بدر الدين محمد
09-01-2012, 11:16 PM
الترابي بادر بإنكار تفكير حزبه في أي عمل انقلابي بعد أن حاصرته الاتهامات
المهدي أراد استباق أي بذرة شك قد تنبُت بشأن عِلمه أو سكوته على انقلاب[/b
][b]رئيس حزب الأمة يدرك أن الترابي تدفعه غضبة خاصة حيال السلطة الحاكمة
الواقع الآن يقول إن بالبلاد ساحة سياسية مفتوحة وحياة حزبية مقننة
الدكتور حسن الترابي زعيم المؤتمر الشعبي أنكر تماماً إتهام حزبه بالتحضير لإنقلاب عسكري ضد الحكومة السودانية الحالية. ليس ذلك فحسب، ولكن د.الترابي نفى في حديث للصحافيين الأسبوع الماضي مجرد تفكير حزبه في الانقلاب. بالمقابل قال زعيم حزب الأمة القومي السيد الصادق المهدي إن الشعبي بزعامة الترابي سبق وأن وجّه لهم الدعوة في حزب الأمة للمشاركة في عمل انقلابي ضد السلطة الحاكمة، ولكنه - أي المهدي - رفض . وبذا أصبحت المعادلة هنا بالغة التعقيد؛ فنحن حيال حديثين متقاطعين حول شأن واحد، من المؤكد أن أحدهما يكذب.وبالطبع لا بُد من تمحيص هذين الموقفين بعناية لمحاولة الخروج بنتيجة على اعتبار أن قضية تغيير الحكومة الحالية عبر عمل انقلابي أو عمل مسلح، أو أي وسيلة أخرى شأن يهم السودانيين لما قد يترتب عليه من مُترتبات ونتائج مؤثرة تتصل بأمن واستقرار البلاد أو تفتح الباب لتدخُّل خارجي أو تمنح بعض أعداء السودان سانحة نادرة لتحقيق ما ينشدونه.بدءاً لا بُد أن نستصحب معنا في قراءة هذين التصريحين أنّ كلا الزعيمين -المهدي والترابي- يعارضان الحكومة الحالية ويتطلعان لتغييرها بصرف النظر هنا عما إذا كان ذاك ممكناً أم لا. كذلك لا بُد أن نستصحب أن للحزبين – الشعبي والأمة – تجربتين سابقتين على صعيدين؛ صعيد العمل المسلح لإزالة سلطة حاكمة (الجبهة الوطنية 1976) والتي فشلت فشلاً ذريعاً يوم أن ردَّها نظام الرئيس الراحل نميري على أعقابها مخلِّفاً فيها جراحاً سياسية غائرة ؛ وصعيد العمل الانقلابي العسكري، بالنسبة للشعبي (يونيو 1989) وبالنسبة للأمة (نوفمبر 1958) على الرغم من أن الأخير عُرف تاريخياً بأنه (مجرد عملية تسليم وتسلم) قام بها رئيس الوزراء المنتمي لحزب الأمة حينها الأميرلاي عبد الله خليل حين دعا الجيش بقيادة الفريق عبود لاستلام زمام الأمور والإمساك بالسلطة. المُهِم هنا، أنه في الحالتين، تغيرَ النظام التعددي الذي كان موجوداً وأفضي إلى وضع جديد.هذه الخلفية وهذه المُشتركات المثبتة تاريخياً ضرورية لمحاولة استقصاء ما إذا كان ما قاله الترابي صحيحاً أم أن الصحيح ما قاله المهدي؟. من الملاحظ هنا، أن الترابي هو الذي بادر بإنكار تفكير حزبه في أي عمل انقلابي بعد أن حاصرته اتهامات حكومية، ومن ثم جاء حديث المهدي معقباً على الترابي ومؤكداً على صحة اتهامات الحكومة للترابي بالسعي لتدبير انقلاب. هذه النقطة مهمّة للغاية لعدد من الأسباب.أولاً: أدراك المهدي أن اتهام الحكومة السودانية للشعبي بالتدبير لانقلاب مصدره الوثائق التي ضُبطت مع المسؤول التنظيمي للحزب إبراهيم السنوسي وربما أيضاً ما أدلى به من أقوال لدى استجوابه - وما من شك هنا - أن المهدي أراد استباق أي بذرة شك قد تنبُت في صدر السلطة بشأن عِلمه أو مشاركته أو سكوته على انقلاب يدبره الشعبي ويجري التحضير له، وربما لهذا السبب - حسب تقديرنا - سارع بالكشف عن الاتصال الذي قام به الشعبي في هذا الصدد بقطع الطريق على أي شكوك تحوم حوله، وهذا الموقف في الواقع يدعم فرضية مصداقية المهدي بدرجة كبيرة كونه كشف عن الحقيقة في وقتها المناسب.ثانياً: إدراك المهدي - من واقع تجربته مع الترابي - أن الأخير تدفعه غضبة خاصة حيال السلطة الحاكمة وبات كل هدفه هو إسقاطها ومن ثم لم يعد لديه ما يخسره، في حين أن المهدي – رغم الكثير مما لحق به – كثير الجنوح إلى الحوار والتفاوض وما يسميه هو (الجهاد المدني).ومع كل ذلك فإن في السياسة يصعب إسباغ صفة الصدق أو الكذب هكذا اعتماداً على المعايير الاجتماعية المعتادة، ولكن القدر الكبير من التناقض والارتباك الذي شاب حديث الترابي وقد فقدَ خليل أحد وسائله الضاغطة المهمة، وفقد السنوسي أحد محركاته المتصلة بالأطراف خارجياً وداخلياً، ووقعت وثائقه المُهمّة في يد خصومه في السلطة، وفقد صحيفته (رأي الشعب) عقب تجاوزها لكل الخطوط المعقولة، وفقد جزءاً مقدراً من قوى المعارضة (الاتحادي التحق بالسلطة) والأمة القومي (التحق بدرجة ما بالسلطة)، يجعل من وزن تصريحات الترابي جديرة بأن تُؤخذ بحذر بالغ؛ فالرجل في ظروف دقيقة ويكاد يفقد كل شيء, وإن تظاهر بغير ذلك. وهي ظروف من الصعب على أي مراقب سياسي أن يعزلها عن محيطها الدائرة فيه. وعلى هذا الأساس فإن الترابي قال ما قاله وهو تحت ضغط نفسي وظرفي وسياسي بالغ، في حين أن المهدي ليس واقعاً تحت ذات القدر من الضغط. الترابي لم يستطع إنكار صلة حزبه بالوثائق المضبوطة مع مسؤوله التنظيمي السنوسي ولكنه فشل في تبريرها ولم يجد مخرجاً سوى القول إنها مسروقة! دون أن يحدد السارق والمكان الذي سُرقت منه ولماذا وكيف سُرقت بالتزامن مع اعتقال السنوسي؟ بناء على كل ذلك فقد بات من السهل معرفة مَن (الصادق) ؛ ويبقى على الأذكياء أن يستنتجوا من الكاذب!!قد يبدو السؤال أقرب إلى السذاجة والسطحية على اعتبار أن قوى المعارضة السودانية وطوال أكثر من عقدين من الزمان هذا هو حالها الذي عُرف عنها، لا تلتقي على هدف ولا تتوحَّد على كلمة، وفي أحشاء كل حزب منها أورام وكدمات ودمامل! فهي ما بين حزب مقطع الأوصال، وآخر متناثر كقطع الزجاج الذي ضربته رياح عاتية، وثالث لا حول له ولا قوة، أكثر من إطلاق التصريحات النارية التي لا تعززها فرضيات واقعية معتبرة على الأرض.غير أننا وعلى الرغم من كل ذلك نصرّ على أن نبحث في هذا الملف الشائك الذي يثير من الإشفاق بأكثر مما يثير من الهواجس والمخاوف والتوقعات. قوى المعارضة السودانية أسيرة لقالب سياسي قديم وبالي، هو إما أن تحكم، أو أن تقاتل من هو في الحكم!. في العهود السابقة (عبود و نميري) كانت الأمور مختلفة تماماً، فتلك عهود يصلح القول إنها ذات منحى شمولي، حيث لا وجود للأحزاب ولا لأنشطتها العلنية ولا تتوفر قوانين لها ولا لحريات الصحافة والقضايا الحقوقية، وكانت هذه الأحزاب تُحظى بململة الشارع، وتنتهز السانحة وينجح الأمر. ومع هذا النجاح – للأسف الشديد – إلا أن الواقع الذي تفرضه هذه الأحزاب بعد ذلك سرعان ما يكشف عن الداء الحقيقي وهو أنها في ذات ماضيها، وذات تشاكسها وذات الممارسة الخلافية التي لا تمنحها الفرصة لإدارة بلد ورعاية شؤونه وقضاياه بجدية ومسؤولية.الوضع الآن – حتى في نظر المكابرين والمغالين – مختلف تماماً، فهنالك ساحة سياسية مفتوحة وحياة حزبية مقننة وقوانين لم يعرف لها السودان مثيلاً قابلة للتطور والرقي أكثر بشيء من الممارسة والتواتر والمثابرة، إذ أنه هكذا تُصنع الممارسة الديمقراطية، بالتدرج الطبيعي بالتعلُم من التجارب، وبترسيخ الوازع الوطني واحتمال الآخر، والمراهنة على نيْل ثقة الناخبين عبر جهد سياسي متصل، وليس استناداً إلى تاريخ سابق أو مجد غابر أو مناطق مقفولة!حزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي يبدو أنه امتلك قدراً من الوعي بهذه الحقائق وليس أدلّ على ذلك من أن المهدي أصبح محلاً للهجوم والنقد من قِبل قوى المعارضة لا لشيء، سوى لأنه استبعد العمل المسلح، والانطلاق من الخارج وانتقد المراهنة – من الأساس – على إسقاط حكومة عبر عمل مسلح. هذا النقد الصادر عن المهدي من المستحيل أن يختلف على صحته عقلان أو غير عاقلان. فالدماء لا تبني بلداً؛ كما أن الأمر جرت تجربته - لعقدين من الزمان - ولم ينجح وحتى الحركة الشعبية نفسها التي قاتلت بدعم خارجي لم يتوفر قط لحركة مسلحة لم تنل ما نالته في خاتمة المطاف سوى بالتفاوض والحوار؛ وحتى ما تبقى لها من قضايا عالقة الآن ما من سبيل لنيْلها سوى بالحوار والتفاوض.الأمر جليّ وواضح وما كنا في حاجة لإعادة ترديده لولا أن قوى المعارضة السودانية باتت تزيد جراح السودان بمواقفها هذه واختلافاتها وخلافاتها المتواصلة. من جانب ثانٍ فإن أحداً من أهم عناصر هذا الوضع المزري لهذه القوى أنها لا تحسب حساب الغد والمستقبل، فكل همومها العاجلة والآنية هي إزالة السلطة وليأتي بعد ذلك الطوفان!وبعضها يرتكز على غِل وأحقاد ذات طابع خاص وشخصي، وبعضها ارتضى أن يصبح (معول هدم) في يد قوى خارجية مثل المؤتمر الشعبي الذي لم يجد حرجاً في التعاون مع حكومة جنوب السودان وحلفائها ومن بينهم إسرائيل! أَبَعدَ كل هذا من الممكن أن تصبح هذه القوى المعارضة – بذهنيتها هذه – بديلاً؟!
منقول
المهدي أراد استباق أي بذرة شك قد تنبُت بشأن عِلمه أو سكوته على انقلاب[/b
][b]رئيس حزب الأمة يدرك أن الترابي تدفعه غضبة خاصة حيال السلطة الحاكمة
الواقع الآن يقول إن بالبلاد ساحة سياسية مفتوحة وحياة حزبية مقننة
الدكتور حسن الترابي زعيم المؤتمر الشعبي أنكر تماماً إتهام حزبه بالتحضير لإنقلاب عسكري ضد الحكومة السودانية الحالية. ليس ذلك فحسب، ولكن د.الترابي نفى في حديث للصحافيين الأسبوع الماضي مجرد تفكير حزبه في الانقلاب. بالمقابل قال زعيم حزب الأمة القومي السيد الصادق المهدي إن الشعبي بزعامة الترابي سبق وأن وجّه لهم الدعوة في حزب الأمة للمشاركة في عمل انقلابي ضد السلطة الحاكمة، ولكنه - أي المهدي - رفض . وبذا أصبحت المعادلة هنا بالغة التعقيد؛ فنحن حيال حديثين متقاطعين حول شأن واحد، من المؤكد أن أحدهما يكذب.وبالطبع لا بُد من تمحيص هذين الموقفين بعناية لمحاولة الخروج بنتيجة على اعتبار أن قضية تغيير الحكومة الحالية عبر عمل انقلابي أو عمل مسلح، أو أي وسيلة أخرى شأن يهم السودانيين لما قد يترتب عليه من مُترتبات ونتائج مؤثرة تتصل بأمن واستقرار البلاد أو تفتح الباب لتدخُّل خارجي أو تمنح بعض أعداء السودان سانحة نادرة لتحقيق ما ينشدونه.بدءاً لا بُد أن نستصحب معنا في قراءة هذين التصريحين أنّ كلا الزعيمين -المهدي والترابي- يعارضان الحكومة الحالية ويتطلعان لتغييرها بصرف النظر هنا عما إذا كان ذاك ممكناً أم لا. كذلك لا بُد أن نستصحب أن للحزبين – الشعبي والأمة – تجربتين سابقتين على صعيدين؛ صعيد العمل المسلح لإزالة سلطة حاكمة (الجبهة الوطنية 1976) والتي فشلت فشلاً ذريعاً يوم أن ردَّها نظام الرئيس الراحل نميري على أعقابها مخلِّفاً فيها جراحاً سياسية غائرة ؛ وصعيد العمل الانقلابي العسكري، بالنسبة للشعبي (يونيو 1989) وبالنسبة للأمة (نوفمبر 1958) على الرغم من أن الأخير عُرف تاريخياً بأنه (مجرد عملية تسليم وتسلم) قام بها رئيس الوزراء المنتمي لحزب الأمة حينها الأميرلاي عبد الله خليل حين دعا الجيش بقيادة الفريق عبود لاستلام زمام الأمور والإمساك بالسلطة. المُهِم هنا، أنه في الحالتين، تغيرَ النظام التعددي الذي كان موجوداً وأفضي إلى وضع جديد.هذه الخلفية وهذه المُشتركات المثبتة تاريخياً ضرورية لمحاولة استقصاء ما إذا كان ما قاله الترابي صحيحاً أم أن الصحيح ما قاله المهدي؟. من الملاحظ هنا، أن الترابي هو الذي بادر بإنكار تفكير حزبه في أي عمل انقلابي بعد أن حاصرته اتهامات حكومية، ومن ثم جاء حديث المهدي معقباً على الترابي ومؤكداً على صحة اتهامات الحكومة للترابي بالسعي لتدبير انقلاب. هذه النقطة مهمّة للغاية لعدد من الأسباب.أولاً: أدراك المهدي أن اتهام الحكومة السودانية للشعبي بالتدبير لانقلاب مصدره الوثائق التي ضُبطت مع المسؤول التنظيمي للحزب إبراهيم السنوسي وربما أيضاً ما أدلى به من أقوال لدى استجوابه - وما من شك هنا - أن المهدي أراد استباق أي بذرة شك قد تنبُت في صدر السلطة بشأن عِلمه أو مشاركته أو سكوته على انقلاب يدبره الشعبي ويجري التحضير له، وربما لهذا السبب - حسب تقديرنا - سارع بالكشف عن الاتصال الذي قام به الشعبي في هذا الصدد بقطع الطريق على أي شكوك تحوم حوله، وهذا الموقف في الواقع يدعم فرضية مصداقية المهدي بدرجة كبيرة كونه كشف عن الحقيقة في وقتها المناسب.ثانياً: إدراك المهدي - من واقع تجربته مع الترابي - أن الأخير تدفعه غضبة خاصة حيال السلطة الحاكمة وبات كل هدفه هو إسقاطها ومن ثم لم يعد لديه ما يخسره، في حين أن المهدي – رغم الكثير مما لحق به – كثير الجنوح إلى الحوار والتفاوض وما يسميه هو (الجهاد المدني).ومع كل ذلك فإن في السياسة يصعب إسباغ صفة الصدق أو الكذب هكذا اعتماداً على المعايير الاجتماعية المعتادة، ولكن القدر الكبير من التناقض والارتباك الذي شاب حديث الترابي وقد فقدَ خليل أحد وسائله الضاغطة المهمة، وفقد السنوسي أحد محركاته المتصلة بالأطراف خارجياً وداخلياً، ووقعت وثائقه المُهمّة في يد خصومه في السلطة، وفقد صحيفته (رأي الشعب) عقب تجاوزها لكل الخطوط المعقولة، وفقد جزءاً مقدراً من قوى المعارضة (الاتحادي التحق بالسلطة) والأمة القومي (التحق بدرجة ما بالسلطة)، يجعل من وزن تصريحات الترابي جديرة بأن تُؤخذ بحذر بالغ؛ فالرجل في ظروف دقيقة ويكاد يفقد كل شيء, وإن تظاهر بغير ذلك. وهي ظروف من الصعب على أي مراقب سياسي أن يعزلها عن محيطها الدائرة فيه. وعلى هذا الأساس فإن الترابي قال ما قاله وهو تحت ضغط نفسي وظرفي وسياسي بالغ، في حين أن المهدي ليس واقعاً تحت ذات القدر من الضغط. الترابي لم يستطع إنكار صلة حزبه بالوثائق المضبوطة مع مسؤوله التنظيمي السنوسي ولكنه فشل في تبريرها ولم يجد مخرجاً سوى القول إنها مسروقة! دون أن يحدد السارق والمكان الذي سُرقت منه ولماذا وكيف سُرقت بالتزامن مع اعتقال السنوسي؟ بناء على كل ذلك فقد بات من السهل معرفة مَن (الصادق) ؛ ويبقى على الأذكياء أن يستنتجوا من الكاذب!!قد يبدو السؤال أقرب إلى السذاجة والسطحية على اعتبار أن قوى المعارضة السودانية وطوال أكثر من عقدين من الزمان هذا هو حالها الذي عُرف عنها، لا تلتقي على هدف ولا تتوحَّد على كلمة، وفي أحشاء كل حزب منها أورام وكدمات ودمامل! فهي ما بين حزب مقطع الأوصال، وآخر متناثر كقطع الزجاج الذي ضربته رياح عاتية، وثالث لا حول له ولا قوة، أكثر من إطلاق التصريحات النارية التي لا تعززها فرضيات واقعية معتبرة على الأرض.غير أننا وعلى الرغم من كل ذلك نصرّ على أن نبحث في هذا الملف الشائك الذي يثير من الإشفاق بأكثر مما يثير من الهواجس والمخاوف والتوقعات. قوى المعارضة السودانية أسيرة لقالب سياسي قديم وبالي، هو إما أن تحكم، أو أن تقاتل من هو في الحكم!. في العهود السابقة (عبود و نميري) كانت الأمور مختلفة تماماً، فتلك عهود يصلح القول إنها ذات منحى شمولي، حيث لا وجود للأحزاب ولا لأنشطتها العلنية ولا تتوفر قوانين لها ولا لحريات الصحافة والقضايا الحقوقية، وكانت هذه الأحزاب تُحظى بململة الشارع، وتنتهز السانحة وينجح الأمر. ومع هذا النجاح – للأسف الشديد – إلا أن الواقع الذي تفرضه هذه الأحزاب بعد ذلك سرعان ما يكشف عن الداء الحقيقي وهو أنها في ذات ماضيها، وذات تشاكسها وذات الممارسة الخلافية التي لا تمنحها الفرصة لإدارة بلد ورعاية شؤونه وقضاياه بجدية ومسؤولية.الوضع الآن – حتى في نظر المكابرين والمغالين – مختلف تماماً، فهنالك ساحة سياسية مفتوحة وحياة حزبية مقننة وقوانين لم يعرف لها السودان مثيلاً قابلة للتطور والرقي أكثر بشيء من الممارسة والتواتر والمثابرة، إذ أنه هكذا تُصنع الممارسة الديمقراطية، بالتدرج الطبيعي بالتعلُم من التجارب، وبترسيخ الوازع الوطني واحتمال الآخر، والمراهنة على نيْل ثقة الناخبين عبر جهد سياسي متصل، وليس استناداً إلى تاريخ سابق أو مجد غابر أو مناطق مقفولة!حزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي يبدو أنه امتلك قدراً من الوعي بهذه الحقائق وليس أدلّ على ذلك من أن المهدي أصبح محلاً للهجوم والنقد من قِبل قوى المعارضة لا لشيء، سوى لأنه استبعد العمل المسلح، والانطلاق من الخارج وانتقد المراهنة – من الأساس – على إسقاط حكومة عبر عمل مسلح. هذا النقد الصادر عن المهدي من المستحيل أن يختلف على صحته عقلان أو غير عاقلان. فالدماء لا تبني بلداً؛ كما أن الأمر جرت تجربته - لعقدين من الزمان - ولم ينجح وحتى الحركة الشعبية نفسها التي قاتلت بدعم خارجي لم يتوفر قط لحركة مسلحة لم تنل ما نالته في خاتمة المطاف سوى بالتفاوض والحوار؛ وحتى ما تبقى لها من قضايا عالقة الآن ما من سبيل لنيْلها سوى بالحوار والتفاوض.الأمر جليّ وواضح وما كنا في حاجة لإعادة ترديده لولا أن قوى المعارضة السودانية باتت تزيد جراح السودان بمواقفها هذه واختلافاتها وخلافاتها المتواصلة. من جانب ثانٍ فإن أحداً من أهم عناصر هذا الوضع المزري لهذه القوى أنها لا تحسب حساب الغد والمستقبل، فكل همومها العاجلة والآنية هي إزالة السلطة وليأتي بعد ذلك الطوفان!وبعضها يرتكز على غِل وأحقاد ذات طابع خاص وشخصي، وبعضها ارتضى أن يصبح (معول هدم) في يد قوى خارجية مثل المؤتمر الشعبي الذي لم يجد حرجاً في التعاون مع حكومة جنوب السودان وحلفائها ومن بينهم إسرائيل! أَبَعدَ كل هذا من الممكن أن تصبح هذه القوى المعارضة – بذهنيتها هذه – بديلاً؟!
منقول