المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دراسة عن أصول سكان السودان:



أبونبيل
05-09-2011, 02:02 AM
منقولة من صحيفة سودانايل الالكترونية

دراسة عن أصول سكان السودان:


من هم سكان السودان قبل ظهور المسميات القبلية الحالية
د أحمد الياس حسين
ahmed.elyas@gmail.com

من هم أسلاف البجة؟ المِجا - البليم - البِجا 1


التعرف على أصول السكان والوعي بالذات مسألة هامة وملحة خاصة في الظروف التي تعيشها بلادنا الآن، والتعرف على الأصول والوعى بالذات مسألة صعبة وشاقة تتطلب الكثير من الوقت والجهد وتضافر الجهود والمشاركة الجادة للآقلام المتخصصة وغير المتخصصة. وكنت قد قمت بمحاولة من قبل للتعرف على سكان السودان قبل دخول الاسلام والعرب إلى افريقيا، وتم نشر ذلك في كتاب بعنوان "السودان: الوعي بالذات وتأصيل الهوية"، نشر الكتاب ووزع في نطاق محدود وآمل أن يرى النور في نشرة عامة. وتهدف الدراسة الحالية إلى التعرف على سكان السودان منذ وصول العرب والاسلام إلى افريقيا وحتى قيام الممالك الاسلامية في السودان في القرن الخامس عشر الميلادي، أي قبل ظهور المسميات القبلية الحالية. وستعتمد الدراسة بدرجة أساسية على مصادر التراث العربي ألى جانب ما يتوفر من المصادر الأخرى مثل المصادر المصرية القديمة واليونانية والرومانية والمصادر الآثارية السودانية، وسوف لن تستخدم الدراسة في هذه المرحلة التراث الشفاهى والمخطوط الذي تناول أصول القبائل في السودان لأن الفترة التي تتناولها الدراسة سابقة لظهور التراث.
وهذا الجزء من الدراسة يهتم بمنطقة شرق السودان ويبدأ بمحاولة التعرف علي أسلاف قبائل البجة الحالية، ثم التعريف بأرض البجة ثم تتناول الدراسة قبائل البجة ومدنهم قبل القرن الخامس عشر الميلادى. وبالطبع فإن ذلك ليس بالأمر السهل دراسة ذلك نسبة لشح وندرة المعلومات والمصادر خاصة فيما يتعلق بالمناطق الجنوبية من أراضي البجة وسكانها. ويتوفر قدر معقول من المعلومات عن السكان على مناطق النيل والأجزاء الشمالية من بلاد البجة في المصادر القديمة يُمَكِّن من محاولة التعرف على أسلاف البجة الذين سكنوا على ساحل البحر الأحمر وعلى شواطئ النيل والمنطقة الواقعة بينهما.
ولم تكن المنطقة الصحراوية الواقعة بين النيل والبحر الأحمر بهذا الجفاف الذي يسودها اليوم، بل كانت إلى وقت قريب من بداية الحضارة المصرية تتمتع بقدر وافر من المطروالغطاء النباتي مكن السكان من القيام بدورهم الحضاري في المنطقة. والشعب الذي سكن هذه المنطقة ينتمي إلي السلالة الأصيلة التي كونت سكان وادي النيل منذ فجر تاريخه. وهنالك بعض الآراء التي ربطت أسلاف أولئك السكان بهجرات أتت من شبه الجزيرة العربية في الألف الرابع قبل الميلاد. وقد ناقشنا ذلك في الفصل الأول من كتاب الوعي بالذات وتأصيل الهوية وخلصنا إلى أن كل الدلائل التاريخية والآثارية وضحت أن سكان الصحارى الواقعة شرقي النيل ينتمون إلى السلالة التي كونت السكان الأصليين للمناطق الوسطى والشمالية لنهر النيل ولم يأتوا من الخارج.
ومن المعروف في التاريخ أن سكان مناطق البجة الحالية عرفوا عند قدماء المصريين واليونانيين والرومان بأسماء متعددة، سنتناول ثلاثة فقط من تلك الأسماء التي اشتهرت في تلك الفترة والتي أطلقت على المجموعة المعروفة اليوم باسم البجة وهذه الأسماء هي: المِجَباري والتُرُجلُدايت والبليميين.
المِجَباري
المِجَباري هو الاسم الذي أطلقته المصادر القديمة على السكان الأصليين القدماء على الساحل الغربي للبحر الأحمروالذين تجولوا فى المناطق الشمالية ما بين البحر الأحمر ونهرالنيل. وقد امتدت مناطق استيطان هذه الفئة من مواطن البجة الحالية في السودان وحتى المنطقة الواقعة بين الأقصر والبحر الأحمر في الحدود المصرية الحالية شمالاً.
وقد عرف المِجَباري قديما بالمازوي والمِجاي والمدجاي والمِجو والمِجا (Medjo و Medju و Medjay) وسنشير اليهم فيما يلي باسم المِجا لأنه أولاً الاسم الأقدم، ولأنه ثانياً الاسم الأخف في النطق والأقرب إلى الاسم الحالى "البجة".
ولا خلاف بين المؤرخين أن المِجا الذي ورد ذكرهم في الآثار المصرية القديمة منذ الألف الثالث قبل الميلاد والذين عاشوا في الصحراء الواقعة إلي الشرق من إقليم واوات (العتباي) هم أسلاف البجة الحاليين. وقد اشتغل الكثير من المِجا في المهن المتصلة بالتعدين فقاموا بتأمين تلك الأنشطة بالحراسة والخفارة وتولوا مهمة الأتصال وربط مناطق التعدين بالمدن المطلة غلى النيل.
وقد ساهم المجا بدور فاعل في النشاط التجاري عبر البحر الأحمر ونهر النيل، كما وضحت المصادر القديمة مساهمتهم في النشاط الدبلوماسي مع القوى التي تعاقبت على حكم مصر في ذلك الوقت. وظل اسم المِجا عَلماً على سكان الصحراء الشرقية للنيل حتى القرون الأخيرة السابقة للميلاد حيث بدأ ظهور اسمي التُرُجلُدايت والبليميين. فقد ذكر سترابو الذي نقل عن اراتوستين (Eratosthenes) في القرن الثالث قبل الميلاد أنه: "على جانبي الجزء الأسفل [الشمالي] من مروي على طول النيل في اتجاه البحر الأحمر يسكن المِجَباريون والبليميون، وهم تابعين للاثيوبين [يقصد المرويين] ويجاورون المصريين. وعلى ساحل البحر يسكن التُرُجلُدايت." وهكذا أصبح سكان منطقة البجا يعرفون بثلاث أسماء: المِجا والتُرُجلُدايت والبليميون.
وسيتضح فيما يلي أن البليمين كانوا يتركزون على مناطق النيل والمِجا يتركزون في المناطق الواقعة بين النيل والبحر الأحمر بجوار التُرُجلُدايت. وعند حديثه عن التُرُجلُدايت قارن سترابو بين اسلحتهم وأسلحة المِجا، فذكر أن عِصي المِجا تنتهي بمقابض من حديد وأنهم يستخدمون في قتالهم الحراب والدرق المصنوع من الجلد غير المدبوغ، بينما يستخدم الآخرون الحراب والسهم والنشاب.
التُرُجلُدايت
أصل كلمة التُرُجلُدايت Troglodyte يوناني استخدمها الكتاب اليونانيين لوصف سكان الكهوف في كثير من بقاع العالم كما في حوض الدانوب والقوقاز وافريقيا. وفي افريقيا ذكرت المصادر الكلاسيكية وجود التُرُجلُدايت في تونس وليبيا وأعالي النيل والبحر الأحمر
وقد جعلت دائرة المعارف encyclopedia.or تُرُجلُدايت البحرالأحمر من أشهر هذه المجموعات، ربما لنشاطهم السياسي والتجاري على سواحل البحر الأحمر السودانية. فقد أطلق بليني على ساحل البحر الأحمر "ساحل التُرُجلُدايت" وذكر إنهم كانوا نشطين في تجارة اللبان في مواني البحر الأحمر.
وكما ذكرنا فإن سكان منطقة ما بين النيل والبحر الأحمر قد عرفوا في المصادر اليونانية والرومانية بالتُرُجلُدايت والِمَجا والبليميون. وقد استخدمت هذه الأسماء أحيانا للاشارة إلى سكان منطقة بعينها في بلاد البجة الحالية وأحيانا استخدمت كمترادفات للدلالة على سكان كل المنطقة، ويرى الباحثون – مثل محمد ابراهيم بكر: تاريخ السودان القديم ص 46و 81 وماكمايكل: تاريخ العرب في السودان ج 1 ص 38 - أن هذه الجماعات هي نفسها التي أطلقت عليها المصادر العربية فيما بعد اسم البجة
ومن أقدم النصوص عن التُرُجلُدايت ما جاء في الآثار المصرية القديمة التي ترجع إلى الاسرة السادسة والعشرين في عصر الفرعون نكاو الثاني Necho II (610-595 ق.م.) الذي كان شديد الاهتمام بتجارة البحر الأحمر لدرجة فكر فيها بحفر قناة تربط النيل بالبحر الأحمر وشرع بالفعل في تنفيذ الفكرة.
وورد في النصوص القديمة والتي جمعها Eide وآخرون ونشرتها جامعة بيرقن عن منطقة النوبة بين القرن الثامن قبل الميلاد والقرن السادس الميلادي أن الملك نكاو الثاني أرسل حملة نيلية ضد التُرُجلُدايت. ويبدو أن التُرُجلُدايت كانوا منتشرين على مناطق صعيد مصر الأعلى بين النيل والبحر الأحمر، وربما كانت تلك الحملة ضد التُرُجلُدايت على إحدى الطرق الرابطة بين النيل – من منطقة الأقصر - والبحر الأحمر أو قد تكون الحملة مرسلة مباشرة من الصعيد إلى سواحل البحر الأحمر.
وقد ساهم التُرُجلُدايت في النشاط التجاري على سواحل البحر الأحمر. وتشير الوثائق إلى علاقاتهم المباشرة مع دولة البطالمة بمصر، فقد ذكر بلوتارخ "أن الملكة كليوباترة السابعة لم تكن تحتاج إلى مترجمين عندما يخاطبها مناديب الشعوب المجاورة لمملكتها مثل مناديب الاثيوبيين والتُرُجلُدايت واليهود والسوريين والميديين."
ويدل ذلك على أن التُرُجلُدايت كانت لهم كيانات سياسية متطورة مكنتهم من تنظيم نشاطهم التجاري وعلاقاتهم الخارجية، ورغم أنه لم يرد ذكر لمملكة ترجلوداتية في الصحراء الشرقية أوالبحر الأحمر في المصادر اليونانية الرومانية – كما حدث للبلبميين - إلا أن قيام مثل ذلك الكيان السياسي يعتبر أمراً لا بد منه خاصة إذا كانت للتروجلودايت علاقات خارجية مثل تلك التي كانت مع البطالمة.
البليميون
البليميون هو الاسم الذي أطلقته الآثار الفرعونية والكوشية والمصادر اليونانية والرومانية على سكان منطقة النيل الواقعة جنوبي أسوان. وقد دلت نتائج الأبحاث الجديدة مثل أعمال كلايدي ونترز عالم اللغة المروية المشهور والذي نشر نص نقش كلابشة المروي وهانس بَرنارد الذي اعتمد على الآثار والوثائق التي جمعت عن منطقة شمال السودان ما بين القرنين الثامن قبل الميلاد وحتى القرن السادس الميلادي ونشرتها جامعة بيرقن ووثائق الجبلين المنشورة في كتاب مصطفى محمد مسعد "الاسلام والنوبة في العصور الوسطى" في الملحق رقم 3 وغيرها من المصادر الكلاسيكية التي أرجعت وجود البليميين إلى القرون السابقة للميلاد أمدتنا ببعض المعلومات عنهم حتى القرن السادس الميلادي.
وقد ربط الباحثون بين البليميين والمِجا مما يرجح أنهم كانو عائشين معا في نفس المنطقة أو ربما كان وجود البليميين أكثر تركيزاً على منطقة النيل والمِجا تجاه البحر الآحمر. فالآثار وضحت أن البليميين دخلوا منطقة النيل جنوبي أسوان في القرن السابع ق.م.، وأن اسمهم بدأ يتردد منذ القرن السادس قبل الميلاد في الاثار المصرية والكوشية.
وتوضح السجلات المروية أن البليميين قد استقروا منذ القرن الخامس قبل الميلاد على طول المنطقة الواقعة من اسوان حتى منطقة دنقلا في خلال القرون التي سبقت احتلال الرومان مصر في نهاية القرن الأول قبل الميلاد. وذكرت المصادر اليونانية السابقة للميلاد (انظر Mac Michael, A History of the Arabs In the Sudan vol.1 p 3) أن المناطق الواقعة حول أسوان هي مواطن البليميين الرئيسة، ويمتدون جنوبا وشرقا نحو حدود اكسوم وميناء أدولس على البحر الأحمر. وهذا الوصف يتطابق مع مواطن البجة الحالية.
فالمصادر القديمة - السابقة للميلاد- تناولت كل سكان المنطقة المعروفة الآن ببلاد البجة تحت اسم البليميين مما يؤكد أن شعوب هذه المنطقة أُشير إليها في المصادر القديمة مرة تحت اسم البليميين وأخرى تحت اسم المِجا ومرة أخرى تحت اسم التُرُجلُدايت. وقد ذكر ماكمايكل (نفس المكان السابق) أن الكتاب المسيحيين المبكرين أطلقوا اسم البليميين على البجة.
ويبدو أن استقرار البليميين في القرون السابقة للميلاد قد ازداد في منطقة جنوبي اسوان، حتى شيد ملك مروي أركاماني (206-186 ق.م.) معبدا في كلابشة لإلاههم مندوليس. ويعتقد كثير من المؤرخين "أن البليميين كانوا السكان الأساسيين الذين عاشوا في الجزء الأكبر من النوبة السفلى [جنوب اسوان] في القرن الميلادي الأول." ولم يكن استقرار وامتزاج البليميين بالسكان السابقين في جنوبي أسوان فقط، بل توضح الآثار الراجعة إلى فترة ما قبل الميلاد أن استقرارهم امتد شمالاً في منطقة طيبة في صعيد مصر.
لم يتردد ذكر البليميين كثيراً في مصادر القرنين الميلاديين الأول والثاني كما يتضح من النصوص التي جمعها بَرنارد والتي أشرنا إليها سابقاً.، بعكس القرون التالية - من الثالث وحتى السادس الميلادي - والتي شهدت لهم حضوراً دائما ومؤثراً على الأحداث في مصر والسودان. فقد كانت دولة مروي – التي كان البليميون جزءاً منها - على رأس الأحداث فى المنطقة، وقادت الصراع مع الرومان. فقد احتلت مملكة مروي المناطق الشمالية بعد نهاية حكم البطالمة، وهي المناطق التي شرع الرومان منذ دخولهم مصر في التوسع عليها.
مملكة البليميين
ازداد عدد البليميين منذ القرن الأول الميلادي كما ذكر المؤرخون. ويبدو أنهم أصبحوا القوة الرئيسة بين الزعامات المحلية وتشربوا بالثقافة المروية. ويرى البعض أن فخار منتصف القرن الثالث الميلادي في كلابشة قد يكون من عمل البليميين الذين تثقفوا وكتبوا نقوشاً مروية واغريقية عثر عليها في معبد كلابشة. وهكذا تهيأ البليميون منذ منتصف القرن الثالث الميلادي للقيام بدورهم القيادي في المنطقة.
نقل مصطفى محمد مسعد عن مصادره في كتابه (الاسلام والنوبة في العصور الوسطى ص 29) أن العلاقات ساءت بين البليميين والرومان، وبدأ البليميون هجومهم على الرومان عام 250م. وفي نفس الوقت ورد في نص عثر عليه في جزيرة فيلة بجوار أسوان أن الملك المروي تقردماني Teqeridamani 246-266م أرسل سفارة إلى الأمبراطور الروماني حاملاً إليه الهدايا. ويذكر ترمنجهام في كتابه (Islam in the Sudan ص (44 أن تلك السفارة كانت بقيادة أمير بليمي يدعى Pa-smun Ibn Paesi ويصف الأمير نفسه بأنه السفير العظيم إلى روما. والبحث عن سبب السفارة أو سبب إعتداءات البليميين على الرومان يتطلب المزيد من البحث، ولكن لا يبدو وجيهاً أن يكون سبب السفارة –كما يرى البعض - طلب مملكة مروي المساعدة من الرومان الذين أثبتت الوثائق اضطراب الأوضاع في مناطق حدودهم مع مروي.
وتحالف البليميون مع زنوبيا (الزباء) ملكة (تدمر) في سوريا عندما هاجمت الرومان في مصر. وتحرك الرومان سريعا فهزموا قوات زنوبيا وقضوا على الثوار في طيبة وهزموا البليميين وأجلوهم إلى ما وراء أسوان. غير أن البليميين عاودوا واحتلوا بين مدينتي Coptos & Ptolemais في منطقة طيبة في صعيد مصر.
وبعد نحو عقدين من السفارة المروية البليمية للبيزنطيين انهارت مملكة مروي في منتصف القرن الرابع الميلادي، و يبدو أن مولد مملكة البليميين المستقلة قد بدأ بذلك الحدث. فكما رأينا من تسلسل الأحداث منذ القرن الثالث الميلادي أصبح البلبميون هم القوة المهيمنة علي حدود مروي الشمالية، وكان من الطبيعي أن يكونوا ورثتها في الحكم على الأقل في مناطق نفوذهم في الشمال. ولم يصبح البليميون - كما ذكر بعض المؤرخين - جنرالات النهر فقط بل اعترف بهم كحكام يديرون شؤون بلادهم بحرية تامة.
ويبدو أن البليميين قد بدأوا بسط نفوذهم في المنطقة حتى سواحل البحر الأحمر، لأن إحدي الوثائق الرومانية تحدثت عن تعرض بعض القواعد الرومانية على البحر الأحمرلغارة من سفن البليميين عام 378 م. وربما بدأ إسم البليميين ينتشر بعد امتداد نفوذهم شرقاً فأطلق الرومان إسمهم على سكان منطقة التُرُجلُدايت. وقد يؤيد ذلك أيضا ما تردد في المصادر عن ترادف استخدام البيليميين والمِجا والتُرُجلُدايت.
وقام البليميون في عام 429 م بغارات على منطقة طيبة والواحة الخارجة التي كانت مركزاً رومانياً يطل على حدودهم الصحراوية، ونهبوا الواحة وأسروا بعض سكانها ومن بينهم نسطورس القس المسيحي المشهور الذي كان الرومان قد نفوه هنالك. ولكن أطلق البليميون سراح القس بعد مفاوضات مع قبيلة mazici الأمازيغ الصحراية (ربما طوارق اليوم المعروفين باسم Imashagh). وكانت هذه القبيلة – كما ذكر مصطفى محمد مسعد ص 7- تتجول في الصحراء حتى المنطقة الواقعة بين أسوان والواحة الخارجة.
وكان انتشار المسيحية قد بدأ في مصر في زمن مبكر، لكن القرن الرابع الميلادي شهد تحولاً كبيراً في العالم المسيحي عندما أظهر الامبراطور قنسطنطين الأكبر (313 – 337) ميله للمسيحية، وانتهى اضطهاد وتعذيب المسيحيين وتمتعت المسيحية برعاية الدولة. وساهمت الاسكندرية – كأحد أهم المراكز المسيحية – في نشر تطور الفكر المسيحي المبكر. وكان من أكبر انجازاتها نشر المسيحية في الحبشة في عهد الامبراطور قنسطنطين الأكبر
وكانت المسيحية منذ وقت مبكر قد بدأت تنتشر في صعيد مصر وتحولت الكثير من المعابد إلى كنائس في اقليم طيبة، كما تم إنشاء عدد من الكنائس. وفي القرن الرابع الميلادي أُسست أسقفية في فيلة. كما انتشرت المسيحية في اكسوم شرقاً وفي واحات الصحراء الغربية مثل الواح الخارجة. أما في شمال السودان وشرقه المتاخم للحدود المصرية فقد تأخر انشار المسيحية بالمقارنة إلى انتشارها في اقليم طيبة واكسوم والواحات، ربما يرجع السبب إلى الاضطرابات التي عاشها الإقليم منذ بداية الحكم الروماني لمصر.
وتشير بعض الدلائل على أن الدعوة المسيحية قد بدأت تتسرب إلى مناطق البليميين والنوباديين منذ القرن الرابع، غير أنها لم تنتشر سريعاً فى السودان في القرون المبكرة. ويبدو أن قوة النوباديين قد نمت في المنطقة إلى جانب البليميين وأسس سلكو مملكته منذ عام 530م. إلا أن إحدى الوثائق اليونانية (535-537 م) وضحت أن البليميين والنوباديين كانوا لايزالوان حلفاء. غير أن نشاط البعثات التبشيرية وصلات البيزنطيين بالنوباديين قد حول موقفهم المعادي للوثنية، بينما واصل البليميون سياستهم المعادية للمسيحية. وكان ذلك إيذاناً بنهاية الود والتحالف بين البليميين والنوباديين وبداية الصراع الذي أدى إلى نهاية مملكة البليميين كما تقول المراجع.
وما توفر من معلومات عن البليميين يشير إلى حقيقتين هامتين: الأولي أن البليميين أصبحوا قبل انهيار مروي بوقت طويل سادة المنطقة وجنرالات النهر، وثانيا يؤكد ذلك تطور نظام حكمهم مما يجعل قيام مملكتهم – تحت ظل المرويين – أمراً مقبولاً. هذه الدلائل تشير إلى أنه من المقبول جدّاً أن يسعى البليميون إلى وراثة مملكة مروي بعد سقوطها. ويزيد ذلك تأكيداً نقش كلابشة الذي تضمن في موضعين الاشارة إلى كونهم ورثة مروي.
فقد جمع بَرنارد نحو 73 نصا عن البليميين والمِجا والتُرُجلُدايت والبجة ما بين القرن السابع قبل الميلاد والقرن السادس الميلادي. وبلغ عدد النصوص التي ذَكرت البليميين بالاسم مباشرة أوالتي تضمنت الإشارة اليهم 47 نصاًّ. ويشبر ذلك إلى أن البليميين كانوا القوة المسيطرة في المنطقة وأن اسمهم أصبح أكثر انتشاراً في الوثائق والآثارمن أسماء أبنا عمومتهم المِجا والتُرُجلُدايت، وأصبح علماً عليها في بعض الأحيان. أما اسم البجة فقد اشتهركعلمٍ على كل المجموعات الأخرى منذ القرن السابع الميلادي.
ومن بين السبعة والأربعين نصاّ جاءت سبعة منها قبل القرن الثالث الميلادي. وبلغت النصوص في القرن الثالث ثمانية نصوص، وفي القرنين الرابع والخامس عشرين نصا، وفي القرن السادس اثنتا عشر نصا. ويدل ذلك بوضوح أن البليميين كانوا موجودين في المنطقة منذ القرن السابع قبل الميلاد إلا أن قوتهم برزت منذ القرن الثالث الميلادي، وأصبحوا عنصرا فاعلا في أحداث كل المنطقة الواقعة ما بين الواح الخارجة غربا والبحر الآحمر شرقاً حيث امتدت غاراتهم في القرون التالية حتي أطراف البحر الأحمرالشمالية. أما في الشمال فرغم كون حدودهم في أسوان إلا أن امتداد نفوذهم تعدى ذلك في القرون التالية إلى منطقة طيبة في صعيد مصر.
وقد بلغت نصوص القرنين الثالث والرابع الميلادين عشرين نصاّ الأمر الذي يوضح ازدياد نفوذ البليميين في المنطقة. وقد رجحنا فيما سبق قيام مملكة البليميين المستقلة داخل مملكة مروي في القرن الرابع الميلادي، ولعل ما ورد عن ملوك البليميين يؤيد ذلك. فقد وردت اسماء ستة ملوك بليميين فيما جمعه بَرنارد من نصوص، ثلاث منهم قدرت تواريخ حكمهم في القرن الخامس الميلادي والثلاث الباقين في القرن السادس.
والوثائق الأخرى المرتبطة بالبليميين هي ثلاث وثائق مكتوبة على جلد غزال باللغة اليونانية عثر عليها فلاح مصري في منطقة الجبلين على بعد 25 ميل حنوب مدينة الأقصر. وقد ترجمها إلى الانجليزية كيراون وإمِري، ونقلها إلى العربية وضمنها كملاحق مصطفى محمد مسعد في كتابه الاسلام والنوبة تحت عنوان "الوثائق الدالة على استقرار البليميين في منطقة طيبة"
الوثيقة الأولى جاءت ترجمتها عند الآتي:
"أنا شاراشن ملك البليميين، أكتب إلى أولادي شاراشن وشاراتكور وشاراهيت، أنه طبقاً لأمري هذا قد منحتكم حكم الجزيرة المعروفة باسم تناري، وألا يقف في سبيلكم أحد، وإذا أثار الرومان مشاكل وامتنعوا عن دفع الأتاوة العادية لكم فإنه لا الفيلارك ولا الهيبوتيرانوس يمنعانكم من إرغام الرومان على دفع العطايا العادية عن جزيرتي."
"شاراشن الملك، تنتكنا: أمير القصر – شاهد، كتبه سانسانوس في اليوم الرابع والعشرين من شهر ....."
وهنالك وثيقة أخرى – رقم أربعة - ذكرها بَرناد clause no. 339، وهي عبارة عن أمر ملكي أصدره الملك باراخيا (Barakhia) إلى صوفيا يشير إلى وضعها أو إقامتها في مكان ما، وقد ورد أن هذا الملك خلف الملك خاراخِن - أو شاراشن كما كتبه مسعد - في الحكم.
فنحن أمام أربعة نصوص تتعلق كلها بحكم البليميين منطقة في صعيد مصر. وتسوق هذة الوثائق العديد من الأسئلة مثل: ما هي علاقة البليميين بصعيد مصر أو إقليم طيبة؟ وإلى أى مدى امتد نفوذ البليميين على صعيد مصر؟ هل حكم البليميون مناطق أخرى غير جزيرة تناري ولم يصل إلينا ما يوضح ذلك؟ ومتى حكم البليميون جزيرة تناري؟ وقد حاولنا الاجابة على بعض هذه الاسئلة في كتاب الوعي بالذات، ولكن تظل مثل هذه الأسئلة في انتظار المزيد من البحث والتقصي. والذي يثير الانتباه ويتطلب البحث الجاد هو ارتباط ووجود البليميين الواضح - عندما دخل المسلمون مصر - بإقليم طيبة الذي يقع ما بين منطقة الأقصر الحالية وأسوان.
وكما وضحنا أعلاه فإن البلميين تمركزوا على النيل والمِجِا تمركزوا في الصحراء الشرقية وهم السلالة التي أطلقت عليها المصادر العربية اسم "البجة". ويبدو أن اسم البليميين قد بدأ في الانحسار في القرنين اللذين تليا دخول المسلمين مصر وانحصر في مناطق محدودة في بلاد النوبة. فقد أشار إليهم الجغرافي العربي المشهور الادريسس الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي إلى قبيلة قوية بجوار النوبة تعرف بالبليين، وسنفصل الحديث عنها لاحقاً. وفي نفس الوقت يبدو أن استخدام اسم "المِجا" سكان ساحل البحر الأحمروالصحراء الشرقية قد ساد وفظهر في المؤلفات العربية "البجة".



يتبع

Isam Hussien H
05-09-2011, 02:41 AM
دائماً تقدم لنا ما يفيد ويزيد من المعرفة ربنا يديك ألف عافية .. وكل سنة وأنت طيب ..

ود الجعلي
05-09-2011, 04:43 AM
بوست مميز كالعادة من أميز الشخصيات في هذا المنتدى ومن الموضوعات العلمية التي يندر تدوالها وذلك لقلة الكتابات في ذلك وضعفها لان الكتابات والتوثيق عن الشعوب والحضارات التي عاشت في هذه الارض يشوبها الكثير من التدليس والتزييف واحيانا الجهل

نطمح في المزيد ولك شكري وتقديري

أحمد عمر ( MOODY )
05-09-2011, 10:03 AM
سِفْرْ بقامة عمّنا .. أبو نبيل

أبونبيل
06-09-2011, 08:36 PM
سلسلة من هم سكان السودان الأصليين قبل ظهور المسميات
القبلية الحالية

2



أرض البجة ومواردها


خلصنا في مقالنا السابق ألى أن البجة عرفوا في المصادر
القديمة السابقة لظهور الاسلام باسم المِجا والتُرُجلُدايت
والبليميين*
ثم اختفت هذه الأسماء بعد ظهور الاسلام وظهر في مكانها في
المصادر العربية اسم البجة. وستتناول هذه الدراسة أرض
البجة وقبائلها كما جاءت في المصادر العربية المؤلفة بين
القرنين الثالث والتاسع الهجريين (9 – 15 م) ويلاحظ أن تلك
المصادر التي تناولت البجة وأرضها انحصرت معلوماتها بصورة
عامة في المجموعات الشمالية لقبائل البجة. فقد بدأت صلات
المسلمين من مصر مبكراً بتلك المناطق بحكم مجاورتها لهم.
وازدادت تلك الصلات سلمية في بعض المرات وحربية مراتٍ أخرى
– كما سنفصل ذلك لاحقاً - حتى بداية اشتغال المسلمين في
التعدين في منتصف القرن الثالث الهجري (9 م) والذي امتد
حتى بداية النصف الثاني من القرن الثامن الهجري (14 م).
وكان اتصال المسلمين طيلة هذه الفترة بأرض البجة
وبالمجموعات الشمالية.

جاء تحديد بلاد البجة في المصادر العربية المبكرة تحديداً
واسعاً يتعدى في كثير من الأحيان حدودها الشمالية الحالية*
وبنفس القدر جاء استخدام لفظ البجة عاماً وواسعا فشمل في
بعض الأحيان أقواما وقبائل لا تعرف اليوم بهذا الاسم.
وسنحاول فيما يلي التعرف على بلاد البجة وسكانها من خلال
أعين أولئك الكتاب.

تبدأ بلاد البجة من الشمال من منطقة الصحراء الشرقية
الممتدة من الأقصر على النيل غرباً وحتى البحر الأحمر
شرقاً. يقول ابن سُليم الأسواني في كتابه أخبار النوبة
الذي نقله مصطفى مسعد عن المقريزي في كتابه المكتية
السودانية العربية: "أول بلد البجة من قرية تعرف بالخربة
من معدن الزمرد في صحراء قوص* وبين هذا الموضع وبين قوص
ثلاث مراحل" وتقع مدينة قوص إلى الشمال قليلاً من مدينة
الأقصر الحالية. ويوضح هذا أن حدود بلاد البجة كانت تمتد
في الصحراء شمالاً إلى مناطق أبعد بكثير من امتداد مناطقها
الحالية.

وجعل ابن سليم حد البجة الجنوبي بأول بلاد الحبشة حيث قال
" وآخر بلاد البجة* أوّل بلاد الحبشة" غير أن الحدود بين
بلاد الحبشة وبلاد البجة لا تبدو واضحة المعالم في المصادر
العربية* بل لم يرد اتفاق حول تحديدها. فابن سليم مثلا يرى
أن ساحل البجة يمتد حتى جزيرة سواكن وباضع ودهلَك. بينما
ذكر الحميري في كتابه "الروض المعطار في خبر الأقطار ج 1 ص
333" أن باضع تقع على ساحل البجة والحبشة* وجعل ابن حوقل
في كتابه "صورة الأرض ص 59" الحدود الجنوبية لبلاد البجة
أعالي خور بركة بالقرب من باضع حيث "بطون قصعة وهي من أجل
قبائل البجة." أما اليعقوبي في كتابه التاريخ ص 21 فقد ذكر
تحت عنوان "مملكة البجة" أن "لهم عدة ممالك" وتتبعها من
الشمال إلي الجنوب* فكانت آخر ممالكهم وهي السادسة " مملكة
النجاشي ... وساحلهم دهلَك."

وهكذا تبدوا حدود البجة الجنوبية غير واضحة المعالم في
المصادر العربية المبكرة* ولكن يبدوا واضحاً أنهم أعتبروا
أن ديار البجة تمتد حتى منطقة السهل الشمالي للهضبة
الاثيوبية. وقد جاء وصف هذه المناطق في تلك المصادر بما
يوضح تمتعها بوفرة الموارد الطبيعية مثل موارد المياه
المتنوعة الجارية والجوفية والمطرية. وتحدثت المصادر عن
الموارد الزراعية والنباتية وال*****ية والمعدنية* كما
تناولت السكان وأنشطتهم التجارية. ومن الطبيعي أن تساعد كل
هذه الموارد على كثافة السكان وتعدد المناشط* وقيام
المراكز والمدن والممالك وتطور أساليب الادارة. وفيما يلي
سنتتبع ما تيسر الاطلاع عليه من نصوص متعلقة بهذه
الموضوعات في تلك المصادر.

وقد ترك لنا ابن حوقل معلومات قيمه ودقيقة في وصفه للمناطق
الواقعة على حوض نهر عطبرة وخوري القاش وبركة. وتكتسب
معلوماته عن هذه المناطق أهمية خاصة* فقد أبحر ابن حوقل في
البحر الأحمر وزار بعض مناطق بلاد البجة وسواحلها* وجمع
مادته عن المنطقة بطريق مباشر* واعتمد على الروايات في
المناطق التي لم يزرها. ووضح ( ص 233) كيف أنه كان يدقق في
جمع .

تناول ابن حوقل بلاد البجة وسكانها من الجنوب إلى الشمال
فبدأ بوصف المناطق الغنية بمواردها المائية والنباتية
وال*****ية والسكانية في المنطقة السهلية التي ذكر أنها
منتهى ما يصله تجار المسلين من أرض البجة* وعرفها بمنطقة
قلعيب وما جاورها من منطقة ملاحيب

قال ابن حوقل (ص 59) "نواحي قلعيب وهي مواضع ذات مياه في
أودية متصلة بجبل يعرف بملاحيب وأكبر أوديته وادي
بركة*.وبين قلعيب وبركة غياضٌ عاديةٌ ذات أشجار* وربما كان
دائرة الشجرة من أربعين ذراعاً إلي خمسين ذراعاً إلى ستين
ذراعاً. وأفنيتها مراتع الأفيلة والزرافات والكركدن والنمر
والفهد إلى سائر الوحوش سائمة راتعة في غيلها ومياهها
وغياضها. ويتصل بحد ملاحيب من شقه الشرقي وادٍ يعرف
بصيغوات كثير الماء أيضاً والشجروالحمر والوحش."

غياضٌ عادِيَّةٌ يقصد بها أماكن قديمة تتجمع فيها المياه
وينبت فيها الشجر. قال الزبيدي في لسان العرب في معنى
غياض: "والغَيْضَة مَغِيضُ ماءٍ يجتمع فيَنْبت فيه الشجر
وجمعها غِياضٌ وأَغْياضٌ" وقال في معنى عادية "شَجَرة
عادِيَّةٌ أَي قَدِيمة كأَنها نُسِبَت إِلى عادٍ وهمْ قومُ
هودٍ النبيِّ صلى الله عليه"

ويقول كرَوفُرد في كتابه مملكة الفونج الاسلامية (باللغة
الانجليزية) ان إقليم قلعيب وملاحيب يقع في جنوب أرض
البجة* ويرى إمكانية الربط بين قلعيب وبين بيت مالي Malé
وهو اسم جبل شمال Agere Mageran على خريطة موزنجر*هو اسم
لقبيلة وموضح على خريطة Legean ويرجح كرَوفُرد (ص 104) أن
Agere Mageran تقع بالقرب من الحدود الشالية الغربية
الأرترية.

ويواصل ابن حوقل (ص 60): واصفاً منطقة جبل ملاحيب ودلتا
القاش وأواسط نهر عطبرة قائلاً: "ويتصل بجبل ملاحيب من شقه
الشرقي وادٍ يعرف بصيغوات كثير الماء أيضاً والشجر والحمر
والوحوش ... وكأن هذا الجبل آخذ بأوديته من نواحي البحر
المالح إلى دُكن [دلتا القاش] وهي أرض مزارع أحواف يجري
إليها ماء النيل* ويزرع عليها الذرة والدخن أهل النوبة ومن
يحضر معهم من البجة"

ويرى كراوفورد - ص 96 - أن دلتا القاش عرفت ببلاد التاكا*
يقول Sapeto أن الحبش أطلقوا على سكان دلتا القاش
Makidaovi . وقد عرِّفت مملكة دُجن أو دُكن بدلتا القاش.
وربما كانت دلتا القاش موطناً لسكان قدماء أطلق عليهم
بلايني اسم ال Mathetae* والذين ربما كان اسمهم لا يزال
عائشاً في اسم Mitatib شمال أروما واسم Temitatei على نهر
عطبرة شمال جوز رجب. وربما ارتبط Mathetae باسم قبيل المتت
الذين ورد ذكرهم في وثيقة اكسومية ترجع إلى القرن الرابع
قبل الميلاد مما يوضح أن منطقة دلتا القاش كانت مأهولة
بالسكان منذ العصور السابقة للميلاد.

ويواصل ابن حوقل – ص 61 - وصف المنطقة "النهر المعروف
بسنسابي ويفرع إلى النيل* وأصله من ناحية الحبشة. والنهر
المعروف بالدجن يأتي من بلد الحبشة فينقطع في أعمال دجن
ومزارعها* ودجن هذه قرى متصلة ذوات مياه مشاجر وزرع وضرع
... وقد تقدم أن وادي بركة يجري من بلد الحبشة مجتازاً على
بازين وآخذاً إلى ناحية البُجة* ويصب بين سواكن وباضع في
البحر المالح."

ونهر سنسابي – كما يرى كرَوفُرد ربما هو مارب-قاش الذي
يعرف في منطقة البازين كما ذكر موزنجر بـ Sona or soba
والدجن أوالدكن هي دلتا القاش. ويقول ابن سليم عن بلاد
البجة: "والمواشي من البقر والغنم والضأن غاية في الكثرة
عندهم* وبقرهم وحسان معلمة بقرون عظام* ومنها جُم وكباشهم
كذلك منمرة ولها ألبان." الجُم هي التي لاقرون لها.

وذكر وكراوفورد أن الباحثين عرّفوا دُكن بدلتا القاش* كما
عرفت ببلاد التاكا. وقد كانت تنتج نوعاً جيداً من القمح
كان يحمل إلى سواكن وجدة* وكان سعره في جدة أغلى من القمح
المصري. وكان قمح دلتا القاش يتحمل التخزين في المطمورات
أكثر من أي نوع آخر من القمح* وفي بعض الأحيان تصل مدة
التخزين إلى خمس سنوات يظل القمح فيها جيداً.

وقد وصف ابن سعيد المغربي في كتابه الجغرافيا الجزء
الشمالي من الهضبة الاثيوبية والمنطقة السهلية الممتدة
شماليها فوضح وفرة المياه وتواجد ال*****ات مثل الكركدن
والأسود والفيلة والغزلان.

وهكذا تبدو منطقة خور بركة والقاش ونهر سنسابي وامتدادها
حتى سواحل البحر الأحمر غنية بالموارد. وإلى جانب ما ورد
عن وفرة المياه والزراعة تناولت المصادر أيضاً تنوع
الأشجار وكثرة الثروة ال*****ية فيقول:
" وفي أوديتهم شجر المقل والإهليلج والإذخر* والشيح والسنا
والحنظل* وشجر البان وغير ذلك * وبأقصى بلدهم: النخل وشجر
الكرم والرياحين* وغير ذلك مما لم يزرعه أحد ... وفيها
سائر الوحش من السباع والفيلة والنمور والفهود والقردة
وعناق الأرض والزباد* ودابة تشبه الغزال حسنة المنظر لها
قرنان على لون الذهب قليلة البقاء إذا صيدت* ومن الطيور:
الببغاء* والنقيط* والنوبيّ* والقماريّ* ودجاج الحبش*
وحمام بازين ... ومثل الكركدن والأسود والفيلة والغزلان
الأفيلة والزرافات والنمر والفهد إلى سائر الوحوش سائمة
راتعة والخيل والماشية "

ويواصل ابن سليم وتعظم الحيات ببلدهم وتكثر أصنافها*
ورُئِيَتْ حية في غدير ماء* قد أخرجت ذنبها والتفّت على
امرأة وردت فقتلتها* فرؤي شحمها قد خرج من دبرها من شدّة
الضغطة* وبها حية ليس لها رأس* وطرفاها سواء منقشة ليست
بالكبيرة إذا مشى الإنسان على أثرها مات* وإذا قُتِلت
وأَمسك القاتل ما قتلها به من عود أو حربة في يده* ولم
يلقه من ساعته مات* وقتلت حية منها بخشبة* فانشقت الخشبة*
وإذا تأمّل هذه الحية أحد* وهي ميتة أو حية أصابه ضررها.
وفي البجة شر وتسرع إليه"

ومن خلالا هذا الوصف يتضح أن المنطقة الواقعة بين دَهلك
وباضع وسواكن على ساحل البحر الأحمر شرقا والممتدة غرباً
عبر وادي بركة وخور القاش ونهر عطبرة حتى نهر النيل كانت
ثرية بمواردها المائية والنباتية وال*****ية. وقد تناولت
المصادر اللاحقة أيضاً تلك الثروات كما عند ابن عبد الظاهر
في كتابه "تشريف الأيام والعصور بسيرة الملك المنصور
قلاوون" في وصفه الموجز للسفارة التي أرسلها السلطان
المملوكي لحكام السودان في آخر القرن السابع الهجري (13م)
وعند النويري في كتاب "نهاية الأرب في فنون الأدب" للنويري
في وصفه للحملة التي أرسلها السلطان المملوكي الناصر محمد
عام 716 هـ / 1317 م لتطارد بعض الأعراب الذين قطعوا
الطريق لقافلة في صحراء عيذاب والتي وصلت إلى منطقة كسلا
الحالية من عيذاب وعبر سواكن ثم واصلت إلى دنقلة عبر نهر
عطبرة.

المعادن
إلى جانب الثروات المائية والنباتية وال*****ية تميزت بلاد
البجة أيضاً بوفرة ثرواتها المعدنية, وتضمنت المصادر
العربية المبكرة معلومات قيمة عن أنواع تلك المعادن
وأماكنها. فقد قال ابن سليم عن البجة "بلدانهم كلها معادن*
وكلما تصاعدت كانت أجود والذهب أكثر" وبين ابن سليم أنواع
تلك المعادن من "الفضة والنحاس والحديد والرصاص وحجر
المغنطيس والمرقشيتا والجمشت والزمرد وحجارة بيشطا" وأضاف
اليعقوبي الجوهر والزمرد. وبين المسعودي موقع معدن الزمرد
وفصل أنواعه قائلاً:

ومعدن الزمرد في عمل الصعيد الأعلى من أعمال مدينة قفط*
ومنها يخرج إلى هذا المعدن* والموضع الذي فيه الزمرد يعرف
بالخربة مفاوز و جبال ... والزمرد الذي يقتلع من هذا
المكان يتنوع أربعة أنواع:

"النوع الأول منها يعرف بالمر* وهو أجودها وأغلاها ثمنا*
وهو شديد الخضرة كثير الماء* يشبه خضرته بأشد ما يكون من
السلق خضرة* وهذا اللون غير كدر ولا ضارب إلى السواد.
والنوع الثاني يدعى بالبحري* ومعناهم في هذه التسمية هو أن
ملوك البحر من السند والهند والزنج والصين ترغب في هذا
النوع من الزمرد* وتباهي في استعماله ولباسه في تيجانها
وأكاليلها وخواتيمها وأسورتها* فسمي البحري لما ذكرنا* وهو
ثاني المر في الجودة وتشبه خضرته بالأول والماء كفراخ ورق
الأس الذي يظهر في أوائل أغصان الآس وأطرافه."

"والنوع الثالث يعرف بالمغربي* ومعناهم في هذه التسمية
وإضافتهم إياه إلى المغرب هو أن ملوك المغرب من الإفرنجة
والنوكبرد والأندلس والجلالقة والوشكند والصقالبة والروس
... والنوع الرابع هو المسمى بالأصم* وهو أدنى الأنواع
وأقلها ثمناً؛ لقلة مائه وخُضرته* وهذا النوع يتفاوت في
اللون من الخضرة في القلة والكثرة."

"وجملة الوصف لهذه الأنواع الأربعة في الجودة والمبالغة في
الثمن هو أكثرها ماء وأصفاها وأكثرها خضرة وأنقاها من
السواد والصفرة* وغير ذلك من الألوان* مع تعري هذا الجوهر
من النموشة* فإذا سلم مما ذكرنا كان في نوعه غايةً في
الجودة ونهاية في الوصف* وفىِ حجارته ما يبلغ الخمسة
المثاقيل من الوزن* إلى أن ينتهي إلى حد العدسة في
المقدار* فيدخل ذلك في النظم من المخانق وغيرها."

"وقد كانت ملوك اليونانيين ومن تلاهم من ملوك الروم تعظم
شأن هذا الجوهر* وتفضله على غيره من سائر الجواهر؛ لما
اجتمع فيه من الخواص العجيبة* والمنافع الكثيرة* ولخفته في
الوزن دون سائر الجواهر المعدنية."

"وأكثر ما يوجد من هذه الأنواع الأربعة العروق في الأرض*
وهو المتَنافس فيه* إذا سلم من الاعوجاج والثقب* واستقام
سلكه* واستطال ما استدار* وأدناه ما ينحل في معدنه من
التراب ويلتقط من الطين* وقد يوجد على ظهر الأرض في هذا
المعدن في وهاده وجباله وما انخفض وارتفع من أرضه نوعان
منه وهما المغربي والأصم المقدم ذكرهما."

وقد فصل اليعقوبي في كتاب البلدان أماكن تلك المعادن
المنشرة حول وادي العلاقي وبين المسافات بينها وذكر بعض
أسماء القبائل العربية التي تشتغل في التعدين مثل جهينة
وبلي وربيعة. وبين اليعقوبي نحو اثنتي عشرة موقعاً لمعدن
الزمرد من بين وادي العلاقي حتى خربة الملك شمالاً*
وثمانية مواضع للذهب ما بين وادي العلاقي وميناء عيذاب على
البحر الأحمر* وستة مواقع إلى الجنوب من وادي العلاقي يقع
آخرها على بعد ثلاثين مرحلة من وادي العلاقي.

وبينت المصادر العربية علاقة البجة الوثيقة بهذه المعادن
في كل المنطقة الواقعة بين صحراء قوص في الشمال وخور بركة
في الجنوب. وقد ذكرنا أعلاه أن ابن سليم حدد أول بلد البجة
"من قرية تعرف بالخربة من معدن الزمرد في صحراء قوص" وذكر
المسعودي أن البجة تنزل موضع الزمرد المعروف بالخربة وتقوم
بحمايته* "وإليها يؤدي الخفارات من يرد إلى حفر الزمرد"
وأضاف أن البجة كانت تنزل أيضاً حول معدن الزمرد في البر
المتصل بأسوان وقريباً منه لأجل القيام بخفره وحفظه.

ووضح الطبري – في تاريخه - أن البجة يشرفون على معادن
الذهب ويقومون بمقاسمة العاملين عليه* "ويؤدون إلى عمال
السلطان في مصر في كل سنة عن معادنهم أربعمائة مثقال تبر
قبل أن يطبخ ويصفى." ويتضح أن العمل في كل مناطق التعدين
كان تحت إشراف البجة الذين كانوا يسيطرون على كل مناطقه.
ولكنهم لم يعملوا في استخراجه* بل اكتفوا بمهمة الإشراف
واستتباب الأمن في تلك المناطق. فقد ذكر ابن سليم أن
المسلمون هم الذين يعملون في هذه المعادن* وهم مسالمون
للبجة.

غير أن الادريسي في كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق
- ذكر ما يفيد أن البجة كانوا يحتكرون بعض مناطق التعدين
ربما لأن العمل فيها لا يحتاج إلى حفر ويتطلب فقط المعرفة
التامة بالمنطقة. فقد ذكر أنهم كانوا يقومون بالبحث عن
الذهب في بعض المناطق الرملية في صحراء وادي العلاقي في
أول ليالي الشهر العربي وآخره. فكانوا يذهبون إلى تلك
الرمال ليلاً فإذا أبصر أحدهم التبر يضيء "علّم على موضعه
علامة يعرفها وبات هنالك فإذا أصبح عمد كل واحد منهم إلى
علامته في كوم الرمل الذي علم عليه ثم يأخذه ويحمله معه
على نجيبه فيمضي به إلى آبار هنالك ثم يقبل على غسله
بالماء في جفنة عود فيتخرج التبر منه ثم يؤلفه بالزئبق
ويسبكه بعد ذلك فما اجتمع لهم منه تبايعوه بينهم واشتراه
بعضهم من بعض ثم يحمله التجار إلى سائر الأقطار وهذا شغلهم
دأباً لا يفترون عنه ومن ذلك معايشهم ومبادئ مكاسبهم وعليه
يعولون."

ويلاحظ أن الادريسي يتحدث هنا عن البجة بصورة عامة ولا
يشير إلى أن هذا العمل تقوم به بعض قبائل البجة المجاورة
لتلك الرمال. ويبدو من كلامه وكأن هذا هو كل نشاط قبائل
البجة في التعدين. وكثيراً ما تأتي مثل هذه التعميمات في
المصادر العربية فتؤدي أحياناً إلى التضارب في المعلومات
وأحياناً أخرى إلى الفهم الخطأ لقبائل وتاريخ قبائل البجة.
وفي هذه الحالة فقد رأينا أن العلاقة القوية بين البجة
والتعدين هي الاشراف والخفارة والتأمين* ويقاسمون بذلك من
يعمل في تلك المعادن* هذا إلي جانب النشاطات الرعوية
والزراعية والتجارية الأخرى. وليس كما ذكر الادريسي وهو
يتحدث عن البجة بصورة عامه أن العمل في البحث عن الذهب في
تلك الرمال هو سبيل "معايشهم ومبادئ مكاسبهم وعليه يعولون"


وكان وادي العلاقي هو المركز والمقر الرئيس لأعمال
التعدين* وذكر ابن سعيد أن "العلاقي هو مقر ملك البجة."
وقد وصفه اليعقوبي بأنه كالمدينة العظيمة* أو وادِ كالقرية
الجامعة كما وصفه الادريسي وذكر بأن الماء فيه من آبار
عذبة* وهو مكان تجمع البجة ومقصد التجار وفيه خلق كثير
وجمع غزير." وكان أكثر سكان العلاقي من ربيعة من بني
حنيفة* من أهل اليمامة كما ذكر اليعقوبي* "وانتقلوا إليها
بالعيالات والذرية. ووادي العلاقي وما حواليه معادن للتبر*
وكل ما قرب منه يعتمل فيه الناس* لكل قوم من التجار وغير
التجار* عبيد سودان يعملون في الحفر* ثم يخرجون التبر
كالزرنيخ الأصفر* ثم يسبك".

وترجع بدايات اتصال المسلمين بالمعدن إلى النصف الأول من
القرن الثالث الهجري (9 م) إلى عاملين رئيسين هما: 1. رأي
المسلمون مناطق التعدين والآثار القديمة للعمل فيها أثناء
الحملة التي قادها ابن الجهم على مناطق البجة عام 216 هـ*
فعند نهاية الحملة رجع الكثير ممن اشتركوا فيها للعمل في
مناطق التعدين. 2. أوقف الخليفة العباسي المعتصم (ت 227
هـ) صرف العطاء في مصر والذي كان يصرف للعرب مقابل
انخراطهم في الجندية فاضطروا للبحث عن بديل يسترزقون منه*
وصادف ذلك بداية تعرف العرب لمناطق التعدين فوفدت إليه
مجموعات كبيرة منهم. وكان أغلب الوافدين الأوائل من قبائل
الحجاز. ثم جاءت ربيعة في منتصف القرن الثالث وأصبحت لهم
السيطرة على ما تبقى من القبائل العربية في المنطقة بعد
تحالفهم وتصاهرهم مع البجة. وهكذا قاد البجة نشاطاً واسعاً
في مناطق التعدين منذ منتصف القرن الثالث الهجري وحتى توقف
العمل في المناجم في "سنة بضع وستين وسبعمائة"

وإلى جانب ذلك شهدت منطقة البجة نشاطاً تجاريّاً آخر وهو
صيد اللؤلؤ في مدينة عيذاب. فقد وصف ابن جبير- الذي دخل
عيذاب عام 578 هـ - أن مغاص اللؤلؤ في بحر عيذاب "في جزائر
على مقربة منها* وأوان الغوص عليه في هذا التاريخ المقيدة
فيه هذه الأحرف* وهو شهر يونيه العجمي والشهر الذي يتلوه*
ويستخرج منه جوهر نفيس* له قيمة سنية* يذهب الغائصون عليه
تلك الجزائر في الزوارق ويقيمون فيها الأيام فيعودون بما
قسم الله لكل واحد منهم بحسب حظه من الرزق."
ويواصل ابن جبير: "والمغاص منها قريب القعرليس ببعيد.
ويستخرجونه في أصداف لها أزواج كأنها نوع من الحيتان أشبه
شيء بالسلحفاة. فإذا شقت ظهرت الشقتان من داخلها كأنهما
محارتا فضة* ثم يشقون عليها فيجدون فيها الحبة من الجوهر
قد غطى عليها لحم الصدف. فيجتمع لهم من ذلك بحسب الحظوظ
والأرزاق. فسبحان مقدرها لا اله سواه. لكنهم ببلدة لا رطب
فيها ولا يابس قد ألفوا بها عيش البهائم؛ فسبحان مجبب
الأوطان أهلها* على أنهم أقرب الوحش منهم الأنس."

ولم يقتصر نشاط قبائل البجة في العمل في التعدين فقط بل
كان لهم نشاط تجاري أيضاً في السلع التي يجود يها إقليمهم
والأقاليم المجاورة. ورغم أن المصادر لا تمدنا بمعلومات عن
أنشطتهم التجارية بقدر ما ذكرت عن عملهم في التعدين. إلا
أنه من خلال الاشارات القليلة التي وردت هنا وهناك يتضح
منها مساهماتهم المبكرة في الأنشطة التجارية* خاصة وأن
سكان المنطقة شتهروا بأنشتهم الجارية الداخلية وفي البحر
الأحمر كما وضحت المصادر اليونانية والرومانية كما وضحنا
في المقال السابق. وقد تواصل ذلك النشاط بعد دخول المسلمين
مصر في الداخل والخارج كما سنلاحظ ذلك عند الحديث عن مدن
الحداربة.

أبونبيل
07-09-2011, 12:53 AM
قبيلة البجة:


الحديث عن تاريخ البجة هو عبارة عن التأصيل لحضارة أمة لعبت دورها في



تاريخ السودان الشرقي عبر القرون والشرق هو مدخل السودان ...