضمتكما_ ربما لأنه تذكر الموت فجأة_ بأنك ستجد نفسك غارقا في الديون وراسفا في الأغلال بسببها قريبا أذا لم تفعل شيئا وتبحث عن فيزا للخليج أو القرين كارد الأمريكي، حين حدجته بقسوة قال لك همسا( والله يامصطفي لو عرفوا انني حذرتك لفعلوا بي ما يفعله النجار في الخشب....لكنك تعرف معزتي لك...) ثم لملم عمامته المبعثرة ونهض راسما الحياد علي وجهه وترك العزاء الي غير رجعة،بقيت واجما تفكر ( هل هي المعزة أيها الجيفة أم انك مرسال شوق وصفارة إنذار بغيضة وشريك في سياسة العصا والجزرة الجديدة؟)، علمتك التجربة أن أخطر الناس عليك هم من يتظاهرون بحفظ الود ومن يهرولون اليك بلا مناسبة لاستقصاء ردود أفعالك وتفقد أحوالك، هولاء هم سماسرة القصاب الذين يرسلهم لتفحص الشاة وتحسس الأسعار قبل إحضار ماله للشراء وسكينه للذبح، بت شاة يتحلقون حولها يامصطفي وهم يرسلون الرسل ليقولوا لك بطريقة ناعمة ان الخيارات محدودة ، إما ان تمسي واحدا منا وتقبض الثمن وتريح وتستريح ، أو تصير شاة تسلخ وتذبح وتشوي علي مهل ، أو تخلي الساحة وتشتري نفسك بجنسية أجنبية أو نقود اغتراب خضراء تبعدك عنا ،وتقينا شرك،وبالطبع هناك طريق خيري وطريق حسن سبيل أمامك وكلاهما ينتهيا بالموت أو بالهروب من الساحة واللهث خلف سلام زائف ونقود منهوبة تبعثر تحت الموائد التي تبرم فيها الاتفاقات وتلمع فيها العدسات وتتحقق فيها المعجزات الأرضية ويمسي طريد الأمس جزءا من طاقم قيادة أعداء الأمس ،حسن سبيل لم يلهث خلف العدسات ولم يشتر جوازا اجنبيا ولم يفاوض ، فكان نصيبه الموت علي الرمال والعدسات تلاحق جثته وتعرضها وثيقة انتصار ، حسن سبيل اختار الحياة فكان نصيبه الموت، اختار البطولة فكتبوه في التاريخ متمردا عميلا وسموه هالكا وتركوا جثته في العراء تنتاشها النسور الجائعة ، اما انت يامصطفي فمن يدري، ربما تتدلي غدا من اعواد مشنقة وتنتهي خائنا للخائنين كما انتهي الماحي الذي كتبوا في تقرير وفاته انه مات ميتة طبيعية وهم يعلمون والله يعلم كيف مات!!ومدرستك التي اردتها لتصحيح التاريخ وتنظيف العقول من الترهات لن تري النور ويبدو انك ستقضي عمرك المتبقي تكلم نفسك وتجلدها بقسوة صباح نهار بين باب يفتح وتدفع الي الداخل وباب ينفتح وتخرج الي الشمس والوجوه المتعبة وارتال الباعة المتجولين وستات الشاي البائسات اللائي تنتاشهن نظرات النسور الجائعة المتحلقة حولهن، ثم تصافح ابيك الذي يشتاق هجير فرنه ولم يتصالح أبدا مع تجارة اخترتها له مهنة لايجيدها فيتناقص رأسماله في كل يوم بسبب كرمه الحاتمي مع الصغار والفقراء ، حين تعاتبه يقول لك باسما( يامصطفي خير لي ان يزيد رصيدي عند الله ويتناقص مالي.... لاينقص مال من صدقة....) تضمه اليك بقوة ودمعة تجري علي خدك والاف الوجوه التي اشترت الدنيا علي حساب رصيدها عند خالقها تمر امام عينيك.

صلاح سر الختم علي
24-05-2013, 05:44 AM
62
كنت تتمشي علي مهل في ظهيرة حارقة في قلب السوق العربي يامصطفي حين اصطدم ذلك الشاب طويل القامة بك وتبعثرت محتويات مفكرته التي كان يحملها أرضا، غمغم معتذرا وانحني في ذات اللحظة التي انحنيت فيها لتجمع معه ماسقط أرضاً،همس الشاب بصوت خافت( عندي وصية من المرحوم حسن سبيل لك يامصطفي ود الفران، نلتقي في فندق مكة بعد ساعة) لم تقل له شيئاً، جمع حاجياته وأنصرف ، واصلت مسيرك، توقفت عند كشك الجرائد ، اشتريت جريدة رياضية ومضيت حتي عثرت علي كافتيريا بها مكان ظليل، جلست وطلبت كوبا من البرتقال، واخذت تطالع الجريدة علي مهل وتتفحص الوجوه حولك بدقة، كان الوقت لايزال مبكرا علي ميعادك مع الشاب المجهول، كنت تتساءل هل هي حيلة للايقاع بك؟ أم انه رسول حقيقي يحمل رسالة حقيقية؟ في النهاية قررت الذهاب مهما تكن العواقب لكن بعد التأكد من عدم وجود من يتبعك.
كان فندق مكة فندقا شعبيا صغيرا يقبع في قلب السوق العربي من ذلك النوع من الفنادق الرخيصة التي لاتقدم لروادها أكثر من سرير في غرفة مشتركة علي الأقل مع شخص غريب واحد، ولكن الفندق يتميز بمطعم شعبي ملحق به يكتظ بالناس من النزلاء وغيرهم،حين بلغت الفندق كان الشاب جالسا علي أحد الموائد ، لمحك فنهض كأن الأمر مصادفة وهتف مرحبا ودعاك لتناول الطعام وهو يطالب الجرسون باحضار طلبات أضافية، سلمت عليه كأنك صديق قديم وجلست، قال لك بشكل مختصر انه يحمل الأمانة معه وهي عبارة عن دفتر خاص بالمرحوم طلب ان يتم تسليمه لك
وخيري ان كان موجودا، كان الدفتر موجودا علي المنضدة أمامك كأنه ينتظرك ، لففته داخل الصحيفة ووضعت يدك فوقها أكملت طعامك وافترقتما دون ان تعرف حتي من هو الرسول، كان قلبك يدق بشدة ويدك مضمومة علي الدفتر داخل الجريدة وانت تشق الزحام كمدية متشوقا لبلوغ ضفة آمنة تتمكن فيها من قراءة ماكتبه حسن سبيل لك قبل موته.

صلاح سر الختم علي
24-05-2013, 06:18 AM
63
كان الدفتر دفترا أزرق اللون ، من ذلك النوع الذي يحتفظ فيه التجار بحساباتهم وتلفونات عملائهم ومواعيد جلول أجل الشيكات الواردة والمستحقة في ذمتهم، كانت الصفحة الأولي مزينة بآية من آيات القرآن من سورة الكهف مكتوبة بخط بارز:
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً .)
في الصفحة الثانية مكتوب بخط حسن سبيل الذي تعرف( الي أخي مصطفي عابدين وأخي خيري محمد صالح خيري...لكما حق النشر وحق الحجب)
ترقرت عيناك ووجدت نفسك سابحا في عوالم حسن التي لاتعرف ، كان يكتب وكأنه بجانبك يتحدث معك من القلب كما الأيام الخوالي:
انا شاب عادي جدا،عاش في زمن غير عادي، ولدت في ضواحي الفاشر حيث عاش أهلي من الحياة حتي الممات حياة عادية لم تعكر صفوها مدارس ولا بنادق ولاصراعات قبلية ولاسيارات تحمل فوق ظهورها أدوات الموت، لم يكن يهمهم من الرئيس ومن الوالي ومن يقيم بالقصر الجمهوري بل لايعرفون القصر الجمهوري، وحتي الفاشر حين يجئونها كانوا يسمون القوازة ويسخر منهم أهلها ويحسون بالتفوق عليهم وهم لايعبأوون، يأخذون ما يريدون من المدينة ويرجعون الي عالمهم حيث تكسوهم الطمأنينة، لكن دوام الحال من المحال،غزت المدارس بلدتنا وتسلقنا السلم التعليمي درجة درجة حتي انتقلنا الي الفاشر وانتقلت الأسرة كلها إليها لاهثين خلف التعليم والحياة الوادعة التي تركناها خلفنا في ودعة دون أن ندري.في الفاشر الثانوية عرفت الطريق الي الحركة الاسلامية وانتسبت اليها طائعا مختارا وتقلبت معها فوق أشواك كثيرة طائعا تارة ومكره اخاكم لابطل أحايين كثيرة. واعترف الان بانني امتلكت احلاما كثيرة بعضها مضحك وبعضها مبكي وجلها مستحيلة ومهلكة وخطيرة.

صلاح سر الختم علي
24-05-2013, 09:31 AM
64
ثمة أشياء كثيرة تهمني وحدي وتهم طائفة محدودة من الناس لن اتوقف عندها، ساترك لمن يريد الكلام عنها ان يتناولها من الزاوية التي يريد،أعرف ان الناس سيرسمون عني صورا كثيرة، صورا ظالمة، وصورا منصفة، وصورا خيالية من فرط الحب أو الكراهية، سيكون لكل منهم أسبابه وعذره وطريقته في تصويري وتبريرها، ربما لن اكون الشخص المناسب للنفي أو التأكيد فمعظم تصوراتنا عن أنفسنا خاطئة مثل تصورات الآخرين عنا ومتحيزة وغير دقيقة،فليس هناك من يجروء علي كتابة سيرته الذاتية دون أن يعمل فيها ترميزا وحذفا وأضافة،كل ما استطيع فعله هو تقديم ما يشبه الشهادة عن حياتي التي عشتها والزمن الذي عشته،محاولا تقديم وقائع مجردة تاركا الحكم عليها للاخرين قدر ما استطعت حتي لو قلت حكمي عليها ،دعوني اضحك من نفسي قليلا وانا اتذكر كلمات خيري ( في أي وقت تتحدث ، يتخيل المرء قاعة محكمة محتشدة بالمتفرجين ورجل وحيد يرتدي ثوبا أسودا يصهل كحصان في القاعة....ايها الحصان الأسود مهلا، لسنا في قاعة محكمة...)،، نعم ياصديقي مهنتي تتغلب علي دوما،لذلك كانت أسعد ايام حياتي حين عملت بالمحاماة حرا طليقا من كل قيد،ففي تلك الأيام لامست الماء الذي يجري تحت الجسر، عرفت كثيرا ممن عرفتهم لاحقا في الفضاءات الخطيرة حين خرجت من المدينة مرغما الي الريف المشتعل بالحريق والصحاري الخائنة، عرفتهم مقيدين بالسلاسل متهمين بالحيازة غير المشروعة للسلاح تارة، ومتهمين بالنهب والحرابة تارة، ومتهمين بالضلوع في فظائع قبلية تارة أخري،وقتها أدركت ان ثمة مياه كثيرة تجري تحت الجسر وأن ثمة شئ ما يجري في تلك الصحاري والجبال المسكونة بالصمت والأخطار الكامنة..وحين تداعي الناس والحكومة لذلك المؤتمر الشهير بجامعة الفاشر لبحث مايجري كنت حاضرا،وكنت متحدثا وقلت لهم انني أري تحت الرماد وميض نار فتبسم البعض في استهزاء وسخرية.
وحين اشتعلت الفاشر بعد فترة وجيزة من ذلك اليوم وطالني شخصيا بعض الحريق إثر الهجوم عليها ، تذكروا ما قلت وقالوا لأنفسهم ( لابد انه كان ضالعا، لابد انه كان يعرف شيئا، لابد أنه.....) انفتح باب واغلق بترباس من حديد وبدأت رحلة مضنية من المشاوير الاجباريةفي مدينة كنت حتي وقت قريب اجوبها سيرا علي الاقدام من بيت الغفير الي بيت الوالي ومن حي المصانع الي حي القبة والكرانك وتمباسي ومن النقعة الي سوق المواشي...بت الشاة السوداء ياخيري بدلا من الحصان الأسود. وباتت الفاشر ثكنة عسكرية كبيرة مسكونة مثل الخلاء بالاخطار والمخاوف والغضب الساكن في القلوب .

صلاح سر الختم علي
24-05-2013, 08:53 PM
65
حين حصلت علي الشهادة الثانوية وانتقلت الي الخرطوم للدراسة كان مطلوبا مني أن اعمل قبل فتح الجامعة حتي اتمكن من توفير رسوم الدراسة وملابسي وسكني، فدخلت الخرطوم باحثا عن عمل، عرفتني السقالات في الهجير بناءا وعرفتني المنطقة الصناعية معلما يتجول باحثا عن رزقه من السمكرة والبوهية التي اجدتها بسرعة أكدت لي ان الانسان قادر علي تعلم كل شئ، وحين حان وقت الدراسة كنت جاهزا لحياتي الجديدة التي لم تلهني عن حياتي الأخري في المنطقة وسقالات البناءفي العطلات وعند اللزوم وعند ظهور فرصة عمل مغرية،كانت جامعة القاهرة الفرع هي جامعتي لكن حاجتي الي السكن المجاني بداخليتها وعلاقتي بالأخوان هناك جعلتني حاضرا في كل احداث جامعة الخرطوم كأنني واحد من طلابها وانقذتني علاقتي بها من التشرد والنوم حينا في دار الاتحاد في أيامي الأولي في الخرطوم، لكن عملي بقي دوما سري الصغير الذي لايعرفه أحد سوي الاصدقاء المقربون،كان السفر من الفاشر الي الجامعة وبالعكس متعة ومخاطرة جميلة وسياحة مجانية لاتخلو من الطرائف والمفارقات ولازلت أذكر تسلق ظهور اللواري والهمبريب الذي نستمتع به ومحاولاتنا الناجحة والفاشلة للسفر احيانا بطائرات شركة السافنا وهي التجارب الاولي في عالم ركوب الطائرات،الجامعة نفسها كانت عالما جميلا انفتح امامنا فجأة،فتيات كنا نري مثيلاتهن علي صفحات المجلات فقط بتن زميلات دراسة نبرطم في حضرتهن ونتأتي كمن تعلم الكلام للتو،صخب وضجيج لاينقطع، موائد فكرية متنوعة ومتجددة في كل صباح،أفكار كنا نسمع بها سمعا بات اصحابها زملاء دراسة نحب بعضهم ونتعامل مع البعض بحذر وكراهية مسبقة وخوف كامن في الأعماق، وحده عالم الشعر والأدب كان مكانا يسع الجميع ويحفل بتسامح قلما تجده في مكان آخر في الجامعة، لذلك كنت أهرب اليه من هجير السياسة وصخبها وقسوة عباراتها الطاعنة دوما في الآخرين، كنت أحب الشعر والشعر الحلمنتيشي وكان لي محاولات خجولة لم أجروء قط علي الكشف عنها لأحد.وهناك عرفت تلك الفتاة ذات الضفائر المتدلية والعيون الضاحكة (سلوي )التي أصابت قلبي في مقتل وتركتني ظامئا وخائفا من البوح حتي انقضت سنوات الجامعة وغابت في الزحام نجمة بعيدة تطلع اليها قادم من الريف بلا أمل وطوي قلبه وأخفي مشاعره المستحيلة عنها وعن الكون كله.كنت اعلم ان الطريق اليها مستحيل ومحفوف بالمخاطر لاسباب لانملك لها ردا، كنت أعرف أنني لا أملك سقفا يؤوينا ولا أملك مالا يخفف من حدة رفض أهلها لجغرافيتي التي تحكم علي مسبقا بالرفض، فقنعت من حبي لها بالعذاب ولذت بصمت دفعت ثمنه وحدي.

صلاح سر الختم علي
24-05-2013, 11:01 PM
66

كان يوما لن انساه ما حييت، يوما نكأ الجراح القديمة كلها وأسلمني الي حالة من الكآبة فكرت معها في الانتحار، كان شيئا عسيرا علي الوصف ويفوق كل خيال، كان معسكرنا يومها في كركر باحد الجبال الحصينة،كنت مشغولا باتصال مهم عبر جهاز الثريا الذي لم يعد يفارقني،حين دخل ذلك المقاتل وحياني تحية تضحكني دوما، فهي تحية لاتنتمي لا للعسكرية ولا للمدنية ، تحية تخص فقط راعيا كان كونه هو القطيع الذي بات بالمعاشرة الطويلة واحدا منه، علمته الحياة ان يخاف من ظله وانه يدين بالبقاء علي قيد الحياة لبندقيته وسرعة رد فعله، ولكنه وجد نفسه فجأة جزءا من جيش غير نظامي متنقلا معه بلا قطيع حين استولي خصوم من قبيلة أخري علي قطيعه كله ونجا من رصاصهم بحسن تقديره للموقف وتفضيله التضحية بالقطيع والبقاء علي قيد الحياة،حياني عبد الكريم وابلغني بان هناك صيد ثمين مجلوب من قلب الفاشر،وكان ذلك يعني ان مغامرا طامعا في المال قد تمكن من احضار عربةمتينة نحتاجها، كانت الحرب حرب عصابات والعصابات لا أخلاق لها وكان قدري أن ابتلع تلك اللقمة الحرام من اجل الثورة بموجب فتوي لم يطمئن قلبي لها لكن حين تختار حرب العصابات لايكون بمقدورك ان تختارنوع حياتك اللاحق لاختيارك الأول، وتلك حقيقة مؤلمة أدركها جيفارا فقال("خيرُ لنا أن نموت ونحن واقفين مرفوعي الرأس , مِنْ أن نموت ونحن راكعين)كان يقصد في الحقيقة ان مقاتل حرب العصابات هو شخص لاخيار امامه في الحقيقة فالموت هو قدره ورفيقهم مالم يقبل ان يخون ويمسي ارجوزا صغيرا في يد الأعداء يوجهونه كيفما شاؤا...قلت لعبد الكريم انني قادم فخرج ولحقت به، كانت السيارةاللاندكروزر بك اب الأليفة الي نفسي بلونها الفريد المميز واقفة أمامي وكأنني لازلت بملابس التمرين في الفاشر حين كنا نذهب مع صاحبها للتمرين في الميادين قبالة المطار، كدت أصيح ( ياعثمان مطبعة ياشقي ماالذي قذف بك هنا؟) ، لكن الكلام في حلقي احتبس حين لمحت رجلين غريبين مبتسمين وأدركت حقيقة الوضع، امسكت باقربهما الي من تلابيبه وهززته بكل قوة أوتيتها اوانا اصرخ( ماذا فعلتم بعثمان ايها الكلاب...) كان الرجل مشدوها وكانت اصابع عبد الكريم علي الزناد والدهشة علي وجوه أخري كثيرة،افلت الرجل وعدت حيث كنت وانا اهتز والدموع تغطي وجهي... قتلوا عثمان مطبعة صاحب احلي ابتسامة ودودة في الفاشر عرفتها في حياتي، عثمان الذي حصر نفسه وعمره كله في مدينته ووظيفته وكرة القدم والأصدقاء وكان مكتبه نقطة تجمعنا كلنا في كل وقت وكانت عربته المميزة اللون معلما من معالم الفاشر يساوي متحف قصر السلطان وبئر قونجي ومياه حجر قدو، كانت عربة المباريات والتمارين والعزاءات والافراح ورحلات الصيد القريبة،ولم تكن ملكه، كانت من ميزات الوظيفة، أمانة مستردة، لذلك حين طرق المغامرون باب بيته عند المغرب والظلام ينشر خيوطه علي الفاشر وأشهروا في وجهه السلاح مطالبين بالمفتاح رفض عثمان ان يخون أمانته
قال لهم بصوته الحازم( ياوليدات انتو ما بتعرفوا عثمان مطبعة؟ اهلكم ما قالوا ليكم انا منو؟! وليدات هي انقرعوا ساي....شتتوا يلا....)دفعوه الي الوراء بفوهة البندقية وطلبوا منه بنفاذ صبر ان يسلمهم المفتاح، ارتفع صوته أكثر معاندا، انطلق الرصاص ، سقط عثمان علي وجهه أمام باب بيته، جاست الايادي في جيوبه ودار المحرك واختفت العربة وبقي عثمان منكفئا علي وجهه وطارت حمامة بيضاء صوب السماء....مات عثمان واقفا مرفوع الرأس بطريقته وراكعا مقبلا الأرض التي أحبها للمرة الأخيرة .

صلاح سر الختم علي
25-05-2013, 07:08 AM
67
في تلك الليلة لم أنم ، كان القمر بدرا كأنه كان يحتفي بتلك الحمامة البيضاء التي طارت صوب السماء، خرجت ومشيت ، تابعني عبد الكريم ، قلت له انني اريد ان اكون وحدي، هم بالحديث، ثم صمت وبقي حيث هو لما رأي النظرة في عيني،لم يفهم شيئا، ولم يفهم سبب رفضي للغنيمة وطردي لمن جلبها،ولم يكن بمقدوري أن احدث أحدا أو ابكي امام جنودي، فالقادة رجال صخريون لايبكون ولايبوحون بأوجاعهم،لذلك حين يريدون البكاء فهم اما ان يبتعدوا أقصي ما استطاعوا ،أو يغلقوا علي انفسهم الأبواب، وفي حالتي لم يكن ثمة باب، لم يكن امامي سوي الابتعاد عن جنودي ولو كلفني ذلك الابتعاد حياتي أو حريتي،في تلك اللحظات تذكرت أحراش الجنوب وأولئك الحفاة شبه العراة الذين يسقطون من أعلي الشجر كحبات المانجو حين تنضج أو تهزها الريح،شعرت بالعار حين تذكرت ان سقوطهم كان انتصارا آنذاك، بينما كان سقوط عثمان مطبعة نصلا دامياً الآن بينما هو نفس الدم يجري بذات العروق، فهمت لأول مرة في حياتي ربما ماجري في الماضي باثر رجعي، بدت الاشياء تتداعي في ذهني بلا رابط في بادئ الأمر، تذكرت ذلك الذي كان قبل الحرب صديقي ، لم يكن ينتمي جغرافيا الي دارفور مثلي ، جاء اليها منفيا مثل موظفين كثر درجت الحكومة علي التخلص منهم بارسالهم الي الريف البعيد المهمل ، جاء الرجل ساخطا في البدء ثم وقع في غرام الفاشر وكتم وكبكابية فترك الوظيفة وامسي واحدا من أهل المكان وتطبع بطباعهم واندمج فيهم ، احبهم واحبوه، وحكوا عن شجاعته ومخاطراته قصصا اقرب الي الخيال والأساطيروخاصة حين يحتسي المريسة ويمتطي جملا ويجوب الريف ويصطدم برجال النهب المنتشرين وعيون القبائل المسالمة التي تريد تحسس نوايا الغريب وكيف انه ذات مرة اناخ جمله في وسط فريق مسالم واخرج قرعة مريسته وطفق يشرب ويغني بصوت عال حين جاءه احد الشيوخ فسأله(الزول من وين) فرد عليه بغلظة( من السما..) فقال له الشيخ بصوت خافت وهو يبتعد(دحين ناس السما ماكلموك الزول الغريب بيبدا بالسلام،لاتضرونا لانضروك جيدن جيتا)ثم صار الحوار صداقة طويلة،حين نشبت الحرب لم تعد الاسطورة تنتمي للجميع ، كان علي صاحبها ان يختار معسكرا من المعسكرات الثلاثة( الحكومةأو الجنجويد، أو الطورا بورا) ولم يكن له خيار سوي من عاش بينهم وللأسف كانوا من الفريق الآخر، حكومة وجنجويدا، فبتنا اعداء بأمر ماهو كائن وجاري علي الارض، ومات الرجل علي يد من اختارهم ذات يوم لمجرد انهم ظنوا انه يريد الابحار في اتجاه آخر،مات (حامدنمر) واقفا وهو يسب القتلة بأعلي صوته مؤكدا لهم انهم لو كانوا رجالا لما غدروه من خلف، ثم هوي وقبل الأرض مرة واحدة والي الابد وطارت حمامة بيضاء نحو السماء... فهمت الان سؤال ذلك المقاتل ورنة السخرية والمرارة في صوته وتلك النظرة في عينيه:
(مع أي مهمشين كان الرفيق المجاهد يقاتل في الجنوب....؟) حين استعدت الكلمات بدا لي كل شئ عاريا في تلك الليلة المقمرة حتي نفسي، تذكرت أشياء كثيرة فعلتها، وأشياء كثيرة لم افعلها، لكنني قبلت بها،بدت حياتي كلها بائسة ومعطونة في الزيف وعديمة الجدوي، رأيتني أبكي عند حجر جدتي كريمة وأحكي لها بلا توقف كل شئ كأنني جالس فوق كرسي اعتراف والسيف معلق فوق رأسي،وهي واجمة حزينة، ثم أخذت تهيل التراب علي رأسها وتبكي وتدفعني من حجرها، أراني ثعباناً أسوداً تهشه بعصاها بعد ان تقرأ ما تحفظ من ادعية وآيات، ثم رأيتها ترتفع عن الأرض شيئاً فشيئاً ووجهها ممتلئ بالغضب والدموع،أتوسل اليها ان تغفر لي والا تتركني وحيداً، لكنها تزم شفتيها و ترتفع الي الأعلي ، تصير حمامة بيضاء تتجه صوب السماء، لاتترك علي الأرض سوي الدموع ودم أسود يجري بين شقوق الجبل والأرض، ثم تحلق عالياًحتي تغيب في جوف السحب، أتلفت حولي ، لاشئ سوي الجبال الواجمة، عواء ذئب بعيد، أشباح بعيدة في مرمي بصري هي اشباح رجال لديهم تعليمات بالا يغيب القائد عن البصر، كانت أشباحهم البعيدة هي التي منعتني من تصويب سلاحي الي رأسي الذي كاد ينفجرفي تلك الليلة كما أعتزمت ، فالقائد لاينتحر أمام جنوده. عدت أدراجي وانا موقن بان حسن سبيل آخر هو الذي عاد، ليس ذلك الذي كان والذي دفنته هناك وحملت بدلا عنه أسئلتي وظنوني وضعف لم اعهده بنفسي أبداً......

صلاح سر الختم علي
30-05-2013, 10:08 PM
68
لم تك حياتي كلها بالميدان والجبال والصحاري كما تظنون، كان لها وجه آخر باسم ما احببته قط، وجه عامر بالسفر بالطائرات والتنقل في بلاد الدنيا وسكن الفنادق وأسرتها الوثيرة، كنت قائدا والقائد من حقه بعض الرفاهية ومن واجبه خوض الجوانب الأخري للحرب، الجوانب النظيفة كما نسميها، اللقاءات مع الاجانب الذين يريدون أن يفهموا ما يجري علي الأرض وما يدور في عقولنا ويبحثون عن طرق مسفلتة ومختصرة للدخول عبرها الي عقولنا وإعادة توجيهنا لما يتفق ونظرتهم للأمور،وكنا مثلهم نبحث عن طرق مسفلتة لندخل عبرها ونغسل تلك الصورة القاتمة التي رسمها اعلام الحكومة عنا بما يوافق المخاوف النائمة لدي الحكومات الغربية، كنا نحتاج ماكينتهم الإعلامية وضغوطهم الناعمة لتخفيف الضغط علينا في الميدان وشل آليات القصف الجوي التي لاقبل لنا بها، كنا نحتاجهم عندما نحتاج الي هدنة مفروضة لالتقاط الانفاس وتنظيم الصفوف تحت ستار مفاوضات نعلم في دخيلتنا انها مجرد تكتيك عابر،في هذه الجولات النظيفة والناعمة من الحرب نمسي اشخاصا آخرين لاعلاقة لهم أبدا باولئك المتسخة ثيابهم الملتحفين الأرض ،كنت قد اخترت القاهرة مقرا لاقامة أسرتي الدائمة حتي اتمكن من لقائها متي شئت وشاءت الظروف واولويات العمل، كنت اعود رب اسرة عادي في تلك الايام المسروقة من الأسفار والتنقل في الصحاري والجبال والمعارك
والالتحامات ومطاردات الطيران الحربي المخيفة، التقيت اشخاصا لم يك يخطر ببالي يوما ان تضمنا مائدة واحدة، لكننا التقينا وتحاورنا وكانت لغة المصالح المشتركة حاضرة بيننا، منهم من كان خصما لدودا وهدفا مشروعا ايام الجامعةمثل سالم الرشيد الذي كان قائدا يساريا لايشق له غبار وكان جل نشاطه موجها ضد حركتنا الاسلامية الناهضة وقتها، كانت اركانه وندواته تتسبب لنا بخسائر جسيمة في كل معركة انتخابية وتجعل اقترابنا من الطلاب المستهدفين باستقطابنا مهمة عسيرة جدا، فالبعض يواجهنا بما يقوله سالم عنا ويرسخه في الأذهان بتكرار مقيت، كنا نكرهه ونتمني لو كان متاحا محوه من الوجود، وحين التحق بحركة مسلحة متطرفة وخرج من دائرة العمل السياسي تنفسنا الصعداء وبات هدفا مشروعا لبنادقنا في الميدان أيام كنا نحارب في صفوف جيش الحكومة ، لم اكن اتصور يوما ان تصافح يدي يده وان يضمنا فندق واحد في بلد أجنبي وان تضمنا مائدة واحدة وان اجالسه لساعات طوال وهو ممسك بكأس من النبيذ الفاخر وانا معتصم بعصير البرتقال ونحن نتحدث بلا توقف عن السودان وعن التغييروهو يقرأ شعرا كثيرا يحفظه ، كم هي غريبة هذه الدنيافي قدرتها علي جعل كل مستحيل ممكنا فقد بتنا انا وسالم الرشيد الذي كنت يوما أرمقه شذرا اصدقاء تجمعهما جلسات أنس كثيرة،اتذكر الان تلك الليلة حين تشعب الحديث بيننا وطال ،تذكرت بعض من كانوا بالجامعات في أيام دراستنا وسألته عنهم وسألني هو عن البعض، كانت النهايات لكل واحد منهم مدهشة وحزينة وغريبة في بعض الحالات، ضحك سالم حين تذكر مصطفي عابدين وعصام قاقارين، لمعت عيناه وهو يقول( لم اكن اتصور يوما ان يكون مصطفي أكبر ساخط علي حكام الخرطوم وان يدخل يوما سجونا كان احد المسؤولين عنها، قاقارين يعتقد ان الأمر مجرد تمثيلية متفق عليها، لايريد ان يصدق ابدا ان مصطفي يمكن ان يتغير وان يكون له موقف، تتصور ياحسن قاقارين قال لي بالحرف الواحد حين التقاني بعد عشرين عاما( كلكم باع بطريقته...كلكم خان يا سالم...وعيتم ذلك أم لم تعوه....))
كان سالم يضحك وهو يحكي، لكن يده كانت ترتجف، كان واضحا ان كلمات قاقارين اخترقته كنصل حاد. لفنا صمت ، سرحت ببصري بعيدا وجاءني صوت مصطفي وهو يصرخ في وجه ذلك القائد بذات الكلمات تقريبا، قلت لنفسي هل الأمر مصادفة؟ هل لازال قاقارين يظن ان مصطفي ممثل كبير علي خشبة مسرح؟
في تلك الليلة نمت مع سالم في غرفته وحين أدركني صحو مفاجئ في الهزيع الأخير من الليل، نهضت حتي أذهب الي الحمام، وكانت أكبر مفاجأة لي وانا في طريقي الي الحمام أن سالم كان منهمكا في صلاة طويلة تتخللها نهنهة لابد تصحبها دموع لكنه كان يعطيني ظهره فلم اتمكن من رؤيتها.

صلاح سر الختم علي
30-05-2013, 10:56 PM
69
في الصباح نهضت باكرا، صليت الفجر حاضرا وتعمدت النزول الي غرفة الطعام باكرا حتي امنح سالم الرشيد فرصة لممارسة شعائر صلاته سرا كما فعل ليلا، في رحلتي في حرب العصابات عرفت انواعا مختلفة من الناس،أناس مرعوبون دوما وخائفون لكنهم يخبئون خوفهم بالتهور الشديد واتيان اعمال متطرفة وعنيفة،واناس لايخافون ولايعرف الخوف سبيلا الي قلوبهم أبدا، لكن رقة العالم كلها حاضرة فيهم،لايثرثرون ولايتحدثون عما فعلوا أبداً، عرفت بعض من يتعمد استفزازك بالمجاهرة بمعاصيه التي يعلم انك لاتقرها ولكنك لاتملك حق التحدث معه بشأنها، كانوا يسرفون في اظهارها بغية اجبارك علي الاشتباك معهم لشئ في أنفسهم، مثل هولاء كنت اتفاداهم ، ليس عن رهبة، ولكن لأن هزيمتهم تتحقق بعدم تمكينهم من بلوغ هدفهم وهو استفزازك، واذا تمادوا سيجدوا من ينبري لهم غيرك، لكن صدقا لم التق بشخص مثل سالم الرشيد قوي ومهاب وله كاريزما واضحة أبرز مافيها التهور والأندفاع المدروس، لكنه حين يخلو بنفسه ينقلب شخصا آخرا، يمسي كل ما أراد ان يكونه ولم يستطع ان يكونه، يصلي سرا حتي لايتهمه احد بالنفاق، يبكي سرا حتي لايوصف بالضعف،يحن سرا الي حياته العادية التي حرمه البريق الدائم منها. قلت له حين جاء وجلس بجانبى علي المائدة( تقبل الله صلاتكم.....) ، كاد ينهض واقفا دهشة، ثم تمتم بصوت خافت بكلمات لم أتبينها وغير مجري الحديث بسرعة كأنني لم اقل شيئا.قلت له ( بالمناسبة يا سالم ، مصطفي عابدين قال العبارة نفسها التي قالها لك قاقارين لعباس محمود في جنيف في حضوري ولم ينتظر رده ومضي وتركه مشدوها....تصور نفس الكلمات تقريبا قالها مصطفي (كلكم فعلتم نفس الشئ، كلكم خلعتم جلدكم وتنكرتم لأصلكم، كلكم باع وأشتري بطريقته الخاصة وقبض الثمن....اللعنة عليكم...اللعنة علينا جميعا)، شحب وجه سالم سريعا ثم استعاد الرجل رباطة جأشه وقال( مصطفي عابدين قال ذلك لعباس محمود؟.....اكاد لا اصدق.....لكن بصراحة عباس محمود يستحق أكثر من ذلك)
قلت لنفسي ساعتها( وما الفرق بينك وبين عباس ياسالم؟ كلاكما نال جنسية أجنبية وأشعل حرباً في وطنه، الفرق الوحيد انك لم تجد فرصة مثله لتحكم بضع سنوات في بلدك قبل ان تخلع جنسيته......صدق مصطفي.........) لفنا صمت طويل كنت خلاله اقارن بين عباس محمود وسالم الرشيد ودون ان ادري كيف حصل ذلك وجدتني أقارن نفسي بهما، هل تري كانت الكاف والميم في كلمة (كلكم) تشملني أيضاً؟
في تلك الليلة نفسها تلقيت اتصالا من السودان من أسرة أسير لدينا تريد ان تطمئن عليه وعلي سلامته، كان المتصل صديقا قديما باعدت بيني وبينه السنين فقلت له( اطمئن ، من يهمك أمره يهمني أمره ، قريبا سامكنه من الاتصال بكم ، لاتقلقوا....نحن نحسن معاملتهم ، خلافنا مع الحكومة لا الأسر.....).....في اللحظة نفسها برز السؤال بذهني كسحابة سوداء( تري ماذا يكون مصيرك لو وقعت في الأسر ياحسن؟! ) لم تك هناك اجابة....ظللت ساهرا افكر في هذه الحياة الغريبة التي وجدتني مجبرا عليها، لامجال للتراجع، وفي نفس الوقت ليست هي حياتي، ليس الأمر لعبة يمكنك الخروج منها متي شئت والتوقف والإقلاع عنها متي شئت....كنت حائرا حيرة لاتليق بقائد ، لكنها تليق بانسان ينشد حياة عادية لم يدرك قيمتها الا حين باتت بعيدة نائية، تري ياحسن هل ستموت بأيدي من كافحت عمرك كله لاجلهم فتنطبق عليك مقولة جيفارا التي انطبقت علي حياته(مايؤلم الإنسان أن يموت علي يد من يقاتل لأجلهم).

صلاح سر الختم علي
02-06-2013, 10:07 AM
70
وجدتني بلا مقدمات مندفعا نحو عالم سالم الرشيد ، كان فيه شئ يعجبني دوما في الناس، تلك القدرة علي الإصغاء للاخرين ومنحهم الشعور بالتوحد معهم في كل ما يقولونه، وجدتني احكي له كصديق قديم قسما كبيرا من الهواجس التي انتابتني،قلت له بلا تحفظ انني في اعماقي لست سعيدا بما صرت عليه، قلت له انني أشعر بغربة كبيرة، وأنني أشعر انني ومن معي ندور في حلقة مفرغة لانهاية منطقية لها، حكيت له عن اولئك الذين سقطوا في المعارك وأحلامهم معلقة بين السماء والأرض، بعضهم مثقل الروح بالغضب والكآبة، بعضهم موزع بين حنين الي الحياة العادية التي انتزعوا منها والأحلام العادية جدا حتي بحضور صلاة العيد مع الأهل وبين الأحلام الملعونة التي جعلتهم يتنقلون مثل باعة متجولين لانهاية لرحلتهم الا الموت أو الثراء المفاجئ ، كانت الحكومة تعرف كيف تغازل ذلك الحنين الي الحياة العادية والطموحات الفردية في البعض ، لم نعد نندهش أو نفاجأ حين ييمم ذلك أو هذا القائد الميداني صوب فلاشات الحكومة لتحتل صورته مساحات مؤقتة علي الشاشات والصحف باعتباره فصيلا مسالما آثر السلام ونبذ حربنا اللعينة، ثم لايلبثوا أن يسقطوا من الذاكرة وتتراجع أخبارهم،قلت لسالم :( عن نفسي اتمني بصدق لو كنت يوما طرفا في حوار حقيقي يعيدنا الي حياتنا تلك، لا أريد مؤتمرات صحافية ولامنصبا ولا رصيدا دافئا نظير سنوات التشرد، أريد فقط أن اعود الي ودعة كي أزور قبر حبوبة كريمة واطلب عفوها ورضاها واعيش حياة عادية بين الفاشر وودعة، حياة لا خنادق ولابنادق ولاقصف جوي فيها، أريد ان أزور قبر عثمان مطبعة وانظم دورة رياضية باسمه في الفاشر في ميدان النقعة واجلس هناك كالايام الخوالي كي اقدم كأس البطولة للفريق الفائز واحدث الناس عن حسن مطبعة الذي مات في حرب رفض ان يخوضها ولم يرفض من خاضوها وبقي محاولا ان يكون قنطرة بين فرقتين تقتتلا بالبنادق ظنا منه انها مباراة برئية في كرة القدم ستنتهي بالضحكات والمصافحة......)
فجأة وجدت سالم ينهار باكيا، بكي بلا توقف، ثم لاذ بصمت ناطق، باتت الغرفة الصغيرة مثل القبر،رأيت الرجل الأسطورة منحنيا، مطرقا، ثم هدر صوته فجأة
(تلك هي ذات الغرغرينا التي مزقت روحي طيلة هذه السنوات اللعينة، كنت صغيرا وغاضبا ومفتونا بالتغيير حين اتخذت أهم قرار في حياتي، وحين تغيرت انا وتغير تفكيري واردت مراجعة قراري كان الوقت قد فات، بت شخصا آخرا، لم يعد القرار كما كان قراري وحدي، بت عدة اشخاص في وقت واحد، القائد العسكري الذي يحاكي في نبرته ولهجته الجنود حتي يكون القائد المطابق لصورة القائد في مخيلتهم، وحين التقي الاصدقاء القدامي الحالمين كنت اعود بعض سالم الذي كان والذي عرفوه والذي رسموا له صورة في مخيلتهم يريدون منه أن يطابقها، بت ممثلا بارعا يملك الف قناع والف وجه ويتنقل بينهن بسهولة ويسر مثله مثل أي ممثل محترف، لكن الغرعرينا كانت تمزقني من الداخل، وحدي كنت أري وجهي يغيب وروحي تبهت وشمعتي تتراقص في ظلام أكبر من قدرتها علي البقاء،................)
لفنا الصمت من جديد.....كنت مندهشا مما جري، كنت قد رسمت مسارا وتخطيطا كاملا لكل ما يدور بيننا في ذهني ألف مرة قبل اللقاء، لكن كل شئ سار في مسارات ووجهة لم يك بمقدورنا ان نتنبأ بها، كنت أشعر أنني قد بت مفضوحا أمامه وأنني علي استعداد للبوح بكل صراعاتي الداخلية وكل افكاري
امام ذلك الرجل الخطير، لكنني وجدته مطواعا أكثر مني، وجدته طفلا يحكي قصته من الألف الي الياء، يحكي افكاره واحلامه وانكساراته وشعوره بالضآلة أمام اشخاص عاديين عاشوا حياة عادية، لم يشاركوا في حرب مات فيها ابرياء
وانتهت الي عدم والي حلقة شريرة لم ولن تنكسر، أشخاص لعبوا دورا عاديا وافضل منا في الحياة(تصور ياحسن عربجي يقود كارو من اجل دراهم معدودة أو عتال يعمل في الشمس الحارة في اي مدينة هو افضل منا مليون مرة، ولو سألناه عن رأيه فينا لقال اللعنة عليكم بلا تردد....يا آلهي.....)
قلت له في حيرة( ياسالم جئتك حائرا فجعلتني أكثر حيرة........)
استعاد شيئا من توازنه وهتف بصوت آلى:( ليس لدينا خيار ياحسن، لم يتركوا لنا خيارا...من يكن خياره مفروضا عليه لايلام علي ذلك بل يلام من فرض عليه
ان يقاتل لكي يحيا.....)
شعرت لحظتها ان من يتكلم شخص آخر وليس سالم الذي كان يبكي قبل قليل......قلت لنفسي لابد انه ارتدي احد الأقنعة الألف...تري كم قناعا بت تملكه ياحسن؟

صلاح سر الختم علي
04-06-2013, 11:13 AM
71
كنت مثقلا بالندم والشعور بالوحدة والضياع والرغبة في الحديث في تلك الليلة، وجدت سالم الرشيد أكثر رغبة مني في الحديث والبوح، كان كأنه جائع منذ سنوات الي الحديث الي شخص ما، كان مندفعا كأنه غريق يتشبث بآخر أمل له في النجاة، تنهد بصوت مسموع وقال لي( ضائعان نحن ياحسن في هذا العالم، ضائعان نحن .....تلك هي الحقيقة عارية كئيبة.....) كنت أهم بالحديث، لكنه لم يمهلني وواصل حديثه
بصوت هادئ ( عندما انفرد بنفسي و أفكر في حياتي كلها والمسارات التي اتخذتها أجدها حياة مسروقة من عمري، حياة اختارتني ولم اختارها أبداً، كنت كمن كان ظامئا وأمامه كوب ماء وحيد، لم يكن لدي خيار آخر،كان يمكن ان اعيش حياة عادية جدا،اكون تلميذا نجيبا يعيش حياة وادعة ويحقق نجاحات ملموسة صغيرة وعادية، ثم يشغل موقعا عاديا ، يتزوج ويهرب من البيت بعد سنوات الزواج الأولي الي شلة النادي والكوتشينة ومباريات كرة القدم،وربما يخون زوجته سرا، ويصلي الصلوات الخمس في المسجد لاينقص منهن شيئاً،ولايهتم بالسياسة الا في مواسم الانتخابات أو الأيام التي تكون فيها مباحة وهما عاما.لكن شيئا من ذلك لم يتحقق،عشت حياة لم تسمح لي حتي بعيش حياة جامعية عادية، لم تسمح لي بالعيش حيث أردت ومع من أحببت .كنت صغيرا في قرية صغيرة منسية، كان والدي معلما هنالك، لم يكن ينتمي للمكان سوي بوظيفته، كنت مختلفا عن الأولاد الاخرين في سني، كانت لهجتهم المحلية مختلفة عن لهجتي، طريقتي في اللبس والحديث مختلفة عنهم، وكنت كمعظم ابناء الاساتذة متفوقا في دروسي ومالكا شجاعة ادبية جعلت مني نجم الاذاعة المدرسية وحصص النشاط المدرسي الخاصة،كل هذا كان تأهيلا مبكرا من الاقدار اعدتني به لاداء دورسالم الرشيد علي خشبة مسرح الحياة، كانت الفترة هي مطلع السبعينات، أيام المد الاشتراكي الكبير في السودان والعالم، كان الرئيس نميري وقتها زعيما اشتراكيا تدبج في مدحه القصائد والأناشيد وكانت طلائع مايو وروادها وكشافتها وشباب الاتحاد الاشتراكي في قمة زهوتها وسطوتها علي الحياة حتي في قرية صغيرة منسية مثل قريتنا كانت لهم فروع وأذرع وأعين فاحصة تنتقي كل مميز ومتميز من الشباب لتضعه تحت مظلتها، لذلك لم تكن مفاجأة لي أو لأبي ان تقدمني طلائع مايو لكي أطوق عنق الرئيس القائد بإكليل من الزهور في زيارته للقرية ضمن جولة له في الريف وأتقدم لأقوم بإلقاء قصيدة عصماء تمجد قائدنا الذي هزم الرجعية ،كان ذلك اليوم من طفولتي البعيدة قد شهد أول ظهور لي في مسرح الحياة السياسية طفلا يضع أكليلا من الزهور الحمراء حول عنق رجل سيكون بعد أعوام قليلة الد اعدائي وأكون ضيفا دائما في سجونه ومعتقلاته،كنت صغيرا حين دخلت المعتقلات ، كانت نفس الدهشة ونفس الافتتان بموهبتي المبكرة علي وجوه رجال لهم اسماء لامعة وتاريخ نضالي كبير، كانوا يصغون الي حماسي وخطبي ذات الكلمات الكبيرة في دهشة، بعضهم يهمس سرا أنه استعاد ذكريات شبابه ايام الاستعمار عندما كانوا صغارا تستقبلهم الدهشة والمحبة من الكبار اينما ذهبوا، بعضهم رمقني بنظرة طويلة وصمت ثم همس في أذن جاره بكلمات غامضة عرفت فيما بعد ان معظمها كانت نبؤة ببروز رجل له نزعة زعامية واضحة ذكرتهم بمنشقين سابقين لم يعمروا طويلا في الحزب،هكذا كان الناس حيث حللت ينقسمون إلي فريقين، فريق داعم منبهر ، فريق نافر لايطيقني في دخيلته وان قبل بي قبل علي مضض، كنت اشعر بذلك واعرفه في نبرة الصوت، في برودة المصافحة والتحية المقتضبة والتفادي عمدا، كنت اعرف بشكل ما ان بعضهم علي حق،ثمة شئ في داخلي لايرضي ابدا بالمقاعد الخلفية، شئ يشدني دوما الي الأعلي مثل غريق يبحث عن النجاة،كنت اعرف انهم يعرفون وانهم محقون، لكن رهاني دوما كان علي اولئك الذين لايعرفون، اولئك الذين يبحثون دوما عن قائد وعن شخص ملهم يقيهم شر التفكير وشر اتخاذ القرارات الحاسمة،كان مثلي الاعلي هو ذلك الرفيق الذي اختلف حوله كل الناس واتفقوا علي شئ واحد وهو كونه القائد الفذ الذي انهار كل شئ حين غاب عن الساحة وتركها للصغار ، حارب بالكلمة فقتل بالرصاص،وحين غاب لم يعرف من كانوا ينتظرون قراراته الحاسمة ماذا يفعلون، لم يكونوا مهئيين لاتخاذ قرارات حاسمة أبداً،وحين التقيت بعضهم تأكد لي ذلك بالنسبة للبعض ، ولكنني اكتشفت آخرين كانوا طول عمرهم في الظل مع انهم في الحقيقة قادة افذاذ لايضاهيهم احد في اخلاصهم واستقلال تفكيرهم واستلهامهم لروح الشعب في كل خطوة يفكرون فيها أو يخطوها،عرفت مافي صدورهم وعقولهم عبر ليال السجون الطويلة الموحشة،شهدت عبرهم حياة غير عادية عاشها آخرون لايعرفهم أحد، أعطوا بلا كلل، تنقلوا في المدن والأزقة والبيوت الآمنة كالأشباح، حملوا أرواحهم في أكفهم ،مات بعضهم مذهولا وبعضهم منسيا حتي الموت ،لم يقفوا بين لا ونعم، لم يتساءلوا عن جدوي مافعلوه وما يفعلونه،سمعت قصصا خرافية عن اناس عاديين لكنهم خرافيين مثل قصص حياتهم التي لايعرفها أحد. خرجت من السجن والعالم شئ مختلف بالنسبة لي، عالم قاس، لارحمة فيه، ولا إنصاف،بت اعرف أكثر، بات صوتي أقوي،كنت قد ولجت الجامعة، كانت سلطة مايو قد طوت آخر راياتها الحمراء وأدارت ظهرها تماما للكتلة الشرقية ويممت غربا، كانت الجامعات تمثل عالما مختلفا عن العالم خارجها، ندوات مشتعلة، احزاب محلولة ومحظورة خارج الجامعة تمارس كامل وجودها عنوة داخلها، كنت هناك في قلب ذلك الضجيج أرسم مدنا فاضلة وأخرج النار من فمي وصدري كتنين أسطوري في ملهاة مصورة،كنت أنشب اظافر كلماتي في حزب أو جماعة فأعريهم في لحظات، كنت اجمع الحكايات والأفكار والمفردات والنماذج وأحشد حججي مجتمعة وانقض علي فريستي مثل محام محترف يترافع أمام قاض مبتدئ وجل مرافعته موجهة للنظارة،لم يكن الأمر يمر بسلام دائما، فاحيانا يصطادني من قصدت اصطياده ويفاجئني بهجمة مرتدة لم تكن بالحسبان، اسمع تصفيقا حادا في ركن النقاش الذي اتسعت دائرته، فاعرف ان خصمي قد جندل جمهوري وأنني علي وشك أن اخسر الجولة بالضربة القاضية، انظر في وجوه رفاقي المتحلقين في الحلقة وقد استبد بهم القلق، اعرف انهم في انتظار ردة فعلي، اعرف انني في هذه اللحظة بالذات أكون أو لا أكون، اتخير اضعف حلقة في مداخلة الخصم وهي عادة هو نفسه أو رمز من رموز جماعته، أبدأ هجومي من هناك، ثم انحدر من الاعلي كنسر موشك علي خطف فريسته، وابدأ هجومي الكاسح، وحين تلتهب الأكف بالتصفيق الحار، اعرف انني قد اجتزت الإمتحان بنجاح، فاتمادي في نشوتي بانتصاري،يشحب وجه الخصم يطلب فرصة فلا استجيب، وحين ييأس من كرمي وينسحب لينصب مكرفونا وركنا مضادا، انتهز الفرصة واتحدث باعلي صوتي عن الضيق بالرأي الآخر.... وفي اكثر من مرة انفض ركن نقاش تحدثت فيه بالسيخ والكراسي ومشاجرات دامية وخرجت منه أسطورة تتعزز مكانتها في كل يوم خاصة حين اغيب بين ركنين في جوف سجن طويل أو اعتقال قصير وتمتلئ الصحف الحائطية وجدران الجامعة بشعارات تطالب بإطلاق سراحي ورفاقي... كنت هدفا لاعجاب الكثيرات، لكنني كنت مشغولا عنهن باعتبار الحب والغرام صفحات منزوعة سلفا من دفتر يومياتي، كنت معجبا بعبارة مصطفي سعيد الأثيرة في رواية موسم الهجرة الي الشمال (وتر القوس مشدود ، ولا بد أن ينطلق السهم .) كنت اشعر دوما ان شبها كبيرا يجمع بيني وبين مصطفي سعيد، كنت مثله سهما منطلقا نحو هدف يعرفه وحده ، هدف لن يهدأ له بال إن لم يبلغه، لذلك دست علي اشياء كثيرة وبصري متعلق بذلك الهدف الذي بات في خاتمة المطاف كابوسا وسرابا مخادعا....

صلاح سر الختم علي
05-06-2013, 04:25 AM
72

الشخص الوحيد في هذا العالم الذي عرفني وعرف حقيقة معاناتي هو أمي، كانت معتصمة بالصمت والنظرات الفاحصة التي تخترقني وتجردني من كل دفوعي ودفاعاتي، كان أبي طول عمره مشغولا عني أو بي، كان فخورا بمعجزته الخاصة وولده النجم ، ولم يكن يعنيه شئ من كل الضجيج الذي حولي سوي نصيبه من الضجة،كان الحوار بيننا قد انقطع منذ زمن بعيد، كنت قد بدأت تمردي عليه باكرا جدا، باكرا جدا أدركت انه كان يوجهني بطريقة ما لكي أطابق مشروعا وصورة معينة في ذهنه، فتمردت تمردي الأول، قطعت كل الخيوط التي تربط الدمية بالساحر،لكن مالم ادركه ابدا ان التمرد نفسه جزء من الخيوط المرسومة ،كان ابي مسالما طوال حياته، قانعا ومستسلما ظاهريا، لكن طموحه كان مشتعلا في صمت بداخله، كنت مشروعه الكبير للتمردعلي الخضوع الذي فرض عليه،سافر ابي واغترب وجمع مالا كثيرا ، لكنه كان مصرا علي ان نبقي ونشقي ونعيش حياة عادية، كان يعرف بخبرته كمعلم ان الشجرة تموت اذا نزعت من تربتها، لذلك تركنا في التربة نفسها نكابد ونستوي علي نار هادئة،عندما اتذكر طفولتي الان اتعجب كيف لهذا الرجل الذي لم يثر يوما حتي علي زوجته في بيته ان يتعلق قلبه هذا التعلق بالثورة والتغيير ؟ من أين اتي بحلمه الخاص بي؟لماذا قذف بي في لجة صاخبة لم يقترب من ضفتها في حياته يوما؟
كنت حين لا اجد اجابة لأسئلتي تلك يلمع في ذهني احتمال ان يكون لوالدي حياة سرية اخري، تخيلته كادرا سريا في حركة يسارية غامضة يلعب دورا خطيرا متخفيا في شخصيته المعلنة،لكن احلامي تلك تبخرت تماما ولم اجد خيطا واحدا يقود أبي الي مطابقة احلامي ،اعود الي أمي، منذ كنت طفلا كانت هي الوحيدة التي دافعت عن حقي في طفولة عادية، كانت تنتهرني وتحرضني علي اللعب مع أقراني وعدم التعالي عليهم كما كنت أفعل، كانت تتجادل مع أبي كثيرا وسمعتها غاضبة أكثر من مرة وهي تصيح فيه طالبة منه ان يترك الولد (انا) ليعيش حياة من هم في سنه،وحين عدت من احتفال استقبال الرئيس القائد مزهوا بما فعلت لم تكن سعيدة كما توقعت، كانت غاضبة، وسمعتها مساء تتجادل مع ابي بحدة وتقول له(الرشيد خاف الله في ولدك، خلي الولد لي قرايتو ولعبو ، سوي الدايرو بي ايدك ما تعمل الولد لافتة.....) كنت مندهشا من ثورتها، كيف لاتفرح بما حققته من نجاح؟ كيف تريد لي البقاء في عالم الصغار وقد خطوت خطوة مهمة في طريق شاق؟...كنت صغيرا لكنني كنت مدركا بشكل ما أنني موضع صراع بين منهجين يمثل كل واحد منهما ممثلا له، كانت أمي تريد لي حياة عادية مثل كل الأطفال في سني ، وكان أبي يحاول ادراك مافاته عبري، وكنت سعيدا بالعالم الذي بت فيه متميزا يعامله الناس كقادم من المريخ أينما حل،كنت غير مؤهل للمفاضلة بين المنهجين، ولكنني حين بلغت نقطة اللا عودة بعد ذلك بسنين طويلة وبت كائنا يبحث عن الانتماء لشئ ما ويجد نفسه خاويا من كل إحساس حقيقي بالإنتماء ، حينها فقط أدركت فداحة ما جري وأدركت كم كانت أمي بعيدة النظر،أنتميت صغيرا الي عالم الكبار ففقدت طفولتي وكبرت بلا ذاكرة طفل أعود اليها حين تدلهم الخطوب، ولاصديق طفولة أتقاسم معه ذكريات دافئة حين تجف حياتي،ولجت صغيرا حزبا كان يومها ملء السمع والبصر وبت فيه ملء السمع والبصر، ثم وجدته يضيق بي ووجدتني أضيق به،ثم كسرت الزجاجة وخرجت منها ماردا ضخما ينظر الي رفاق الأمس بتعال وصلف وشعور واضح بالتفوق، كنت مفتونا ومنجذبا الي حركة مسلحة متمردة قديمة جديدة ،كنت أشعر أنني القائد الذي اختارته الضرورة التاريخية لقيادتها، صرخت لن أكون اصلاحيا أو بورجوازيا صغيراً يبحث عن فتات الأحزاب التقليدية ويبشر بثورة مسالمة في زمن تنهال فيه اعقاب البنادق علي ظهورنا العارية في المعتقلات التي نساق اليها كالخراف، ليس ثمة فائدة في حمل الزهور والمناشير في وجه من يحمل بندقية وسيفا وسيخا، تعبت وسئمت نهجكم العقيم،قلتها لمن كانوا يوما اصنامي وقدوتي ومثلي الأعلي، اعطيتهم ظهري وولجت عالمي الجديد الذي تعرف ياحسن، احتجت انت خمسة عشر عاما أخري لتختار نفس الطريق، وهانحن في مفترق طرق جديد ياصديقي ....أمي كانت تعرف، لم تكن محتاجة أن تمر بالأهوال التي مررنا بها لتعرف ، كانت تعرف، آخر مرة قابلتها في عاصمة اجنبية قبل رحيلها بشهور قليلة بكت مثل الطفلة ، قلت لها: لم تبكين أماه؟ لم ترد ولم تنظر ناحيتي، انفجرت باكية أكثر،ثم أمسكتني من كتفي ونظرت في عيني وقالت بصوت متهدج باك( سالم ...خصمتك بالرسول كفاك يا ولدي....قدر ماغمضت عيني شفتك محنن بالدم ...الدم وراك...الدم قدامك،الدم شمالك والدم يمينك....واسجم خشمك يا سعاد ....واسجم خشمك ياسعاد....) ثم غابت في نوبة بكاء أكبر، كنت واجماً ومذهولا، وكان والدي صامتا لايدري ما يقول، نهضت أمي فجأة وغابت في غرفة صغيرة، اغلقت الباب ، لفنا صمت، كان صوت نشيجها يخترق طبلة أذني كأن الاف المدافع اطلقت ذخيرتها في وقت واحد.... في الصباح غادرت صامتة...لم تكلمني..حين اقتربت منها لأقول شيئاً لم تعطني الفرصة، أدارت ظهرها وتقدمت الي الأمام، توقف أبي قليلا، صافحني وهرول كي يلحق بها،حلقت طائرة وطواهما الغياب...كانت تلك المرة الأخيرة التي رأيتها فيها...رحلت أمي غاضبة علي وصامتة ومقهورة حتي آخر لحظة في حياتها. بت كلما نمت جاءتني في منامي غاضبة وصامتة لكن ثورتها أكبر،كانت تقول كل شئ بلا كلمات، كنت أصحو مفزوعا ،أتحسس رقبتي في فزع ثم أنظر الي اصابع يدي باحثا عن الدم فيها، فاجدها شاحبة لالون لهاولارد فيها عن سؤالي.

صلاح سر الختم علي
06-06-2013, 09:54 AM
73
قال سالم الرشيد ذات مساء : (ليتني كنت تمبل باي ادوك) قلت له بفضول من هو تمبل باي؟ أليس هو زعيما افريقيا سابقا؟ ابتسم سالم وقال بصوت خافت ( لا ...ليس هو ذلك الزعيم، لكنه زعيم من نوع آخر،تمبل باي ادوك كان من عجائب الدنيا غير المكتشفة بعد، عجوزا جنوبيا تجاوز الثمانين بقليل لكنك حين تراه مهرولا في نشاط ومنحنيا ينظف في أرضه للزراعة تظنه علي ابواب الخمسين، كان يعيش في اجمل بقعة رأيتها في حياتي، بقعة تجمع بين كونها سفحا لجبل وجزءا من الغابة، مكانا ساحرا يعج بالتماسيح الضخمة مثل كتلة جبلية ويعج في الوقت نفسه بالأصلات الخطيرات وليس ثمة أثر لأي نوع من الحياة المدنية الحديثة، لامدارس لا شفخانةولاطرق ممهدة ولاكهرباء، فقط أكواخ صغيرة متناثرة في اعلي الجبل وعند سفحه،وأبقار قليلة وبعض الأغنام الجبلية الرشيقة مثل الغزلان.كان تمبل باي شاهدا علي احداث كثيرة مرت بالمكان،مرت بكوخه جيوش الانانيا الحافية الجائعة، توقفوا عنده، استحموا في النهر قبالة كوخه، أكلوا سمكا صاده وقام بشيه علي النار، قدم لهم لبنا وتبغا، ثم اختفي في الجبل، وحين رحلوا عاد الي كوخه، امضي وقته في اخفاء آثارهم لأن المكان علمه ان كل صياد تسبقه فريسة وكل فريسة يعقبها صياد وانه لو لم يلتزم جانب الحذر سيمسي الفريسة وقد كاد ان يمسي الفريسة حين طوقه جند الحكومة بعد ايام ثلاثة من رحيل افراد الانانيا عند ضفة النهر، كان منظره مضحكا وهو راكع علي ركبتيه ويديه فوق رأسه والجنود ملتفون حوله مشهرة بنادقهم وأصابعهم علي الزناد، سحب أحدهم أبرة الأمان وهم بافراغ خزنته في صدره حين هتف صوت عرف فيه تمبل باي صوت لوكا جون ( لاتطلقوا النار، انه تمبل باي .....) كان يتحدث بعربي جوبا بسرعة شديدة فهم منها تمبل باي ان لوكا يشرح لمن معه انه شخص صديق .... خفضوا بنادقهم ، ابتسموا ، ثم سمحوا له بالنهوض و صافحوه بحرارة برغم التعب البادي في ملامحهم ونظرات عدم الثقة في عيون بعضهم، لكنه نجا من الذبح علي يد المندكورو يومها كما يقول كلما حكي قصته، من ثم تحول في لحظة الي خادم مطيع لهم، صاد سمكا واسكت جوعهم به وشربوا حليب ابقاره المخبؤة في الجبل، وجدوا عنده بعض ثمار المانجو اللذيذة، ذاب توترهم، باتوا وديدين ولطفاء كأنهم أصدقاء قدماء، كان لوكا صامتا،حدجه تمبل باي بنظرات طويلة فهمها الصبي الذي خرج من ديار أهله القريبة قبل عدة سنوات بعد معركة شرسة دارت بين قوات التمرد والجيش الشمالي صبيا عند اعتاب البلوغ، وهاهو الصبي يعود رجلا يحمل سلاحا ويقاتل في صفوف جيش الشمال، تبادلا النظرات والاسئلة والأجوبة دون ان يتبادلا أي حديث،كانا يعرفان ان أي حديث باللهجة المحلية مع بعضهما قد يقودهما الي الموت فجسور الثقة مفقودة ولن تتوفر لصالح لوكا ولو كان مقاتلا في صفوف نفس الجيش، اللجوء الي الرطانة يعني تبادل الأسرار والأفكار وقد يعني ان ثمة شئ يحاك ضد رفاق لوكا الجدد، لذلك فضل الرجلان الصمت لغة.قضي لوكا ورفاقه أياماً ثم رحلوا، ووانتشرت سيرة تمبل باي صاحب الراية البيضاء بين جيشين زاحفين مثل الكوبرا لاوطن لهما سوي الأحراش،كانت منطقة تمبل باي ادوك منطقة محايدة لايتقاتل فيها المحاربون ولايحرقون ولايطلقون النار، بل يخفضوا البنادق ويسلموا وينزلوا النهر مطمئنين فتمبل باي صديق التماسيح يعرف اماكنها وتعرف ضيوفه فلا تغدر بهم،كانت قصص تمبل باي الطريفة وحكاياته العجيبة تنتشر بين الجنود مثل لفافات السجائر والبنقو،كانت النقط المنتشرة علي جبهة تمبل باي من الأذن الي الأذن والتي تمثل وشما قبليا مميزا لقبيلته تزيد قصصه غموضا وسحراً،كان طويلا فارعا مثل شجرة، كان يقول واسنانه البيضاء تلمع في الظلام( كان أبي يقول ان جدي بقرة بيضاء تدعي ديانج أدوك وان جدتي هي الاخري بقرة بيضاء جميلة وان الآله جوك هو الذي خلقها واخرجها من جوف النيل في ليلة مظلمة فاضاءت المكان كله من النهر الي الجبل وهرعت الحيوانات كلها خائفة ومذعورة لتري ذلك الوهج الذي خرج من جوف النيل فوجدوا الجدة ديانج ادوك بعيونها الجميلة الواسعة وجلدها الناعم وأسنانها البيضاء كالحليب تتأمل المكان في هدوء وثقة،فحبست الحيوانات أنفاسها ووقفت في مسكنة، حتي الأسد ملك الغابة جلس ساكنا مثل جرو صغير وأكتفي بهز ذيله في مسكنة،لم يكن بالغابة أي آدمي، فانجبت ديانج ادوك طفلا آدميا أسودا جميلا له أسنانها البيضاء وعيونها الواسعة وطول أشجار الغابة، صنعت له مهدا من الأغصان الخضراء والحبال، ألقمته ضرعها الكبير فشرب من حليبها حتي أرتوي وأستوي قويا ماشيا بجوارها من مكان الي مكان،كان كولو هو أول من عمدته الجدة بهذا الوشم الذي ترونه هنا علي جبهتي ،كان كولو يعيش في هذا المكان نفسه قرب النهر، كان شجاعا ولايخاف شيئا من حيوانات الغابة أو النهر، بل كانت الحيوانات جميعها تخشاه وتتذكر قصة جدته التي خرجت من جوف النهر ليلا فأحالت الليل نهارا، كانت التماسيح تخشي المكان الذي يرتاده كولو وتخشي حرابه المدببة وتتجنبه دائما، كان كثير التردد علي النهر وسباحا بالفطرة، لاحظ كولو في أكثر من مرة ان هناك حوريتان جميلتان تخرجا سويا من النهر لتلعبا في المياه الضحلة عند طرف النهر،كان شعرهما طويلا وفاحم السواد وناعما كالحرير،كانت عيونهما واسعة جميلة ووجهيهما دقيقا التقاطيع يشكلا آية من آيات الجمال، لكن النصف الأسفل لكل واحدة منهما يماثل جسم تمساح . كانت الحوريتان تلهوان لهواً برئيا في بادئ الأمرولم تكونا تعرفان بوجود من يراقبهما، لكنهن بمرور الوقت لاحظن ان كولو يراقبهما من مكمنه القريب، خافتا في البدء ثم بتن يتعمدن الإكثار من الرقص والمرح ليخطفن قلب الشجاع كولو،فتعلق قلبه بهن وقرر أمرا، وخطط بدهاء حتي تمكن من اختطاف الحوريتين وحملهن الي بيته، تعالي صراخهن، فخرج أبوهن من النهر غاضبا وهو يتصنت الي الصراخ ويتتبعه حتي بلغ بيت كولو، كان شكله نصفه آدمي ونصفه تمساح، تملك الرعب والحوف كولو، ثم استجمع اطراف شجاعته وسأله ( من انت ؟ ماذا تريد؟) فقال له الرجل العجيب( انا والد البنتين اللتين خطفتهما من النهر وأريد ان اعرف لماذا فعلت ذلك؟) فرد كولوعليه في حزم( أريد ان اتزوجهما....) ابتسم الرجل العجيب وقال له( كل زواج له مهره، وستدفع مهرا غاليا.... سنري) ثم اختفي الرجل كنسمة هواء عابرة. تزوج كولو الحوريتين وانجب من كل واحدة منهن وحين مات اختلف الأولاد وتحاربوا حول الميراث فيئس نيكانجوا الذي نصفه تمساح ونصفه آدمي وحمل اخوته وذهب وكون مملكة مستقلة في مصب نهر السوباط واستخدم قدراته السحرية لتحويل الحيوانات الي آدميين لزيادة عدد افراد قبيلته ومملكته وخلق لنفسه قبيلة كبيرة من التماسيح وافراس البحر والأبقار والحيوانات المفترسة وهكذا اصبح لكولو اسرتان أسرة أصلها الحيوانات وأخري أصلها الآدميين.
كان الجنود المرعوبين يصيحون عند هذا الجزء من القصة( ياتمبل باي ادوك ، قول لينا عديل انت تمساح ولا زول؟) ثم ينفجروا ضاحكين.. تمبل باي لم يكن يضحك معهم، كان يصمت طويلا،ثم يقول لهم ( لافائدة.....الاولاد لازالوا يتحاربون في غباء حول ميراث لاوجود له...الحقيقة ان كولو لم يترك شيئا غيرهم، لكنهم لايفهمون....)
وحين عاد اليه لوكا جون بعد عدة سنوات وزيرا في الحكومة له كرش مترهل وعصا انيقة من الأبنوس ، نظر اليه نظرة طويلة، ثم أشعل نارا وقدم له السمك الذي سأل عنه،ثم جلس صامتا، أخرج لوكا حزمة من النقود وقدمها له، نظر تمبل باي اليها وقال بلطف( هنا لاحاجة لي باي نوع من النقود يا لوكا....النقود هنا لاتجلب سمكة من النهر...اعرف الصيد ...ذلك يكفي....) بدا لوكا محرجا، ابتسم تمبل باي في وجهه وودعه بمحبة، بعد سنوات قليلة عاد لوكا بزي عسكري قائدا لفصيل جديد ينادي بسودان جديد، وكنت معه، كان طول الطريق يحكي لي عن تمبل باي آدوك الأسطورة الجنوبية الخالدة عند ناصية من نهر السوباط.كان ذلك لقائي الأول بتمبل باي لكنه لم يكن الأخير.

صلاح سر الختم علي
06-06-2013, 11:36 PM
74
كان تمبل باي ادوك حاذقا في صناعة الحراب والخناجر الصغيرة وأدوات الصيد من حجر الجبل، وكان يصنع حيوانات الغابة من الخشب وهو يحكي قصصا كثيرة لانهاية لها ولابداية، كنت استمع اليه باهتمام كبير وحرص باد وهو يقول:
(نيكانجوا اكوار جدي الكبير كان رجلا ماكرا مثل تمساح ينام وعيونه مفتوحة ولايعلن ما بدخيلته، كان همه الكبير ان يزداد عدد محاربيه الاشداء وان تتسع مملكته كل يوم، وكان جدي يقول ان نيكانجوا حكم حتي بات قريبا من الخرطوم نفسها ولو امتد به العمر قليلا كانت الخرطوم اصبحت تابعة له.، كان تمبل باي ادوك يصمت هنا ويدق علي صدره قائلا ( الخرطوم هي كاد اتوم وكاد اتوم برطانتنا هي مكان التقاء النهر لكن مندكورو يقول ان الخرطوم هي خرطوم الفيل ، الفيل دا ما ياهو نحن ذاتو وهو خرطوم فيهو فيل؟)ثم يواصل حكاياته قائلا :جاء زمان جاء فيه حكام الخرطوم الي هنا بجيشهم وحرابهم فقتلوا من قتلوا واسروا من أسروا وفرضوا صلواتهم علينا واخذوا شبابنا عبيدا مقيدين بالسلاسل،جدي كواجكون كواضكير لم يقبل بذلك ولم يحتمله فهرب الي جبال النوبة لكن انصار المهدي لاحقوه هناك وقتلوه. يور اكوج اصبح الملك بعده وكان يور اكوج صيادا يعرف اهمية الصبر فصبر كثيرا فالحرب صبر طويل كما يقول الاجداد ثم قاتلهم قتالا طويلا فتحالفوا مع الجيران عليه وقتلوه وعينوا واحدا منا بعد ان صار واحدامنهم، تماما كما فعل لوكا جون لاحقا، هي لعبة قديمة يا مندكورو ( هكذا قالها تمبل باي ضاحكا في وجهي.) اذهلتني ثقافة الرجل الأمي العالية،فيور اكوج مات فعلا علي يد جيش الزاكي طمل المدعوم بالنوير وخلفه فعلا كور نيضوك الذي غير اسمه بعد اسلامه الي كور عبد الفضيل.ولاحقا ادرك النوير انهم سيكونوا الضحية التالية للمهدية فعادوا واتحدوا مع ابناء جلدتهم ومنطقتهم ضد المهدية.كان من غرائب العالم ان المهدية ثارت علي الظلم ولكنها مارست ظلما أشد بشاعة علي بعض بني جلدتها.تذكرت فجأة تلك المقولة الشهيرة المرتبطة بالثورة الفرنسية(ايتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك!!) وتساءلت تري هل ينتهي كل شئ في هذه الحياة الي ضده؟! الحياة الي الموت، الحرية الي القهر، الثورة علي الظلم الي الظلم،الشمس الي الظلام...... هالتني الفكرة، فلذت بالصمت وأخذت أرقب العجوز تمبل باي وهو يصنع غزالة من الخشب الأسود ويكاد من فرط اتقانه لها ينفخ فيها روحا فتركض في الغابة.نظر الي تمبل باي نظرة ذات معني وقال فجأة( مندكورو هل تعرف ان تيوك ابن الرث يور اكوج انتظر قرابة السبعة اعوام لينتقم لابيه،تيوك انتظر حتي جاء الفرنسيون الي فشودة وعندما علم ان الانصار قادمون اليهم عبر النهر ذهب وحذرهم من بواخر الانصار...انتقم تيوك لابيه، وفاز الفرنسيون في الحرب وبقي الرث كور عبد الفضيل رثا...لم يتغير شئ بالنسبة لتيوك ...) كان يتحدث بلهجة فيها غموض وشعرت ان ثمة رسالة ما بين سطور حديثه، هل تراه يقول لي ( ليس هناك عرش ضائع ينتظرك في نهاية المطاف ياسالم، ليس سوي الموت والعار ، وسيبقي كل شئ كما هو، باستثناء تلطخ يديك بالدم، لاشئ سيتغير.....) نظرت اليه فوجدته يبتسم، فتحت فمي لأقول شيئا ولكنني آثرت الصمت. أما هو فكان يصفر ويغني بصوت خافت اغنية محلية معروفة تقول الجاك قوج طوم" أي، "الجاك، أعزف على العود" ..

صلاح سر الختم علي
07-06-2013, 11:20 PM
75
كان تمبل باي خبيرا باحوال التماسيح بشكل لايصدق ، كنت معه ذات مرة ، كان الظلام يغطي كل شئ، قال لي وهو يضحك( في مثل هذا الظلام لايستطيع التمساح ان يختفي أبدا)، كنا في ربوة عالية مطلة علي مستنقعات متآخمة للنهر، أخرج تمبل باي بطارية صغيرة من أسفل رأسه ونهض واستوي واقفا، وجه ضوء البطارية الصغيرة نحو المستنقعات القريبة وأحذ يحركها ببطء وانا ارقبه بتوجس، لمع شئ ما في بقعة بعيدة فتوقف عنده وهمس( ذلك جدي وتلك عيونه لمعت مثل البرق ، هو نائم في الغالب ) .ثم حكي لي قصصاً كثيرة وقعت له مع التماسيح في النهر وخارج النهر، توقعت ان يحكي بطولات خارقة، لكنه ضحك وقال لي انه عندما وجد التمساح فاتحاً فمه ذى الأنياب المائة متأهباً لإبتلاعه لم يفعل شيئا سوي انه اخذ يقوم بغرف الماء من النهر وصبه داخل فم التمساح المفتوح، اغلق التمساح فمه ثم هرب وهرول تمبل باي خارجاً من النهر،كانت تلك حيلة من حيل الأجداد تعلمها تمبل باي منهم وتقول الحيلة انه لاشئ يردع التمساح المتأهب لإفتراس فريسته سوي صب الماء في فمه، الماءيغلق فمه ويجبره علي الغوص في الماء وإفلات الفريسة، هكذا قال جدي نكانجوا لي عندما كنت صبياً صغيراً،قال تمبل باي عندما سألته كيف عرف ان الماء يردع التمساح، لم اندهش بعد ذلك بسنوات عديدة عندما قابلت عالماً متخصصاً في شؤون التماسيح ورويت له ماقاله تمبل باي فأكد لي ان تلك معلومة علمية صائبة تماماً، تذكرت كيف رقص تمبل باي رقصة محلية وهو يضحك ويقول لي ان جده التمساح كان يريد أن يأكله ثم يبكيه كما يفعل بعد كل انسان يفترسه، قال تمبل باي ( التمساح يقتلك ثم يبكي عليك، منه تعلم بعض البشر فعل نفس الشئ....أعرف كثيرا من جنرالات الحرب الذين فعلوا ذلك...التمساح يردعه الماء لكن هولاء لايردعهم إلا الموت يامندكورو.......) كان يقول ذلك بلهجته الخاصة وعيونه تتفحصني بطريقته البرئية المرعبة تلك فشعرت بقشعريرة تنتابني ولم أشك لحظة في وجود رسالة كامنة في كلماته تلك، كنت اعرف انني لست تمساحاً وانني في نظره جنرال تجبره اشياء كثيرة علي التعايش معه كما يتعايش مع التماسيح التي ينتمي إليها حسب اساطيره الكثيرة،انتابني غضب ما لبشاعة تصوره عني ، لكنني هدأت تدريجياً،قلت لنفسي ربما كان محقاً، في الحرب يفعل الانسان اشياء كثيرة تبدو له صائبة وضرورية لسلامته ولكنه لايراها أبداً بعيون الآخرين، يا آلهي، نظرت الي تمبل باي مجدداً، وجدته قدعاد فركز بطاريته الصغيرة علي تلك العيون البعيدة التي تلمع في الظلام بمجرد مرور الضوء فوقها، قلت لنفسي لو كنت صياداً كنت اصطدت عشرات التماسيح بهذه البطارية وبندقية عتيقة واحدة.....نظر تمبل باي نحوي بسخرية كأنه قرأ ما يجول برأسي ، أخذ يصفر بشفتيه ويغني اغنية غامضة باللهجة المحلية كأنني لست موجودا، هل تراه يقول لي ذلك بطريقة ما؟ هل يقول لي ( انت لاشئ يامندكورو.....لاشئ ولو وضعت علي أكتافك كل نجوم العسكرية وصقورها ومقصاتها....أنت مثل شعاع البطارية الصغيرة هذه.....لاتفعل شيئا لجدي النائم وعيونه مفتوحة....لن تملك الشجاعة حتي للإلتفات للنهر لتغرف ماء ..... أنت لاشئ......) كان لوكا نائماً وصوت شخيره يعلو فيبدد السكون وانا أعض علي شفتي وأقول في سري ليتك كنت صاحيا يالوكا لتترجم لي أغنية هذا العجوز الماكر الذي أعرف انه لايحبني أبداً مهما تظاهر بغير ذلك وانني في نظره دخيل علي المكان مهما فعلت ولو سلخت جلدي واستبدلته بجلد تمساح....ليتك كنت يقظاً يا لوكا، لكنك نائم كطفل في هذا المكان المرعب الجميل وأنا وحدي مع تمبل باي ادوك وحكاياته المرعبة المليئة بالالغاز الكامنة فيها.في الصباح نهض لوكا نشطاً مرحاً ، كان تمبل باي عند النهر يصطاد وجبتنا الصباحية من الأسماك وهو يصفر كعادته بذلك اللحن المحلي الذي يدعو الي العزف علي العود ، وحين انتهي من مهمة الصيد وقام بعملية الشواء علي الهواء الطلق وانهمكنا في تناول وجبتنا الشهية، كان هو منصرفاً بكل حواسه في صناعة فيل صغير من الأبنوس الأسود وهو يبتسم كأنه يذكرني بحكايته عن أصل الخرطوم .

صلاح سر الختم علي
11-06-2013, 10:11 PM
76
تحادثنا طويلا انا وتمبل باي، كان حوارنا يتم عبر خليط من اللغات، تحدثنا بانجليزية طليقة يجيدها تمبل باي مثل أهلها حينا، وتحدثنا بلغة عربية سليمة حينا، وبلغة عربية تسمي عربي جوبا حينا آخرا، كان بارعا في اختيار الوقت المناسب للتنقل من لغة الي اخري بحسب الحال والمناسبة التي نتحدث عنها، ومن خلال الأحاديث الكثيرة تأكدت تماما ان تمبل باي لايحبني وأنه يرسل الي في كل فرصة تلوح امامه رسالة خفية ساخرة حين سألني فجأة بدون مناسبة( هل تعرف العم يا مندوكورو؟ انكل ، لا أحد هنا لايعرف قصته.....)،انتفضت في مكاني وانا احاول عبثا اخفاء مشاعري، فقد عرفت العم جون واعرف حكايته من الألف الي الياء، بل جلست معه واستمعت اليه كثيرا، لكنني كنت متشوقا لمعرفة ما يمكن ان يعرفه هذا العجوز الداهية عن ذلك الرجل المسكون بالأسرار ، صفر تمبل باي بشفتيه طويلا،وانحني علي اخشابه وغابت يداه في عمل يشابه الصلاة في الاستغراق فيه والتركيز الشديد، كان يصنع شيئا جديدا لم تستبن ملامحه بعد، لكن المؤكد انه حيوان ما، جاء صوته يتراقص كشمعة في كهف مظلم(انكل جون كان من أوائل من لعبوا لعبة الحرب مع مندكورو ،كان ضابطا صغيراينتظره مستقبل كبير في جيش الشمال، لكنه كان متعلقا بفكرة واحدة ، الجنوب جنوب والشمال شمال، هكذا كان يقول دائما منذ ان كنا صغارا،كنا نذهب الي المدرسة ونعود سويا ،ناداني جدي نكانجوا وقال لي كفاك يا تمبل باي نحتاجك هنا ،و ذهب حون الي كاد اتوم ودخل الكلية الحربية وخرج منها ضابطا ، قال الجميع انه ابتلع كلامه مثل كثيرين ذهبوا هناك وعادوا اشخاصا مختلفين، وبعضهم لم يعد ابدا...لكنه عاد ذات يوم ، عاد وحمل انجلينا والبنات وابوه وذهب الي كمبالا، وفي نفس الاسبوع كان راديو حركة الجنوب يقول ان قائدا كبيرا انضم اليه وترك جيش الحكومة، انكل جون كان يعرف مايريد،هل تعرف ما تريد يا مندكورو؟!) لم ينتظر اجابة مني، كان منهمكا الآن في وضع اللمسات الأخيرة علي تحفته الجديدة، كانت تمساحا بظهره المميز وشكله الانسيابي،كان ممسكا به بحرص كأنه يخشي ان ينزلق من بين يديه وييمم صوب النهر فيغيب في جوفه،سمعت صوته كأنه خارج من مغارة يخاطبني( هل تعرف يامندكورو ان انكل جون هو من سمي جيشه الانيانا؟! انيانيا تعني السم ...سم قوي.... يوم يومين بقت انانيا في كل مكان في كل شجرة.....كان انكل جون يقول:في ايدنا مافي حاجة...ايوة...لكن في دا.....في سم......وفي دا....في انانيا في كل شجرة...بكرة ايدينا بتتملي وبطنا بتملي.....) بدا صوته متحمسا وعاليا في المقاطع الاخيرة وازدادت نظرته غموضا.قلت له بلا تردد( تمبل باي ادوك كان في انانيا؟ تمبل باي كان في غابة؟ كان مع انكل جون؟) ابتسم تمبل باي واستدار واعطاني ظهره وهو يقول( تمبل باي من مكان دا ما بفوت يا مندكورو، تمبل باي شجرة كبير ما بنقلع...تمبل باي بموتو هنا بس... تمبل باي تمساح بتا ع برة يا مندكورو، تمساح مابمشي بعيدمن موية.........) ثم اخذ يغني بلهجته المحلية الغامضة اغنية ما... بدا لي الرجل مجنونا أو مسكونا بارواح شريرة، نظرت حولي، داهمني خوف مفاجئ ( ماذا لو كان الرجل التمساح ينتمي لقبيلة من آكلي لحوم البشر؟ ماذا لو كانت هذه الاغنية طقسا من طقوس التهام الضحية؟) تحسست مسدسي في وسطي، شعرت بالطمأنينة نوعا ما، نظرت الي لوكا النائم في وداعة ، سخرت من هواجسي ، نظرت نحو تمبل باي وجدته قد تسلق شجرة قريبة واستلقي بظهره علي جذع فرعها الضخم، بدا لي تمساحا نائما وعيونه مفتوحة.... لم انم حتي الصباح.

صلاح سر الختم علي
13-06-2013, 09:20 AM
77
في الصباح قلت للوكا في أول فرصة سنحت لي للانفراد به ان تمبل باي غريب الأطوار وأنني اشعر بالخطر من ناحيته، قلت له بوضوح( هذا الرجل لايحبني ولايجتهد لإخفاء ذلك...هل تعرفه بما يكفي لتثق به يا لوكا؟) ابتسم لوكا كاشفا عن أسنان بديعة بيضاء وقال لي ضاحكا( لاتنزعج فيما يتعلق بتمبل باي العجوز، انه يتحدث كثيرا، يتعمد الغموض دائما، لكنه لايؤذي ذبابة، صدقني ياسالم، كل مافي الأمر انه لايحب من يزعجون غابته وحيواناته، تمبل باي يكره الحرب ، لهذه الكراهية قصة طويلة....... سأحكيها لك يوما) لكنه كعادته لم يحكيها لي، تركني في منتصف الطريق بين فضولي وغموض العجوز تمبل باي ومضي وانشغل عني بتنظيف سلاحه وهو يدندن في خفوت بنشيد كنا نغنيه سويا حين نكون في حالة سأم وترقب لفترة طويلة في كمين متحرك والقلق مستبد بنا من كمين مضاد، كنا نغنيه بصوت خافت ونتمايل معه كلما تقدمنا في الغناء، كان نشيدا عديم المعني ظاهريا، فكلماته تبدو لارابط بينها سوي الإيقاع المتصاعد رويدا رويدا، لكنه كان ذو مفعول ساحر في بث النشاط والحماس وتبديد القلق وسط الجنود .سألت رفيقا قديما عن معني النشيد ومصدره، قال لي انه في الأصل نشيد يغنيه صيادو الشلك حين يكونوا في رحلة صيد أو حرب بلهجتهم المحلية وحين دخل الجميع الغابة وجد النشيد طريقه الي الجميع مترجما الي عربي جوبا لكنه يحمل ذات الايقاع واللحن الحماسي المتصاعد.
ذهبت صوب المستنقعات في حذر وسلاحي في يدي، سمعت صفيرا اعرفه، استدرت فوجدت تمبل باي منهمكا في همة في نحت خشب الابنوس، كنت اتساءل لمن يصنع هذا العجوز هذه التماثيل الصغيرة الكثيرة بهذه الهمة وهذا الحماس وهو لايغادر هذه البقعة التي لاتزورها الشمس شهورا عديدة في الخريف ولاتبلغها سيارة ولايرتادها الا المقاتلون
الذين لايحملون سوي الأسلحة؟ جلست قبالته أرقب حركته الماهرة علي الخشب وهو مستغرق في عمله ،لكنه شعر بوجودي من الوهلة الأولي وبان ذلك في ارتباك يسير في حركة اياديه ، وبان أكثر حين زم شفتيه واندمج في عمله أكثر متجاهلا وجودي كما يفعل المرء مع ذبابة ملحاحة لم تفلح محاولاته كلها لطردها من المكان،غاظني تجاهله لي فقد اعتدت حيثما حللت ان يستقبلني الناس بحفاوة واهتمام ويتملقونني ويتحينون الفرص للحوار معي وتحيتي،قلت له دون ان استطع كبح جماح نفسي( لمن تصنع كل هذه التماثيل يا تمبل باي؟! هنا لاتحتاج نقودا لصيد الاسماك ولاتأخذ نقودا مقابل تقديمها، من يشتري تماثيلك؟ هل ترسلها الي جوبا أم كاد اتوم؟)
تجاهل تمبل باي السؤال برهة، ثم قال(جدي نكانجوا عندما علمني كيف افعل هذا يامندكورو نظر في عيني طويلا وقال لي: تمبل باي ، ايها التمساح الصغير،بيديك هاتين فقط انت تستطيع ان تجعل اسم جدك باقيا هنا، هل تعرف كيف؟ الناس ياتمبل باي يصنعوا من خشب الغابة وحجر الجبال السلاح....السلاح الذي يحرق الشجر، يقتل جدك التمساح،يقتلهم هم،الناس مثل صبيان القبائل يحبون الحرب ياتمبل باي، يظنون الحرب هي الحياة ولايعرفون ان كجور الموت يبتسم كلما صنعوا سلاحا ورقصوا رقصة حرب لعينة،نكانجوا عندما كان صغيرا كانت الغابة مثل المدن الخاوية الآن قبل الحرب، مزدحمة بالناس والحيوانات ، الآن الصغار لن يستطيعوا رؤية الحيوانات التي رآها نكانجوا الا عبر صناعة يديك هاتين،زرافة في غابة مافي، فيل في غابة مافي، أسد ملك غابة مافي، بكرة جدك التمساح بكون مافي.....انتا بس تمبل باي تقدر تخلي غابة دا في، غابة من خشب أحسن من غابة مافي.....فهمت كلام بتايي انا ياتمبل باي؟ فهمت كلام بتااا نكانجوا مندكورو؟ قروش ما كل حاجة يامندكورو، قروش دا وسخ ساكت هنا.......... ناس ببيع غابة بتاعي انا في كاد اتوم ديل هم دايرين قروش....تمبل باي بدورو غابة بس...غابة في تمبل باي في يامندكورو)
نظرت الي الخرقة التي تغطي وسطه، الي عظامه النحيلة،وتلك التميمة من العاج حول عنقه، ثم نظرت الي حيواناته الجميلة المصنوعة من الخشب، بدت لي كأنها تهم بالتحرك ، بدا لي صوت تنفسها مسموعا، قلت لنفسي( هذا الرجل ليس مجنونا، هذا الرجل ليس رجلا عاديا، وليس تمساحا، هذا الرجل غابة كثيفة لامجال لمن يدخلها لكي يخرج منها سالما يا سالم.....) كان هو ينظر الي متأملا في صمت ثم قال(انكل جون كان يحب الغابة بطريقته، جعل منها وقودا لحربه المقدسة ،قال لي جون يوما بجنون( الغابة أنشوطتي) قلت له(جون كلام دا كبير،كبير كتير جون) ثم لاذ تمبل باي بالصمت من جديد....لم افهم شيئاً وربما كنت غير راغب في فهمه لانني يوما قلت ان الغابة صديقتنا وكنت اقصد ماقاله انكل جون بالضبط..لذت بالصمت وواصل تمبل باي عمله وشعوري بان هذا الرجل يخترقني ويعرف كل شئ عني يتزايد، اكتملت اللوحة في يده، كانت تجسد ذئبا رافعا رأسه في تحد وعيونه متلامعة كبرق في ليلة ماطرة... هل تراه كان يفكر في انكل جون وهو يرسم أم انها محض صدفة؟

صلاح سر الختم علي
15-06-2013, 12:01 AM
78
كنت مندهشا من هذا الرجل المسكون بالأسرار كحزنة عتيقة، هذا الرجل الذي يخرج علينا كل يوم بسر صغير جديد، كنت قد سمعت عنه من كثير ممن عرفتهم،لكن ماعرفته فاق ماسمعته، وزاد فضولي أكثر مما اشبعه، بت انقب في حياته بشغف شديد، فلاأجد شيئا كثيرا،صيحات اعجاب ودهشة، وحين ابحث عن الأسباب،أجد لاشئ ينتظرني سوي تمتمة البعض، ووعد بحكايات لاتحكي عند البعض، حتي عندما قابلت ذلك الرجل السبعيني الأسطوري مرة وحاولت استنطاقه بشأن تمبل باي ، لمعت عيناه اللتين تشبها عيني ذئب بمكر وصرخ(تمبل باي ...حارس العابة....ياله من رجل.....اذا عرفت تمبل باي فقد عرفت كل شئ ياكومراد.....) ثم ابتسم ابتسامة عريضة وهو ينتصب واقفا بطوله الفارع وسمته الأنيق الذي لم تغيره السنين، منذ ان كان استاذا للغة الانجليزية بالمدارس، عبورا بعضويته في البرلمان، مرورا بتأسيسه مع رفاقه الاب ساترينو واونكل جون ووليم دينق حركة الانانيا وحزب سانو ودخوله الغابة ،كان شخصا صارما ودافئا ومختلفا عمن عرفتهم حتي في نهاياته، فقد بدأ حياته متمردا علي الشمال ثم مات علي ايدي بعض تلاميذه متمردا علي القوة الجنوبية التي حكمت الجنوب كما اراد يوما ما في مطلع الستينات حين كانت قبضة الشمال قوية، تساءلت مرارا بعد ذلك هل كانت الأنشوطة التي عناها اونكل بحديثه مع تمبل باي هي انشوطته هو لا انشوطة الاعداء؟! أم ان السحر انقلب علي الساحر؟! هل تراك كنت محقا ياتمبل باي حين ادركت ان اونكل جون سيقاتل حتي النهاية ويموت غاضبا كما بدأ غاضبا؟! تري هل كنت تحبه كما يحبك ياتمبل باي؟!هل تري تقاسمتما الأدوار ، يلعب هو لعبة الموت وتلعب أنت لعبة الحياة؟! فقد سمعته مرة من المرات النادرة التي تحدث فيها عن نفسه حين كان معتقلا في كوكادام يقول( لعبة الحياة تفضي دوما الي الموت والموت دوما يفضي الي حياة جديدة وليس الي العدم كما يظن البعض....) ثم نطقها بالانجليزية ببطء كأنه يستوثق من المعاني.
بعد مرور وقت قصير في اقامتنا مع تمبل باي تكشفت لي جوانب خفية أخري مهمة،كل من يأتي الي هنا كان يظن تمبل باي وحيدا هنا، فلا أثر واضح للحياة هنا غيره والطبيعة، لكن اقامتنا القصيرة كشفت لنا وجود قرية صغيرة مخفية بواسطة الطبيعة خلف التلال وداخل الغابة المتشابكة، كانت قرية تمبل باي، واختار هو ان يكون طليعتها وعينها الثاقبة ، كان تمبل باي يغيب ساعات من النهار ومن الليل ولانجد له أثرا، ثم يعود في خفة قرد يتنقل عبر الاشجار ولايترك أثرا في الأرض، كانت تلك وسيلته لاخفاء آثاره علي الأرض واخفاء الطريق الي أهله،لكننا اكتشفنا سره الصغير، ووقفنا ذات نهار انا ولوكا خلف تل صغير نرقب حركة آمنة ومطمئنة في قرية صغيرة تتكون من عدد من القطاطي وزرائب الأبقار علي بعد عدة كيلومترات داخل الغابة من موقع اقامة تمبل باي،كان اكتشافا مذهلا، لم نهنأ به كثيرا فقد طوقنا رجال أشداء من خلفنا وأمرونا بنبرات صارمة بالقاء سلاحنا أرضا، ففعلنا دون مقاومة من جانبنا، فاقتربوا بحذر واخذوا سلاحينا واقتادونا أمامهم الي داخل القرية.كان ثمة مكان يعج بالصبية الصغار وهم منهمكون في نحت الحيوانات علي خشب ابنوسي اسود وخشب اسمر، كان ثمة رجل يجلس مواجها لهم وظهره لنا، حين اقتربنا استدار الرجل وواجهنا، كان هو تمبل باي بلحمه وشحمه، مبتسما في هدوء وسخرية. أشار بيده الي الرجال، تركونا بلا حوار وانصرفوا، اشار علينا بالجلوس فجلسنا ، وواصل حصته البديعة في الهواء الطلق متنقلا بين الصبية الذين يرمقونه في فضول وإعجاب وهو يطوع الخشب كيفما شاء.....

صلاح سر الختم علي
15-06-2013, 03:24 AM
79
حين فرغ تمبل باي من حصته الفريدة ركض الصبية وتفرقوا علي عجل ، بات المكان خاويا وصامتا، نظر تمبل باي الينا، ثم نادي احد الرجال وتحدث معه بصوت خفيض باللهجة المحلية فغاب الرجل قليلا ثم عاد حاملا سلاحينا واعادهما الينا، نهض تمبل باي ونظر الينا وقال بحزم (سنعود بطريقتي انا، أرجوان تكونا قد تعلمتما تلك الطريقة بدلا من التسلل خلف الآخرين مثلما فعلتما...) وكما قال فعل، عدنا عبر تسلق الاشجار من شجرة الي شجرة حتي بلغنا منطقة المستنقعات حيث اقامتنا، توقف تمبل باي عند شجرة ابنوس ضخمة وقال ( هذه الشجرة هي الشجرة المباركة ، شجرة الغابة كلها، هنا في جذعها يعيش النمل الأبيض وبينهما معاهدة سلام فلا النمل يأكل جذعها ولاهي تعتدي علي النمل وفي جذعها تعيش الثعابين الخطيرة في مخابئ يبنيها النمل الأبيض، هنا تنتظر الثعابين فرائسها التي تأتي لتلقط ثمار الابنوس الساقطة علي الأرض،، حتي النحل يزورها ويقوم بتلقيحها،الشجرة دي تعيش مية سنة ميتين سنة، تظل واقفة، لاتسقطها الا فؤوس البشر ،من هذه الشجرة تأكل الظباء والببغاوات والقردة وحتي الفيلة والزراف والجاموس ووحيد القرن يأكلون أوراقها،حتي نحن نطحن ثمارها ونأكلها ونصنع منها اشياء كثيرة فهي قوية مثل جدي التمساح، لاتشيخ، ولاتستطيع السوسة ان تأكلها أبدا،هذه الشجرة هي ملكة الغابة الحقيقية.... هل تفهم هذا يامندكورو؟ هل تفهم لماذا يحملها المندكورو في عربات المجروس دائما؟ ليس من اجل النقود الحقيرة فقط يا مندكورو... لكن لانها محاربة، جدي نكانجوا قال لي (الابنوس حارب معنا في كل الحروب واقفا، كنا نداوي جراحنا به فهو يوقف النزيف بسرعة) ...)ثم لاذ تمبل باي بالصمت ، انحدر صوب النهر وهو يصفر بشفتيه ويغني بصوت خفيض حتي غاب عن البصر. نظرت الي لوكا ، وجدته واجما ومحرجا، كان غير موافق علي خطتي بتتبع تمبل باي في الأصل، لكنه وافق علي مضض لأن رتبتي العسكرية وموقعي يمليان عليه الموافقة، لذلك بدا بعد عودتنا كأنه يرسل الي لوما خفيا واحتجاجا علي الوضع المحرج الذي وضعته فيه مع صديقه العجوز. لم يكن لدي ما اقوله فاستدرت وذهبت في اتجاه آخر دون ان انبس ببنت شفة.شعرت اثناء سيري بان الغابة كلها بطيورها واشجارها وحيواناتها وزواحفها ونهرها واحياؤه المائية عائلة واحدة تنحدر من صلب رجل واحد تزوج من كل الإناث وانجب هذا الزخم الفريد، شعرت بانني الكلمة الشاذة هنا، وان هذا المكان يرفضني ولايري في الا محض حفيد شرير ينحدر من اجداد من آكلي لحوم الغاب، وانني مهما فعلت لايمكنني الانتقال من خانة العدو المتربص الي خانة الرفيق أبدا، ثمة حكم صدر هنا بالاجماع باعدامي والاقتصاص مني وربما يجري تنفيذه في الهواء الطلق الآن، الغابة كلها تقرع طبولها وتتهيأ لافتراسي فأين المفر؟ لاجبل يعصمني اليوم من الطوفان اذا الطوفان جاء..... حتي لوكا الذي حميت ظهره مرات عديدة في مواجهة بني جلدتي ليس مستعدا للتضحية بحياته لأجلي ولايملك التدخل في أمري، تلفت مذعورا وقد أستبد بي الفزع، صرخت بأعلي صوتي( لانجاة لي أماه، محاصر أنا ببحيرات من الدم من كل صوب وناحية، لامهرب لي ...ادركيني ياأماه........) يرتد الصدي بقوة( آه.....آه....آه).

صلاح سر الختم علي
18-06-2013, 06:09 AM
80

كنت أقرأ مخطوطة سالم الرشيد بانفاس لاهثة وصدري يعلو وينخفض ، شعرت بان الغرفة الصغيرة قد ضاقت بي، تصببت عرقا رغم اننا في قلب أمريكا في أواخر الشتاء، كان عالما مرعبا وجميلا وغامضا ذلك العالم الذي صورته الكلمات، كنت أقرأ فتختلط الجمل والكلمات التي أمام عيني بتلك التي سمعتها من سالم وسيجارته تحترق مثله كما قال مرة وهو يستعيد حياته ببطء ( سيجارتي تحترق ياحسن وانا احترق والوطن يحترق ، ولاشئ بقادر علي اضاءة ظلام العالم...) كان صدره مفتوحا، وعيونه تتلامع مثل عيني قطة في الظلام، كانت الشعيرات البيض التي تسللت وسط السواد في شعره تبدو مثل أنوار عربة بعيدة لمعت خلف تلال قرية في طريق الفاشر كلمندو في الايام الخوالي،في تلك الليلة شرب سالم كثيراً، وتحدث كثيرا، كان لدهشتي يزداد توهجا ووضوحا في قدرته علي التعبير عن ذاته كلما شرب أكثر، كان كل شئ يبدو غريبا وفي غير موضعه،ان نلتقي انا وسالم مطلقا ونتحاور كصديقين قديمين حتي الصباح بلا كلل ، وان يكون لقانا في مدينة لم يحلم واحدا منا بان يراها مطلقا، مدينة ناطحات السحاب والحدائق والشواطئ الكثيرة والمعمار المذهل،كانت نقلة أشعرتني شخصيا بالتفاهة والضآلة وعبثية حربنا المسماة حرب التحرير، كانت الحياة تتدفق هنا كنهر مندفع من المنبع نحو المصب فتيا وقويا وساحرا، وكان الموت هناك يغطي كل شئ مثل ظل عملاق حجب الشمس والهواء وحكم علي ماتحته بالظلمة والفناء،كانت نيويورك بفتنتها الطاغية وسحرها إمرأة عزيز أخري تنتصب بين يوسف آخر وما يؤمن به، تقضي علي كل سدود مقاومته ولاعاصم ليوسف الآخر من أمر الله،قلت لنفسي وانا اجول في المدينة مبهورا متقطع الانفاس( يا آلهي ماذا فعلنا نحن ببلادنا وماذا فعل هولاء.... ببلادهم!!! يا ويلاه......) قلت لسالم خاطرتي طازجة مثل رغيف من تلك الأرغفة الساخنة التي كنا نحظي بها حين نذهب مع مصطفي في الأيام الخوالي الي والده في ذلك الفرن الصغير في حي كوارث جائعين ومتعبين وفقراء وأيادينا لم تخض بعد مع الخائضين كما هو حالنا الآن،كنت مترددا وانا ابوح لسالم ببعض كوابيسي الكثيرة، كنت اتصور انه سيجدها فرصة ليحاضرني كما كان يفعل ايام الجامعة عن العنف المتأصل في الإسلاميين وعن ثورات قادمات ، لكنه لم يعد ذلك الرجل الذي كان يمزج خطابه السياسي باشعار تلهب الأكف تصفيقا وتسحر ألباب السامعين، خرج صوته مشروخا متعبا وحزينا فاكتشفت ان كل منا يبكي علي ليلاه، قال بصوت خفيض كأنه يهمس لنفسه(.تعرف ياحسن: عندما يكون الاعتراف بالخطأ متأخرا يمسي تبريرا قبيحا عديم المعني ، بل هو تماد في الخطأ. عرفت جنديا أنفق عمره كله وهو يحشو مدفعا بالذخيرة، فجأة اكتشف أنه يحشو المدفع الخطأ،بل أنه لم يملك مدفعا علي الإطلاق، كان يحارب بحماسة في الجانب الآخر دون أن يدري، حين انتهت الحرب، قيل له شكرا أيها الخائن ثم تلقي رصاصة رحمة في ظهره......) لاذ سالم بالصمت، وتملكني رعب مفاجئ، قلت لنفسي ( هل تراه ينعي نفسه مبكرا؟ هل تراه يتحدث عن نفسه؟!) ثم تملكني رعب أكبر حين خطرت لي فكرة أفظع: ( هل يقصدني سالم بما قال؟! هل يلمح لاشتراكي انا ومصطفي وخيري في حرب الجنوب ضد جماعته يوما ما؟! هل يشتمني بدم بارد؟! أم أنه يشير الي حربنا المشتركة الراهنة؟! هل أخطأت حين صارحته بشعوري بالذنب بشكل ما لمشاركتي؟! هل تراه يعرف أسرار اشتراكي فيها مكرها ومن باب الانظباط التنظيمي وتنفيذ مشيئة الأمير؟! هل يلمح الي معرفته بكل أسراري حتي التي أخفيتها عميقاً؟! أم انه يريد استغلال لحظات سخطي ويقوم باستقطابي؟!) كنت أقاسم سالم الغرفة ولكن عقلي تدور بداخله الآف الصور المرسومة عنه كرجل خطير ومشبوه وعميل لمخابرات عديدة ومعاد لكل ماهو إسلامي، كنت أشك حتي في صلاته التي اخفاها عني وعرفتها صدفة،(لم لاتكون صدفة مفتعلة؟)(ولم لاتكون حقيقة؟! لماذا تريد ان تجعل الرجل يتطابق مع التصورات المرسومة عنه وتجرده من كل ما يتعارض معها؟! من يدري ربما تكون التصورات هي المزيفة والمختلقة؟) كان كل شئ يتعلق بسالم يبدو حقيقيا ومزيفا في آن واحد بالنسبة لي، كان مستحيلا أن استطيع غسل ماعلق بخيالي ونفسي من تصورات بغطسة واحدة في البحر أو عدة غطسات ،وكانت المسافة المكانية القريبة بيني وبينه مشغولة بمسافات كبيرة وصحاري لاحدود لها من الشك والتصورات والظنون، هذا رجل من الصعب ان تثق به وبما يظهره لك، قلت لنفسي ذلك حتي اضع حدا لتلك الدوامة التي لاتنتهي من التصديق والتكذيب التي عصفت بطمأنينتي.
كان سالم غارقا في صمته، فجأة قال لي بصوت حالم( كان اسم نيويورك امستردام الجديدة حين أنشأها المستوطنون الهولنديون كمركز تجاري في العام 1624م،في العام 1664 خضعت المدينة للسيطرة الانكليزية، بعد قيام تشارلز الثاني ملك انجلترا بمنح الأرض لأخيه دوق يورك سميت المدينة نيو يورك. في كل مكان في العالم نجد أثر هذه الإمبراطورية اللعينة يطاردنا ونجد بصمتها ظاهرة. بصمة شريرة دائما.حتي نحن بما صرنا اليه جزء من بصمتها في العالم..) كان يترنح عند النافذة وهو يصيح بأعلي صوته( ايتها الساحرة الشريرة سونيا اللعنة عليك وعلي مكنستك...)لم أفهم شيئا من حديثه الا بعد زمن طويل من ذلك اليوم حين استعدت خطابه كلمة كلمة، فصرخت في الغرفة الخالية مثل أرخميدس:
( وجدتها...وجدتها.....عرفتها...عرفتها).

صلاح سر الختم علي
19-06-2013, 08:13 PM
81
من العجائب التي شهدتها عجائب كثيرة لكن أكثرها إثارة للدهشة كانت هي عودة سالم الرشيد الي الخرطوم حاكما وقائدا تفتح المدينة له أبوابها وقصورها بدلاً عن مدافعها وبنادقها، نعم حدثت المعجزة ذات مرة وعاد سالم الرشيد الي الخرطوم حاكما، خلعت الحركة الشعبية ثوب المقاتل وحملت حمائم بيضاء وذهب قادتها الي الخرطوم فدخلوها دخول الفاتحين، حظي جون قرنق دي مابيور باستقبال لم يحظ بمثله قائد وطني ولا أجنبي من قبل في السودان، كان النيل يتلوي في الأسفل كثعبان من ثعابين الأنانيا السامة التي تجاور مملكة تمبل باي الصغيرة عند نهر السوباط وكان جون متوترا وهو ينظر من نافذة الطائرة الي الأسفل،كان غيابه غيابا طويلا عن الخرطوم منذ أن غادرها ليقود حركته المبشرة بسودان جديد والحاملة لعبء قيادة الشمال والجنوب معا، كانت محادثات السلام في نيفاشا قد بلغت قمة سقفها، وقعت المواثيق بين الخصمين والعالم كله يري مافوق المائدة ولايري ما خلف السطور وما بداخل القلوب ولا الحراب المخبؤة داخل الثياب الأنيقة ولا المضمر المختبئ خلف الابتسامات أمام العدسات والكاميرات، كان سالم الرشيد حاضرا، كان شاهدا وفاعلا في الانتقال الفذ من الحرب الي السلم ، ومن الغابة الي القصر الجمهوري الساكن كبيوت الأشباح ، هو نفسه القصر الذي قطع فيه أنصار المهدي رأس غردون الذي احتمي فيه طويلا منتظرا انتظار غودو لسفن نجاة ونجدة لم تأت أبداً، وهو نفس القصر الذي دخله كتشنر فاتحا ومنتقما لغردون والإمبراطورية التي غابت عنها الشمس من تطاول دراويش المهدية انتقاما كاملا انتهي بقتل خليفة المهدي الخليفة عبد الله التعايشي في أم دبيكرات وهو يصلي علي فروة من الجلد وشمل انتقام كتشنر قصف قبة المهدي بامدرمان ونبش جثته وأرسال جمجمته الي بريطانيا ومنع الصلاة والآذان لمدة عامين في امدرمان عاصمة المهدية،وهونفس القصر الذي انتقلت السلطة فيه من الانجليز الي اسماعيل الأزهري أول رئيس سوداني منتخب ، وهو نفسه القصر الذي أدار منه ضباط حركة نوفمبر العسكرية الانقلابية بقيادة الفريق إبراهيم عبود حربهم علي النظام الديمقراطي الأول وحربهم المسماة حرب المناطق المحروقة ضد متمردي الجنوب الأوائل وغير المتمردين بحثا عن نصر حاسم وسريع وإسكاتا للذبابة التي تطن في أذن الفيل كما صرحوا، هو نفسه القصر الذي شهد استيلاء العقيد جعفر نميري علي السلطة بانقلاب عسكري أيضا علي حكومة منتخبة وهو نفس القصر الذي شهد مذبحة قصر الضيافة عند محاولة الانقلاب علي النميري في يوليو 1971، نفس القصر فتح أبوابه للعقيد جون قرنق ورفاقه في الحركة الشعبية مبتسما كأن ما كان لم يكن،كان سالم يضحك وهو يحادثني عبر الثريا من الخرطوم وانا معتصم بجبل صغير في واد من أودية دارفور ، قلت له( لاتتفاءلوا كثيرا ياسالم ،هذا القصر الملعون لم يخرج منه أحد سالماً، حتي المنتصرين، هل تعلم ان كتشنر بطل إمبراطورية سونيا الملعونة قضي بقية حياته عضوا بتنظيم الماسونية وان عدالة السماء اقتصت لشهداء كرري الذين بلغوا اثنان وعشرون ألف شهيدا منه بأياد ألمانية؟! هل تعرف انه مات غريقا بعد ان أصاب سفينته لغم الماني في 1916؟! الملعون ، قصف قبة الإمام المهدي فقصفه لغم ألماني في عرض البحربعد ثمانية عشر عاماً من فعلته القبيحة وتعديه علي قبر المهدي، حقا يمهل ولايهمل..) كان ذلك امتدادا لحوارات كثيرة دارت بيننا في تلك الايام وقبلها،كانت الاحداث تتلاحق بسرعة في الخرطوم في تلك الأيام ،اثنان وعشرون عاما مرت بين خروج دكتور قرنق من الخرطوم الي الغابة وعودته اليها رافعا لواء السلام ومبشرا بسلام مستدام ووحدة جاذبة ، اثنان وعشرون عاما من القتال في الغابات والأحراش والتنقل في المنافئ الاختيارية،وهاهو بشحمه ولحمه في الظهيرة يخطب في الملايين التي هبت لاستقباله ملوحة بصوره وأعلام الحركة الشعبية، كانت الساحة الخضراءفي تلك الظهيرة في شهر يوليو خضراء بأغصان الاشجار التي يحملها المستقبلون ويلوحون بها للرجل الذي كان في غاية التأثر بالمشهد، كانت عيناه تلمعان وهو يشهد مشهدأ لم يخطر بباله يوما أو باكثر احلامه تفاؤلا،لكنه وقف خطيبا واثقا وقالها بنبرات قوية ( ايوة ياهو دا انا ذاتو هنا في خرطوم، ..)في ذلك اليوم قطعت الفضائية السودانية بثها المباشر للمشهد من الساحة الخضراء بلا سبب ظاهرمسجلة اولي بوادر الضيق بالقادم الجديد الذي ولج القصر الجمهوري في الاسبوع نفسه وتسلم مهامه نائبا أولا لرئيس الجمهورية. كان صوته يهدر في قناة الجزيرة وعلي وجهه هدوء الواثق من نفسه وهو يقول :
(انالست امريكيا ولست اسرائيليا انا سوداني أؤمن بوحدة السودان وانا لم اشعل الحرب التي اشتعلت في 1955 فقد كنت وقتها طفلا عمري لم يتجاوز العشرة اعوام.) وبذات السرعة التي نبتت بها الأحلام التي خرجت من طاقية اتفاقية نيفاشا حل ظلام جديد وحلت انتكاسة كبيرة ففي صباح الاثنين الأول من اغسطس 2005 ، أعلن راديو امدرمان مقتل الدكتور جون قرنق النائب الأول لرئيس الجمهورية في حادث تحطم مروحيته عند الحدود السودانية الأوعندية. كان ذلك بعد اثنان وعشرون يوما من وصوله الي الخرطوم مسالما بعد اتفاقية السلام.اثنان وعشرون عاما في الغابة والمنافئ والنيران مشتعلة والرجل صامد ،لكن السلم لم يمهله سوي اثنان وعشرين يوما فقط في القصر وفي العاصمة مغازلا أحلام وأشواق الوحدة المؤودة، ثم غيبه الموت.وسار كل شئ بعد ذلك مثل كابوس فظيع ، كانت إرادة الانفصال والانفصاليين هي الأقوي والأعلي صوتا بعد رحيل الرجل الذي كرس نفسه لتحقيق حلم الوحدة، أفقنا ذات صباح والبلاد الواحدة قد باتت قطرين متشاكسين، باتت الغابة بلا صحراء والصحراء بلا غابة.جمع السودانيون من أصول جنوبية عفشهم القليل ويمموا صوب وطنهم الجديد بعد ان باتوا فجأة اجانب في الوطن الذي حبوا فيه صغارا وعاشوا فيه وتقلدوا الوظائف، باتوا فجأة غير مؤهلين لشغل وظائفهم بسبب استفتاء سار في اتجاه مرسوم سلفا ولم يشارك بعضهم فيه، حين التقيت سالم الرشيد بعد ذلك بوقت طويل لم يعد سالم هو سالم الذي عرفته، كان جدارا محطما لكنه يمشي بين الأحياء بلاهدف.فقد تحطمت جل أحلامه مع تحطم تلك الطائرة.كان يرتعش كعصفور في غرفة صغيرة ضمتنا في أسمرا وهو يصيح مخاطبا جمهوره المكون مني وحدي( ضاعت الأحلام ياحسن سبيل، ضاع السبيل، لاغابتنا نجحت في تحقيق سودانها الجديد، ولاصحراوكم نجحت في ذلك، كان ادباء الغابة والصحراء افضل حظا منا، ليس منهم من شال اصبعه وطبز به عينه مثلنا،لم يرتفعوا بالامنيات الي عنان السماء ثم يسقطوا الي السفح، لم يغازلوا احلام البسطاء ثم يعجزوا عن تحقيقها كما فعلنا، كنا اغبياء،ضحكت علينا سونيا الملعونة في الآخر، اخرج الانفصاليون في الشمال والجنوب ألسنتهم لنا، وركب موجتكم الطامحون، سنموت ياحسن بلا جدوي، بلا زهور عند قبورنا المجهولة،نموت ونحن مغضوب علينا ممن أحببنا، اما التاريخ فسيبصق علينا بصقة كبيرة ولايمنحنا فيه سوي سطرين من اللعنات......) ثم أخذ يبكي كالأطفال وانهار متكوما عند اقدامي.، ألجمتني الدهشة، ثم بكيت كما لم أبك من قبل، كان سالم يرتعش كطفل ورائحة الخمر المنبعثة منه بدت لي للغرابة كأنها عطر فريد، فقد كانت رائحته الإنسانية أعلي....شعرت في تلك اللحظة بأننا وجهان لعملة واحدة ،أراد كل منا حياة فنال أخري لاعلاقة لها بما ابتغاه ،أراد إظهار المحبة لغيره وتجنيبهم ألاما لاضرورة لها ،فتسبب لهم بأنهار من الأحزان من حيث لايدري ولايحتسب ،حسب نفسه قويا ومختلفا وقادرا علي تحقيق الأهداف فوجد نفسه ترسأ في آلة ضخمة تدوس علي إرادته أول ما تدوس ،ظن نفسه فاعلاً، فاكتشف انه مفعول به علي طول الخط ، في تلك الليلة جلسنا فوق قمة المأساة عاريان من كل شئ سوي انسانيتنا ، عرينا حياتنا كلها أمام ناظرينا، قلنا كلاما كثيرا ، لا أتذكره الآن ، فقط أتذكرانه في الصباح التالي قبل ان يغادر سالم أسمرا حاملاً حقيبته الصغيرة في يد ورواية جديدة في يده الأخري وضع حقيبته علي الأرض وصافحني بحرارة وقوة كأنه يودعني مرة واحدة والي الأبد وقال كأنه يواسيني( لازلنا علي قيد الحياة ياحسن،ربما في زمن آخر نلتقي، وربما لا، وربما نكون قادرين علي التزام حكمة تمبل باي العجوز، هل تعرف لماذا كسب تمبل باي الرهان؟!) قلت له( لا أفهمك الآن ولكنني واثق انني سافهم كلامك في النهاية، نعم لماذا كسب تمبل باي الرهان؟!فليكن أي رهان) ابتسم سالم وقال وهو يحدق في المجهول( تمبل باي راهن علي النهر ونحن راهنا علي الجبل .. تمبل باي اختار الطريق الطويل المدي الذي ربما لن يعيش ليري ثماره ، ونحن اخترنا العاجل المختصر، راهنا علي العابر وتركنا الجوهري ياصديقي ، كان طبيعيا ان تنهار أحلامنا مثلما ينهار قصر من الرمال تحت وطأة أول قدم تدوس عليه.....) ثم قلدني بقوة وهو يغطي دمعه بكمه ويتمتم بكلمات وداع ومحبة واعتذار عن كل ألم سببه لي وأي احباط افرغه في وجهي وقال ضاحكا ليخفف وطأة الشعور الغامر بالحزن( ياحسن لو ما مرقنا الجوانا دا مرة مرة بجي يوم وننفجر زي انبوبة الغاز وزي الألغام ونتقطع حتة حتة.... الي اللقاء ياصديقي.......) ثم استدار ومضي في خطوات عسكرية مسرعة وغاب في الزحام وتركني مأخوذا وشعور قوي بانني لن اراه ثانية يجتاحني بقوة. وبالفعل كان ذلك هو لقائي الأخير بسالم الرشيد . فقد تواري الرجل وغاب عن المشهد تماما في كل المسارح...لم أعرف ماذا فعل ولا الي اين ذهب، تناقل الناس قصصا كثيرة عنه، قالوا أنه قتل علي ايدي مجموعة من رفاق الأمس حين صاح فيهم ونعتهم بأنهم قد تنكروا لمبادئ الحركة وقائدها، فكان ردهم زخات رصاص مثل تلك التي امطروا بها اونكل جون المتمرد القديم ذات يوم في حضور سالم الرشيد حين عاودته سوسة التمرد فخرج الي الغابة ضد من خرجوا اليها، حاصروه في زاوية ضيقة وقتلوه بدم بارد، وقف سالم عاجزا عن فعل شئ لرجل احبه كثيرا مثلما وقفت عاجزا عن فعل شئ ليلة مقتل عثمان مطبعة في الفاشر علي يد بعض من ينتسبوا الي الصحراء التي بت أحد ثعالبها..بعضهم قال ان سالم مزق أوراق هويته وذهب مثل مصطفي سعيد الي قرية مجهولة علي النيل ليفعل شيئا مماثلا لما فعله تمبل باي اثناء حرب الغابة الطويلة، قالوا انه حي في مكان ما، يصوم ويصلي ويفلح الأرض وحين يكون وحيدأ يقرأ الشعر ويكتب سرا كتابا عن ذكريات رجل مجهول يسمي ناجي الرشيد.بعضهم يقسم انه شاهد رجلا يشبه سالم الرشيد في مستشفي للأمراض النفسية والعصبية وهو يملأ الحيطان بصور عديدة لتماسيح نصفها بشري ونصفها تماسيح ولها عيون تشبه عيون الذئاب في لمعانها وقوتها.ويهذي بلا انقطاع عن رجل اسمه تمبل باي أمه بقرة اسمها أدوك خرجت من نهر السوباط في ليلة مظلمة وانجبت رجلا أسودا جميلا تحطمت به طائرة عند جبل حتي لايعود رماده الي النهر.ثم يبكي بلا انقطاع.لكن الحقيقة لم يعرفها أحد علي وجه اليقين، حتي حين اشتعلت حرب جديدة فيما تبقي من وطن وتوقع الناس بروزا لافتا لسالم الرشيد لم يظهر الرجل علي الخشبة مطلقا، تبخر الرجل مع حلم الوحدة الذي تبخر، واختفي مثل طيف غامض .وحين قرر ثعالب الصحراء دخول أمدرمان عنوة للوصول الي القصر الملعون جاءني طيفه في غفوة نهارية ، كان غامض الملامح واضح النبرات وهو يقول( اراك ياحسن سبيل غارقا في الدم مثلي، ظامئا وحيدا،لا تذهب ياحسن، لاتهتم لما قد يقولون عنك، حبوبة كريمة علي حق وأمي علي حق وتمبل باي علي حق، أما نحن فمجرد وهم و أكذوبة، نحن لاشئ ياحسن......) ثم ابتسم في غموض وحلق عاليا كنسر جريح وغاب في طيات السحاب، أفقت مذعوراً، تحسست بندقيتي، كان السكون يعم المكان، كنا نبيت ليلتها في قرية شوبا التي احترقت عشرات المرات في حرب الصحراء وحروب القبيلة، كانت تنهض بعد كل حريق وتبني من جديد لكي يلتهمها حريق جديد، كانت خرابا الآن، مسكونة بالغربان والصمت، واحيانا بسيارات مدرعة لفريق من الفرق المتقاتلة، كنت اذهب بخيالي بعيدا لزمن كان المكان فيه عامرا بالحياة وبالناس، وانظر اليه في واقعه الراهن متسائلا( هل كان ماحدث ضروري الحدوث؟ ألم يكن بالإمكان منع حدوثه؟)إنقبض قلبي حين فكرت في أنني ذاهب الي الخرطوم غازيا لامسالما،لمعت في ذاكرتي أيام الجامعة والعمل الشاق في شوارع الخرطوم، تري هل تعرفني الخرطوم حين أدخلها مثل كتشنر الملعون غازيا سوي أني سوف أكون ملثما علي طريقة الطوارق؟!، إنقبض قلبي أكثر، لمحت غرابا أسودا ينكش الأرض المحروقة في مكان غير بعيد باحثا عن شئ ما، طاف بخاطري خاطر مزعج( هل تراه ينبش جثة ما؟) قلت لنفسي أنه نذير شؤوم واضح ياحسن سبيل، هذه الرحلة الملعونة ينتظرك فيها لغم مثل ذلك الذي كان ينتظر كتشنر في عرض البحر سوي ان ذلك كان في بلاد بعيدة واجنبية بالنسبة لكتشنر، أما انت فينتظرك لغم سوداني في أرض سودانية فيما يبدو، لامجال للتراجع كما قال مصطفي سعيد في موسم الهجرة ( وتر القوس مشدود والسهم لازم ينطلق).

صلاح سر الختم علي
21-06-2013, 01:34 AM
82
حين فرغت من قراءة الدفتر الأزرق لم اتمالك نفسي ، انفجرت باكياً كطفل صغير حتي بللت الدموع لحيتي ، كنت أظن حتي قراءة السطور انني أعرف كل شئ عن حسن سبيل وعن الدنيا، لكنني أيقنت انني لم أك أعرف حين فرغت من القراءة إلا نذراً يسيراً عن الرجل، فقد خرج من بين السطورالقليلة رجل آخر لم أعرفه بما يكفي وما يستحق ،لمعت أمامي صورة حسن سبيل كما بثها التلفزيون القومي وهو في هجعة الموت الأخيرة ، وجهه بالكاد تبين ملامحه،وكان فمه محشوا بالرمل والدم، كان راقدا علي ظهره ، ووجهه متجه صوب السماء كأنه كان يسألها عونا في لحظاته الأخيرة،هل تراه مثل غوردون كان ينتظر سفناً لم تأت أم كان مستسلماً لمصيره؟!تري الي اين ذهبت حمامتك البيضاء ياحسن؟! إلي ودعتك الصغيرة في شمال دارفور حيث رغبت دوما أن تكون هجعتك الأخيرة أم الي المدينة المنورة وقبر الرسول الكريم حيث كان الشوق يفيض بك في سنواتك الأخيرة كأنك كنت تري هوادج رحيلك مشرعة ودانية قريبة؟
كانت تقف حول جثته دائرة من الجنود يحملون أسلحة فتاكة مصوبة الي الجثة في يقظة كأنهم يخشون أن ينهض النائم من هجعته فجأة،هل تراهم ظنوه تمساحا نائما في بحر الرمال وعيونه مفتوحة؟! أم تراهم كانوا يبحثون عن الحمامة البيضاء لاعتقالها قبل أن تبدأ رحلتها؟! تري لماذا توقفت الكاميرا عند الحجبات المتدلية من ساعد حسن سبيل منذ عرفناه في الجامعة حمامة مسجد لاتغيب؟! وكان يضحك حين نشير إليها ويقول أنها الوشم الذي وشمته به حبوبة كريمة وهي أول ماتتفقده وتتأكد من وجوده بمكانه حين يعود إليها بعد كل غياب.كان يغني أبياتا من الشعر تقول:
(ودعة.... يا.. وديعة
يا تلة الرمل القديمة
يا نفحة الأم الرحيمة
كل أبنائك... عزيمة
شوقنا ليك ما بالمواسم
ديمة .... ديمة ومستديمة)
فقد كان يحب ودعة الراقدة عند الجبل كخرزة حبا يفوق الوصف(آه ياصديقي ...لوعشت ياحسن سبيل ورأيت بعينيك ماذا فعلوا بودعتك الوديعة، كيف احرقها ثعالب الصحراء في صراعات عقيمة،كيف أضرموا فيها النار واستباحوها ، لكنت نهضت مثل أنكل جون العجوز وتمردت علي التمرد نفسه، ولكنت استقبلت زخات الرصاص نفسها بصدر مكشوف ومت عشرات المرات كي تفدي تلة الرمل القديمة....آه ياحسن..... مال هذا الموت يتربص بنا كلما رمنا الحياة؟!)
بكيت في الصباح لما وجدت الصورة نفسها تتصدر صفحات الصحف كلها ومعها مانشيتات عريضة متعددة فلمع في ذهني تساؤل:(تري هل شاهده صغاره في هجعته الأخيرة محنناً بالدم والرمال؟! هل تري كان ولده شاهدا علي موته مثلما كان ولد ذلك الرجل الأسطورة (حامد نمر)الذي قتل في أحراش دارفور بيد رفاقه وهو يلعنهم ويصفهم بالجبن حتي آخر لحظة شاهدا علي مقتل أبيه علي يد من قاتل لاجلهم؟! تري هل سيحمل الصغار البنادق مستقبلا باحثين عن ثأر مستحيل؟!)
وتتذكر الان يامصطفي كيف عاد خيري بعد سنوات من الغياب القسري في غوانتنامو علي متن طائرة عسكرية أمريكية حطت في مطار الخرطوم في ظهيرة حارقة ،خرج منها رجال (مدوعلون) يرتدون سترات واقية من الرصاص واقنعة لها أجزاء زجاجية علي وجوههم وعلي وسطهم أحزمة تحتوي علي مصائب كثيرة من الواضح انها أسلحة ويحملون بنادق لها منظار وهي مشرعة في الأيدي انتشروا في شكل دائرة حول المخرج،انفتح المخرج ، وظهر رجال يحملون محفة ملونة مثل تلك التي تستعمل لنقل الجرحي، كان علي المحفة رجل مقيد الأطراف، نحيلا، له لحية مشعثة ضخمة، كان بقايا إنسان في الحقيقة بعروقه النافرة وعيونه الهامدة، اقتربت الكاميرا منه علي عجل في لقطة قريبة للوجه، كانت عيونه منطفئة، كان مطرقا ويبدو متضايقا من تسليط الضوء عليه،اخرجوا المحفة ومددوها علي ارض المطار، حرروه من قيوده علي مهل وبتؤدة متعمدة كأنهم يعرضون فيلما أمريكيا من أفلام الآكشن، وبمجرد ان صار حراً، خر الرجل ساجدا علي الأرض سجودا طويلا، كانت شفتاه بالكاد تتحركان وكانت دموعه تغطي لحيته، وكانت ثمة دموع مقابلة علي وجوه الأهل والأصدقاء المستقبلين،خلف ظهره كان المارينز قد عادوا الي طائرتهم الرابضة كتنين اسطوري علي ارض المطار، أغلق الباب عليهم، ثم ركضت الطائرة علي المدرج حتي اختفت عن الأبصار، ثم حلقت عالياً كأنها قطة ماكرة تثب في الفراغ.ثم عادت الكاميرا لتصور عناقاً سودانياً باكياً مبكياً يختصر كل تواريخ البكاء في لحظة نادرة.عاد خيري جسداً منهكاً وذاكرة منهوبة ليس فيها من الماضي شئ سوي آيات القرآن التي لم تفلح سنوات غوانتنامو في محوها من تلك الذاكرة.اعتصم خيري بصمته وصلواته حتي رحل في صمت بعد عامين من تلك العودة أثر نوبة قلبية مفاجئة داهمته وهو مستغرق في صلاة طويلة من تلك الصلوات التي لاتنتهي الا لتبدأ صلاة جديدة.بقيت وحيدا يامصطفي ، عدت الي حي كوارث، اشتريت دارا صغيرة هناك،وعدت خطيبا للمسجد الصغير نفسه، وعدت بالذاكرة الي أيام شركة هوادج الصغيرة التي عمل فيها حسن سبيل في أيامه الأولي بعد انهاء الدراسة الجامعية، تتذكر بيت العزابة في السجانة المكتظ دوما بالأخوة والضحكات والإجتماعات الصغيرة والحكايات الكثيرة المتبادلة بينكم الثلاثة أنت وحسن وخيري الصموت رجل الأسرار والبطن الغريقة والضحكة القريبة ،وتتذكر منتصف الثمانينات ونهاياتها الصاخبة والمضطربة المليئة بالعمل والنشاط والاحتكاكات الكثيرة مع اليسار في الجامعات، أركان محمد طه محمد احمد ولبابة الفضل وحسين خوجلي والجميعابي الصاخبة، وسخرية سالم الرشيد والخاتم عدلان والحاج وراق وياسر عرمان اللاذعة،صراع صحف الجدار(الشرارة) و(آخر لحظة )في النشاط ،زخم الانتخابات الطلابية والاجواء الملتهبةالمصاحبة لها.نجاحاتنا الكثيرة المتكررة فيها التي اسكرتنا بنشوة ظاهرة وفتحت الأبواب للكثيرين لولوج الحركة الإسلامية، كنا مثل مغامر لم يعرف الخسارة يوماً حتي ظن أنها غير واردة في قاموسه البتة، ثم بدأت الأمور فجأة تسوء والرصيد الذي جمعه يتناقص والتل يختل، كانت سيمفونية التمكين تمضي الي الأمام علي قدم وساق في البدء، وكان النميري مشغولا بسلطته، وكانت شركة هوادج واحدة من شركات ومؤسسات كثيرة أنشاتها الحركة وأسندت ادارتها للمخلصين لكي يديروها نيابة عنها ولمصلحتها،كنا ملاكها في الظاهر ولكننا في الحقيقة موظفين فيها مثل غيرنا لدي مخدم غامض كنا نعرفه وحدنا،واكتملت السيمفونية بوصول كامل الي قمة السلطة، ثم بدأت معزوفة الإقصاء والفتنة بأسرع مما توقعنا،هل انتهينا هنالك في الرابع من رمضان كما يقول البعض سرأ وجهرا؟ بل هل بدأنا هناك؟ يبقي السؤال بلا اجابة، ليس هناك سقف ينهار في لحظة انهياره، الانهيار هو تتويج لأعمال صغيرة كثيرة تبدأ مع البنيان لحظة ابتداره ووضع أساسه، يولد البناء حاملا بذور فنائه في داخله، وحدهم الغاضبون لاجل شخص أو لأنفسهم يكتبون التاريخ علي أسس شخصية مثل هذه، أسمع صوت المحبوب عبد السلام وهو يصرخ مثل ممثل هزلي في خشبة مسرح( نحن الحكومة والنظام ونحن سنده العقائدي والفكري....لكن في نفس اللحظة، نحن أعدي أعدائه وكبار المتآمرين ومكمن الخطر ..الأجيال التي كابدت من الناس لم تكن تدري لماذا كابدت والشهداء ماتوا لغيرما هدف واضح،وبعضنا لازال يجاهد لأنه يعتقد ان القضية لاتزال قائمة، مايحدث هو مسرحية من تأليف شيطان هازئ ساخر) واتساءل هل تراه كان يتحدث بلساني حين قال(شعرة معاوية تنقطع ويتحول الإبتلاء الي لعنة، وذات الذين نشأوا تحت أعيننا سنوات بعثوا لاعتقالنا.... نحن الذين صنعنا قدرنا ومزقنا نسجنا ولم تهبط علينا شياطين من السماء، ولكنها شياطين من صنع أنفسنا.)ألقيت كتاب المحبوب عبد السلام المحظور جانبا، ثم استدعيت من ذاكرتي جيوش الذين قضوا نحبهم في أحراش الجنوب،أستعيد ذكري تلك المرأة التي كانت تحتفظ بشيلة عرس أبنها فجاءها نبأ استشهاده فزفته زفافا صوريا في صيوان العزاء ليصبح مافعلته تقليدا يسمي عرس الشهيد أستحسنه البعض واستهجنه كثيرون، تري هل ذهب هولاء سدي؟! هل بتم ياحسن سبيل مثل طياري الكاميكاز اليابانين في الحرب العالمية الثانية وقودا لحروب خاسرة لم تخططوا لها؟ أكثر من ألفي طيار ذهبوا في مهمات بلا عودة خلال الفترة مابين 25 اكتوبر 1944 و15 اغسطس 1945، أي اليوم الذي استسلمت فيه اليابان، كانت مهامهم هي الإرتطام بطائراتهم المحملة بالقنابل بسفن أسطول الولايات المتحدة الامريكية في المحيط الهادي التي كبدت اليابانيين خسائر متتاليةفي المحيط الهادئ، وبدت أنها تتقدم إلى قلب اليابان دونما إمكانية لإيقافها.كانت جزر المحيط الهادي تسقط الواحدة تلو الأخري في أيدى الأمريكيين. ولو كان الحكام اليابانيون مهتمين بوضع حد للخسائر الكبيرة، لاستسلمت البلاد قبل 1945 بوقت طويل .لكن الاستسلام لم يكن ضمن خيارات إمبراطورية اليابان.في بداية اكتوبر 1944 تسلم تاكجيرو أونيشي منصبه كقائد لجبهة الفلبين، كان مقتنعا بان باستطاعة اليابان تجنب الهزيمة المباشرة بواسطة استراتيجية جديدة كليا:(خلاص بلادنا تملكه أيادي جنود الله.الوسيلة الوحيدة لتدمير أسطول عدونا، ومن ثم استعادة الطريق الي النصر، هي أن يضحي شبابنا بحياتهم وذلك بارتطام طائراتهم بسفن العدو) وأضاف بطريقة مسرحية قائلا(أي شرف يطمح إليه المحارب أعظم من تقديم حياته في سبيل الإمبراطور والبلاد؟) كان مقصد اليابانيين هو إضعاف معنويات الولايات المتحدة بشكل خطير بأن يبنواأنهم مصممون علي استخدام أكثر الوسائل تطرفا من أجل السيطرة علي المعركة.وأنهم علي غير استعداد للاستسلام. وقد نجحت إستراتيجية الرعب في المراحل الأوليةخين هبط الكاميكاز من السماء وارتطموا بالسفن الأمريكية بوحشية وبدون إنذار. باللغةالعسكرية التجميلية ، كان الطيارون الانتحاريون يعتبرون (قوات هجوم خاصة) ورغم أنهم لم ينجحوا في تغيير مسار الحرب، لكن الخوف الذي ولده تصميمهم المربك وجد طريقه الي لغات العالم كلها، ليعيد تنظيم القاعدة انتاج الكاميكاز محمد عطا ورفاقه في هجمات سبتمبرعلي ذات العدو الولايات المتحدة الأمريكية. لذلك يستخدم تعبير الكاميكاز للدلالة علي مهمة وشيكة من المحتم لها الفشل .تري هل كنت انت الآخر كاميكاز ياحسن سبيل؟ هل كان أولئك الذين ماتوا هناك في تلك الأحراش التي باتت بلدأ أجنبيا الآن هم أيضا كاميكاز؟! هل كنتم ريحا الهية غاضبة كما تعني كلمة كاميكاز في اليابانية، حيث تقول الأسطورة اليابانية ان ريحا في هيئة تيفون( إعصار إستوائي) قد ضربت أسطول قبلاي خان المغولي، حفيد جينكيز خان حين أرسل أسطوله الي بحر اليابان، عازما علي اجتياحها، لكن الريح الإلهية أفقدته أكثر من مائة ألف من رجاله، ولكن طيارو الكاميكاز الذين حملوا لأسم الأسطوري، لم يستطيعوا فعل مافعلته الريح الإلهية التي استمدوا اسمهم منها،فقد فشلت غالبية هجماتهم فشلا ذريعا بالرغم من مقتل الطيارين، تراوح الفشل بين سقوط الطائرات نتيجة تعرضها لإطلاق النيران المضادة، أو ارتطامها قبل الآوان، أو إخطاء الأهداف بسبب عدم كفاءة الطيارين، ولم تتجاوز نسبة من نجح من آلاف طياري الكاميكاز في ضرب سفن العدو سوي 1% الي 3% فقط. وكان ولاء الطياريين وقبولهم للمهمة الانتحارية يرجع بصورة أساسية الي اسطورةالساموراي(البوشيدو) أي ( أسلوب أو منهج المحارب )الذي يقرر أن الساموراي (يجسد نفسه بالموت) إنه التفاني غير المشروط من أجل القضية حتي ولو كانت خاسرة، تتعدد البلدان ياحسن سبيل وسالم الرشيد ولكن الطاعة العمياء لما نعتقد أنه حق واحدة، كل منهم كان ساموراي بشكل ما، كان يمضي راضيا الي طائرة الموت ليلحق الأذي بعدو مفترض ويجسد نفسه بالموت، والحياة في الأسفل تناديه ، فلايسمع النداء، وفي لحظة الإرتطام والإنفجار والتشظي، يهتف هاتف خفي به ( أنت لاشئ...أنت لم تلحق الأذي إلا بنفسك.....) ثم تتوهج السماء لحيظات سريعة ، ويهبط الظلام من جديد. أيها الساموري المجنح حسن سبيل، لاشئ تغير في الأسفل، طائرتك تفجرت عند المدرسة في ودعة فاحترقت بتلاميذها ، أما الهدف فهو يبتسم في غموض ويخرج لسانه لك....اللعنة علي كل شئ....

صلاح سر الختم علي
23-06-2013, 04:49 AM
83
هبة كانت هي الاخري شعاعاً وحلماً بعيداً لمع يوما واختفي، كانت قريبة دائماً وبعيدة المنال، كان قدرك ياقاقارين الا تراها وهي في مرمي بصرك دوماً وروحها متعلقة بك دوما والا تنال قربها وهي المستعدة لقضاء عمرها عند قدميك لو ملكت شجاعة الطلب، كانت بالنسبة اليك في منطقة الظل دوما وغير مرئية، وحين اكتشفت يوما انها هي حلمك الحقيقي كانت الحمامة قد ملت الانتظار وذهبت بعيدا مع أول من طرق الباب، غني مغني محلي في ذلك الحي الشعبي في اطراف بورتسودان، نهضت هبة ورقصت مع عريسها رقصة الحمامة المذبوحة وهي ترقص من الألم، كانت ثمة أقراط تتدلي من أذنيها في تلك الليلة وثمة دموع في العيون الواسعة ظنها الناس دموع فرح وما دروا ان العروس داست علي جروحها وولجت قفصاً تحاشته طويلاً في انتظار سراب كلما دنت منه نأي عنها واعتصم بالغياب والبعاد، تعبت الحمامة من الركض خلف السراب، دخلت أقرب قفص من أقفاص الصيادين المنتشرة في طريقها، حلقت طائرة وخلفت عاشقة السقالة والسمك علي الهواء الطلق كل أحلام الطفولة والصبا وذكريات قاقرين وغيمته السارة وهاجر التي سكنت حدائق الذهول وكل شئ خلفها ويممت صوب الخليج مكرهة لابطلة،كان قاقرين وقتها غائباً منذ سنوات في مدن اجنبية ملتحقاً بجيش انفضت كتائبه قبل ان تخوض معاركها ضد نظام أرادت محاربته بالقوة، لكن الصراعات الداخلية والاختراقات كانت أقوي من الأحلام والرغبات والضغائن، كانت الفكرة نفسها بالنسبة لقاقرين غريبة، لم يتصور أبدا في يوم من الأيام أن يدخل الخرطوم علي ظهر دبابة أو يقتل ذبابة، كانت الفكرة غريبة وكل شئ حدث هنالك فيما سمي بالميدان والمعسكرات كان يؤكد لقاقرين أنه قد ولج القطار الخطأ وان نزوله منه أمر حتمي ، وسرعان ماهجر قاقرين اسمرا وذهب مع من ذهبوا نحو القاهرة وعواصم أوربية ناشدين لجوءا وهجرة بدت مبررة وملاذا أخيراً من الإحباط والهزيمة التي سكنت في المفاصل، كانت الإتهامات المتبادلة بالخيانة هي السائدة في مجالس المنافئ وفي خطابهم السياسي وكان قاقرين في كل يوم جديد يزداد اقتناعاً بصواب رأي عمر في السياسة والسياسيين، كانت هبة تتابع اخباره الشحيحة، حتي انقطعت الأخبار وساد السكون ونأت الأحلام وماتت كل الزهور في مشتلها الصغير وفي قلبها الذي مشي علي الأشواك سنيناً بلا طائل،اقتربت من قاقرين في البدء وحلمت به، فبرزت سارة من المجهول وتمددت في كل مسافات صمتها وعجزها عن قول مشاعرها مباشرة، توجهت سارة نحو قلب قاقرين الذي كانت هبة تغازله علي استحياء وهي تقدم رجلاً وتؤخر الأخري، وكانت النتيجة ان صادف هوي سارة قلباً خالياً فتمكنا، ولم يكن امامك ياهبة سوي التراجع في صمت الي الصف الخلفي دون أن تصدر عنك آهة أو إشارة تنم عما بك وعن كونك زهرة وطأتها أقدام صديقة دون أن تدري هول مافعلت، وحين اقترب منك خالد وأيقظ براكينك الخامدة من جديد ونبتت للحمامة اجنحة بدل تلك المتكسرة وكادت تحلق من جديد، جاء قاقرين مجددا كنسر أسطوري وأيقظ الحلم القديم من غفوته، تراجع خالد حتي سقط أو اسقط عمدا من حساباتك، عدت من جديد الي الإنتظار المميت، وفعلها قاقرين ثانية، ذهب هذه المرة خلف أمواج هائجة دفعته بعيداً، ومرة أخري قبلت النصل الدامي وتراجعت الي الصفوف الخلفية ياهبة، لكن شجرة العمر البخيل لم تك تسمح بالمزيد، النسوة يتهامسن، والأهل يجلدونها بكرابيج السؤال كلما برزت في مكان، نسوة يتبرعن بالبخور والتمائم ويقدمن نصائح وخدمات لم تطلبها منهن تفضي جميعها الي الفقرا ومحاياتهم والي وجود عين وحسد وعمل شرير مدفون أو معلق في جناح عصفور ولابد من إبطاله، (علي المرء أن يسعي، وعليه أن يفحص نفسه عند أهل العلم ليعرف مابه، ناس الدنيا ديل مابقدر عليهم الا الخلقهم، يابتي ماتقعدي ساكت، شوفي نفسك، ..يابتي ضل راجل ولا ضل حيطة.)، سيل لاينتهي من الضغوط التي تشعرها بأنها تعيش علي وقع مصيبة عظيمة كونها لم تتزوج وقد تجاوزت الثلاثين، ضغوط لاتنتهي الا بان تلقي نفسها من أعلي عمارة أو تلقي بنفسها في أول قفص يلوح صاحبه لها بيده، كأنه سفينة الخلاص الوحيدة في هذا العالم المسكون بالقسوة والفظاظة والذي لايترك للإنسان فيه مساحة من الحرية حتي في أخص خصوصياته، وتتذكر هبة أولئك الرجال الذين ظلوا يطرقوا الباب بطرق غبية ومقرفة بالحاح ووقاحة مستمدة من ذات الواقع الذي جعل النسوة يتجرأن عليك ويعرضن خدماتهن ويلمزن ويغمزن،رجال يغافلون نساءهم القابعات في البيوت ويلاحقونك ظنا أنهم لسبب سخيف باتوا سقفاً مقبولاً لطموحك وأنهم ضل الراجل الذي يقي شبابك الوشيك الأفول من ضل الحيطة والوحدة التي تتربص بك،وآخرون يظنون أن مغازلة أشواقك للزواج قد تجعلك ثمرة يانعة وسهلة الوقوع في براثنهم فيتوددون ويتقربون ويلبسون ثياب المعجبين والمتيمين وهم يخبئون سيف الغدر في الثياب البيض التي يمنون خيالك بأنك سترفلين فيها قريبا، تتذكري ذلك الرجل صاحب الدراجة النارية الذي لاحقك بأصرار وتصنع الأعذار وتقرب الي صديقتك الأثيرة وجعل منها رسولاً يعرض عليك موقع زوجة ثانية دون أن يهتز له جفن وهو يخرج سفة الصعوط القبيحة من فمه المصفرة أسنانه،بلغت الجرأة به ان هاتفك مرات ومرات وقال لك بسوقية فجة أن العمل لايمكن ان يكون بديلاً للمرأة عن رجل يملأ بيتها وفراشها، صعقتك المفاجأة وتلك الوقاحة التي فاقت حدودها حدود كل حلم وصبر، فاغلقت الهاتف في وجهه وارسلت اليه تحذيرا غليظا بأنه سينال علقة ساحنة ان هو تجرأ وخاطبك أو لاحقك ثانية، تمخض الجبل فولد فأراً وتواري الرجل في صمت كسيف: (عن أي ضل تتحدث أيها الجيفة الرعديد؟ وأي بيت وفراش يملأهما من لايستطيع ملء ملابسه وبدنه رجولة ونخوة؟)
آه لوتدري ياقاقرين كم جروا الشوك علي جسدي وكم تحملت وكم صبرت وكم تفجرت براكين غضبي وكم شعرت بتفاهتي وتفاهة الدنيا ، ليتك تعلم ان عذابي علي يدك فاق كل عذاب جري لكم في الأقبية والسجون المظلمة، عدوك كان عدوك، وكان لديه مبرر وسبب ما ليفعل ما فعل بكم، خوفاً، رهبة، طمعاً، دفاعا، عدواناً، تلذذا مريضاً،إنتقاماً أو ارهاباً، لكن ماذا لديك انت ضدي؟ وماذا لدي هذا المجتمع بأسره ضد النساء؟! ماباله يضن علينا بحقنا في الحياة وفي الحب ؟! ماباله يطلق في إثرنا كلاب صيد لاترحم ولاتخطئ الفريسة؟!ماذا لديك ضدي ياقاقرين لتتركني كما تقول الاغنية في عز الجمر وانت من حولي تمر وتدور وتذهب وتجئ ، فلاتشم رائحة احتراقي، ولاتطفئ النيران ولاتجعلها بردا وسلاما، مابالك يافارسي تبقر الحصان في أول الشوط وتخرج من السباق وتتركني وحيدة بلا سيف ولافارس ولا دثار من البرد ولاأمل في الفوز؟! تري هل اعجبك تخلي عمر عن سميته طوعا بمبررات سخيفة فاردت تكرار الحكاية؟ هل تراها لعنة أسرية قديمة عندكم يتخلي فيها البطل عن الحبيبة ويطعنها بسيف يدميها ليبكيها باقي عمره بدموع تماسيح لاعلاقة لها بالحزن؟! هل تري لو عاشت غيمتك السارة سارة لكان سيفك من نصيبها لا من نصيبي؟!
هي أسئلة تدق مثل الشواكيش علي خشب الرأس، فلا انام ولا أكف عن التفكير، ولاتكف كوابيس النهار عن الإنهمار،هل تري ينتقم القدر لخالد مني؟!آه ياخالد، ويح قلبي كيف طاوعني فذبحتك بسكين ميتة ومضيت بلا أسف؟ كنت مكتولة لاتسمع الصيحة حين فعلت مافعلته معك، كنت سكري بنشوة العطر الجميل الذي شممته عند عودة قاقرين من دهاليز الماضي، ماكنت اعرف ان العطر لايبقي طويلا،ماكنت اعرف انني اقايض سعادة ممكنة وقريبة بسعادة وهمية ومستحيلة حين قررت لحكايتنا في مهدها نهاية تطلب فيها البطلة التي زاغت عينها علي رجل آخر من حبيبها أن يبقي صديقاً، كنت باردة ككتلة ثلج وانا اعطيه سكينا واطلب منه ان ينذبح، لكنه فاجأني بنظرة طويلة فاحصة من رأسي حتي قدمي، نظرة شعرت بها تعريني وتجعلني اقف امامه عارية وكل مخبوء بداخلي يصيح انني خبأته، قال لي بصوت رصين ليس فيه أثر للألم الذي سببته له: هبة، فقط قولي انك لاتمزحين حتي أصدقك...هل تمزحين؟ ! هزتني ردة فعله التي لم ترد في خيالي في كل السيناريوهات التي رسمتها للحظة ولردودي، وجدتني اتصبب عرقاً، اتلعثم، تخرج كلماتي مضطربة مثلي، لا اتذكر حتي ماقلته له، فقط اتذكر نظرته الفاحصة، نظرة الأسف في عينيه، ثم رحيله بلا مقدمات ولا كلمة وداع. ترك لي بورتسودان كلها وذهب الي المجهول.وها أنت ياقاقرين تسقيني من الكأس نفسها دون أن اكون قادرة علي النظر اليك بذات النظرة الفاحصة والذهاب، فقد تركتني وحيدة ولم تنتظر مني حتي ردة فعل، لم تمنحني حتي شرف العلم بانك تركتني ولم أنل حتي عرض الصداقة.

صلاح سر الختم علي
25-06-2013, 04:58 AM
84
هل كان الأمر يستحق ياقاقرين؟ وهل كان ضروريا ان يحدث كل ذلك؟ هل كان حتميا ان يترك الرجال بيوتهم واطفالهم وحياتهم الوادعة ليبحروا في المجهول ويبددوا سنوات عمرهم في انتظار اللاشئ؟ هل كان الأمر يستحق كوابيس الليل والنهار لرجال انتهكت رجولتهم لمجرد انهم كانوا يحملون في رؤوسهم فكرة مخيفة لمن انتهكوا حريتهم ومن بعد شرفهم؟!ليت ماجري كان مجرد كابوس عبرفي الخيال ومضي ولم يعد ولم يستوطن في الذاكرة التي تشنق صاحبها في كل ثانية ولحظة حين تتوهج بما تحمل وتضيق به....الان يخرجون من ضيق الذاكرة وظلمة القبور والوطن القبر الي فضاء الكلمات ،الان تخرج سعاد عبد الله من مكان ما في السكون فتتوهج وتضئ الكون بنورها وتعتصر القلوب،مازلت اعتقل اللحظة عند ذاك الزمان واحن الي تلك الوجوه النبيلة وتلك الايام..حكايات كثيرة عن شباب بسيط جميل حالم بوطن فسيح جمعته محبة كبيرة وبحث جميل عن ما هو جميل في الاخر...كانت الثانيةوسط احلامهم واحزانهم تساوي عمرا...فكيف تبهت تلك التفاصيل وتلك الاضواء الجميلة الصادرة من قلوب رجال ونساء صغار كبار عامرين بكل ماهو فريد... سعاد مثلا هي غزالة سودانية عاشت بصمت وكافحت شظف العيش ببسالة وماتت في ريعان الصبا بشرف يساوي الاستشهاد ،كانت رفيقتنا في الجامعة وقد تخرجت من كلية القانون لكنها لم تعمل به، وكان قدرها ان تختار طريقا وعرا ودروبا موحشة وان تكافح شظف عيش اختارته واختارها حد انها باعت الخضار لتعيش بشرف، وهي تستحق ان تدرس سيرتها للتلامذة،ذلك الصمود،تلك البساطة،ذلك الوجه الملائكي الذي تعلوه نظارة طبية،تلك الابتسامة الصافية ،اتذكرها كانها امامي،اتذكر فرحة طفلها الصغير بالبيض وهو يركض في سعادة معلنا للجميع: عملوا لينا بيض!!! فرحة ابن مناضل ومناضلة دفع ثمن خيارات ابويه شظفا ومعاناة جعلته يخرج في مظاهرة فرح صاخبة محتفيا بكون افطاره احتوي علي بيض الدجاج. ما أصغر الاحلام وما أبخل الدنيا حين يتعلق الأمر باحلام البسطاء،كان الزوج متفرغا حزبيا مختفيا اختار حياة قاسية وكانت سعاد هي الام والاب في البيت الذي فتح مع معاناة الاختفاء والملاحقات التي بلغت حد التحقيق معها في كيف حبلت ان لم تلتق برجلها الخطير، كانت هي شاهدة علي عصرها بطريقتها، فقدعشنا تفاصيل انسانية كثيرة في الجامعة،عشنا ضجيج الجامعةوزخمها واحداثها المتلاحقةوتوتراتها ولحظات الاسترخاء والانشطة الثقافية والكورالات الجميلة التي كانت نشطة فيها في كورال جامعي تغني باناشيد وطنيةواغنيات حالمات لا يمكن ان ننساها،بما في ذلك نشيد الجهادية (الحلبونا شدو جمالهم وجونا جهادية الاورطية ...جهاديةوسيف وراية....)الي اخر النشيد المر الذي كتبه محمد طه القدال،اتذكرهن بثيابهن البيضاء وهن يغنين بحماس من ملك الدنيا وحقق الاحلام ،واتذكر كيف كان الناس يتفاعلون مع كورال رابطة ارهاص للاداب والفنون التي اضاءت سماء الجامعة، كانت سعاد في وسطهن متألقة أنيقة بطولها الفارع وعينان واسعتان ووجه لاينسي فهو بوابة مسكونة بالحنين وأنين السواقي المجمل بأضواء الروح التي تعطيه هالة نورانية،كانت سعاد قصيدة جميلة من أروع قصائد والدها الشاعرالقادم من الشمال ليصير شرطيا لم يؤذ حتي تقاعده دجاجة ووهب الوطن ذرية صالحة وقصائد جميلة ، كان اكثر مايميزها البساطة والمرح ،والتواضع والثقة في الاخرين وحسن الظن الدائم ،حتي عندما اضطربت الاجواء في الجامعة بين الفرق السياسية المختلفة وأطل العنف برأسه كانت سعاد لاتأخذ الأمر علي محمل جد بل تنظر اليه كمزحة مضحكةوتتعامل مع الاخرين بمثاليةوحسن ظن ولطف لاحدود لهما فقد كانت بطبيعة خاصة فيها قادرة علي تجاوز الخارجي الفظ وملامسة الانساني المشترك في الناس. وسرعان ما أنقضت سنوات الجامعة وخرجنا للحياة وكنا حضورا في زفاف بهيج زفت فيه سعاد الي زوجها بدار المعلم جوار الجامعة حيث نبت الحب في قلبيهما وكنا شهودا عليه، ولعل من سخرية الاقدار ان لقاء الزوج المختفي بزوجته بات جريمة تستوجب استدعائها وخضوعها لاسئلة كثيرة عن مكانه فيما بعد،فعاشت حياة قاسية ،تعرضت الي الابتزاز بكل صنوفه ولكن لم تلن لها قناة وظلت تمارس حياتها سرا ،وتلهث خلف ما يسد الرمق جهرا ببسالة مصارع ثيران اعزل في قفص ممتلئ بالثيران الهائجةوالثعابين الكامنة.وتحملت اقدارها بجلد وصبر،شحب وجههاواختفي قسم كبير من الأناقة خلف رائحة الشقاء والمعاناة الدائمة ،لكن نورها الذي بداخلها لم يمت حتي لاقت ربها بعد معاناة قاسية في غرفة عمليات اثناء صراع من أجل الدفع بقادم جديد الي الحياة، رحلت اثناء عملية ولادة قيصرية وحياتها كلها كانت ولادة قيصرية،كانت صاحبة اكبر ابتسامة رضاولم تشتك حالها ابدا ،بل علي العكس كانت تحكي عن حياتها وتضحك كأنها تشاهد فيلما كوميديا،. تري هل كان الذي جري لك ياسعاد حتميا وضروريا ولازما؟! اتذكر الان بوضوح تام قصة ذلك الصديق ، كان الزمان بداية التسعينات وكان الوقت ليلا حين ساقتهما الأقدار هو وزوجته الي صعود ذلك البص السياحي الملون بالاحمر والابيض الذي كان يعمل علي خط الخرطوم الصحافة، كان البص شبه خالي ، اختارا مقعدين متجاورين وجلسا، بعد دقيقة من تحرك البص سمعا صوتا مألوفا من خلفهما يقول( ازيكم ياعصافير) ، التفتا، كان خلفهما رجل ملتحي يلبس ملابس انصار السنة القصيرة ، كان يبتسم، علت الدهشة وجهيهما، كان هو(عمار) زوج سعاد بشحمه ولحمه، الرجل الذي تبحث عنه الاجهزة الأمنية في السودان كله، هاهو خلفهما يبتسم في وداعة، وكان حوار وسلام حار وسؤال عن الأحوال، وكان عرض منه وزوجته للصديق القديم المطلوب امنيا حاليا للقاء زوجته عندهم، فلم يتردد في القبول، ادرك البص محطتهما فودعاه وهبطا، وبعد أيام قليلة حلت سعاد بمنزل أحمد وسميرة ليستعيدوا دفء ايام الجامعة حين كان احمد وسميرة قصة حب ومشروع زواج يظن الكثيرين انه سيسدل عليه ستار بنهاية الدراسة، لكنهما خيبا أمل المتشائمين وباتا زوجين تضمهما شقة صغيرة في قلب الخرطوم واحلام كبيرة،في تلك الأمسية جاء عمار مستترا بالظلام طرق الباب وولج ليلتقي سعاد بعد انقطاع طويل، كعادتها لم تأت سعاد خاوية الأيدي ، بل اتت حاملة ما استطاعت حمله من طعام ومستلزماته، دامت الاستضافة للثنائي الملاحق يومان كاملان، ثم ذهب عمار نحو المجهول وخرجت سعاد سعيدة باسمة لتواصل كفاحها، لكنهما قبل ان يغادرا سردا علي مسامع احمد وسميرة قصصا موجعة عن بعض من كانوا اصدقاء في زمن ماض، كانت اكثر القصص ايلاما هي قصة ذلك الصديق الذي التقي عمار عن طريق صدفة مماثلة وعرض الاستضافة لهما، وحين حل عمار وسعاد بالدار، وجدا تجهماً ونفوراً لاحدود لهما من التي كانت ذات يوم صديقة، بل سمعاها وهي تؤنب زوجها علي جلبه لهما وتطلب منه بحزم التخلص منهما قبل وقوع مصيبة، حين دخل الرجل كان يرتعش ويتمتم بكلام غير مفهوم، ودع عمار سعاد وخرج بلا كلام، وانتظرت سعاد قليلا ثم خرجت هي الأخري بلاعودة وقد خرج من قائمة معارفها واصدقائها اسمان آخران اضافة الي من سبقوا. ضحكت سعاد وقالت وهي تكشف عن اسنان بيضاء منتظمة( والله بقينا ملطشة، كلما دقينا باب ، طلعت لافتة قبال سيدو تقول( غير مرغوب بكما.....)، غايتو ليهو حق ضابط الأمن يقول لي اولادك ديل جبتيهم كيف يعني... بالهوا؟! ليهو حق.....) ، يحكي عمار قصصا كثيرة تبقي أكثرها إثارة قصة اللقاء بينه وبين مصطفي عابدين العدو اللدود القديم الذي بات الصديق الصدوق بغير ميعاد، كان عماريمشي راجلا في حي كوارث الشعبي في طرف المدينة في أحد الأيام، كانت معظم الشوارع هناك مظلمة لاضوء فيها ليلا الا اذا صادف اليوم اكتمالا للقمر، كان حي كوارث مقرا لعدد من البيوت الآمنة التي يتنقل فيها عمار ضمن تنقلاته في جنح الظلام، في ذلك اليوم فرضت الصدفة ان يلتقي وجها لوجه مع مصطفي عابدين في أكثر نقطة مضيئة في الشارع ، ،لم يكن ثمة مجال للتواري، حتي ظن عمار انه وقع في كمين محكم فتلفت حواليه فلم يجد أثراً للكمين، لم تكن هناك عربة ولم يكن هناك اشخاص آخرون سواهما، نظر مصطفي طويلا اليه والي ملابس انصار السنة التي يرتديها، ثم ابتسم وفتح ذراعيه ليعانقه مرحبا به باسمه كاملا،بهت عمار، تلفت حوله ولم يجد أحداً، فكر في الانكار انه عمار،لكن الابتسامة الودودة علي وجه مصطفي منعته ، فبادله السلام والمعانقة وهو لازال متوجسا، ضحك مصطفي وقال كأنه يجيب علي تساؤلاته ( تغير كل شئ في هذه الهرة التي تأكل بنيها ياعمار، بت مطلوبا مثلك ومراقبا مثلك وخير لك الا تطيل الوقوف معي هنا في هذا المكان المكشوف، تعال معي ان كنت تثق بي......) وجد عمار نفسه كالمسحور يتبع الابتسامة وصاحبها ويغيب معه في جوف دار فسيحة في شارع جانبي قريب، هناك بقي عمار في ضيافة مصطفي عدة أيام وكانت البداية لصداقة لم تخطر أبدا علي بال أحد منهما يوماً. في تلك الدار نفسها التقيت بمصطفي ياقاقرين ، كان مستحيلا ان تنسي وجهه، وكان مستحيلا أن تنسي الظروف التي عرفته فيها أول مرة، وكان عسيرا أن تتفهم كل تلك الثقة التي أودعها عمار فيه.قلت لعمار بغضب ودهشة بمجرد ان اعطاكما مصطفي ظهره وخرج لاحضار بعض الاحتياجات( كيف تثق في رجل كان يوما ضمن كتائب فعلت بالرجال ما لم يفعله نجار بالخشب؟ كيف تصدق أنه لم يعد واحدا منهم؟ كيف تثق فيه وتنام هانئا في بيته مثلما ينام طفل في جحر ثعبان؟) ابتسم عمار برقة كعادته وقال لك بصوته الوقور( أثق في الرجل كثيراً ياعصام،الرجل الذي يعرف كيف يتقي شر الطاعة العمياء رجل يمكن الوثوق به، هذا الرجل من اصدق وانبل من عرفت من الرجال في حياتي......الأوهام المتبادلة هي التي صنعت كثيرا من الاشياء القبيحة التي حدثت، لايمكن ان نفكر بطريقة جديدة مالم نتخلص من الأوهام القديمة ياصديقي......)انفثأ الكثير من غضبي وانا انظر الي عمار واتذكر تلك الايام في مدرسة الكادر الحزبي وهو يحاضرنا عن كيفية السيطرة علي انتباه السامعين وعدم تشتيت افكارهم وذلك الانبهار بالفكر الجمهوري الذي كان ظاهرا في كل شئ يقوله ويفعله،ذهبت بذاكرتي بعيدا، عدت الي الجامعة وايام الغضب والمواجهة، استعدت صورة مصطفي وهو يتقدم كتائب الاتجاه الاسلامي هاتفاً بصوت جهير( الخرطوم ليست موسكو....)وأسمع صوتأ يهتف من الاتجاه الاخر (عاش كفاح الطبقة العاملة) ، ثم اسمع قعقعة كقعقعة السيوف، تسيل دماء ، يسقط البعض ولاينهض، أري عناوين الصحف الحائطية المتشاكسة بخيالي، ينفتح باب الغرفة، يدخل مصطفي عابدين حاملا صينية العشاء ، ينهض عمار مبتسما ليصافح العم عابدين الفران والد مصطفي، افيق من تأملاتي ، اصافح العم عابدين ، انظر الي مصطفي من جديد كأنني اراه لأول مرة، يبتسم في وجهي، فابتسم وأمد يدي نحو الطعام متشوقا لتذوقه. أقول لنفسي مجددا( هل كان الأمر يستحق كل ما جري؟! هل كان محتما أن يجري ما جري؟! هل يستحق الأمر كل هذه الأنهار من الدماء؟! وهل تري كان من سعي للربح رابحا؟! وهل تري كان من سحقته الأقدام وداست عليه مسحوقا ومستحقا ما جري؟!) نظرت الي ظهر العم عابدين المحني ، يديه المعروقتين، ثم نظرت الي الأرغفة علي المائدة، وسألت نفسي أينا أكثر فائدة للوطن: هو الذي يصلي نارا ذات لهب في الدنيا لكي يطعم الجائعين أم نحن وأولئك الذين أشعلوا نيرانا ذات لهب في كل اركان البيت؟!) فرغنا من الطعام حمدنا الله، نهض مصطفي ثم استوينا واقفين نصلي خلفه نحن الثلاثة في خشوع .

صلاح سر الختم علي
27-06-2013, 10:26 PM
85
هاهو الكابوس صار حقيقة ماثلة،أعلن انفصال الجنوب عن الشمال رسميا، ضاعت الدماء هباءً منثوراًورفعت الأقلام وجفت الصحف وابتلعوا كل معسول الكلام عن وحدة جاذبة أو ممكنة،هلل البعض هنا وهناك، نحرت ذبائح علي جسد الوطن الجريح، لم يحترموا حتي حقه في الحزن، ويا للسخرية سموا الدولة الوليدة جنوب السودان ، كأنهم أدركوا في اللحظات الأخيرة أن الانفصال علي أرض الواقع وهم فسجلوا اعترافا باستحالته بتلك التسمية،لاتبتئس ياتمبل باي فلاتزال غابتك وتماسيحك وأشجار الأبنوس تحمل أسم السودان بشكل ما ،لازال النهر يركض من الغابة حتي حدود الصحراء في ذات المجري متمهلا مثل غزالة برية تركض مع رفيقاتها حول مورد ماء، كنت تبكي وطنا ياقاقرين مع لويجي الواجم،نام لويجي حفيد تمبل باي البارحة في بيته في بورتسودان سودانيا مكتمل السودانية،فأفاق صباحا ليجد نفسه أجنبيا في وطنه،بلا أهلية لشغل منصب شغله بكفاءته وجنسية موروثة أبا عن جد ،من نيكانجوا وتلك الجدة التي خرجت من النهر في ليلة مظلمة فأضاءت المكان،أي جنون هذا الذي ينزع ظفرا من اللحم ؟ أي جنون هذا الذي يجردك يا لويجي مما تملك لأن البعض هنا وهناك أراد ذلك؟
كنت تنظر اليه بطوله الفارع وجبهته الموشومة بوشم الجدة التي خرجت من النهر، ثم تنظر الي جون الصغير والي ميري الواجمة هي الأخري، وتتذكر ذكريات كثيرة جمعتكم ، تتذكر رفضه القاطع للسكني في غرفة صغيرة من البيت بينما هو يسكن البيت كله، كانت تلك هي طريقته في التعبير عن افكاره دائما ، فهو يعشق التشبيهات والأمثلة، تنظر اليه بأسي الآن، تقول له في سرك: هل تري خسرت الرهان يا لويجي؟ هل تري الحصان الأسود اللامع سيمضي مرغما نحو غرفة صغيرة من البيت الوسيع أم انه سيرفض فارسه ويركض حرا صوب غابة جده تمبل باي ويتمسك بغابته وكاد اتوم في آن واحد؟
تتذكر الجيتار الذي جمعكما يا قاقرين وألف بين قلبيكما أيام الجامعة حين كان لويجي أمهر عازف جيتارفي حفلات الجامعة قبل ان تبتلع موهبته الوظيفة ووقارها المفروض، تبحث بعينيك عنه في المكان، تجده بصعوبة في أحد الأركان مهملاً وصامتاً وواجماً مثل صاحبه الذي كان لايفارقه عندما يكون في البيت الصغير في ديم بوليس ، كان يعزف وهو يضع جون الصغير في حجره، فيهتز الصغير طرباً ويتدلي نازلاً ليفصح عن تذوقه للموسيقي باكراً ويرقص بايقاع سليم علي أنغام أبيه، فتنفجروا جميعا ضاحكين، ما بال جيتارك صامتاً الان يا لويجي؟ مابال اناملك الرشيقة لاتداعبه كما كنت تفعل دائماً؟
تنظر ناحية جون الصغير وتحلق بخيالك نحو مدرسة تمبل باي في الهواء الطلق كما وصفها سالم الرشيد في مذكراته، تتخيل جون الصغير جالسا في حجر جده تمبل باي ممسكا بقطعة من الأبنوس ليستخرج منها واحدا من حيوانات الغابة، لكن جون ينحت جيتارا، يوبخه جده ويعطيه قطعة جديدة من الأبنوس، فينحت جون الصغير عمارة من عدة طوابق،فيأخذ منه تمبل باي الأبنوس، يحمله علي كتفيه ويتجول به في الغابة من أقصاها الي اقصاها، ثم يدخل به النهر سابحا كتمساح عشاري وسط التماسيح اللامعة عيونها، يضحك الصغير ويحيها مثلما يحي اقرانه في ديم بوليس، يشق تمبل باي طريقه وسطها والصغير متعلقا برقبته النحيلة.
تتذكر ذلك اليوم، لويجي الجبل، لويجي الحصان الأسود، لويجي الضاحك،كان يبكي كطفل صغير، كان قد تلقي يومها خطابا رسميا قصيرا يفيده بانهاء خدماته لدي حكومة السودان ويحيله الي معاش مستحق ومكافأة نهاية خدمة ورحيل واجب الي وطن جديد،لم يستطع ان يفهم كيف يفقد المرء هويته وعمله وبيته الذي عرفه عمره كله فجأة لسبب لايد له فيه وبموجب تصويت لم يشارك فيه ، كان حزينا وثائرا حزنا وثورة سقطا من حسابات من وقعوا الاتفاقات ورسموا المسارات التي انتهت بالوطن الواحد وطنين وبأناس مثل لويجي منزوعي الهوية والوظيفة ونمط الحياة والأصدقاء والذكريات بلا سبب،هل كان الأمر يستحق كل هذا العناء وكل هذه الدموع؟!هل تري فكر مهندسو الانفصال في مثل هذه العذابات الصغيرة الكبيرة؟هل تراهم فكروا في شجرة الدماء التي روت جذور الوحدة طيلة السنوات المنصرمة وهم يقررون الانفصال ليريحوا انفسهم من وجع الدماغ؟! هل تراهم فكروا ماذا يقولوا لأولئك الذين ملئت صدورهم باناشيد الوحدة وأغاني الشهادة في سبيل الوطن ثم تفجروا في الغابات كالنيازك، هل يقولوا لهم انهم كانوا غزاة لاشهادة لهم ولاقبور؟ هل بامكانهم ان يخرجوا لسانهم لمن قاتل لاجل الوحدة في صفوف الجيش النظامي أو جيوش المتمردين ويقولوا لهم انهم قاتلوا تحت راية لاوجود لها؟ هل يجروء واحد منهم علي قول ذلك او علي الاعتراف بان دماء هؤلاء واولئك ذهبت سدي؟
وهل يجروء أحد منهم علي الاعتراف بأنه قتل لويجي بطريقة ما؟
نعم رحل لويجي فجأة كما رحلت الغزلان والزرافات مفزوعة من غابات الجنوب الي دول الجوار، رحل مفزوعا ومبتئسا من الانفصال، شحب وجهه فجأة وزوي سريعا مثل شمعة قبل ان يستطيع الطب تشخيص دائه، ركضوا به الي القاهرة في سباق مع الموت، لكن الحصان الأسود الباسم ابتسم قبل اللفة الأخيرة وأحتضن فيلاً أبنوسياً من صنع جده تمبل باي ادوك ونام وعيونه مفتوحة علي النيل في القاهرة وقلبه مع جون وميري في أمدرمان حيث فريق الهلال الذي أحبه وشجعه وتمني اللعب فيه وحيث دار صغيرة تضم أسرة منزوعة الجنسية ترفض الرحيل. كان لويجي ساعتها يبتسم ، لعله رأي جدته في تلك اللحظة ذاتها تخرج من النهر في القاهرة قبالة غرفته في المستشفي لكي تطبع علي جبهته قبلة الوداع الأخيرة حيث وضعت وشمها بالضبط، كان لويجي يبتسم ، والجدة تبتسم وتمبل باي يبتسم وهو يخرج اسماكه من النهر والشمس متعامدة فوق جبهته عند ذات الوشم، كان تلاميذه يشتغلون بهمة علي الأبنوس،والغابة تنفخ الروح في المنحوتات الخشبية فتمسي حية وتمشي فوق الأديم ، فيبتسم الأطفال، كان جون في وسطهم يحمل جيتارا من الأبنوس وكرة من العاج وعلي جبهته هلال وعلي رقبته صليب وهو يتراقص تحت الشمس وتمبل باي يبتسم في غموض ماكر.
تمت
مروي في 28 يونيو 2013
صلاح الدين سر الختم علي

صلاح سر الختم علي
14-07-2013, 08:37 PM
قريبا تري النسخة الورقية من هذه الرواية النور تحت اسم ( بحيرة التماسيح)
حيث قررت تعديل الأسم من (خطوات وبصمات) الي ( بحيرة التماسيح)
وهذه الرواية هي العمل الثاني لي الذي يولد علي الهواء بمنتديات ودمدني

صلاح سر الختم علي
07-08-2013, 04:12 AM
كالعادة إكتمل نشر الرواية
ولم ترد ردود أفعال من القراء حتي الآن سوي القراءة فقط!!!

صلاح سر الختم علي
06-09-2013, 04:30 AM
فلتسمحوا لى بابقاء الرواية up

صلاح سر الختم علي
28-09-2013, 08:55 PM
up up up up up
up
up

صلاح سر الختم علي
24-10-2013, 09:32 AM
قراءة مستمرة
قراءة مستمرة
قراءة مستمرة
قراءة مستمرة

صلاح سر الختم علي
11-11-2013, 07:39 AM
قراءة مستمرة
قراءة مستمرة
قراءة مستمرة
قراءة مستمرة

محمد الجزولى
12-11-2013, 03:18 AM
أستاذنا العزيز صلاح سرالختم
لمشغوليات كثيرة لم أتابع الأجزاء الأخيرة من الرواية
عذرا ثم عذرا
أتمنى أن يحالفني الحظ وأحصل على النسخة الورقية منها
تحياتي لك

صلاح سر الختم علي
12-11-2013, 07:38 AM
الاخ محمد بأذن الله تصلك نسختك فور اكتمال الطبع
حيث ان الرواية تحت الطبع بمركز الحضارة العربية بالقاهرة
والمتوقع ان ترى النور في ديسمبر المقبل

صلاح سر الختم علي
05-12-2013, 09:25 AM
قراءة مستمرة
قراءة مستمرة
قراءة مستمرة
قراءة مستمرة