سنين
13-03-2005, 03:45 AM
عالــــم الأســـرار
ما أعجب تلك النفس التي في داخلنا..
ما أعجب تلك النفس التي في داخلنا..
فيها من النار الشهوة والجوع والغضب والحقد والحسد والغل
وفيها من النور العفو والتسامح والحلم والفهم والحنين إلي النور الأعظم الذي جاءت منه.
فيها من الطين الآلية والتكرار والجمود والرتابة والقصور الذاتي والخمول والكسل والعجز عن التغيير والتثاقل والتهابط .
وفيها من الروحانية الانطلاق والحرية والشفافية والابتكار والخلق والإبداع والخيال والجمال.
وهي لا تولد نارية ولا نورية ولا طينية ولا روحية.. وإنما تولد مجرد إمكانية قابلة للصعود أو الهبوط إلي أي من هذه المراتب.
وإذا تأمل الواحد منا نفسه في موضوعية شديدة ونظر إلي باطنه في حياد مطلق، فإنه يلاحظ أنه في حالة تذبذب دائم بين هذه المراتب صاعدا وهابطا من لحظة لأخرى ومن يوم لآخر، من حالة وجدانية إلي حالة عقلية إلي حالة شهوانية إلي صفاء روحاني.
والصوفيون يسمون هذه المراتب بالمقامات...
وقليل جدا هم الذين يستطيعون الاستقرار والدوام في المقامات الروحية دون أن تشدهم جذبات الشهوة والجوع وأحقاد الحياة المادية وأطماعها.
وكثير جدا هم الذين يستقرون في المراتب السفلية حيث الحياة شهوة ومضاجعة وأكل وشرب وحيث لا هموم إلا هموم البطن والفرج
ويبقي بعد ذلك أوساط الناس ممن يتأرجحون بين النار والنور بين جذبات العلو وجذبات التسافل ينتشلون أنفسهم من إغراء ليقعوا في آخر.
ولأن الشيطان مخلوق من النار, فلا مدخل له علي الإنسان إلا إذا تهابط إلي المرتبة النارية من نفسه وهي مرتبة الشهوة والجوع والغضب والحقد والحسد والغل حينئذ يمكن أن يتم التواصل بين الاثنين بحكم المجانسة.. فيستطيع الشيطان أن يوصل إلي الإنسان وسوساته وأن يؤجج شهواته ويشعل غضباته.. ولكنه يظل معزولا عمن هم في المراتب الروحية العالية بحكم عدم التجانس، فهو لا يستطيع أن يوصل إليهم وسوسته.
ولهذا يقول الله تبارك وتعالي في القرآن للشيطان :
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان (42) [الحجر]
لأنهم إرتفعوا إلي منطقة يستحيل فيها التواصل وخرجوا من نارهم الكثيفة إلي أرواحهم اللطيفة.. حيث لايسمع إلا رفيف الملائكة وإلهامات الأرواح العالية... وحيث يصبح نفث الشيطان أكثف من أن يصل إليهم.
ولغز النفس الإنسانية هو في قابليتها لتمثل هذه الأدوار وقبول هذه المراتب المتفاوتة علوا وسفلا
يقول الله تعالي عن هذه النفس: فألهمها فجورها وتقواها (8) [الشمس].
ويقول في كتابه الكريم عن قصة خلق آدم:
وعلم آدم الأسماء كلها (31) [البقرة].
ويفسر الصوفيون ذلك بأن الله جعل نفس آدم قابلة لتجليات الأسماء الإلهية.. فالإنسان يمكن أن يكون الجبار ويمكن أن يكون الرحيم ويمكن أن يكون المنتقم ويمكن أن يكون العفو وهذه كلها أسماء إلهية.. ولكنه أيضا يمكن أن يخرج عن هذه الأسماء الإلهية ويهبط إلي درك الأوصاف الشيطانية, فيكون اللعين والرجيم والمطرود والمحجوب ويمكن أن يهبط إلي درك الأوصاف الحيوانية ويمكن أن يهبط إلي غلظة الجمادات وإلي برودة الصخر الأصم.
وهكذا خلق الله لآدم نفسا قابلة للتصور في جميع صور الكائنات... من أعلاها إلي أسفلها.
ويقول الصوفيون في هذا : إن الإنسان هو الكتاب الجامع والكون هو مجرد صفحات من هذا الكتاب.. أو سطور منه.. فما الأرض والسماوات إلا صفحات من كتاب جامع هو الإنسان الذي يستطيع أن يجمعها جميعا. ولهذا أمر الله الملائكة بالسجود لهذه النفس العجيبة التي سواها ونفخ فيها من روحه، لتكون قابلة لأن تسع الكون بجميع صوره ومراتبه ودرجاته.. وأخذ علي نفسه العهد بتربية هذه النفس وهدايتها وجذبها إليه وتأديبها باللين والمكافأة وبالشدة والتعذيب.. بالرسل وبالكتب وبالمصلحين والهداة.. وبالنذر والكوارث والآلام الهائلة... إن لم تنفع الهداية
وقال في كتابه:
يا أيها الإنسان إنك كادح إلي ربك كدحا فملاقيه (6) [الانشقاق].
كلنا كادحون إلي الله زحفا
كلنا ساعون إليه طوعا أو كرها... بالنار وبالألم والدروس القاسية والتنكيل.. أو طوعا واختيارا وحبا وكرامة... ولن يستطيع أحد أن يخرج عن الصف.. ولا أن يخرج عن الاتجاه, فلا يوجد إلا اتجاه واحد... وهو السير إلي الله..
وإلي الله المصير(42) [النور].
وإليه يرجع الأمر كله.. (123) [هود].
وإلي الله تصير الأمور 53 [الشوري ].
وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون (21) [فصلت ]
والعبيد هم الذين يسيرون إليه بالضرب والنكال والعصا, والعباد الأخيار هم الذين يسعون إليه حبا وشوقا واختيارا, ولا يوجد إنسان ملحد بحق.. أبق عن الطريق.. فالكل علي الطريق.. والملحد هو مجرد رجل منكر جاحد معاند لا يدري ماذا يفعل به, ولكنه في الحقيقة سائر علي نفس الدرب بالعصا والكرباج شأنه شأن أمثاله من العبيد حقراء الشأن, ممن اختاروا ألا يكون لهم اختيار.. وتصوروا أنهم اختاروا الحرية.. والحقيقة أنهم اختاروا أن يصكوا علي أدمغتهم وقد طبع علي قلوبهم وغشي علي أبصارهم، فصاروا كبهائم السواقي.. تتصور أنها تمرح في الشمس والحقيقة أنها مغلولة إلي السواقي, تعمل راغمة في مقابل حزمة البرسيم.
وفي هذا الجذب الإلهي للجميع منتهي الرحمة واللطف والحب والمودة.. فهو سبحانه حريص علي إخراج الكل من الظلمات إلي النور ثم إلي الحضرة الإلهية عنده... الكل واصل في النهاية بفضل الله ورحمته التي وسعت كل شيء..
ولكن البعض منا سيطول طريقه.. مارا بنار الدنيا ونار الآخرة وهؤلاء هم المجرمون والمعاندون.. والبعض سيصلون إلي الحضرة الإلهية وهم في حياتهم الدنيوية كما فعل محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الإسراء والمعراج حينما أصعده الله من فوق سبع سموات... لأنه أهل للتشريف والتعظيم... والشريف العظيم لا يجوز له أن ينتظر طويلا بالباب قبل أن يأذن له الملك وإنما يجب أن تفتح له الأبواب ويتلقي بالأحضان.
هي رحلة الأبد والأزل من بداية خلق الأرواح في الملكوت إلي التنزل في الأرحام, إلي الحياة الدنيا إلي الموت إلي عالم البرزخ إلي قيام الساعة إلي الآخرة إلي ما بعد الاخرة مما استأثر الله بعلمه.
وهي أسرار يستمع إليها البعض في رهبة, ويبتسم لها البعض في غفلة, ويهزأ بها البعض في جهالة.. ويقول هل هناك حقا شياطين, ويؤمن بذرة لايراها وإلكترونات لا يعرف عنها إلا آثارها.. وآثار الشياطين في حياته أكثر وضوحا من آثار الإلكترونات.. وهي حقائق عند أهل الحقائق ممن لهم حظ في معرفة هذه الأشياء ذوقا وشهودا. وممن كشف عنهم الغطاء فرأوا ما لايري وسمعوا مالا يسمع.
والعاقل العليم من دعا الله أن يهديه إليه شوقا واختيارا لاقهرا وإجبارا, فيكون مثل السادة الأشراف لا مثل العبيد حقراء الشأن الذين يصكون علي أدمغتهم, وقد طبع علي قلوبهم وغشي علي أبصارهم, فتصوروا أنفسهم من أهل الشطارة وهم من أهل الخسارة.. وتصوروا أنهم اختاروا, والحق أن شيطانهم هو الذي اختار لهم سوء الدار وسوء القرار .
شق في الحائط النملة التي تسكن شق الحائط وتتجول في عالم صغير لا يزيد علي دائرة قطرها نصف سنتيمتر, وتعمل طول الحياة عملا واحدا . لا يتغير هو نقل فتافيت الخبز من الأرض إلي بيتها تتصور أن الكون كله هو هذا الشق الصغير، وأن الحياة لا غاية لها إلا هذه الفتفوتة من الخبز ثم لا شيء وراء ذلك.. وهي معذورة في هذا التصور، فهذا أقصي مدي تذهب إليه حواسها.
أما الإنسان، فيعلم أن الشق هو مجرد شرخ في حائط والحائط لإحدي الغرف والغرفة في إحدي الشقق، والشقة هي واحدة من عشرات مثلها في عمارة والعمارة واحدة من عمارات في حي والحي واحد من عدة أحياء بالقاهرة, والقاهرة عاصمة جمهورية وهذه بدورها مجرد قطر من عدة أقطار في قارة كبيرة اسمها أفريقيا، ومثلها أربع قارات أخري علي كرة سابحة في الفضاء اسمها الكرة الارضية.. والكرة الأرضية بدورها واحدة من تسعة كواكب تدور حول الشمس في مجموعة كوكبية.. والمجموعة كلها بشمسها تدور هي الأخري في الفضاء حول مجرة من مائة ألف مليون شمس.
وغيرها مائة ألف مليون مجرة أخري تسبح بشموسها في فضاء لا أحد يعرف له شكلا وكل هذا يؤلف ما يعرف بالسماء الأولي أو السماء الدنيا, وهي مجرد واحدة من سبع سماوات لم تطلع عليها عين ولم تطأها قدم ومن فوقها يستوي الإله الخالق علي عرشه يدبر كل هذه الأكوان ويهيمن عليها من أكبر مجرة إلي أصغر ذرة.
كل هذا يعلمه الإنسان علي وجه الحقيقة.. ومع ذلك، فما أكثر الناس أشباه النمل الذين يعيشون سجناء محصورين كل واحد مغلق داخل شق نفسه يتحرك داخل دائرة محدودة من عدة أمتار.. ويدور داخل حلقة مفرغة من الهموم الذاتية تبدأ وتنتهي عند الحصول علي كسرة خبز أو البحث عن شهوة ثم لا شيء وراء ذلك.. برغم ما وهب الله ذلك الإنسان من علم وخيال واختراع وأدوات وحيلة وذكاء, وبرغم ما كشف له من غوامض ذلك الكون الفسيح المذهل.
أكثر الناس بالرغم من ذلك قواقع وسلاحف ونمل كل واحد يغلق علي نفسه قوقعته أو درقته أو يختبئ داخل جحر مظلم ضيق من الأحقاد والاضغان والأطماع والمآرب.
نري الذي يموت من الغيرة وقد نسي أن العالم مليء بالنساء ونسي أن هناك غير النساء عشرات اللذات والأهداف الأخري الجميلة.. ولكنه سجن نفسه بجهله وغبائه داخل جحر نملة واحدة التصق بها كما يلتصق بقطرة عسل لا يعرف لنفسه فكاكا.
ونري آخر مغلولا داخل رغبة أكالة في الانتقام والثأر يصحو وينام ويقوم في قمقم من الكوابيس، لا يعرف لنفسه خلاصا ولا يفكر إلا في الكيفية التي ينقض بها علي غريمه لينهش لحمه ويشرب دمه.
ونري آخر قد غرق في دوامة من الأفكار السوداوية وأغلق علي نفسه زنزانة من الكآبة واليأس والخمول!
ونري ثالثا قد أسر نفسه داخل موقف الرفض والسخط والتبرم والضيق بكل شيء.
ولكن العالم واسع فسيح!
وإمكانية العمل والسعادة لاحد لها وفرص الاكتشاف لكل ما هو جديد ومذهل ومدهش تتجدد كل لحظة بلا نهاية.
وقد مشي الإنسان علي تراب القمر! ونزلت السفن علي كوكب الزهرة! وارتحلت الكاميرات التليفزيونية إلي المريخ!
فلماذا يسجن الإنسان نفسه داخل شق في الحائط مثل النملة ويعض علي أسنانه من الغيظ أو يحك جلده بحثا عن لذة أو يطوي ضلوعه علي ثأر؟
ولماذا يسرق الناس بعضهم بعضا ولماذا تغتصب الأمم بعضها بعضا والخيرات حولها بلا حدود والأرزاق مطمورة في الأرض تحت أقدام من يبحث عنها؟
ولماذا اليأس وصورة الكون البديع بما فيها من جمال ونظام وحكمة وتخطيط موزون توحي بإله عادل لا يخطئ ميزانه.. كريم لا يكف عن العطاء ؟
لماذا لا نخرج من جحورنا.. ونكسر قوقعاتنا ونطل برءوسنا لنتفرج علي الدنيا.. ونتأمل؟
لماذا لا نخرج من همومنا الذاتية لنحمل هموم الوطن الأكبر ثم نتخطي الوطن الي الإنسانية الكبري ثم نتخطي الإنسانية إلي الطبيعة وما وراءها ثم إلي الله الذي جئنا من غيبه المغيب ومصيرنا أن نعود إلي غيبه المغيب؟
لماذا ننسي أن لنا أجنحة، فلا نجرب أن نطير ونكتفي بأن نلتصق بالجحور في جبن ونغوص في الوحل ونغرق في الطين ونسلم قيادتنا للخنزير في داخلنا؟
لماذا نسلم أنفسنا للعادة والآلية والروتين المكرور وننسي أننا أحرار فعلا .
لماذا أكثرنا نمل وصراصير؟
ما أعجب تلك النفس التي في داخلنا..
ما أعجب تلك النفس التي في داخلنا..
فيها من النار الشهوة والجوع والغضب والحقد والحسد والغل
وفيها من النور العفو والتسامح والحلم والفهم والحنين إلي النور الأعظم الذي جاءت منه.
فيها من الطين الآلية والتكرار والجمود والرتابة والقصور الذاتي والخمول والكسل والعجز عن التغيير والتثاقل والتهابط .
وفيها من الروحانية الانطلاق والحرية والشفافية والابتكار والخلق والإبداع والخيال والجمال.
وهي لا تولد نارية ولا نورية ولا طينية ولا روحية.. وإنما تولد مجرد إمكانية قابلة للصعود أو الهبوط إلي أي من هذه المراتب.
وإذا تأمل الواحد منا نفسه في موضوعية شديدة ونظر إلي باطنه في حياد مطلق، فإنه يلاحظ أنه في حالة تذبذب دائم بين هذه المراتب صاعدا وهابطا من لحظة لأخرى ومن يوم لآخر، من حالة وجدانية إلي حالة عقلية إلي حالة شهوانية إلي صفاء روحاني.
والصوفيون يسمون هذه المراتب بالمقامات...
وقليل جدا هم الذين يستطيعون الاستقرار والدوام في المقامات الروحية دون أن تشدهم جذبات الشهوة والجوع وأحقاد الحياة المادية وأطماعها.
وكثير جدا هم الذين يستقرون في المراتب السفلية حيث الحياة شهوة ومضاجعة وأكل وشرب وحيث لا هموم إلا هموم البطن والفرج
ويبقي بعد ذلك أوساط الناس ممن يتأرجحون بين النار والنور بين جذبات العلو وجذبات التسافل ينتشلون أنفسهم من إغراء ليقعوا في آخر.
ولأن الشيطان مخلوق من النار, فلا مدخل له علي الإنسان إلا إذا تهابط إلي المرتبة النارية من نفسه وهي مرتبة الشهوة والجوع والغضب والحقد والحسد والغل حينئذ يمكن أن يتم التواصل بين الاثنين بحكم المجانسة.. فيستطيع الشيطان أن يوصل إلي الإنسان وسوساته وأن يؤجج شهواته ويشعل غضباته.. ولكنه يظل معزولا عمن هم في المراتب الروحية العالية بحكم عدم التجانس، فهو لا يستطيع أن يوصل إليهم وسوسته.
ولهذا يقول الله تبارك وتعالي في القرآن للشيطان :
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان (42) [الحجر]
لأنهم إرتفعوا إلي منطقة يستحيل فيها التواصل وخرجوا من نارهم الكثيفة إلي أرواحهم اللطيفة.. حيث لايسمع إلا رفيف الملائكة وإلهامات الأرواح العالية... وحيث يصبح نفث الشيطان أكثف من أن يصل إليهم.
ولغز النفس الإنسانية هو في قابليتها لتمثل هذه الأدوار وقبول هذه المراتب المتفاوتة علوا وسفلا
يقول الله تعالي عن هذه النفس: فألهمها فجورها وتقواها (8) [الشمس].
ويقول في كتابه الكريم عن قصة خلق آدم:
وعلم آدم الأسماء كلها (31) [البقرة].
ويفسر الصوفيون ذلك بأن الله جعل نفس آدم قابلة لتجليات الأسماء الإلهية.. فالإنسان يمكن أن يكون الجبار ويمكن أن يكون الرحيم ويمكن أن يكون المنتقم ويمكن أن يكون العفو وهذه كلها أسماء إلهية.. ولكنه أيضا يمكن أن يخرج عن هذه الأسماء الإلهية ويهبط إلي درك الأوصاف الشيطانية, فيكون اللعين والرجيم والمطرود والمحجوب ويمكن أن يهبط إلي درك الأوصاف الحيوانية ويمكن أن يهبط إلي غلظة الجمادات وإلي برودة الصخر الأصم.
وهكذا خلق الله لآدم نفسا قابلة للتصور في جميع صور الكائنات... من أعلاها إلي أسفلها.
ويقول الصوفيون في هذا : إن الإنسان هو الكتاب الجامع والكون هو مجرد صفحات من هذا الكتاب.. أو سطور منه.. فما الأرض والسماوات إلا صفحات من كتاب جامع هو الإنسان الذي يستطيع أن يجمعها جميعا. ولهذا أمر الله الملائكة بالسجود لهذه النفس العجيبة التي سواها ونفخ فيها من روحه، لتكون قابلة لأن تسع الكون بجميع صوره ومراتبه ودرجاته.. وأخذ علي نفسه العهد بتربية هذه النفس وهدايتها وجذبها إليه وتأديبها باللين والمكافأة وبالشدة والتعذيب.. بالرسل وبالكتب وبالمصلحين والهداة.. وبالنذر والكوارث والآلام الهائلة... إن لم تنفع الهداية
وقال في كتابه:
يا أيها الإنسان إنك كادح إلي ربك كدحا فملاقيه (6) [الانشقاق].
كلنا كادحون إلي الله زحفا
كلنا ساعون إليه طوعا أو كرها... بالنار وبالألم والدروس القاسية والتنكيل.. أو طوعا واختيارا وحبا وكرامة... ولن يستطيع أحد أن يخرج عن الصف.. ولا أن يخرج عن الاتجاه, فلا يوجد إلا اتجاه واحد... وهو السير إلي الله..
وإلي الله المصير(42) [النور].
وإليه يرجع الأمر كله.. (123) [هود].
وإلي الله تصير الأمور 53 [الشوري ].
وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون (21) [فصلت ]
والعبيد هم الذين يسيرون إليه بالضرب والنكال والعصا, والعباد الأخيار هم الذين يسعون إليه حبا وشوقا واختيارا, ولا يوجد إنسان ملحد بحق.. أبق عن الطريق.. فالكل علي الطريق.. والملحد هو مجرد رجل منكر جاحد معاند لا يدري ماذا يفعل به, ولكنه في الحقيقة سائر علي نفس الدرب بالعصا والكرباج شأنه شأن أمثاله من العبيد حقراء الشأن, ممن اختاروا ألا يكون لهم اختيار.. وتصوروا أنهم اختاروا الحرية.. والحقيقة أنهم اختاروا أن يصكوا علي أدمغتهم وقد طبع علي قلوبهم وغشي علي أبصارهم، فصاروا كبهائم السواقي.. تتصور أنها تمرح في الشمس والحقيقة أنها مغلولة إلي السواقي, تعمل راغمة في مقابل حزمة البرسيم.
وفي هذا الجذب الإلهي للجميع منتهي الرحمة واللطف والحب والمودة.. فهو سبحانه حريص علي إخراج الكل من الظلمات إلي النور ثم إلي الحضرة الإلهية عنده... الكل واصل في النهاية بفضل الله ورحمته التي وسعت كل شيء..
ولكن البعض منا سيطول طريقه.. مارا بنار الدنيا ونار الآخرة وهؤلاء هم المجرمون والمعاندون.. والبعض سيصلون إلي الحضرة الإلهية وهم في حياتهم الدنيوية كما فعل محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الإسراء والمعراج حينما أصعده الله من فوق سبع سموات... لأنه أهل للتشريف والتعظيم... والشريف العظيم لا يجوز له أن ينتظر طويلا بالباب قبل أن يأذن له الملك وإنما يجب أن تفتح له الأبواب ويتلقي بالأحضان.
هي رحلة الأبد والأزل من بداية خلق الأرواح في الملكوت إلي التنزل في الأرحام, إلي الحياة الدنيا إلي الموت إلي عالم البرزخ إلي قيام الساعة إلي الآخرة إلي ما بعد الاخرة مما استأثر الله بعلمه.
وهي أسرار يستمع إليها البعض في رهبة, ويبتسم لها البعض في غفلة, ويهزأ بها البعض في جهالة.. ويقول هل هناك حقا شياطين, ويؤمن بذرة لايراها وإلكترونات لا يعرف عنها إلا آثارها.. وآثار الشياطين في حياته أكثر وضوحا من آثار الإلكترونات.. وهي حقائق عند أهل الحقائق ممن لهم حظ في معرفة هذه الأشياء ذوقا وشهودا. وممن كشف عنهم الغطاء فرأوا ما لايري وسمعوا مالا يسمع.
والعاقل العليم من دعا الله أن يهديه إليه شوقا واختيارا لاقهرا وإجبارا, فيكون مثل السادة الأشراف لا مثل العبيد حقراء الشأن الذين يصكون علي أدمغتهم, وقد طبع علي قلوبهم وغشي علي أبصارهم, فتصوروا أنفسهم من أهل الشطارة وهم من أهل الخسارة.. وتصوروا أنهم اختاروا, والحق أن شيطانهم هو الذي اختار لهم سوء الدار وسوء القرار .
شق في الحائط النملة التي تسكن شق الحائط وتتجول في عالم صغير لا يزيد علي دائرة قطرها نصف سنتيمتر, وتعمل طول الحياة عملا واحدا . لا يتغير هو نقل فتافيت الخبز من الأرض إلي بيتها تتصور أن الكون كله هو هذا الشق الصغير، وأن الحياة لا غاية لها إلا هذه الفتفوتة من الخبز ثم لا شيء وراء ذلك.. وهي معذورة في هذا التصور، فهذا أقصي مدي تذهب إليه حواسها.
أما الإنسان، فيعلم أن الشق هو مجرد شرخ في حائط والحائط لإحدي الغرف والغرفة في إحدي الشقق، والشقة هي واحدة من عشرات مثلها في عمارة والعمارة واحدة من عمارات في حي والحي واحد من عدة أحياء بالقاهرة, والقاهرة عاصمة جمهورية وهذه بدورها مجرد قطر من عدة أقطار في قارة كبيرة اسمها أفريقيا، ومثلها أربع قارات أخري علي كرة سابحة في الفضاء اسمها الكرة الارضية.. والكرة الأرضية بدورها واحدة من تسعة كواكب تدور حول الشمس في مجموعة كوكبية.. والمجموعة كلها بشمسها تدور هي الأخري في الفضاء حول مجرة من مائة ألف مليون شمس.
وغيرها مائة ألف مليون مجرة أخري تسبح بشموسها في فضاء لا أحد يعرف له شكلا وكل هذا يؤلف ما يعرف بالسماء الأولي أو السماء الدنيا, وهي مجرد واحدة من سبع سماوات لم تطلع عليها عين ولم تطأها قدم ومن فوقها يستوي الإله الخالق علي عرشه يدبر كل هذه الأكوان ويهيمن عليها من أكبر مجرة إلي أصغر ذرة.
كل هذا يعلمه الإنسان علي وجه الحقيقة.. ومع ذلك، فما أكثر الناس أشباه النمل الذين يعيشون سجناء محصورين كل واحد مغلق داخل شق نفسه يتحرك داخل دائرة محدودة من عدة أمتار.. ويدور داخل حلقة مفرغة من الهموم الذاتية تبدأ وتنتهي عند الحصول علي كسرة خبز أو البحث عن شهوة ثم لا شيء وراء ذلك.. برغم ما وهب الله ذلك الإنسان من علم وخيال واختراع وأدوات وحيلة وذكاء, وبرغم ما كشف له من غوامض ذلك الكون الفسيح المذهل.
أكثر الناس بالرغم من ذلك قواقع وسلاحف ونمل كل واحد يغلق علي نفسه قوقعته أو درقته أو يختبئ داخل جحر مظلم ضيق من الأحقاد والاضغان والأطماع والمآرب.
نري الذي يموت من الغيرة وقد نسي أن العالم مليء بالنساء ونسي أن هناك غير النساء عشرات اللذات والأهداف الأخري الجميلة.. ولكنه سجن نفسه بجهله وغبائه داخل جحر نملة واحدة التصق بها كما يلتصق بقطرة عسل لا يعرف لنفسه فكاكا.
ونري آخر مغلولا داخل رغبة أكالة في الانتقام والثأر يصحو وينام ويقوم في قمقم من الكوابيس، لا يعرف لنفسه خلاصا ولا يفكر إلا في الكيفية التي ينقض بها علي غريمه لينهش لحمه ويشرب دمه.
ونري آخر قد غرق في دوامة من الأفكار السوداوية وأغلق علي نفسه زنزانة من الكآبة واليأس والخمول!
ونري ثالثا قد أسر نفسه داخل موقف الرفض والسخط والتبرم والضيق بكل شيء.
ولكن العالم واسع فسيح!
وإمكانية العمل والسعادة لاحد لها وفرص الاكتشاف لكل ما هو جديد ومذهل ومدهش تتجدد كل لحظة بلا نهاية.
وقد مشي الإنسان علي تراب القمر! ونزلت السفن علي كوكب الزهرة! وارتحلت الكاميرات التليفزيونية إلي المريخ!
فلماذا يسجن الإنسان نفسه داخل شق في الحائط مثل النملة ويعض علي أسنانه من الغيظ أو يحك جلده بحثا عن لذة أو يطوي ضلوعه علي ثأر؟
ولماذا يسرق الناس بعضهم بعضا ولماذا تغتصب الأمم بعضها بعضا والخيرات حولها بلا حدود والأرزاق مطمورة في الأرض تحت أقدام من يبحث عنها؟
ولماذا اليأس وصورة الكون البديع بما فيها من جمال ونظام وحكمة وتخطيط موزون توحي بإله عادل لا يخطئ ميزانه.. كريم لا يكف عن العطاء ؟
لماذا لا نخرج من جحورنا.. ونكسر قوقعاتنا ونطل برءوسنا لنتفرج علي الدنيا.. ونتأمل؟
لماذا لا نخرج من همومنا الذاتية لنحمل هموم الوطن الأكبر ثم نتخطي الوطن الي الإنسانية الكبري ثم نتخطي الإنسانية إلي الطبيعة وما وراءها ثم إلي الله الذي جئنا من غيبه المغيب ومصيرنا أن نعود إلي غيبه المغيب؟
لماذا ننسي أن لنا أجنحة، فلا نجرب أن نطير ونكتفي بأن نلتصق بالجحور في جبن ونغوص في الوحل ونغرق في الطين ونسلم قيادتنا للخنزير في داخلنا؟
لماذا نسلم أنفسنا للعادة والآلية والروتين المكرور وننسي أننا أحرار فعلا .
لماذا أكثرنا نمل وصراصير؟