أبونبيل
09-12-2011, 11:38 AM
سجن كوبر
امل و دموع و فرح
حكايات إنسانية وقصص مؤثرة وخليط من الدموع والفرح والأمل والدهشة كانت حصيلة الساعات الخمس التي قضيتها مع بعض نزلاء السجن العتيد تنبئ عن شئ واحد اسمه الأمل وأن لا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة أبطالها أشخاص حولوا أحزانهم الى طاقات تتفجر في دواخلهم وتدفعهم الى الأمام وستجد نفسك مشدوهاً لقصة شاب يحكي أنه دخل السجن (أميا) لا يدري ما الكتابة ولا القراءة وهو الآن على أعتاب الجامعة وآخر قضى بين جدران السجن (14) عاماً لكنه أمضى نصفها على الأقل في التنقيب عن تاريخ قبيلة الكبابيش حتى خرج إلينا بكتاب سماه “ملك البادية في حياة الكبابيش” وغيرها من الحكايات التي تجاوز حد الإدهاش، من دوري السجن والفرق الأكثر شعبية وانتقالات اللاعبين وحلقات التلاوة والتجويد والصلوات الخمس في المسجد وموعظة القس في الكنيسة، ببساطة ستجد انك في عالم خاص في شخوصه وأحداثه والآمه وأحلامه رأينا أن نغوص فيه لنعكس الوجه المشرق والمضئ منه أو للوجه الآخر من القمر.
سجن “كوبر” شرفة
التاريخ بالسياسة والجنايات
سجن «كوبر» شيد السجن المركزي في السودان عام 1903م على أرض مساحتها خمسة آلاف متر مربع تقريبا، ويطل على شارع رئيسي لمدينة الخرطوم بحري، وفي موقع قريب من جسر القوات المسلحة الذي يربط الخرطوم بالخرطوم بحري، صمم مبنى السجن هندسياً بشكل مماثل للسجون البريطانية، وبوجه خاص سجن برمنجهام (الخريطة والمباني والأقسام). وأطلق عليه سجن «كوبر»، إشارة الى مسؤول بريطاني تولى إدارة مدينة الخرطوم بحري ولا يزال حي “كوبر” يحمل اسمه حتى اليوم ويقتسم “كوبر” الشهرة مع سجن “شالا” بدارفور و”بوتسودان” بالبحر الأحمر و”دبك ” شمال الخرطوم.
ويضم سجن «كوبر» 14 قسما، منها قسم المحكوم عليهم بالإعدام، “الشرقيات والغربيات” وقسم لمعتادي الإجرام، ولذوي الأحكام الطويلة والقصيرة، وأقسام أخرى للمنتظرين وقسم للمعاملة الخاصة لكبار الموظفين الذين يدينهم القضاء بأحكام سجن وقد تم إلغاء هذا القسم في العهد الوطني لكن الاسم ظل كما هو دون تغيير غير أن القسم السياسي قد حاز اللقب الأشهر على الإطلاق لارتباط نزلائه من السجناء أو المعتقلين داخله بتقلبات الحكم والسياسة في السودان. وقد استقبل هذا القسم قيادات الحركة الوطنية المناهضة لحكم الإدارة البريطانية، وعلى رأسهم الزعيم إسماعيل الأزهري، الذي أصبح مطلع عام 1954م أول رئيس لحكومة وطنية ووزيراً للداخلية. ولم يلبث أن استقبل أرتالاً لا تنتهي من السياسيين والنقابيين من القصر الى السجن وبالعكس إلا قليلا منهم.
ومن اشهر الإعدامات التي شهدها سجن «كوبر» لضباط شباب بقيادة البكباشي علي حامد عام 1959م، في أعقاب فشل محاولة انقلابية ضد حكم الفريق إبراهيم عبود (1958-1964م)، ثم إعدام قيادات الحزب الشيوعي السوداني عام 1971م في أعقاب فشل الانقلاب الذي قاده الرائد هاشم العطا في 19 يوليو 1971م، حيث أعدم السكرتير العام للحزب عبد الخالق محجوب وأمين عام اتحاد نقابات عمال السودان والحائز على وسام “لينين” الشفيع أحمد الشيخ والقيادي الجنوبي المحامي جوزيف قرنق. كما شهد «كوبر» في مارس عام 1985م اعتقال اكبر حشد من السياسيين والنقابيين المناهضين للحكم المايوي وقبلها وبالتحديد في 18 يناير 1985م شهد تنفيذ حكم الإعدام على المفكر البارز ومؤسس الحزب الجمهوري محمود محمد طه بعد جهره بمعارضة القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية التي اعلنها الرئيس نميري (1969- 1985م) في سبتمبر 1983م. وكان ابرز ضحاياها الواثق صباح الخير دراج الذي حكم عليه بالشنق والصلب بعد إدانته ببلاغات سطو متفرقة في أبريل 1984م.
وعندما أعلن المشير عبد الرحمن سوار الذهب في 6 أبريل عام 1985م انحياز القوات المسلحة لخيار الشعب في استرداد الديمقراطية، والإطاحة بنميري اتجهت المسيرات الشعبية الى سجن «كوبر» لإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وفتحت الأبواب بتوجيه من مدير عام السجون، وخرج كافة السجناء السياسيين.
وبخروج رموز الانتفاضة من سجن «كوبر»، دخل رموز الحكم المايوي الى عنبر القسم السياسي وعلى رأسهم اللواء عمر الطيب. وفي 30 يونيو عام 1989م اندلعت الإنقاذ الوطني بقيادة العميد حينها عمر البشير، جرى اعتقال القيادات السياسية، محمد عثمان الميرغني مرشد السجادة الختمية وزعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي والصادق المهدي رئيس الوزراء في الديمقراطية الثالثة وزعيم حزب الأمة والسكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني محمد إبراهيم نقد والدكتور حسن الترابي الأمين العام للجبهة الإسلامية الذي ظهر في ما بعد انه كان الرأس المدبر للانقلاب. ولاحقاً شهدت حجرة الإعدام بالسجن شنق مجدي محجوب وجرجس بسطوس واركانجلو في قضايا تتعلق بالاتجار بالعملات الأجنبية. والأخير الطالب (اركانجلو داقاو) من أبناء الجنوب، وتم ضبطه بمطار الخرطوم، وقتها كان يستعد للالتحاق بجامعة (ماكريري) بدولة يوغندا، وهو يحمل معه مصاريف دراسته بالعملات الحرة. ويناير من العام 2002م كان مسرحاً لأحداث تمرد دامية، قادها نزلاء السجن، قتل فيها 7 أشخاص بينهم ضابطان.
وفي ظهيرة الاثنين 13 أبريل 2008م شهدت باحة السجن إعدام (9) رجال بعد إدانتهم بقتل صاحب “الوفاق” محمد طه محمد أحمد وحز رأسه بعد ساعات من اختطافه من منزله ليلة الثلاثاء 5 سبتمبر 2006م.
ولأن السجن التاريخي ظل «سكناً» لكبار الساسة في بلادنا منذ إنشائه في كل العهود السياسية قبل وبعد الاستقلال كما احتجز داخله عتاة الإجرام وأشهر المتهمين، اكتسب شهرة واسعة حولته الى ما يشبه الأسطورة بجانب أنه لم يحدث أن غادره أحد متسللاً فهو سجن كما يقولون لا تخرج منه إلا على قدميك أو ظهرك أي جثة لكن ان تفكر فيه بالهرب فلا، لأنك ببساطة لن تفلح، فزيادة على الاحترازات التقليدية اضيفت تقنية «كاميرات المراقبة» التي جعلت الامر يزداد صعوبة باعتبار أن الحارس لو غفل عنك فلا تتوقع ذات الشيء من «الكاميرا» لكن المثير أن الشبان الملتحين قاتلي الدبلوماسي الامريكي غرانفيل وسائقه عبد الرحمن غافلوا الحراس واستغفلوا الكاميرات ونقبوا السجن لخارجه في يوليو الماضي ولم يعودوا اليه مرة ثانية عدا واحد الى الآن.
(2)
تجاوزت الاستياء الشديد الذي أحسست به في اليوم الأول لدخولي السجن
هذا ما كان من أمر (السجن وسنينه) لكننا لم نذهب نبتغي هذا إنما الذين خطوا الى السجن وأحالوا لياليه الكئيبة وأيامه القاتمة الى نور يلوح عند انتهاء النفق المظلم أول هؤلاء النزيل (أبوبكر) لا يفوتني أن أذكر لكم أن إدارة السجن طلبت قبل أن نبدأ عدم التصوير واستجبنا لهم ورأيت أيضاً أن نكتفي بقدر المستطاع بالاسم الأول من اسماء السجناء في بعض الأحيان أو الاستعاضة عنها بالأحرف الاولى في أحيان اخرى لاعتبارات عدة بينها أننا نرغب في عرض النماذج لينتفع بها الناس بعيداً عن ما يثير الشجون أو يخدش حياء الاسر أو يعرض به.
ابوبكر جاء الى السجن محكوماً عليه بـ(20) عاماً يستعيد ذكريات يومه الأول في الحبس عند دخوله السجن قبل ثلاثة اعوام بأنه شعر باستياء كبير وغصة في حلقه وأحس بأنها نهاية المطاف خاصة مع طول الفترة التي حكم عليه بها لكن شيئا ما كما يقول أشعل الرغبة داخله خاصة مع الفراغ الكبير الذي يعيشه وإصراره على مواكبة الحياة خارج الأسوار، وأضاف قائلاً بعبارات ذات مغزى: “مع كل نجاح كنت أشعر بأنني أمضي الى الأمام وانني جزء لا يتجزأ من الذين يعيشون حياتهم خارج السجن”. ويقول بأن الطموح دفعه لاكمال دراسته الجامعية داخل السجن حتى وصل الى السنة النهائية بقسم المحاسبة المالية بكلية الاقتصاد والعلوم الإدارية بجامعة أم درمان الأهلية وبجانب دراسته الجامعية للحصول على درجة البكاليورس، أضحى احد المشرفين على برنامج التعليم بالسجن الذي يضم في فصوله ما يزيد عن مائتي وخمسين طالباً موزعين على مرحلتي الأساس والثانوي لنزلاء تترواح اعمارهم بين 20 الى 55 عاماً بالإضافة الى (120) دارساً بفصول محو الأمية والانتساب لهذه البرامج جميعا شيء اختياري واليوم الدراسي يحتوي على (4) حصص يوميا بواقع (45) دقيقة للحصة الواحدة ويبدأ اليوم الدراسي عند الساعة السابعة صباحا ويطوى الطلاب اوراقهم ويضعون اقلامهم عند الساعة الحادية عشر صباحا ويؤكد (ابوبكر) استاذ الرياضيات أن ادارة السجن وفرت لهم كل المعينات خاصة في ما يختص بمسألة الرسوم الدراسية ولا ينسى دور مكتب الخدمة الاجتماعية الذي لايفتأ يذلل لهم الصعوبات التي تواجههم. ويشير الى ان العام الحالي شهد جلوس (25) نزيلاً لامتحانات الشهادة السودانية في مارس المنصرم وحققوا نسبة نجاح بلغت 84% اما الامتحانات القادمة فتشهد جلوس (40) نزيلا للشهادة السودانية و(37) نزيلا لمرحلة الأساس.
(3)
الاستفادة العظمى تمثلت
في مراجعة النفس بصورة دقيقة
أما (ح، م، ب) يبلغ من العمر (40) عاماً ومتزوج واب لثلاثة اطفال فيقول في بساطة أنا أحد النماذج التي استفادت من السجن بعد أن وصلت اليه قبل ثلاث سنوات تقريبا وبالتحديد في العام 2008م ووجدت الظروف مهيئة والجو مناسب فقررت إكمال تعليمي وجلست لامتحانات الشهادة السودانية واحرزت 77.9% مما أهلني للتقديم الى الجامعة وتم قبولي هذا العام في شعبة اللغة الإنجليزية بجامعة أم درمان الإسلامية. في البدء وقفت الرسوم الدراسية عائقاً في طريقي حيث طلبوا مبلغ (440) جنيها رسوم التسجيل لكن ادارة السجن عاونته على تسديدها وهو اليوم طالب بالكلية المذكورة كما تحول الى استاذ للغة الإنجليزية للنزلاء.
ويؤكد ان الاستفادة العظمى تمثلت في مراجعة النفس بصورة دقيقة ولا ينسى ان يسدي شكره لـ(الشفيع، حميراء، سعاد) بمكتب الخدمة الاجتماعية بالسجن الذين وجد منهم كل تشجيع حيث كانوا يعطونه حلا لكل شيء صعب قابله كما يقول.
(4)
قضيت (7) سنوات في
التنقيب عن تاريخ الكبابيش
يسابقك الإحساس بأنه يدرك عظم ما يفعل ولولا ملابس السجن التي جاء يرتديها لظننت انه مقدم لإحدى البرامج التلفزيونية بنظارته الطبية كان يتحدث بثقة، بعد ان وضع بجانبه على المنضدة التي جلسنا عليها كتب مطبوعة بأناقة اشار الى احدها وأراني إياه قائلاً هذه الكتاب يتعلق بالتراث وثقت فيه لتاريخ قبيلة الكبابيش بالسودان ويحتوي على نبذة للقبيلة وعن أنسابها وموقعها من القبائل العربية التي نسبها اليها بالاضافة الى (خشوم بيوتها) وتفريعاتهم الى بطون صغيرة وانتهى الى اخراج شجرة نسب لهم (طلعت ليهم شجرة) واشار الى انه استعان بمصادر ومراجع شفهية ومكتوبة كقاموس العامية في السودان للبروفسير الراحل عون الشريف قاسم وورقة بعنوان (بعض ملامح العروبة والاستعراب في السودان) للبروفسير يوسف فضل بجانب الدكتور عبدالله علي إبراهيم في (فرسان كنجرت، مقالات الكبابيش وديوان النوراب) كما استعان أيضاً بـ(ذكرياتي في البادية وملامح من المجتمع السوداني) لحسن نجيلة. أما الروايات الشفاهية فأخذها من الثقات وعلى رأسهم العمدة موسى علي التوم رئيس محكمة جبرة الشيخ الشعبية في اتصالات امتدت بينهما طوال العامين 2007 و2008م وهذا الجهد الذي امتد على مسير سبعة سنوات كاملة أو يزيد خلف الأسوار التي دخلها منذ (14) عاما وبالتحديد في 1996م اسفر عن كتابه الموسوم (ملك البادية في حياة الكبابيش) ويقع في مائتي صفحة من الحجم الكبير.
ليس هذا فحسب بل لديه أيضاً كتاب آخر عن المسادير التي تصل الى مائتي مسدار بينها مسدار عن الإبل والبادية والجمل البشاري والسجن والصاحب والبنات والكرم والشهامة والصيد والاتصالات والشباب والقهوة ولما سألته ولماذا القهوة؟ أجاب بشيء من الأسى ” لأنها بتجمع الناس”. ويشير الى إبراهيم الكباشي هو شيخه في هذا الضرب من الشعر ولما سألته عن شعراء آخرين يحفظ شعرهم أجاب بأنه ينشد الشعر لود شوراني ودشعراني ودضحوية اما الحاردلو “ده سيدهم كلهم”. اما اكثر مسدار يترنم به عندما يكون بمفرده فهو مسدار “الصاحب” ويؤكد ان جميع هذه المسادير قام بتدوينها داخل السجن.
كما لديه رواية بدأها منذ العام 2006م وشارفت على الانتهاء بعنوان (آدم يكوس لحواء وحواء تكوس لآدم) ومما يجدر ذكره بأن (م، د، ع) الذي يبلغ من العمر(42) عاماً يقضي عقوبة السجن (20) عاماً كان قد احرز نسبة 73% في امتحانات الشهادة السودانية في 2004م أهلته للالتحاق بجامعة السودان المفتوحة ودراسة العلاقات العامة
السودان الان
امل و دموع و فرح
حكايات إنسانية وقصص مؤثرة وخليط من الدموع والفرح والأمل والدهشة كانت حصيلة الساعات الخمس التي قضيتها مع بعض نزلاء السجن العتيد تنبئ عن شئ واحد اسمه الأمل وأن لا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة أبطالها أشخاص حولوا أحزانهم الى طاقات تتفجر في دواخلهم وتدفعهم الى الأمام وستجد نفسك مشدوهاً لقصة شاب يحكي أنه دخل السجن (أميا) لا يدري ما الكتابة ولا القراءة وهو الآن على أعتاب الجامعة وآخر قضى بين جدران السجن (14) عاماً لكنه أمضى نصفها على الأقل في التنقيب عن تاريخ قبيلة الكبابيش حتى خرج إلينا بكتاب سماه “ملك البادية في حياة الكبابيش” وغيرها من الحكايات التي تجاوز حد الإدهاش، من دوري السجن والفرق الأكثر شعبية وانتقالات اللاعبين وحلقات التلاوة والتجويد والصلوات الخمس في المسجد وموعظة القس في الكنيسة، ببساطة ستجد انك في عالم خاص في شخوصه وأحداثه والآمه وأحلامه رأينا أن نغوص فيه لنعكس الوجه المشرق والمضئ منه أو للوجه الآخر من القمر.
سجن “كوبر” شرفة
التاريخ بالسياسة والجنايات
سجن «كوبر» شيد السجن المركزي في السودان عام 1903م على أرض مساحتها خمسة آلاف متر مربع تقريبا، ويطل على شارع رئيسي لمدينة الخرطوم بحري، وفي موقع قريب من جسر القوات المسلحة الذي يربط الخرطوم بالخرطوم بحري، صمم مبنى السجن هندسياً بشكل مماثل للسجون البريطانية، وبوجه خاص سجن برمنجهام (الخريطة والمباني والأقسام). وأطلق عليه سجن «كوبر»، إشارة الى مسؤول بريطاني تولى إدارة مدينة الخرطوم بحري ولا يزال حي “كوبر” يحمل اسمه حتى اليوم ويقتسم “كوبر” الشهرة مع سجن “شالا” بدارفور و”بوتسودان” بالبحر الأحمر و”دبك ” شمال الخرطوم.
ويضم سجن «كوبر» 14 قسما، منها قسم المحكوم عليهم بالإعدام، “الشرقيات والغربيات” وقسم لمعتادي الإجرام، ولذوي الأحكام الطويلة والقصيرة، وأقسام أخرى للمنتظرين وقسم للمعاملة الخاصة لكبار الموظفين الذين يدينهم القضاء بأحكام سجن وقد تم إلغاء هذا القسم في العهد الوطني لكن الاسم ظل كما هو دون تغيير غير أن القسم السياسي قد حاز اللقب الأشهر على الإطلاق لارتباط نزلائه من السجناء أو المعتقلين داخله بتقلبات الحكم والسياسة في السودان. وقد استقبل هذا القسم قيادات الحركة الوطنية المناهضة لحكم الإدارة البريطانية، وعلى رأسهم الزعيم إسماعيل الأزهري، الذي أصبح مطلع عام 1954م أول رئيس لحكومة وطنية ووزيراً للداخلية. ولم يلبث أن استقبل أرتالاً لا تنتهي من السياسيين والنقابيين من القصر الى السجن وبالعكس إلا قليلا منهم.
ومن اشهر الإعدامات التي شهدها سجن «كوبر» لضباط شباب بقيادة البكباشي علي حامد عام 1959م، في أعقاب فشل محاولة انقلابية ضد حكم الفريق إبراهيم عبود (1958-1964م)، ثم إعدام قيادات الحزب الشيوعي السوداني عام 1971م في أعقاب فشل الانقلاب الذي قاده الرائد هاشم العطا في 19 يوليو 1971م، حيث أعدم السكرتير العام للحزب عبد الخالق محجوب وأمين عام اتحاد نقابات عمال السودان والحائز على وسام “لينين” الشفيع أحمد الشيخ والقيادي الجنوبي المحامي جوزيف قرنق. كما شهد «كوبر» في مارس عام 1985م اعتقال اكبر حشد من السياسيين والنقابيين المناهضين للحكم المايوي وقبلها وبالتحديد في 18 يناير 1985م شهد تنفيذ حكم الإعدام على المفكر البارز ومؤسس الحزب الجمهوري محمود محمد طه بعد جهره بمعارضة القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية التي اعلنها الرئيس نميري (1969- 1985م) في سبتمبر 1983م. وكان ابرز ضحاياها الواثق صباح الخير دراج الذي حكم عليه بالشنق والصلب بعد إدانته ببلاغات سطو متفرقة في أبريل 1984م.
وعندما أعلن المشير عبد الرحمن سوار الذهب في 6 أبريل عام 1985م انحياز القوات المسلحة لخيار الشعب في استرداد الديمقراطية، والإطاحة بنميري اتجهت المسيرات الشعبية الى سجن «كوبر» لإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وفتحت الأبواب بتوجيه من مدير عام السجون، وخرج كافة السجناء السياسيين.
وبخروج رموز الانتفاضة من سجن «كوبر»، دخل رموز الحكم المايوي الى عنبر القسم السياسي وعلى رأسهم اللواء عمر الطيب. وفي 30 يونيو عام 1989م اندلعت الإنقاذ الوطني بقيادة العميد حينها عمر البشير، جرى اعتقال القيادات السياسية، محمد عثمان الميرغني مرشد السجادة الختمية وزعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي والصادق المهدي رئيس الوزراء في الديمقراطية الثالثة وزعيم حزب الأمة والسكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني محمد إبراهيم نقد والدكتور حسن الترابي الأمين العام للجبهة الإسلامية الذي ظهر في ما بعد انه كان الرأس المدبر للانقلاب. ولاحقاً شهدت حجرة الإعدام بالسجن شنق مجدي محجوب وجرجس بسطوس واركانجلو في قضايا تتعلق بالاتجار بالعملات الأجنبية. والأخير الطالب (اركانجلو داقاو) من أبناء الجنوب، وتم ضبطه بمطار الخرطوم، وقتها كان يستعد للالتحاق بجامعة (ماكريري) بدولة يوغندا، وهو يحمل معه مصاريف دراسته بالعملات الحرة. ويناير من العام 2002م كان مسرحاً لأحداث تمرد دامية، قادها نزلاء السجن، قتل فيها 7 أشخاص بينهم ضابطان.
وفي ظهيرة الاثنين 13 أبريل 2008م شهدت باحة السجن إعدام (9) رجال بعد إدانتهم بقتل صاحب “الوفاق” محمد طه محمد أحمد وحز رأسه بعد ساعات من اختطافه من منزله ليلة الثلاثاء 5 سبتمبر 2006م.
ولأن السجن التاريخي ظل «سكناً» لكبار الساسة في بلادنا منذ إنشائه في كل العهود السياسية قبل وبعد الاستقلال كما احتجز داخله عتاة الإجرام وأشهر المتهمين، اكتسب شهرة واسعة حولته الى ما يشبه الأسطورة بجانب أنه لم يحدث أن غادره أحد متسللاً فهو سجن كما يقولون لا تخرج منه إلا على قدميك أو ظهرك أي جثة لكن ان تفكر فيه بالهرب فلا، لأنك ببساطة لن تفلح، فزيادة على الاحترازات التقليدية اضيفت تقنية «كاميرات المراقبة» التي جعلت الامر يزداد صعوبة باعتبار أن الحارس لو غفل عنك فلا تتوقع ذات الشيء من «الكاميرا» لكن المثير أن الشبان الملتحين قاتلي الدبلوماسي الامريكي غرانفيل وسائقه عبد الرحمن غافلوا الحراس واستغفلوا الكاميرات ونقبوا السجن لخارجه في يوليو الماضي ولم يعودوا اليه مرة ثانية عدا واحد الى الآن.
(2)
تجاوزت الاستياء الشديد الذي أحسست به في اليوم الأول لدخولي السجن
هذا ما كان من أمر (السجن وسنينه) لكننا لم نذهب نبتغي هذا إنما الذين خطوا الى السجن وأحالوا لياليه الكئيبة وأيامه القاتمة الى نور يلوح عند انتهاء النفق المظلم أول هؤلاء النزيل (أبوبكر) لا يفوتني أن أذكر لكم أن إدارة السجن طلبت قبل أن نبدأ عدم التصوير واستجبنا لهم ورأيت أيضاً أن نكتفي بقدر المستطاع بالاسم الأول من اسماء السجناء في بعض الأحيان أو الاستعاضة عنها بالأحرف الاولى في أحيان اخرى لاعتبارات عدة بينها أننا نرغب في عرض النماذج لينتفع بها الناس بعيداً عن ما يثير الشجون أو يخدش حياء الاسر أو يعرض به.
ابوبكر جاء الى السجن محكوماً عليه بـ(20) عاماً يستعيد ذكريات يومه الأول في الحبس عند دخوله السجن قبل ثلاثة اعوام بأنه شعر باستياء كبير وغصة في حلقه وأحس بأنها نهاية المطاف خاصة مع طول الفترة التي حكم عليه بها لكن شيئا ما كما يقول أشعل الرغبة داخله خاصة مع الفراغ الكبير الذي يعيشه وإصراره على مواكبة الحياة خارج الأسوار، وأضاف قائلاً بعبارات ذات مغزى: “مع كل نجاح كنت أشعر بأنني أمضي الى الأمام وانني جزء لا يتجزأ من الذين يعيشون حياتهم خارج السجن”. ويقول بأن الطموح دفعه لاكمال دراسته الجامعية داخل السجن حتى وصل الى السنة النهائية بقسم المحاسبة المالية بكلية الاقتصاد والعلوم الإدارية بجامعة أم درمان الأهلية وبجانب دراسته الجامعية للحصول على درجة البكاليورس، أضحى احد المشرفين على برنامج التعليم بالسجن الذي يضم في فصوله ما يزيد عن مائتي وخمسين طالباً موزعين على مرحلتي الأساس والثانوي لنزلاء تترواح اعمارهم بين 20 الى 55 عاماً بالإضافة الى (120) دارساً بفصول محو الأمية والانتساب لهذه البرامج جميعا شيء اختياري واليوم الدراسي يحتوي على (4) حصص يوميا بواقع (45) دقيقة للحصة الواحدة ويبدأ اليوم الدراسي عند الساعة السابعة صباحا ويطوى الطلاب اوراقهم ويضعون اقلامهم عند الساعة الحادية عشر صباحا ويؤكد (ابوبكر) استاذ الرياضيات أن ادارة السجن وفرت لهم كل المعينات خاصة في ما يختص بمسألة الرسوم الدراسية ولا ينسى دور مكتب الخدمة الاجتماعية الذي لايفتأ يذلل لهم الصعوبات التي تواجههم. ويشير الى ان العام الحالي شهد جلوس (25) نزيلاً لامتحانات الشهادة السودانية في مارس المنصرم وحققوا نسبة نجاح بلغت 84% اما الامتحانات القادمة فتشهد جلوس (40) نزيلا للشهادة السودانية و(37) نزيلا لمرحلة الأساس.
(3)
الاستفادة العظمى تمثلت
في مراجعة النفس بصورة دقيقة
أما (ح، م، ب) يبلغ من العمر (40) عاماً ومتزوج واب لثلاثة اطفال فيقول في بساطة أنا أحد النماذج التي استفادت من السجن بعد أن وصلت اليه قبل ثلاث سنوات تقريبا وبالتحديد في العام 2008م ووجدت الظروف مهيئة والجو مناسب فقررت إكمال تعليمي وجلست لامتحانات الشهادة السودانية واحرزت 77.9% مما أهلني للتقديم الى الجامعة وتم قبولي هذا العام في شعبة اللغة الإنجليزية بجامعة أم درمان الإسلامية. في البدء وقفت الرسوم الدراسية عائقاً في طريقي حيث طلبوا مبلغ (440) جنيها رسوم التسجيل لكن ادارة السجن عاونته على تسديدها وهو اليوم طالب بالكلية المذكورة كما تحول الى استاذ للغة الإنجليزية للنزلاء.
ويؤكد ان الاستفادة العظمى تمثلت في مراجعة النفس بصورة دقيقة ولا ينسى ان يسدي شكره لـ(الشفيع، حميراء، سعاد) بمكتب الخدمة الاجتماعية بالسجن الذين وجد منهم كل تشجيع حيث كانوا يعطونه حلا لكل شيء صعب قابله كما يقول.
(4)
قضيت (7) سنوات في
التنقيب عن تاريخ الكبابيش
يسابقك الإحساس بأنه يدرك عظم ما يفعل ولولا ملابس السجن التي جاء يرتديها لظننت انه مقدم لإحدى البرامج التلفزيونية بنظارته الطبية كان يتحدث بثقة، بعد ان وضع بجانبه على المنضدة التي جلسنا عليها كتب مطبوعة بأناقة اشار الى احدها وأراني إياه قائلاً هذه الكتاب يتعلق بالتراث وثقت فيه لتاريخ قبيلة الكبابيش بالسودان ويحتوي على نبذة للقبيلة وعن أنسابها وموقعها من القبائل العربية التي نسبها اليها بالاضافة الى (خشوم بيوتها) وتفريعاتهم الى بطون صغيرة وانتهى الى اخراج شجرة نسب لهم (طلعت ليهم شجرة) واشار الى انه استعان بمصادر ومراجع شفهية ومكتوبة كقاموس العامية في السودان للبروفسير الراحل عون الشريف قاسم وورقة بعنوان (بعض ملامح العروبة والاستعراب في السودان) للبروفسير يوسف فضل بجانب الدكتور عبدالله علي إبراهيم في (فرسان كنجرت، مقالات الكبابيش وديوان النوراب) كما استعان أيضاً بـ(ذكرياتي في البادية وملامح من المجتمع السوداني) لحسن نجيلة. أما الروايات الشفاهية فأخذها من الثقات وعلى رأسهم العمدة موسى علي التوم رئيس محكمة جبرة الشيخ الشعبية في اتصالات امتدت بينهما طوال العامين 2007 و2008م وهذا الجهد الذي امتد على مسير سبعة سنوات كاملة أو يزيد خلف الأسوار التي دخلها منذ (14) عاما وبالتحديد في 1996م اسفر عن كتابه الموسوم (ملك البادية في حياة الكبابيش) ويقع في مائتي صفحة من الحجم الكبير.
ليس هذا فحسب بل لديه أيضاً كتاب آخر عن المسادير التي تصل الى مائتي مسدار بينها مسدار عن الإبل والبادية والجمل البشاري والسجن والصاحب والبنات والكرم والشهامة والصيد والاتصالات والشباب والقهوة ولما سألته ولماذا القهوة؟ أجاب بشيء من الأسى ” لأنها بتجمع الناس”. ويشير الى إبراهيم الكباشي هو شيخه في هذا الضرب من الشعر ولما سألته عن شعراء آخرين يحفظ شعرهم أجاب بأنه ينشد الشعر لود شوراني ودشعراني ودضحوية اما الحاردلو “ده سيدهم كلهم”. اما اكثر مسدار يترنم به عندما يكون بمفرده فهو مسدار “الصاحب” ويؤكد ان جميع هذه المسادير قام بتدوينها داخل السجن.
كما لديه رواية بدأها منذ العام 2006م وشارفت على الانتهاء بعنوان (آدم يكوس لحواء وحواء تكوس لآدم) ومما يجدر ذكره بأن (م، د، ع) الذي يبلغ من العمر(42) عاماً يقضي عقوبة السجن (20) عاماً كان قد احرز نسبة 73% في امتحانات الشهادة السودانية في 2004م أهلته للالتحاق بجامعة السودان المفتوحة ودراسة العلاقات العامة
السودان الان