أبونبيل
12-08-2011, 12:20 PM
قراءة في المشهد السياسي :
أما آن لهذا الوطن أن يترجل؟!
د. الشفيع خضر سعيد
منذ التاسع من يوليو الجاري، يوم إنشطار الوطن الواحد إلى دولتين، ظل يسيطر على تفكيري وحالتي الذهنية نص كتبه محمد الماغوط في روايته «الأرجوحة»، يقارب ويقارن فيه بين المثقف والجاهل. ووجدت نفسي أتصرف في النص، متصورا المقاربة والمقارنة بين الذي يفكر ويقف مع ذاته، والذي لا يفكر ولا يقف مرة مع ذاته. وعندما هممت بكتابة هذا المقال، سيطرت علي فكرة أن أصدره بهذا النص المعدل، بعد إعمال التصرف فيه: -وما الفائدة اذا كان الرضوخ هو النتيجة؟ لماذا لا يختصر هذا العذاب؟ لماذا يحول المرء بملء إرادته تلك الطاعة البسيطة السهلة الى هزيمة وإندحار؟ ان هزيمة الذي يفكر ويقف مع ذاته «المثقف، في النص الأصلي» والذي لا يفكر ولا يقف مع ذاته مرة «الجاهل، في النص الأصلي» كالفرق بين الموت غرقا والموت شنقا. إن الذي لا يفكر ولا يمارس الوقف مع الذات، يتصرف بشكل طبيعى عندما يطيع الاوامر الصادرة اليه، لان الطبيعة المتطورة منحته هذه القدرة على تجاوز العذاب وانفجار الذهن. انه يحس الامور ولا يدركها. فعندما تأمره بأن يقفز من علو ستين مترا الى الارض، فهو يقفز ويتألم و يفجر رأسه. و لكن عزاءه الوحيد فى أنه أدى واجبا ما. أما الذي يفكر ويراجع ذاته دائما، فينفجر رأسه مرتين: مرة لأنه لم يقتنع بهذه العملية، ومرة لأنه إرتطم بالأرض، وهو ليس له عزاء على الاطلاق.
إن من أهم سمات الإنسان العاقل والسوي واليقظ الضمير، الوقوف مع الذات ومراجعة النفس في كل أدائه وتصرفاته ومعالجاته في الفترة التي مضت من مسار حياته، تصحيحا وتطويرا لمسار الفترة القادمة. وأعتقد أن الكثيرين يفعلون ذلك يوميا، فهم لا ينامون ليلا حتى تراجع ذاتهم ما دار في نهارهم، ويستوي في ذلك الطالب والموظف ورب الأسرة…الخ. لكن وقفة الذات عند من يتعامل مع الشأن العام، كالسياسيين والزعماء وقادة الرأي، خاصة المسؤول عن الرعية الذي يدير شئون البلاد وناسها، تختلف تماما عن غيرها، لأنها تتعلق بمصائر البشر والأوطان. ولهذا السبب هي تكتسب معنى ومحتوى شديد الحساسية وشديد الخطورة، خاصة عند تعامل هؤلاء مع المنعطفات والمنعرجات الدقيقة والحرجة التي تمر بها بلدانهم وأقوامهم. ومباشرة أقول، ان أي سياسي أو زعيم أو أحد قادة الرأي، بدءا من رئيس الدولة ومرورا بالسياسي المعارض، وانتهاء بكل من يدلو بدلوه في الشأن العام السوداني، إذا لم يقف مع ذاته ويراجع أدائه ومساهماته ودوره إزاء الحدث الأهم والأخطر في تاريخ السودان الحديث، أي إنشطاره إلى دولتين، من الصعب تخيل تمتعه بتلك السمات المشار إليها، أي الانسان العاقل السوي اليقظ الضمير، حتى ولو حقق هذا الانشطار مرادا وأهدافا مسبقة له، أو جاء إستجابة لآيديولوجية يؤمن بها .
حتى اللحظة، ربمالا نستطيع أن نجزم بأننا على دراية بحال كل من هؤلاء، وكيف سيعبر عن وقفته الخاصة مع الذات، ولكن المدهش المؤلم، وإن كان ليس مستغربا، ألا تجد أية وقفة، مع الذات أو مع غيرها، عند قادة البلاد. بل تجدهم مستجيبين لتيار العنصرية الانفصالية الشمالية، الذي ظل مهللا وذابحا للثيران وواقفا -إنتباها-، لا ليدعم ويبارك إنشطار الوطن وحسب، بل ليؤجج المشاعر العدائية بين الدولتين الوليدتين من رحم واحد، متجاهلا الحزن الذى فاض من عيون السودانيين فى القرى و الحضر والمنافى، ومنساقا وراء وهم النقاء العرقي والديني، زافرا -زفرات حرى- حارقة للوطن وشعبه: هاهي إسرائيل تبارك دولة الجنوب، ودولة الجنوب ستفتح سفارة لها في تل أبيب….، إذن فلينفصل الجنوب، ولا تحزن أيها الشعب، فالجنوب ذيل اسرائيل وبقطعه سيكون شمال ال 96% مسلما، سيكون نقيا خالصا لنا، حيث لا أهمية لل 4% غير المسلمين، لنقيم فيه دولة الشريعة..! لكن الشعب يدرك جيدا هذه الاسطوانة المشروخة. لقد انقلبت الانقاذ على الشرعية والديمقراطية حتى تقيم دولة الشريعة. فماذا كانت النتيجة؟ ساد العسف والقهر، واهملت التنمية واستبدلت باستثمار طفيلي جائر زاد من نسبة الفقر والحرمان وحطم النسيج الاجتماعي في البلاد، ضاعت السكة حديد ومشروع الجزيرة وعم الفساد منتشرا في قمة وقاعدة الهرم الحاكم. وعلى الرغم من ذلك لم نر فاسدا قطعت أطرافه من خلاف، ولكنا سمعنا كثيرا عن فقه السترة. وكل الذين طالتهم يد النظام من المعارضين الشماليين، فاستشهدوا تحت التعذيب أو في ساحات الإعدام، لم يشفع لهم كونهم من أهل الإسلام، وهم أصلا ليس عليهم جرم، تهمتهم الاختلاف في الرأي والمعارضة السياسية….، والنظام يخوض حربا في دارفور التي نسبة المسلمين بين سكانها 100%! وفي تصريح للأب فيلو ساوث فرج، أبدى تخوفه من هجرة جديدة للاقباط بسبب ما يتردد حول تطبيق الدستور الإسلامى، مشيرا إلى أن التسعينات شهدت هجرة واسعة بسبب نظام الانقاذ. نحن نقول بكل وضوح، إن الاتجار بالدين مسألة انكشف زيف نواياها تماما، والمسألة في النهاية ليست إقامة دولة الشريعة، بل السعي لاستخدام سلطة الدين لإرهاب الآخرين. وأعتقد أن من واجب جميع المستنيرين، أن يشرحوا للناس أن جوهر الصراع السياسي في البلد ليس هو معركة مع أو ضد الدين «على الطريقة الامريكية: مع أمريكا أو مع الارهاب» بل هى معركة من اجل الحرية، الكرامة، العدل، وحدة الوطن، التنمية، وضد الحرب والفساد والاستبداد.
المفكر يوسف زيدان، في كتابه «اللاهوت العربى و اصول العنف الدينى»، -…. لا بد من الاعتراف بانه قد آن الاوان لأن يصل الوعى الانسانى العام لفهم أعمق لقاعدة «دع ما لقيصر لقيصر و ما لله لله»، فهم لا يقتصر على التقابل الساذج الظاهرى بين «قيصر و الله» و انما يصل الى وعي و ادراك عميق لطبيعة التداخل بين العملية السياسية و الخبرة الذاتية، على أسس مجتمعية وفردية قويمة…اذ ان ما تحققه السياسة بوسائلها لا يملك اليها الدين سبيلا، فى حين ان السياسة لن تقوم بذاتها بديلا عن الدين. لأن ما يحققه الدين للفرد لا يمكن للسياسة ان تقوم به. لقد تغير العالم، ولم يعد مثلما كان فى سابق الزمان.
تدعي قيادة البلاد انها قسمت السودان من أجل السلام. لكن اتفاقية السلام الشامل جاءت لوقف الحرب وإتاحة الفرصة، من خلال فترة انتقالية مدتها ست سنوات ونصف، حتى ترسخ جسور الوحدة في إطار التنوع والتعدد. المحصلة كانت نسف ما كان متبقيا من جسور بسبب إصرار الإنقاذ على رفض دولة المواطنة وسماحها بتسيد لغة الاستعلاء العرقي والديني تجاه الجنوب. نحن نوافق ما ذهب إليه رئيس الجمهورية عندما قال الانقاذ قسمت السودان، ولكنا لا نوافقه قوله ان التقسيم كان من أجل السلام، بل نقول انه بسبب ايديولوجيا الحزب الحاكم، وان الحكومة اقتطعت جزءا من لحم الوطن فداء لاوهامها. ثم هل إنطفأت نيران الحرب بين الشمال والجنوب بعد التقسيم؟ أليس من حقنا أن نشكك، بسبب خطاب الحكومة وخلصائها المعادي تجاه الدولة الجديدة، في وجود أية رؤية لعلاقة تكاملية استراتيجية مع جمهورية جنوب السودان التي قدمت بادرة الاحتفاظ بالاسم والعلم والجنسية المزدوجة؟ وكيف نفهم إشارات العديد من الوزراء تجاه دولة الجنوب، مثل حديث السيد وزير المالية حول العملة النقدية في الجنوب وتصريحه -ما عندنا شغلة بعملتهم-!؟ طبعا الجميع يعلم، وبالفعل شاهد، أن جمهورية جنوب السودان ستجد دعم كافة دول العالم تقريبا، بما فيها تلك الدول التي تربطنا بها علاقات اقتصادية استراتيجية. فلماذا الاصرار على لغة -الفسالة-؟ إلى متى يظل بعض قادة البلاد يصرون على أن السياسة مقالعة ومطالعة للخلاء؟ اللغة المستفزة مع الفعل المستفز يحدثان ردة الفعل الغاضبة من الطرف الآخر، وإذا بالأمس كانت ردة الفعل هذه ضربة من كرسي بدل المنطق، فغدا قد تماثل ما أرعدت به ميادين التحرير في مصر وتونس واليمن. والسؤال الذي يحتاج منهم إلى وقفة مع النفس: يا أهل الانقاذ..لماذا تشدون الجميع إلى دوائر العنف؟
بعض قادة المؤتمر الوطني يطرحون شعار حكومة عريضة لإدارة البلاد بعد الانفصال، ويرهنون المشاركة فيها بالوصول إلى وفاق وطني حول الدستور وشكل الحكم. لكن القضايا التي تحتاج إلى وفاق أكبر وأوسع من مسألتي الدستور وشكل الحكم، رغم أهميتهما وضرورة وجودهما في صلب هذه القضايا. كيف نوقف الحرب والموت في جنوب كردفان ودارفور؟ كيف ننزع فتيل الاقتتال في أبيي وجنوب النيل الأزرق وبين دولتي الشمال والجنوب؟ كيف نمنع مواصلة تفتت وإنشطار ما تبقى من السودان؟ أليس قطع دابر الفساد ومحاسبة الفاسدين، ومعالجة قضايا مشروع الجزيرة، أراضي السدود، أراضي القولد، شرق السودان، الحالة المعيشية المتدنية، العلاقات الخارجية المتدهورة…الخ، أليس جميعها من ضمن أولويات أي وفاق وطني؟ هل يستطيع المؤتمر الوطني أن يجعلنا نصدق أنه أصبح مقتنعا حقيقة بالتحول الديمقراطي، ام سيواصل أساليب اللف والدوران وتدبير المؤامرات الساذجة؟ لماذا يقتحم جهاز الامن اجتماعا علنيا للحزب الشيوعي في بورتسودان ويعتقل المشاركين فيه ويصادر وثائق الاجتماع؟ هل وصلت للجهاز معلومات تفيد بأن فرع الحزب الشيوعي في بورتسودان يخطط لنسف الميناء أو لفصل شرق السودان!؟ ولماذا يوحي المؤتمر الوطني لأحد أعضاء حزب حليف جدا له «الحركة الشعبية/التغيير الديمقراطي» لإصدار تصريح يتهم فيه الحزب الشيوعي بالضلوع في أحداث جنوب كردفان مدللا على ذلك بعدم وجود مسؤوليه ضمن قوائم الاغتيالات في المنطقة؟ يبدو أن ذلك الشخص، ونتيجة لما يشاهده عند القدوة، يعتقد أن السياسة في السودان تقوم على أفكار كتب شرلوك هولمز أو أجاثا كريستي أو المغامرون الخمسة……!!، ويبدو أن البعض الآخر يعتقد أن الحكومة الواسعة العريضة سيضايقها، أويضيَقها، وجود الحزب الشيوعى السودانى على مسرح الاحداث؟
من قبل قلنا، ونكررها مرة أخرى، لا مخرج سوى المؤتمر القومي الدستوري أو الرحيل. وعلى قادة النظام المصطرع ذاتيا ان يعقدوا جلسة مع الذات، يكونوا فيها خصوما وحكاما لبعضهم البعض، ولينظروا الى ما إقترفته أيديهم بحق هذا الوطن، وآخره الحدث الجلل… انفصال الجنوب …
ونقولها بملء أفواهنا: أما آن لهذا الوطن ان يترجل؟؟
الصحافة
أما آن لهذا الوطن أن يترجل؟!
د. الشفيع خضر سعيد
منذ التاسع من يوليو الجاري، يوم إنشطار الوطن الواحد إلى دولتين، ظل يسيطر على تفكيري وحالتي الذهنية نص كتبه محمد الماغوط في روايته «الأرجوحة»، يقارب ويقارن فيه بين المثقف والجاهل. ووجدت نفسي أتصرف في النص، متصورا المقاربة والمقارنة بين الذي يفكر ويقف مع ذاته، والذي لا يفكر ولا يقف مرة مع ذاته. وعندما هممت بكتابة هذا المقال، سيطرت علي فكرة أن أصدره بهذا النص المعدل، بعد إعمال التصرف فيه: -وما الفائدة اذا كان الرضوخ هو النتيجة؟ لماذا لا يختصر هذا العذاب؟ لماذا يحول المرء بملء إرادته تلك الطاعة البسيطة السهلة الى هزيمة وإندحار؟ ان هزيمة الذي يفكر ويقف مع ذاته «المثقف، في النص الأصلي» والذي لا يفكر ولا يقف مع ذاته مرة «الجاهل، في النص الأصلي» كالفرق بين الموت غرقا والموت شنقا. إن الذي لا يفكر ولا يمارس الوقف مع الذات، يتصرف بشكل طبيعى عندما يطيع الاوامر الصادرة اليه، لان الطبيعة المتطورة منحته هذه القدرة على تجاوز العذاب وانفجار الذهن. انه يحس الامور ولا يدركها. فعندما تأمره بأن يقفز من علو ستين مترا الى الارض، فهو يقفز ويتألم و يفجر رأسه. و لكن عزاءه الوحيد فى أنه أدى واجبا ما. أما الذي يفكر ويراجع ذاته دائما، فينفجر رأسه مرتين: مرة لأنه لم يقتنع بهذه العملية، ومرة لأنه إرتطم بالأرض، وهو ليس له عزاء على الاطلاق.
إن من أهم سمات الإنسان العاقل والسوي واليقظ الضمير، الوقوف مع الذات ومراجعة النفس في كل أدائه وتصرفاته ومعالجاته في الفترة التي مضت من مسار حياته، تصحيحا وتطويرا لمسار الفترة القادمة. وأعتقد أن الكثيرين يفعلون ذلك يوميا، فهم لا ينامون ليلا حتى تراجع ذاتهم ما دار في نهارهم، ويستوي في ذلك الطالب والموظف ورب الأسرة…الخ. لكن وقفة الذات عند من يتعامل مع الشأن العام، كالسياسيين والزعماء وقادة الرأي، خاصة المسؤول عن الرعية الذي يدير شئون البلاد وناسها، تختلف تماما عن غيرها، لأنها تتعلق بمصائر البشر والأوطان. ولهذا السبب هي تكتسب معنى ومحتوى شديد الحساسية وشديد الخطورة، خاصة عند تعامل هؤلاء مع المنعطفات والمنعرجات الدقيقة والحرجة التي تمر بها بلدانهم وأقوامهم. ومباشرة أقول، ان أي سياسي أو زعيم أو أحد قادة الرأي، بدءا من رئيس الدولة ومرورا بالسياسي المعارض، وانتهاء بكل من يدلو بدلوه في الشأن العام السوداني، إذا لم يقف مع ذاته ويراجع أدائه ومساهماته ودوره إزاء الحدث الأهم والأخطر في تاريخ السودان الحديث، أي إنشطاره إلى دولتين، من الصعب تخيل تمتعه بتلك السمات المشار إليها، أي الانسان العاقل السوي اليقظ الضمير، حتى ولو حقق هذا الانشطار مرادا وأهدافا مسبقة له، أو جاء إستجابة لآيديولوجية يؤمن بها .
حتى اللحظة، ربمالا نستطيع أن نجزم بأننا على دراية بحال كل من هؤلاء، وكيف سيعبر عن وقفته الخاصة مع الذات، ولكن المدهش المؤلم، وإن كان ليس مستغربا، ألا تجد أية وقفة، مع الذات أو مع غيرها، عند قادة البلاد. بل تجدهم مستجيبين لتيار العنصرية الانفصالية الشمالية، الذي ظل مهللا وذابحا للثيران وواقفا -إنتباها-، لا ليدعم ويبارك إنشطار الوطن وحسب، بل ليؤجج المشاعر العدائية بين الدولتين الوليدتين من رحم واحد، متجاهلا الحزن الذى فاض من عيون السودانيين فى القرى و الحضر والمنافى، ومنساقا وراء وهم النقاء العرقي والديني، زافرا -زفرات حرى- حارقة للوطن وشعبه: هاهي إسرائيل تبارك دولة الجنوب، ودولة الجنوب ستفتح سفارة لها في تل أبيب….، إذن فلينفصل الجنوب، ولا تحزن أيها الشعب، فالجنوب ذيل اسرائيل وبقطعه سيكون شمال ال 96% مسلما، سيكون نقيا خالصا لنا، حيث لا أهمية لل 4% غير المسلمين، لنقيم فيه دولة الشريعة..! لكن الشعب يدرك جيدا هذه الاسطوانة المشروخة. لقد انقلبت الانقاذ على الشرعية والديمقراطية حتى تقيم دولة الشريعة. فماذا كانت النتيجة؟ ساد العسف والقهر، واهملت التنمية واستبدلت باستثمار طفيلي جائر زاد من نسبة الفقر والحرمان وحطم النسيج الاجتماعي في البلاد، ضاعت السكة حديد ومشروع الجزيرة وعم الفساد منتشرا في قمة وقاعدة الهرم الحاكم. وعلى الرغم من ذلك لم نر فاسدا قطعت أطرافه من خلاف، ولكنا سمعنا كثيرا عن فقه السترة. وكل الذين طالتهم يد النظام من المعارضين الشماليين، فاستشهدوا تحت التعذيب أو في ساحات الإعدام، لم يشفع لهم كونهم من أهل الإسلام، وهم أصلا ليس عليهم جرم، تهمتهم الاختلاف في الرأي والمعارضة السياسية….، والنظام يخوض حربا في دارفور التي نسبة المسلمين بين سكانها 100%! وفي تصريح للأب فيلو ساوث فرج، أبدى تخوفه من هجرة جديدة للاقباط بسبب ما يتردد حول تطبيق الدستور الإسلامى، مشيرا إلى أن التسعينات شهدت هجرة واسعة بسبب نظام الانقاذ. نحن نقول بكل وضوح، إن الاتجار بالدين مسألة انكشف زيف نواياها تماما، والمسألة في النهاية ليست إقامة دولة الشريعة، بل السعي لاستخدام سلطة الدين لإرهاب الآخرين. وأعتقد أن من واجب جميع المستنيرين، أن يشرحوا للناس أن جوهر الصراع السياسي في البلد ليس هو معركة مع أو ضد الدين «على الطريقة الامريكية: مع أمريكا أو مع الارهاب» بل هى معركة من اجل الحرية، الكرامة، العدل، وحدة الوطن، التنمية، وضد الحرب والفساد والاستبداد.
المفكر يوسف زيدان، في كتابه «اللاهوت العربى و اصول العنف الدينى»، -…. لا بد من الاعتراف بانه قد آن الاوان لأن يصل الوعى الانسانى العام لفهم أعمق لقاعدة «دع ما لقيصر لقيصر و ما لله لله»، فهم لا يقتصر على التقابل الساذج الظاهرى بين «قيصر و الله» و انما يصل الى وعي و ادراك عميق لطبيعة التداخل بين العملية السياسية و الخبرة الذاتية، على أسس مجتمعية وفردية قويمة…اذ ان ما تحققه السياسة بوسائلها لا يملك اليها الدين سبيلا، فى حين ان السياسة لن تقوم بذاتها بديلا عن الدين. لأن ما يحققه الدين للفرد لا يمكن للسياسة ان تقوم به. لقد تغير العالم، ولم يعد مثلما كان فى سابق الزمان.
تدعي قيادة البلاد انها قسمت السودان من أجل السلام. لكن اتفاقية السلام الشامل جاءت لوقف الحرب وإتاحة الفرصة، من خلال فترة انتقالية مدتها ست سنوات ونصف، حتى ترسخ جسور الوحدة في إطار التنوع والتعدد. المحصلة كانت نسف ما كان متبقيا من جسور بسبب إصرار الإنقاذ على رفض دولة المواطنة وسماحها بتسيد لغة الاستعلاء العرقي والديني تجاه الجنوب. نحن نوافق ما ذهب إليه رئيس الجمهورية عندما قال الانقاذ قسمت السودان، ولكنا لا نوافقه قوله ان التقسيم كان من أجل السلام، بل نقول انه بسبب ايديولوجيا الحزب الحاكم، وان الحكومة اقتطعت جزءا من لحم الوطن فداء لاوهامها. ثم هل إنطفأت نيران الحرب بين الشمال والجنوب بعد التقسيم؟ أليس من حقنا أن نشكك، بسبب خطاب الحكومة وخلصائها المعادي تجاه الدولة الجديدة، في وجود أية رؤية لعلاقة تكاملية استراتيجية مع جمهورية جنوب السودان التي قدمت بادرة الاحتفاظ بالاسم والعلم والجنسية المزدوجة؟ وكيف نفهم إشارات العديد من الوزراء تجاه دولة الجنوب، مثل حديث السيد وزير المالية حول العملة النقدية في الجنوب وتصريحه -ما عندنا شغلة بعملتهم-!؟ طبعا الجميع يعلم، وبالفعل شاهد، أن جمهورية جنوب السودان ستجد دعم كافة دول العالم تقريبا، بما فيها تلك الدول التي تربطنا بها علاقات اقتصادية استراتيجية. فلماذا الاصرار على لغة -الفسالة-؟ إلى متى يظل بعض قادة البلاد يصرون على أن السياسة مقالعة ومطالعة للخلاء؟ اللغة المستفزة مع الفعل المستفز يحدثان ردة الفعل الغاضبة من الطرف الآخر، وإذا بالأمس كانت ردة الفعل هذه ضربة من كرسي بدل المنطق، فغدا قد تماثل ما أرعدت به ميادين التحرير في مصر وتونس واليمن. والسؤال الذي يحتاج منهم إلى وقفة مع النفس: يا أهل الانقاذ..لماذا تشدون الجميع إلى دوائر العنف؟
بعض قادة المؤتمر الوطني يطرحون شعار حكومة عريضة لإدارة البلاد بعد الانفصال، ويرهنون المشاركة فيها بالوصول إلى وفاق وطني حول الدستور وشكل الحكم. لكن القضايا التي تحتاج إلى وفاق أكبر وأوسع من مسألتي الدستور وشكل الحكم، رغم أهميتهما وضرورة وجودهما في صلب هذه القضايا. كيف نوقف الحرب والموت في جنوب كردفان ودارفور؟ كيف ننزع فتيل الاقتتال في أبيي وجنوب النيل الأزرق وبين دولتي الشمال والجنوب؟ كيف نمنع مواصلة تفتت وإنشطار ما تبقى من السودان؟ أليس قطع دابر الفساد ومحاسبة الفاسدين، ومعالجة قضايا مشروع الجزيرة، أراضي السدود، أراضي القولد، شرق السودان، الحالة المعيشية المتدنية، العلاقات الخارجية المتدهورة…الخ، أليس جميعها من ضمن أولويات أي وفاق وطني؟ هل يستطيع المؤتمر الوطني أن يجعلنا نصدق أنه أصبح مقتنعا حقيقة بالتحول الديمقراطي، ام سيواصل أساليب اللف والدوران وتدبير المؤامرات الساذجة؟ لماذا يقتحم جهاز الامن اجتماعا علنيا للحزب الشيوعي في بورتسودان ويعتقل المشاركين فيه ويصادر وثائق الاجتماع؟ هل وصلت للجهاز معلومات تفيد بأن فرع الحزب الشيوعي في بورتسودان يخطط لنسف الميناء أو لفصل شرق السودان!؟ ولماذا يوحي المؤتمر الوطني لأحد أعضاء حزب حليف جدا له «الحركة الشعبية/التغيير الديمقراطي» لإصدار تصريح يتهم فيه الحزب الشيوعي بالضلوع في أحداث جنوب كردفان مدللا على ذلك بعدم وجود مسؤوليه ضمن قوائم الاغتيالات في المنطقة؟ يبدو أن ذلك الشخص، ونتيجة لما يشاهده عند القدوة، يعتقد أن السياسة في السودان تقوم على أفكار كتب شرلوك هولمز أو أجاثا كريستي أو المغامرون الخمسة……!!، ويبدو أن البعض الآخر يعتقد أن الحكومة الواسعة العريضة سيضايقها، أويضيَقها، وجود الحزب الشيوعى السودانى على مسرح الاحداث؟
من قبل قلنا، ونكررها مرة أخرى، لا مخرج سوى المؤتمر القومي الدستوري أو الرحيل. وعلى قادة النظام المصطرع ذاتيا ان يعقدوا جلسة مع الذات، يكونوا فيها خصوما وحكاما لبعضهم البعض، ولينظروا الى ما إقترفته أيديهم بحق هذا الوطن، وآخره الحدث الجلل… انفصال الجنوب …
ونقولها بملء أفواهنا: أما آن لهذا الوطن ان يترجل؟؟
الصحافة