أبونبيل
25-02-2012, 12:04 AM
حوار
في حكاياتنا (وردي)حسين خوجلي يستعيد فصولاً من سيرة وردي الغنائية : تجربة وردي لا تماثل إلا تجربة ناظم حكمت وسيد قطب
الخرطوم : عادل الباز – محمد عبدالماجد
(في حكاياتنا وردي)
زاوية سوف نحاول من خلالها تتبع سيرة الفنان الراحل محمد وردي من خلال استقراء ومحاورة بعض أهل الاختصاص والمعرفة في الحياة السودانية ليقرأوا لنا تجربة وردي من حيث يرون... نفعل ذلك كنوع من الوفاء والتقدير لهرم يستحق منا ذلك، كما كذلك فرضاً من فروض الواجب على صحيفة (الأحداث) أن تقدم لقارئها هذه الخدمة.. يستحق الجيل الحالي والأجيال القادمة أن يعرفوا عن أحد رموز ومعالم الوطن الفنية الشامخة.
اليوم نحاور الأستاذ حسين خوجلي وهو صاحب كتابات وآراء مشهودة في مثل هذه المواقف ...افتقده الناس ...وافتقدنا كتاباته فذهبنا إليه نسأله عن وردي وهو الذي كان قريبا منه ومتابعا ومراقبا للكثير من التجارب الفنية للفنان محمد وردي.
- غابت ألوان ولكن في هذا اليوم لابد أن تكون لألوان كلمة فما قولك يا حسين؟
- قبل قليل كنت أتكلم لقناة أم درمان الفضائية ...قلت لهم إن أحسن تفسير لحقبة أو شخصية تعبر عنها كلمة أو جملة ذلك الموقف.. لذلك أنا لا أنسى العبارة لو صحت والتي تذكر في كتب السيّر عندما شاع مقتل سيدنا علي بن أبي طالب بين كل المبدعين وهو كان خطيبا وشاعرا غير صحبته للرسول عليه أفضل الصلوات وقد كان محسوبا على أهل الإبداع والابتداع الخيّر ...لذلك عندما اغتيل سيدنا علي ونقل الخبر لأم المؤمنين السيدة عائشة التي خالفته الرأي وحاربته.. قالت عبارتها الشهيرة ( فألقت عصاها واستقرت بها النوى كما قرّ عينا بالإياب المسافر).
وردي الآن ألقى عصاه ..وهو رحلة طويلة جدا من التجريب المُر في الحياة، وفي سبل كسب العيش وفي مشروعه الفني والثقافي والسياسي ..وأنا لا أعرف في التاريخ أن فنانا عربيا مسلما عانى في سبيل تجربته الفنية والثقافية والسياسية مثل ما عانى محمد وردي ..لا تماثل هذه التجربة إلا تجربة (ناظم حكمت) التركي و(سيد قطب) المصري.
- وردي رحل الآن ولكنه صمد طويلاً ما سر هذا الصمود؟.
الإصرار....هذا الإصرار الذي استمر لآخر لحظة في حياة الرجل. الإصرار على سبل كسب العيش بالحلال ومن يدي الشعب السوداني مباشرة والإحساس بأنه يجب ان يكمل مشروعه الفني ...هذه المقدرة الهائلة على الإنتاج تثير الإعجاب ..وردي عنده ما يتجاوز الـ (500) نصا ملحنا وناجحا وما زال يحس أن الكثير من الألحان لم تنضب بعد.
- من أين لك هذا الاستنتاج؟
أنا صادقته في الفترة الأخيرة من خلال تسجيلي معه مجموعة من البرامج ...ومن الأشياء الغريبة أنه مرة اتصل بي وتكلم معي وقال لي إنني لم أحس أن هناك شخصاً يمكن أن يوثق حياتي بكل أبعادها غيرك.. عليك الله يا حسين تعال وثق لي حياتي.
- وفعلت؟.
فعلت بعضها ..ولكن إنتو عارفين أن كل المشروعات الخيرة في السودان لا يكتب لها النجاح.
لكن من الأشياء التي أذكرها ورغم مرضه هي أن وردي ما طلبت منه شيئا إلا أوفى به ...يعني مثلا ناس الإذاعة قالوا لي عاوزين نسجل لينا سهرة في العيد (أربع ساعات) مع وردي وهو قادم من عمليته ...وردي سألهم عن الشخص الذي سوف يقدم السهرة فقيل له حسين خوجلي فقال لهم خلّوه يجيني في البيت فذهبت له في البيت وكانت تلك أول مرة لي أقابل وردي (كفاحا)... بعد يومين ذهب معنا للاذاعة وسجلنا معه سهرة للعيد أربع ساعات غنى فيها كما لم يغن من قبل باوركسترا كاملة.
المرة الثانية قالوا لي عاوزنك تقدم لينا أربع حلقات في رمضان، الحلقة ساعتين في كل يوم اثنين (أربعة أسابيع) ...فقلت لهم أعمل ليكم حلقة مع وردي وهاشم صديق. وافق كلاهما وسجلنا الثماني ساعات تلك في ليلتين ..غنى وردي أيضا بفرح كبير جدا.
المرة الثالثة أنا سجلت معه (تواشيح النهر الخالد) ...قلت ليه أنا عاوز أسجل معك سهرة فقال لي أنا أسجل معاك عشر سهرات ...سجل معي ثلاث سهرات. كل سهرة أظن استمرت ثلاث ساعات... مجموع السهرات كلها كان تسع ساعات وكان وردي يساهر معانا فيها حتى الصباح.. وبعدين أنا ما شفت رجل كبير في السن ومريض عنده (عزيمة وردي) وإرادته.
ما ممكن يؤدي أي عمل بدون أن يعمل ليه (بروفات) ...كان بيأتي هنا في مباني قناة أم درمان قبل أن تنطلق يبرّف بالساعات الطويلة.
- لماذا كان وردي بهذا الثبات والقوة؟.
وردي الفن بالنسبة له التزام ..طبعا اكتشفت عن وردي أشياء كثيرة جدا ..وردي رجل واسع الثقافة ...حتى في الفقه والدين ...وردي قال لي أنا اشتغلت أستاذ دين ..وكنت في المدارس التي أدرس فيها «أكفل بالستر الجنازات»، وأصلي عليها ... وقال لي أيضا أنا لا أخشى من الموت وعندي فلسفة حوله ..ولكنني أترجاه يتركني لأكمل مشروعي الفني والثقافي.
- ما الذي يميز وردي عن الفنانين الآخرين؟.
كل الفنانين في هذه الدنيا عبارة عن مجموعة أغنيات ....لكن وردي كان مجموعة مشروعات ثقافية وفنية وفكرية ...أي شخصية في السودان تتكلم عنها تجد وردي كان صديقا لها وعنده ذكريات معها تصلح أن تكون كتاب ...المحجوب والأزهري وعبود وطلعت فريد وجعفر نميري وزين العابدين وجمال محمد أحمد ومحمد نور الدين والترابي.
مرة قال لي أنا عندما ذهبت للمبعوثين السودانيين والجالية السودانية في باريس مرافقي كان الدكتور حسن الترابي وكان صديقي ..وقال لي أنا رحلتي في باريس منذ أن دخلت الي أن طلعت وذهبت الي المطار مرافقي كان الترابي وإذا كان الناس يتحدثون عن الترابي السياسي أنا أتحدث عن الترابي كصديق.
- كيف تقرأ وردي من خلال أغنياته وفي مواقفه؟.
عندما جلست مع وردي وجدت عنده تبريرات وفلسفة كاملة لكل خطواته وأعماله ..قال لي أنا غنيت لـ (17 نوفمبر) وفرحت بها ..وسعدت بتجربتها لأن الأحزاب أبعدت الأزهري من الحكم.
وقال لي إن قصة (ثار الشعب ترى الجلاد) عملتها أنا ما عملها إسماعيل حسن.. ومشيت لطلاب (الديوم الشرقية) لحنتها وسجلتها في جهاز (ريكوردر) وسجلتها من بعد في الإذاعة صباحا مع إعلان الثورة وأنا عمري كم وعشرين سنة... قال لي دا إحساسي أنا السياسي.. وأضاف قائلا ان تجربته تطورت ..بعد سنتين من تجربة العساكر الذين غنيت لهم (هب الشعب ترى الجلاد) غنيت من بعد (يقظة شعب) وهذا تطور وتقدم واضح في مسيرة وردي.
حِينَ خَطَّ الـمَجْدُ في الأرْضِ دُرُوبهَ
عَزْمَ تِرْهاقا وإيمان العروبة
عَرَبَاً نحنُ حملْناها ونُوبة
بِدِمانا مِن خلودِ الغابرين
هُوَ يحدونا إلى عِزٍّ مُبِين
قصيدة مرسي صالح سراج الشهيرة ...هذا يؤكد ان تجربة وردي تطور باستمرار ..ومن بعد جاءت تجربة اكتوبر وهذا تطور آخر.
- لكن مع هذا وردي لم يكن محايد سياسياً؟.
نعم وردي كان يساريا وهو مؤمن بشعارات اليسار... وهو قد قال لا فرار من اليسار في مرحلتنا تلك.. ولا بد لك من الانتماء له.. وردي قال لي أنا كنت منتمي لليسار انتماءً وجدانيا قبل ان يكون انتماءً سياسيا أو انتماءً حزبيا.
وردي مفرّق جيد ما بين الرؤية للفروقات وما بين السلطة والدولة. وردي كان يحس بالحرية في أي لحظة من لحظات حياته لذلك أصر حسب قوله أن يغني لصلاح أحمد إبراهيم (الطير المهاجر) مع أن الحزب الشيوعي كان يمزق في صلاح أحمد إبراهيم ..وقد سنده وردي بالغناء له.
وردي كان سعيداً برأي عبدالخالق محجوب في أغنية (الطير المهاجر) فقد قال عبدالخالق محجوب في حوار مع صحيفة الميدان وهو يُسأل عن (الطير المهاجر)، إن الغناء يجب أن يكون هكذا .. رغم الخلاف وقتها بين صلاح أحمد إبراهيم وعبدالخالق محجوب.
-حدّثنا عن عبقريات وردي؟.
سيرته الفنية باذخة جداً.. بحيث إنك إذا كنت مهتم بالثقافة والفنون فإن لك في سيرة وردي (نموذجا)، سيرته الفنية مشبعة جدا ...مثلا لو عاوز تتابع سيرته عبر الأناشيد وحدها يمكن استيعاب الحياة السساسية السودانية كاملة من 17 نوفمبر الى يومنا هذا.
تجربته السياسية.. المراجعات في حياته (تراجعات) ... أنا بفتكر وردي هو مثال حقيقي للشخصية السودانية.. لو عاوز توثق للشخصية السودانية ثقافيا سوف تجد وردي أهم معلم للتوثيق للشخصية السودانية في تناقضاته وتوتراته وألقه وعناده وثقافته وتمزقه وهكذا.
- من الناحية الإنسانية ما أوضح علامات وردي؟.
أهم مميزات وردي على الإطار الشخصي (الصراحة).. وردي زول واضح جدا .. أنا مشيت ليه يوم أن توفت (علوية الرشيدي) زوجته (أم مظفر) ...وردي حكى لي قصة زواجه.. وقال لي أنا علوية دي شفتها وهي طالبة في الثانوي في حفلة في مدني لعديله ود شيخ العجب.
قال أنا شفت البنت دي وقررت أتزوجها ..اتخذت القرار طوالي بصدق ...ناس مدني قال لي (استهبلوني) وقالوا لي أعمل لينا حفلة تانية عشان نعرفها منو؟.. وقام عملت حفلة بلاش وقعدت لليوم التاني في مدني وغنى ليها (قالوا بتحبي قلت ليهم مالو)... وردي اتكلم لي كلام عجيب جدا عن احترامه لها.. قال لي يا حسين أنا زول (بوهيمي) ...وزول متمرد. فيني كل (بوهيميات) الفنان وتمرده ...قال لي أنا مرات بدخل البيت وأكسر أي حاجة ...علوية دي يوم واحد ما رفعت صوتها عليّ.. احتملتني رغم أنها بنت صغيرة وجميلة ومطلوبة وبنت أسرة.
الحاجة التانية قال لي ظلت تحبني لآخر يوم في حياتها بدون أي أسباب موضوعية، غير أنها تحب وردي الذي لا أعرفه أنا ...كانت تحبني بصدق.
وردي عنده مقدرة على الاعتراف وهذه عادة عند إخوانا الحلفايين والشماليين أنهم ما بعرفوا يداروا.
- وردي فنان تجاوز عصره... مشهد تشييعه كان مشهد غريب.. أطفال جاءوا وحدهم.. وأسر جاءت كاملة من جهات مختلفة.. ماذا تقول عن ذلك؟.
الناس بقولوا (زمانّا فات وغنّاينا مات) لكن وردي فنان كل الأجيال وبفتكر ح يكتشف الناس إمكانياته الفنية وهو ميت أكثر مما هو حي ... والعرب بقولوا إن (المعاصرة حجاب) ومعاصرته أحيانا تحجب عنا الكثير ..غيبة وردي الآن بتخلى الناس تكتشف وردي اكتشافا حقيقيا ..ويمكن ان يورث للكثير من الاجيال.
وردي ح نكتب عنه يوما زي ما بيُكتب عن ابن خلدون وزي ما بيكتب عن زرياب وزي ما بيكتب عن أم كلثوم ...وردي هو مثل أولئك لا يقل عنهم شيء، وردي قيمته هو انه شخصية حقيقية.
شخصية اسطورية لكن من لحم ودم.
- ماذا عن مواقف وردي السياسية؟.
عندما اعتقل وردي في كوبر من قبل نظام مايو .. طالبه نميري أن يكتب خطاب استرحام ليطلق سراحه ...لكن وردي رفض أن يكتب خطاب استرحام وتمسك بموقفه رغم أن ذلك الوقت كان النظام المايوي متشددا ..ونفذ الكثير من الاعتقالات والإعدامات.
- وردي بمَ كان يعتز غنائياً؟.
وردي كان يعتز كثيرا بـ (قسم بي محيك البدر)... والطير المهاجر... بالمناسبة وردي يمتلك أكثر من 300 أغنية شهيرة لحن معظمها ..ولم يغن من ألحان غيره إلا بعض الأعمال لحن له برعي محمد دفع الله (الوصية) والطاهر إبراهيم لحن له أحد أناشيده.
- من من الفنانين يعجب به وردي؟
كان يحب إبراهيم عوض وتجمعه صداقة قوية مع عبد الكريم الكابلي. وكان يحب ايضا صوت احمد الجابري ويعتبره من الأصوات النادرة في السودان إلى جانب تفضيله للفنان صالح الضي.
في حكاياتنا (وردي)حسين خوجلي يستعيد فصولاً من سيرة وردي الغنائية : تجربة وردي لا تماثل إلا تجربة ناظم حكمت وسيد قطب
الخرطوم : عادل الباز – محمد عبدالماجد
(في حكاياتنا وردي)
زاوية سوف نحاول من خلالها تتبع سيرة الفنان الراحل محمد وردي من خلال استقراء ومحاورة بعض أهل الاختصاص والمعرفة في الحياة السودانية ليقرأوا لنا تجربة وردي من حيث يرون... نفعل ذلك كنوع من الوفاء والتقدير لهرم يستحق منا ذلك، كما كذلك فرضاً من فروض الواجب على صحيفة (الأحداث) أن تقدم لقارئها هذه الخدمة.. يستحق الجيل الحالي والأجيال القادمة أن يعرفوا عن أحد رموز ومعالم الوطن الفنية الشامخة.
اليوم نحاور الأستاذ حسين خوجلي وهو صاحب كتابات وآراء مشهودة في مثل هذه المواقف ...افتقده الناس ...وافتقدنا كتاباته فذهبنا إليه نسأله عن وردي وهو الذي كان قريبا منه ومتابعا ومراقبا للكثير من التجارب الفنية للفنان محمد وردي.
- غابت ألوان ولكن في هذا اليوم لابد أن تكون لألوان كلمة فما قولك يا حسين؟
- قبل قليل كنت أتكلم لقناة أم درمان الفضائية ...قلت لهم إن أحسن تفسير لحقبة أو شخصية تعبر عنها كلمة أو جملة ذلك الموقف.. لذلك أنا لا أنسى العبارة لو صحت والتي تذكر في كتب السيّر عندما شاع مقتل سيدنا علي بن أبي طالب بين كل المبدعين وهو كان خطيبا وشاعرا غير صحبته للرسول عليه أفضل الصلوات وقد كان محسوبا على أهل الإبداع والابتداع الخيّر ...لذلك عندما اغتيل سيدنا علي ونقل الخبر لأم المؤمنين السيدة عائشة التي خالفته الرأي وحاربته.. قالت عبارتها الشهيرة ( فألقت عصاها واستقرت بها النوى كما قرّ عينا بالإياب المسافر).
وردي الآن ألقى عصاه ..وهو رحلة طويلة جدا من التجريب المُر في الحياة، وفي سبل كسب العيش وفي مشروعه الفني والثقافي والسياسي ..وأنا لا أعرف في التاريخ أن فنانا عربيا مسلما عانى في سبيل تجربته الفنية والثقافية والسياسية مثل ما عانى محمد وردي ..لا تماثل هذه التجربة إلا تجربة (ناظم حكمت) التركي و(سيد قطب) المصري.
- وردي رحل الآن ولكنه صمد طويلاً ما سر هذا الصمود؟.
الإصرار....هذا الإصرار الذي استمر لآخر لحظة في حياة الرجل. الإصرار على سبل كسب العيش بالحلال ومن يدي الشعب السوداني مباشرة والإحساس بأنه يجب ان يكمل مشروعه الفني ...هذه المقدرة الهائلة على الإنتاج تثير الإعجاب ..وردي عنده ما يتجاوز الـ (500) نصا ملحنا وناجحا وما زال يحس أن الكثير من الألحان لم تنضب بعد.
- من أين لك هذا الاستنتاج؟
أنا صادقته في الفترة الأخيرة من خلال تسجيلي معه مجموعة من البرامج ...ومن الأشياء الغريبة أنه مرة اتصل بي وتكلم معي وقال لي إنني لم أحس أن هناك شخصاً يمكن أن يوثق حياتي بكل أبعادها غيرك.. عليك الله يا حسين تعال وثق لي حياتي.
- وفعلت؟.
فعلت بعضها ..ولكن إنتو عارفين أن كل المشروعات الخيرة في السودان لا يكتب لها النجاح.
لكن من الأشياء التي أذكرها ورغم مرضه هي أن وردي ما طلبت منه شيئا إلا أوفى به ...يعني مثلا ناس الإذاعة قالوا لي عاوزين نسجل لينا سهرة في العيد (أربع ساعات) مع وردي وهو قادم من عمليته ...وردي سألهم عن الشخص الذي سوف يقدم السهرة فقيل له حسين خوجلي فقال لهم خلّوه يجيني في البيت فذهبت له في البيت وكانت تلك أول مرة لي أقابل وردي (كفاحا)... بعد يومين ذهب معنا للاذاعة وسجلنا معه سهرة للعيد أربع ساعات غنى فيها كما لم يغن من قبل باوركسترا كاملة.
المرة الثانية قالوا لي عاوزنك تقدم لينا أربع حلقات في رمضان، الحلقة ساعتين في كل يوم اثنين (أربعة أسابيع) ...فقلت لهم أعمل ليكم حلقة مع وردي وهاشم صديق. وافق كلاهما وسجلنا الثماني ساعات تلك في ليلتين ..غنى وردي أيضا بفرح كبير جدا.
المرة الثالثة أنا سجلت معه (تواشيح النهر الخالد) ...قلت ليه أنا عاوز أسجل معك سهرة فقال لي أنا أسجل معاك عشر سهرات ...سجل معي ثلاث سهرات. كل سهرة أظن استمرت ثلاث ساعات... مجموع السهرات كلها كان تسع ساعات وكان وردي يساهر معانا فيها حتى الصباح.. وبعدين أنا ما شفت رجل كبير في السن ومريض عنده (عزيمة وردي) وإرادته.
ما ممكن يؤدي أي عمل بدون أن يعمل ليه (بروفات) ...كان بيأتي هنا في مباني قناة أم درمان قبل أن تنطلق يبرّف بالساعات الطويلة.
- لماذا كان وردي بهذا الثبات والقوة؟.
وردي الفن بالنسبة له التزام ..طبعا اكتشفت عن وردي أشياء كثيرة جدا ..وردي رجل واسع الثقافة ...حتى في الفقه والدين ...وردي قال لي أنا اشتغلت أستاذ دين ..وكنت في المدارس التي أدرس فيها «أكفل بالستر الجنازات»، وأصلي عليها ... وقال لي أيضا أنا لا أخشى من الموت وعندي فلسفة حوله ..ولكنني أترجاه يتركني لأكمل مشروعي الفني والثقافي.
- ما الذي يميز وردي عن الفنانين الآخرين؟.
كل الفنانين في هذه الدنيا عبارة عن مجموعة أغنيات ....لكن وردي كان مجموعة مشروعات ثقافية وفنية وفكرية ...أي شخصية في السودان تتكلم عنها تجد وردي كان صديقا لها وعنده ذكريات معها تصلح أن تكون كتاب ...المحجوب والأزهري وعبود وطلعت فريد وجعفر نميري وزين العابدين وجمال محمد أحمد ومحمد نور الدين والترابي.
مرة قال لي أنا عندما ذهبت للمبعوثين السودانيين والجالية السودانية في باريس مرافقي كان الدكتور حسن الترابي وكان صديقي ..وقال لي أنا رحلتي في باريس منذ أن دخلت الي أن طلعت وذهبت الي المطار مرافقي كان الترابي وإذا كان الناس يتحدثون عن الترابي السياسي أنا أتحدث عن الترابي كصديق.
- كيف تقرأ وردي من خلال أغنياته وفي مواقفه؟.
عندما جلست مع وردي وجدت عنده تبريرات وفلسفة كاملة لكل خطواته وأعماله ..قال لي أنا غنيت لـ (17 نوفمبر) وفرحت بها ..وسعدت بتجربتها لأن الأحزاب أبعدت الأزهري من الحكم.
وقال لي إن قصة (ثار الشعب ترى الجلاد) عملتها أنا ما عملها إسماعيل حسن.. ومشيت لطلاب (الديوم الشرقية) لحنتها وسجلتها في جهاز (ريكوردر) وسجلتها من بعد في الإذاعة صباحا مع إعلان الثورة وأنا عمري كم وعشرين سنة... قال لي دا إحساسي أنا السياسي.. وأضاف قائلا ان تجربته تطورت ..بعد سنتين من تجربة العساكر الذين غنيت لهم (هب الشعب ترى الجلاد) غنيت من بعد (يقظة شعب) وهذا تطور وتقدم واضح في مسيرة وردي.
حِينَ خَطَّ الـمَجْدُ في الأرْضِ دُرُوبهَ
عَزْمَ تِرْهاقا وإيمان العروبة
عَرَبَاً نحنُ حملْناها ونُوبة
بِدِمانا مِن خلودِ الغابرين
هُوَ يحدونا إلى عِزٍّ مُبِين
قصيدة مرسي صالح سراج الشهيرة ...هذا يؤكد ان تجربة وردي تطور باستمرار ..ومن بعد جاءت تجربة اكتوبر وهذا تطور آخر.
- لكن مع هذا وردي لم يكن محايد سياسياً؟.
نعم وردي كان يساريا وهو مؤمن بشعارات اليسار... وهو قد قال لا فرار من اليسار في مرحلتنا تلك.. ولا بد لك من الانتماء له.. وردي قال لي أنا كنت منتمي لليسار انتماءً وجدانيا قبل ان يكون انتماءً سياسيا أو انتماءً حزبيا.
وردي مفرّق جيد ما بين الرؤية للفروقات وما بين السلطة والدولة. وردي كان يحس بالحرية في أي لحظة من لحظات حياته لذلك أصر حسب قوله أن يغني لصلاح أحمد إبراهيم (الطير المهاجر) مع أن الحزب الشيوعي كان يمزق في صلاح أحمد إبراهيم ..وقد سنده وردي بالغناء له.
وردي كان سعيداً برأي عبدالخالق محجوب في أغنية (الطير المهاجر) فقد قال عبدالخالق محجوب في حوار مع صحيفة الميدان وهو يُسأل عن (الطير المهاجر)، إن الغناء يجب أن يكون هكذا .. رغم الخلاف وقتها بين صلاح أحمد إبراهيم وعبدالخالق محجوب.
-حدّثنا عن عبقريات وردي؟.
سيرته الفنية باذخة جداً.. بحيث إنك إذا كنت مهتم بالثقافة والفنون فإن لك في سيرة وردي (نموذجا)، سيرته الفنية مشبعة جدا ...مثلا لو عاوز تتابع سيرته عبر الأناشيد وحدها يمكن استيعاب الحياة السساسية السودانية كاملة من 17 نوفمبر الى يومنا هذا.
تجربته السياسية.. المراجعات في حياته (تراجعات) ... أنا بفتكر وردي هو مثال حقيقي للشخصية السودانية.. لو عاوز توثق للشخصية السودانية ثقافيا سوف تجد وردي أهم معلم للتوثيق للشخصية السودانية في تناقضاته وتوتراته وألقه وعناده وثقافته وتمزقه وهكذا.
- من الناحية الإنسانية ما أوضح علامات وردي؟.
أهم مميزات وردي على الإطار الشخصي (الصراحة).. وردي زول واضح جدا .. أنا مشيت ليه يوم أن توفت (علوية الرشيدي) زوجته (أم مظفر) ...وردي حكى لي قصة زواجه.. وقال لي أنا علوية دي شفتها وهي طالبة في الثانوي في حفلة في مدني لعديله ود شيخ العجب.
قال أنا شفت البنت دي وقررت أتزوجها ..اتخذت القرار طوالي بصدق ...ناس مدني قال لي (استهبلوني) وقالوا لي أعمل لينا حفلة تانية عشان نعرفها منو؟.. وقام عملت حفلة بلاش وقعدت لليوم التاني في مدني وغنى ليها (قالوا بتحبي قلت ليهم مالو)... وردي اتكلم لي كلام عجيب جدا عن احترامه لها.. قال لي يا حسين أنا زول (بوهيمي) ...وزول متمرد. فيني كل (بوهيميات) الفنان وتمرده ...قال لي أنا مرات بدخل البيت وأكسر أي حاجة ...علوية دي يوم واحد ما رفعت صوتها عليّ.. احتملتني رغم أنها بنت صغيرة وجميلة ومطلوبة وبنت أسرة.
الحاجة التانية قال لي ظلت تحبني لآخر يوم في حياتها بدون أي أسباب موضوعية، غير أنها تحب وردي الذي لا أعرفه أنا ...كانت تحبني بصدق.
وردي عنده مقدرة على الاعتراف وهذه عادة عند إخوانا الحلفايين والشماليين أنهم ما بعرفوا يداروا.
- وردي فنان تجاوز عصره... مشهد تشييعه كان مشهد غريب.. أطفال جاءوا وحدهم.. وأسر جاءت كاملة من جهات مختلفة.. ماذا تقول عن ذلك؟.
الناس بقولوا (زمانّا فات وغنّاينا مات) لكن وردي فنان كل الأجيال وبفتكر ح يكتشف الناس إمكانياته الفنية وهو ميت أكثر مما هو حي ... والعرب بقولوا إن (المعاصرة حجاب) ومعاصرته أحيانا تحجب عنا الكثير ..غيبة وردي الآن بتخلى الناس تكتشف وردي اكتشافا حقيقيا ..ويمكن ان يورث للكثير من الاجيال.
وردي ح نكتب عنه يوما زي ما بيُكتب عن ابن خلدون وزي ما بيكتب عن زرياب وزي ما بيكتب عن أم كلثوم ...وردي هو مثل أولئك لا يقل عنهم شيء، وردي قيمته هو انه شخصية حقيقية.
شخصية اسطورية لكن من لحم ودم.
- ماذا عن مواقف وردي السياسية؟.
عندما اعتقل وردي في كوبر من قبل نظام مايو .. طالبه نميري أن يكتب خطاب استرحام ليطلق سراحه ...لكن وردي رفض أن يكتب خطاب استرحام وتمسك بموقفه رغم أن ذلك الوقت كان النظام المايوي متشددا ..ونفذ الكثير من الاعتقالات والإعدامات.
- وردي بمَ كان يعتز غنائياً؟.
وردي كان يعتز كثيرا بـ (قسم بي محيك البدر)... والطير المهاجر... بالمناسبة وردي يمتلك أكثر من 300 أغنية شهيرة لحن معظمها ..ولم يغن من ألحان غيره إلا بعض الأعمال لحن له برعي محمد دفع الله (الوصية) والطاهر إبراهيم لحن له أحد أناشيده.
- من من الفنانين يعجب به وردي؟
كان يحب إبراهيم عوض وتجمعه صداقة قوية مع عبد الكريم الكابلي. وكان يحب ايضا صوت احمد الجابري ويعتبره من الأصوات النادرة في السودان إلى جانب تفضيله للفنان صالح الضي.