أبونبيل
03-08-2012, 12:24 PM
يوميات صحفية مصرية فى سجون المخابرات السودانية (1)
شيماء عادل تكتب عن محنة الـ 14 يوما..
أشعة الشمس تتساقط كالأعمدة على رؤوس مرتادى ميدان التحرير، الجميع يلتف فى مجموعات، بعضهم حول أجهزة الراديو الملحقة بالهواتف المحمولة، والبعض الآخر حول السيارات التى وقفت على مداخل ومخارج الميدان، فاليوم موعد إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية بعد تأجيلها 4 أيام، الجميع يؤكد فوز الفريق أحمد شفيق رغم إعلان جماعة الإخوان المسلمين تقدم مرشحها الدكتور محمد مرسى، من خلال محاضر الفرز التى رفعتها حملته الانتخابية عبر موقعها الإلكترونى.
الشوارع خالية، والبنوك أغلقت أبوابها، وقوات الجيش انتشرت لتأمين المنشآت الحيوية بالبلاد، ومصادر أمنية رفيعة المستوى تتصل بالزملاء الصحفيين تنصحهم بسحب أموال كافية من البنك، لأن القادم لا يعلمه إلا الله، ووضع سياراتهم فى أماكن آمنة، خوفاً من اندلاع أحداث تهدد أمن البلاد.
ودعت أسرتى الصغيرة المكونة من 4 أفراد، وجلست إلى جوار والدتى، ووجدتنى أسألها للمرة الأولى: "ماما، لو حصل لى حاجة وأنا باشتغل، انضربت أو اعتقلت أو اتسحلت زى زمايلى فى أحداث العباسية، هتعملى إيه؟"
الأعصاب متوترة فى الميدان، والمستشار فاروق سلطان ما زال مستمراً فى خطبته العصماء، التى جعلت الحضور يفترشون الأرض، بعدما عجزت أرجلهم عن حمل أجسامهم. دقت الساعة الثالثة ظهراً، ودق معها ناقوس فوز «مرسى» بمنصب رئيس الجمهورية. حالات إغماء وبكاء منقطعة النظير فى أرجاء الميدان، كان بينها رجل أربعينى يبكى ممسكا بهاتفه المحمول، وهو يردد كلمة واحدة «خلاص يا محمود مفيش معتقلات تانى». أنهى الرجل حديثه وأنا واقفة أمامه تائهة فى سر سعادته التى لم أر مثلها من قبل، فبادرنى والبسمة على وجهه: «أصل محمود ده بقاله 18 سنة مرمى فى المعتقلات.. خلاص مفيش معتقلات تانى».
لم أعرف سر سعادة الرجل بغياب المعتقلات، فـ«المعتقل» بالنسبة لى مجرد كلمة تتردد على مسامعى يومياً. فى عام 2008 سافرت إلى غزة بصحبة الزميلين محمد عادل وشهرته «العميد ميت» وعبد العزيز مجاهد لتغطية الحصار الإسرائيلى على القطاع، دخلنا لأداء مهمتنا، أنا كصحفية تحت التمرين فى جريدة «المصرى اليوم»، وهما بصفتهما من المدونين النشطين. رجعنا إلى القاهرة لتصلنى أنباء عن اعتقال الزميلين، وفقاً لما تردد وقتها، لأنهما ينتميان لجماعة الإخوان.
خرج الزميلان بعد اعتقال تخطى الشهر، ورفضا أن يبلغانى بأية تفاصيل عما تعرضا له داخل المعتقل، واكتفيا بالقول: «انت بنت وما ينفعش نحكيلك اللى حصل»، حاولت معرفة ما حدث، لكن محاولاتى باءت بالفشل، بينما ظلت تربطنى بالزميلين صداقة، حتى اندلعت ثورة 25 يناير، ليتزامن معها حركة اعتقالات ومحاكمات عسكرية طالت قرابة الـ12 ألفا، وكان من قصصها المريرة قصة اعتقال محمود أمين فى أحداث العباسية الأخيرة.
ولمن لا يعرف محمود، فإنه أول شاب فقد بصره يوم 25 يناير، وتم نقله إلى مستشفى معهد ناصر، ولم يشفع له كونه أحد مصابى الثورة، للحيلولة دون ضمه إلى قائمة «المحاكمين عسكريا»، رغم أن كل ذنبه أنه توجه إلى العباسية لسحب أصدقائه من الميدان بعدما ورد اليه نبأ مقتل زميله عادل الجوهرى خطيب عزة هلال (صاحبة الجاكت الأحمر) التى حاولت إنقاذ فتاة مجلس الوزراء من أيدى الجنود، ولُقبت بعدها بـ«ست البنات»، تاركاً عمليته الجراحية لاستخراج شظية أصابت عينه، واستقر جزء منها على غشاء المخ.
عدت إلى المنزل بعدما اطمأن قلبى، بوصول الدكتور محمد مرسى لقصر الرئاسة. أخذت أقلب القنوات الفضائية لمعرفة صدى الخبر على المستويين العربى والعالمى، وإذا بى أمام أخبار خروج مظاهرات فى عدة مدن فى السودان، احتجاجاً على إجراءات التقشف التى أعلنتها حكومة الفريق عمر البشير، وأخبار أخرى عن تعرض قطاع غزة لقصف إسرائيلى.
وقعت فى حيرة من أمرى؛ هل أسافر إلى غزة لتغطية أحداث القصف، أم إلى السودان لتغطية الاحتجاجات. وبعد تفكير وقع الاختيار على السودان، لأننى لم أزرها من قبل على عكس القطاع. رفعت سماعة الهاتف واتصلت بالأستاذ مجدى الجلاد رئيس تحرير «الوطن»، وقلت له: «السودان فيها احتجاجات يا ريس»، وقبل أن أكمل كلامى قال لى: «سافرى يا شيماء وخدى بالك من نفسك».
لم أعرف سر سعادة الرجل الأربعينى بين المحتفلين بفوز «مرسى» بالرئاسة فى ميدان التحرير وهو يردد «خلاص يا محمود مفيش معتقلات تانى»
ذهبت إلى الجريدة وأنهيت إجراءات مأمورية سفرى إلى السودان، بعد الاتفاق على أن عملى سيضم شقين: تغطية الاحتجاجات السودانية بسبب إجراءات التقشف، ومقابلة أحد المسئولين السودانيين لمعرفة طبيعة العلاقات بين مصر والسودان بعد وصول الإخوان إلى الحكم.
ولأنها المرة الأولى لى فى السودان، جلست مع الزملاء سماح عبدالعاطى من قسم التحقيقات، ومتولى سالم رئيس قسم الزراعة والرى بالجريدة، وأيمن شرف رئيس قسم الترجمة، للاستفادة من خبراتهم فى زياراتهم السابقة للسودان، وتغطية موضوعات تتعلق بالشأن السودانى، وأمدتنى سماح بعنوان فندق يقع فى «السوق العربى» بقلب الخرطوم يسمى «كابرى»، وتطوع شرف بإعطائى رقم صديقه محمد الأسباط الصحفى بجريدة السودانى، الذى اعتقلته قوات البشير بعد 10 أيام من اعتقالى.
أما الزميلة عبير السعدى، وكيل نقابة الصحفيين للتدريب وتطوير المهنة، فكان لها نصيب لا بأس به من مساعدتى، فكنت أتواصل معها عبر الـ«فيس بوك» يوميا، فى إجراء أتبعه قبل سفرى لأى مدينة خارج مصر، حتى تكون نقابتى متواصلة معى تأميناً لى ولمد يد المساعدة فى حال احتجتها.
حزمت حقائبى وتوجهت إلى مطار القاهرة القديم لأحصل على التطعيم والبطاقة الصفراء، ثم إلى المطار الجديد للحاق بطائرتى المتجهة إلى الخرطوم فى الثالثة إلا ربعاً وأنا أتذكر كلمات زميلتى سماح: «خدى بالك من نفسك ويا ريت ما تدفعيش للتاكسى أكتر من 7 جنيه، وقولى له اسم الفندق وإنه فى منطقة اسمها السوق العربى، واوعى تنزلى من التاكسى إلا لما يوصلك لحد الفندق».
ركبت الطائرة، وأجلسنى الحظ إلى جوار سيدة أربعينية، مصرية الأم سودانية الأب، علمتْ أنها زيارتى الأولى للسودان، وأخذت ترسم لى صورة لمدينة الخرطوم، وتاريخ السودان وحضارتها قائلة: «البيوت أغلب سكانها عائلات، ولا تعلو على 4 طوابق فى أغلب الأحوال، على عكس مصر»، ثم تمسك السيدة بالكرسى فجأة: «مش باحب اقعد جنب الشباك لأنى أخاف من المرتفعات»، ثم تضحك: «دا ابنى بيحب مصر جدا، شايفة لابس خاتم عليه علم مصر، بس أنا باخاف عليه من مظاهرات الجامعة، خايفة يُعتقل وماعرفش عنه أى حاجة».
تصمت السيدة للحظات ثم تقول: «إحنا عكس مصر وتونس، البلدين قاموا بثورة جابت الإسلاميين للحكم، أما احنا فالإسلاميين موجودين ومش هيسيبوا الحكم، وللأسف الناس ماتعرفش إن السودان قام فيه ثورتين قبل كده»، ثم أخرجت ورقة من حقيبتها وكتبت عليها أرقام تليفوناتها، وقالت لى: «احنا خلاص بقينا أصحاب، وأول ما تجيبى خط تليفون، يا ريت تكلمينى عشان اعزمك على الغدا».
جلست أقلب الفضائيات بين احتجاجات السودان على التقشف وقصف غزة وتحيرت إلى أى جهة أسافر لتغطية الأحداث
انتهت السيدة من كتابة الأرقام، وانتهت معها رحلتنا ليعلن الطيار وصولنا إلى مطار الخرطوم. بمجرد أن وصلت الطائرة طلب منا الطاقم الجلوس للحظات، لم نكن نعرف الأسباب، لكننا وجدنا وفدا يبدو رسميا، مكونا من 10 أشخاص يلبسون جلابيب وعمامات بيضاء، يقفون أسفل سلم الطائرة، لاستقبال مجموعة من السودانيين، تبين بعد ذلك وجود حالة وفاة معهم، وجرى نقلهم فى سيارة خاصة إلى صالة الوصول.
كان من بين المسافرين سيدة أخرى بدت مصرية، الحزن لم يفارق وجهها منذ غادرنا القاهرة لدرجة جعلتها تبكى أثناء ركوبها الأتوبيس الداخلى لمطار الخرطوم، اقتربت منها وساعدتها على حمل حقائبها، التى تدل على أنها ستقيم لفترات طويلة فى العاصمة السودانية، سألتنى عن سبب زيارتى، أخبرتها أننى جئت للعمل، لم تسألنى عن جهة العمل، لكنها ردت مستنكرة: «حد ييجى السودان فى الظروف دى؟ لولا جوزى ما كنتش جيت أصلا».
لم أفهم الرسالة التى أرادت أن ترسلها لى السيدة، ولكنها قالت لى قبل مغادرتى المطار: «زوجى يعمل هنا طبيباً فى أحد المستشفيات الخاصة ويواجه مشاكل ومضايقات من قبَل المسئولين السودانيين لمجرد أنه مصرى»، ثم كتبت لى رقم هاتف زوجها وقالت لى: «إذا احتجتِ أى مساعدة كلمينا عشان نكون جنبك وربنا يعينك ويقويك يا بنتى».
تركتُ السيدة، دون أن أفهم مغزى كلماتها، وتوجهت إلى الجوازات لسحب بطاقة مخصصة للمسافرين الأجانب وملئها بكل البيانات: الاسم بالكامل «شيماء عادل عطية حافظ حسانين»، اسم الفندق الذى سأنزل به «كابرى»، مهنتى «صحفية بجريدة الوطن»، وسبب الزيارة «العمل وزيارة أصدقاء»، ليختم الشخص المسئول جواز سفرى ويسمح لى بالمرور.
خرجت من المطار لاستقلال تاكسى، استعدت نصائح زميلتى سماح، بالاستعلام عن مقابل التوصيلة مسبقا، يجيبنى السائق: «30 جنيه يا أستاذة»، تركته وسألت آخر، «نفس الأجرة»، والثالث لم ينقص أو يزيد، وعندما أخبرته بأن زميلتى كانت تدفع 5 أو 7 جنيهات رد السائق: «دا كان زمان قبل أن ترفع الحكومة الدعم عن المحروقات».
وصلنا إلى الفندق فى الثامنة مساء، وطلبت حجز غرفة باسم جريدة الوطن المصرية، مع تسجيل بياناتى كاملة، ودونت فيها أننى صحفية وأعمل فى جريدة الوطن للمرة الثانية على التوالى، لأتمكن أخيراً من الذهاب إلى غرفتى رقم 104، وآخذ قسطاً من الراحة، بدأ بالاستغراق فى نوم عميق، لم أستيقظ منه إلا صباح اليوم التالى
شيماء عادل تكتب عن محنة الـ 14 يوما..
أشعة الشمس تتساقط كالأعمدة على رؤوس مرتادى ميدان التحرير، الجميع يلتف فى مجموعات، بعضهم حول أجهزة الراديو الملحقة بالهواتف المحمولة، والبعض الآخر حول السيارات التى وقفت على مداخل ومخارج الميدان، فاليوم موعد إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية بعد تأجيلها 4 أيام، الجميع يؤكد فوز الفريق أحمد شفيق رغم إعلان جماعة الإخوان المسلمين تقدم مرشحها الدكتور محمد مرسى، من خلال محاضر الفرز التى رفعتها حملته الانتخابية عبر موقعها الإلكترونى.
الشوارع خالية، والبنوك أغلقت أبوابها، وقوات الجيش انتشرت لتأمين المنشآت الحيوية بالبلاد، ومصادر أمنية رفيعة المستوى تتصل بالزملاء الصحفيين تنصحهم بسحب أموال كافية من البنك، لأن القادم لا يعلمه إلا الله، ووضع سياراتهم فى أماكن آمنة، خوفاً من اندلاع أحداث تهدد أمن البلاد.
ودعت أسرتى الصغيرة المكونة من 4 أفراد، وجلست إلى جوار والدتى، ووجدتنى أسألها للمرة الأولى: "ماما، لو حصل لى حاجة وأنا باشتغل، انضربت أو اعتقلت أو اتسحلت زى زمايلى فى أحداث العباسية، هتعملى إيه؟"
الأعصاب متوترة فى الميدان، والمستشار فاروق سلطان ما زال مستمراً فى خطبته العصماء، التى جعلت الحضور يفترشون الأرض، بعدما عجزت أرجلهم عن حمل أجسامهم. دقت الساعة الثالثة ظهراً، ودق معها ناقوس فوز «مرسى» بمنصب رئيس الجمهورية. حالات إغماء وبكاء منقطعة النظير فى أرجاء الميدان، كان بينها رجل أربعينى يبكى ممسكا بهاتفه المحمول، وهو يردد كلمة واحدة «خلاص يا محمود مفيش معتقلات تانى». أنهى الرجل حديثه وأنا واقفة أمامه تائهة فى سر سعادته التى لم أر مثلها من قبل، فبادرنى والبسمة على وجهه: «أصل محمود ده بقاله 18 سنة مرمى فى المعتقلات.. خلاص مفيش معتقلات تانى».
لم أعرف سر سعادة الرجل بغياب المعتقلات، فـ«المعتقل» بالنسبة لى مجرد كلمة تتردد على مسامعى يومياً. فى عام 2008 سافرت إلى غزة بصحبة الزميلين محمد عادل وشهرته «العميد ميت» وعبد العزيز مجاهد لتغطية الحصار الإسرائيلى على القطاع، دخلنا لأداء مهمتنا، أنا كصحفية تحت التمرين فى جريدة «المصرى اليوم»، وهما بصفتهما من المدونين النشطين. رجعنا إلى القاهرة لتصلنى أنباء عن اعتقال الزميلين، وفقاً لما تردد وقتها، لأنهما ينتميان لجماعة الإخوان.
خرج الزميلان بعد اعتقال تخطى الشهر، ورفضا أن يبلغانى بأية تفاصيل عما تعرضا له داخل المعتقل، واكتفيا بالقول: «انت بنت وما ينفعش نحكيلك اللى حصل»، حاولت معرفة ما حدث، لكن محاولاتى باءت بالفشل، بينما ظلت تربطنى بالزميلين صداقة، حتى اندلعت ثورة 25 يناير، ليتزامن معها حركة اعتقالات ومحاكمات عسكرية طالت قرابة الـ12 ألفا، وكان من قصصها المريرة قصة اعتقال محمود أمين فى أحداث العباسية الأخيرة.
ولمن لا يعرف محمود، فإنه أول شاب فقد بصره يوم 25 يناير، وتم نقله إلى مستشفى معهد ناصر، ولم يشفع له كونه أحد مصابى الثورة، للحيلولة دون ضمه إلى قائمة «المحاكمين عسكريا»، رغم أن كل ذنبه أنه توجه إلى العباسية لسحب أصدقائه من الميدان بعدما ورد اليه نبأ مقتل زميله عادل الجوهرى خطيب عزة هلال (صاحبة الجاكت الأحمر) التى حاولت إنقاذ فتاة مجلس الوزراء من أيدى الجنود، ولُقبت بعدها بـ«ست البنات»، تاركاً عمليته الجراحية لاستخراج شظية أصابت عينه، واستقر جزء منها على غشاء المخ.
عدت إلى المنزل بعدما اطمأن قلبى، بوصول الدكتور محمد مرسى لقصر الرئاسة. أخذت أقلب القنوات الفضائية لمعرفة صدى الخبر على المستويين العربى والعالمى، وإذا بى أمام أخبار خروج مظاهرات فى عدة مدن فى السودان، احتجاجاً على إجراءات التقشف التى أعلنتها حكومة الفريق عمر البشير، وأخبار أخرى عن تعرض قطاع غزة لقصف إسرائيلى.
وقعت فى حيرة من أمرى؛ هل أسافر إلى غزة لتغطية أحداث القصف، أم إلى السودان لتغطية الاحتجاجات. وبعد تفكير وقع الاختيار على السودان، لأننى لم أزرها من قبل على عكس القطاع. رفعت سماعة الهاتف واتصلت بالأستاذ مجدى الجلاد رئيس تحرير «الوطن»، وقلت له: «السودان فيها احتجاجات يا ريس»، وقبل أن أكمل كلامى قال لى: «سافرى يا شيماء وخدى بالك من نفسك».
لم أعرف سر سعادة الرجل الأربعينى بين المحتفلين بفوز «مرسى» بالرئاسة فى ميدان التحرير وهو يردد «خلاص يا محمود مفيش معتقلات تانى»
ذهبت إلى الجريدة وأنهيت إجراءات مأمورية سفرى إلى السودان، بعد الاتفاق على أن عملى سيضم شقين: تغطية الاحتجاجات السودانية بسبب إجراءات التقشف، ومقابلة أحد المسئولين السودانيين لمعرفة طبيعة العلاقات بين مصر والسودان بعد وصول الإخوان إلى الحكم.
ولأنها المرة الأولى لى فى السودان، جلست مع الزملاء سماح عبدالعاطى من قسم التحقيقات، ومتولى سالم رئيس قسم الزراعة والرى بالجريدة، وأيمن شرف رئيس قسم الترجمة، للاستفادة من خبراتهم فى زياراتهم السابقة للسودان، وتغطية موضوعات تتعلق بالشأن السودانى، وأمدتنى سماح بعنوان فندق يقع فى «السوق العربى» بقلب الخرطوم يسمى «كابرى»، وتطوع شرف بإعطائى رقم صديقه محمد الأسباط الصحفى بجريدة السودانى، الذى اعتقلته قوات البشير بعد 10 أيام من اعتقالى.
أما الزميلة عبير السعدى، وكيل نقابة الصحفيين للتدريب وتطوير المهنة، فكان لها نصيب لا بأس به من مساعدتى، فكنت أتواصل معها عبر الـ«فيس بوك» يوميا، فى إجراء أتبعه قبل سفرى لأى مدينة خارج مصر، حتى تكون نقابتى متواصلة معى تأميناً لى ولمد يد المساعدة فى حال احتجتها.
حزمت حقائبى وتوجهت إلى مطار القاهرة القديم لأحصل على التطعيم والبطاقة الصفراء، ثم إلى المطار الجديد للحاق بطائرتى المتجهة إلى الخرطوم فى الثالثة إلا ربعاً وأنا أتذكر كلمات زميلتى سماح: «خدى بالك من نفسك ويا ريت ما تدفعيش للتاكسى أكتر من 7 جنيه، وقولى له اسم الفندق وإنه فى منطقة اسمها السوق العربى، واوعى تنزلى من التاكسى إلا لما يوصلك لحد الفندق».
ركبت الطائرة، وأجلسنى الحظ إلى جوار سيدة أربعينية، مصرية الأم سودانية الأب، علمتْ أنها زيارتى الأولى للسودان، وأخذت ترسم لى صورة لمدينة الخرطوم، وتاريخ السودان وحضارتها قائلة: «البيوت أغلب سكانها عائلات، ولا تعلو على 4 طوابق فى أغلب الأحوال، على عكس مصر»، ثم تمسك السيدة بالكرسى فجأة: «مش باحب اقعد جنب الشباك لأنى أخاف من المرتفعات»، ثم تضحك: «دا ابنى بيحب مصر جدا، شايفة لابس خاتم عليه علم مصر، بس أنا باخاف عليه من مظاهرات الجامعة، خايفة يُعتقل وماعرفش عنه أى حاجة».
تصمت السيدة للحظات ثم تقول: «إحنا عكس مصر وتونس، البلدين قاموا بثورة جابت الإسلاميين للحكم، أما احنا فالإسلاميين موجودين ومش هيسيبوا الحكم، وللأسف الناس ماتعرفش إن السودان قام فيه ثورتين قبل كده»، ثم أخرجت ورقة من حقيبتها وكتبت عليها أرقام تليفوناتها، وقالت لى: «احنا خلاص بقينا أصحاب، وأول ما تجيبى خط تليفون، يا ريت تكلمينى عشان اعزمك على الغدا».
جلست أقلب الفضائيات بين احتجاجات السودان على التقشف وقصف غزة وتحيرت إلى أى جهة أسافر لتغطية الأحداث
انتهت السيدة من كتابة الأرقام، وانتهت معها رحلتنا ليعلن الطيار وصولنا إلى مطار الخرطوم. بمجرد أن وصلت الطائرة طلب منا الطاقم الجلوس للحظات، لم نكن نعرف الأسباب، لكننا وجدنا وفدا يبدو رسميا، مكونا من 10 أشخاص يلبسون جلابيب وعمامات بيضاء، يقفون أسفل سلم الطائرة، لاستقبال مجموعة من السودانيين، تبين بعد ذلك وجود حالة وفاة معهم، وجرى نقلهم فى سيارة خاصة إلى صالة الوصول.
كان من بين المسافرين سيدة أخرى بدت مصرية، الحزن لم يفارق وجهها منذ غادرنا القاهرة لدرجة جعلتها تبكى أثناء ركوبها الأتوبيس الداخلى لمطار الخرطوم، اقتربت منها وساعدتها على حمل حقائبها، التى تدل على أنها ستقيم لفترات طويلة فى العاصمة السودانية، سألتنى عن سبب زيارتى، أخبرتها أننى جئت للعمل، لم تسألنى عن جهة العمل، لكنها ردت مستنكرة: «حد ييجى السودان فى الظروف دى؟ لولا جوزى ما كنتش جيت أصلا».
لم أفهم الرسالة التى أرادت أن ترسلها لى السيدة، ولكنها قالت لى قبل مغادرتى المطار: «زوجى يعمل هنا طبيباً فى أحد المستشفيات الخاصة ويواجه مشاكل ومضايقات من قبَل المسئولين السودانيين لمجرد أنه مصرى»، ثم كتبت لى رقم هاتف زوجها وقالت لى: «إذا احتجتِ أى مساعدة كلمينا عشان نكون جنبك وربنا يعينك ويقويك يا بنتى».
تركتُ السيدة، دون أن أفهم مغزى كلماتها، وتوجهت إلى الجوازات لسحب بطاقة مخصصة للمسافرين الأجانب وملئها بكل البيانات: الاسم بالكامل «شيماء عادل عطية حافظ حسانين»، اسم الفندق الذى سأنزل به «كابرى»، مهنتى «صحفية بجريدة الوطن»، وسبب الزيارة «العمل وزيارة أصدقاء»، ليختم الشخص المسئول جواز سفرى ويسمح لى بالمرور.
خرجت من المطار لاستقلال تاكسى، استعدت نصائح زميلتى سماح، بالاستعلام عن مقابل التوصيلة مسبقا، يجيبنى السائق: «30 جنيه يا أستاذة»، تركته وسألت آخر، «نفس الأجرة»، والثالث لم ينقص أو يزيد، وعندما أخبرته بأن زميلتى كانت تدفع 5 أو 7 جنيهات رد السائق: «دا كان زمان قبل أن ترفع الحكومة الدعم عن المحروقات».
وصلنا إلى الفندق فى الثامنة مساء، وطلبت حجز غرفة باسم جريدة الوطن المصرية، مع تسجيل بياناتى كاملة، ودونت فيها أننى صحفية وأعمل فى جريدة الوطن للمرة الثانية على التوالى، لأتمكن أخيراً من الذهاب إلى غرفتى رقم 104، وآخذ قسطاً من الراحة، بدأ بالاستغراق فى نوم عميق، لم أستيقظ منه إلا صباح اليوم التالى