الامين
19-06-2011, 04:20 AM
( ويالها من غربة .................... )
لم تكن من ضمن خياراته ان يتحول الى ذلك الانسان ...
ومنذ نعومة اظفاره وهو يرفل في ثياب الرعاية الابوية الصادقة تلك التي اسبلت عليه بوافر من فيض الحنان والاهتمام ..و لأن الصبي اليافع كان قد بلغ من النباهة والتميز مازاد من شعلة الحب في داخل قلب ابويه .
وترعرع بين ظهراني الابوين الحنونين حتى بلغ مبلغه عند أبيه الذي تنبأ له بفطنةٍ جلية وذكاء متقد ، زادت من رعاية الاب وأثارت انتباهه ولمست مواطن الحنان الذي لم ينفك ان يتحول الى شرارة لاتنبض قواها ولاتتناقص ابدا .
مرت الايام وينتقل الفتى من مرحلة دراسية الى أخرى وبكل جدارة تصدق تنبؤات الاب الذي زاد انبهاره وولعه بانجازات الفتى التي ذاع صيتها في المكان فكثر اعجاب معلميه به وامتلأت ملفات الفتى بشهادات التقدير والتفوق والتميز وتزيلت دفاتره بكلمات الشكر والثناء والانبهار وسجلت تقدير مدرسيه واعجابهم المستمر بمايحققه الفتى من تقدم في كل مجالات الدراسة .
ولم تكن صلة الاب بشيوخه من اهل التصوف بعيدة عن ابنه فكان قد سماه " الفاتح " تيمناً بحبه لشيخه واثباتاً لصلة المريد وقربته لاهل الطريقة " السمانية " وتبريكاً للفتى كما ذهب اليه اعتقاد الوالد العاشق لاهل التجريد من شيوخ التصوف .
تتسارع خطى الزمان وتتمر الليالي والايام ويشتد عود الفتى ليبلغ سن الرجولة فتتكون شخصيته وتعلو همته في ادارك النبوغ والريادة مستمداً قوته من اعجاب والديه وتشجيعهم المستمر وممن كان حوله من الاهل والخلان والاصدقاء والمعارف ويصبح الابن بين ليلة وضحاها ذو رأي ومشورة وصاحب مبادارات ومحل ثقة كل من عرفه ممن حوله فكان اذا ماتكلم سُمع واذا ماأشار كانت لمشورته ورأيه احترام السامعين وقبول المشورين .
ولما لمع نجمه وسطعت اخباره بين معارفه ، كان لابد لكل هذا التميز أن يتوج بانجاز يثلج صدر والديه ويثبت للجميع ان ظنهم فيه لم يكن هباءً ، فقد أحرز درجة كبيرة في امتحانات الشهادة السودانية أهلته لدخول " أميز كلية " وهي كلية الطب ليبدأ شق طريقه الجديد في دنيا الحياة الجامعية ، وبالفعل لم يكن رصيده في الحقل الجامعي أقل تميزاً من المراحل الدراسية السابقة فقد كانت مسرحاً لإبداعاته وتميزه ايضاً خاصة وأنه لفت انتباه محاضريه بنقاشاته المستفيضة وملاحظاته الدقيقة في كل مايسأل عنه ويناقش فيه ، وكان ايضاً مرجعاً لزملائه ونظرائه اللذين لطالما قصدوه في كل حائرة تلم بهم وكل مادة صعب عليهم فهمها فكان هو من يشرح لهم ويعوض عليهم مافات منهم من المحاضرات والجلسات حتى ولو كان هو احد من فاتتهم المحاضرة ، فلقد سبق اقرانه في قوة ذكائه ودقة ملاحظته وسرعة فهمه واستيعابه .
لم تغب العاطفة عن مسرح حياته ولم تكن احلام الشباب وثورة الحب بعيدة عن كيانه فقد ملكت لبه وأسرت خياله وحولته الى العاشق الشاعر في تناغم فذٍ أظهر تكاملاً لعاطفة وعقلٍ يندر مايوجد لهما مثيل في التوافق ، فتكونت لديه مشاعر الوله حتى اشتد عشقه وولهه فكتب القصائد ونظم الاشعار لمن تربعت بين ثنايا قلبه ، حتى ان انتقائه لمعشوقته لم يكن عادياً فلأنه لم يبغي يوماً إلا الريادة ولم يرتض يوماً الا التميز فقد كانت معشوقته فتاةً مميزة وخاصة لطالما كانت محط أنظار الزملاء من نظرائه في كلية الطب ، فتسابق الكثيرون يطلبون ودها حين تكاثر طلابها من اهل الهوى ، الا انه كان من فاز بقلبها واهتمامها فاولاها مايولي العاشق لمعشوقته وسقاها من كأس الحب حتى امتلك قلبها وحاز على شغف فؤادها فصارت له وصار لها . فترجما قصةَ عشقٍ تحدثت عنها أروقة الجامعة وتناقلت اخبارها الالسن فلفتت أنظار القاصي والداني من طلابها وحازت على إهتمام الرواة والقاصة من أهل الحكايات وسرعان ماتحولت الى قصة الجامعة الاولى.
ظروف الحياة وأحوالها لم تكن تغيب عن ناظري الفتى فقد كان الوالد يشركه في ادارة دفة الحياة واثقاً في قدراته في تصريف الامور وقيادة المنزل بالرغم من أنه لم يكن الأكبر سناً فينال استحقاق انابة والده المغترب بعيداً ، الا ان نبوغ الفتى أهًله لتقلد منصب النائب الاول بعد الاب فاحترف تصريف شئون عائلته الصغيرة فجعله الوالد ايضاً على مال الاسرة لادارتها وتسييرها وفق ماتتطلبه الظروف المحيطة ، فكان لذلك الاثر الكبير في تكوين شخصيته القيادية وبروز قدراته في ادارة المسؤليات بالرغم من يفاعة سنه وانشغاله بدراسته .
لم يكن لكل هذا الزخم الانساني الفريد الذي مثل شخصيته المميزة أن يغيب عنه حب الترف والوجاهة والتأنق فكان لجزيل عطاء والده الاثر الذي انعكس جلياً في هيئته ولباسه وزينته فاختار اندر الثياب وارقى الحلل وامتلك النفيس من الثياب والنادر من المقتنيات حتى ازداد تميزاً لفت اليه الانظار الفاحصة والأعين المتفحصة فكثر من حوله الحساد والمشتغلين بأسرار الناس واحوالهم ممن لاهم لهم الا امعان النظر في أحوال البشر ، فنفث الشيطان في أعوانه من انسهم وجنهم فأورد النبل والسهام الحاسدة على الفتى الأعزل من اسلحة التحصن ، فحاكت له العيون المتلبسة بأنفس المتشيطنة سهماً قاتلاً ودسته خلف اظهارها والفتى الأعزل لايعي مقدار ماينتظره من اقدار واحوال .
..........
يدلهم ليل ذلك الصباح الشتائي البارد ، فيغيم سواداً ويتقلب الفتى ليلة ذلك اليوم المشؤوم وهو في مهجعه ,, يراود النوم الذي جافاه قسراً ويتسوله طلباً لراحة جسده المريض بالحمى ، وتنطلق اصوات الغربان تشق استار الليل ومااسودها من ليلة انكشف فيها قناع الشيطان ليشحذ سهمه تجاه الفتى ، ..... وينطلق السهم مع اعلى نبرة صوت مرعبٍ لغراب اسود .. فيشق استار الظلام ويعبر في السماء فيمخر عبابها فتمتلئ دموع العصافير المرتعبة والتي كانت ترقب السهم الاسود وهو يمر في السماء وفي جنح الليل وقد اعتادت أن ترى سهماً أسوداً كل ليلة يطارد فريسة في كل يوم ، ولاتدري الى اين يسقط هذا السهم المسموم ، فبكت على حال من سيصيبه السهم وسألت الله ان يستر ويرحم .. ويسهل العواقب على المصاب .
لم ينم الفتى تلك الليلة فلم يعد يدري ماذا اصابه من حال ، فقد غاب الظلام ولم ينم الفتى ليلته بل وماذا حدث ... لماذا كل هذا الالم الذي يعتري جسدي .. تسائل وتسائل لكنه لم يستطع ان يجد الاجابة فقد بلغ الامر وانتشر سم العين الحاسدة فيه فلم يذق من يومها طعم الراحة أو الاطمئنان .
اسودت الدنيا في عينيه واستيقظ ليلتها على انسان أخر لايعرف من هو ،، استيقظ على عالم يختلف عن ذلك العالم الوردي الذي عرفه وعاش فيه وأحبه وتمسك بالوان الجمال فيه ، وبدا كأنه انسان أخر من كوكب أخر لايعرف شيئاً عن العالم الذي استيقظ فيه ، فبات كانه لم يألف الناس يوماً .. وانكب على نفسه منطوياً... زاهداً في رؤية الناس وغاب اليوم بعد اليوم والاخر تلو الاخر حتى ألف عالمه الفردي وتقمص دور الغريب واندس قسراً موصداً ابواب غرفته وحياته ( التي كانت يوماً تسمى حياة ) على نفسه ، حاول أهله اثناءه من انطواءه ومساعدته في التخلص ممااصابه حينما ظنوا انها وعكة لن يدوم اثرها كثيراً ، ولم يكن احد يعلم انها ستكون رحلة طويلة طوووويلة .. في عالم النسيان وعالم الغربة ، .
وتمر أيام الفتى ويزداد بعداً عن عالمه الحقيقي وتشتد عليه الاحوال وتتبدل ، فينتشر السم الاسود في جسده ليغيره الى جسد مريض هزيل ، فتجحظ أعينه وتموت افكاره وطموحاته وتقبر أحلامه في طيات مرضه وتحمله الهموم وتتلاعب به كما الرياح اليمنة واليسرى فتقذفه رياح التغيير وتهوي به في مكان سحيق ليعيش سنوات طوال . . مع المرض والقلق والخوف والفزع والارتباك فيصاحب الليل ويناجي الصمت .. وتسهر اعينه الليل وينام نهاره ويغيب عن الناس ... وتتغير اوصافه لمن عرفه فتبكي اعين من يراه قبل مصابه وتدمع من فرط حزنها على حاله ... التي لايصدق من راها ...
ويمتحن والديه واخوته فيه .. فتصيب الوالدين امراض الحزن ،، ويهرع الوالد اليه ويقف أمامه و بين يديه بعد أن عاد من غربته الطويلة ليسأله قائلاً والدموع تسبق كلماته ( أين انت يابني !!! ) يسأل عن ابنه الذي لطالما فرح به وفخر به وسعد بنجاحاته وتميزة وطموحه وراقبه يوماً بعد يوم ولكنه لايجد مجيباً ..!!! .... دموعه تكاد تفتك به ... والام الحنون ترتجف من شدة هولها ومصابها لكنها تكتمها في قلبه المكلوم أملاً في شفائه ، وتمر رحلة طويلة من الدقائق والساعات والشهور والسنوات وتتغير الايام وتتبدل احوال الناس وتتغير الدنيا باكملها ويكبر الصغار ، ويتخرج زملائه ويتفرقون في ارجاء البسيطة كل مضى الى حياته وتقدم في دراسته حتى اصبح منهم المتخصصين في كل مجالات الطب ، مخلفين ورائهم قصة قديمة ، لايكادون يذكرونها الا كذكريات من الشباب الاول، .... وهو ... أين هو ... انه لايزال غريباً ... تدثر بلباس مهترئ ... وتغيرت ملامحه فلايكاد يعرفه أحد .....غير والديه المكلومين واخوته الذين فرقتهم الايام والسنوات وذهبوا ليعيشوا حياتهم ويشقوا طريقهم مع ازواجهم وزوجاتهم ... وتركوا ورائهم مجبرين جرحاً غائراً وحزناً قاتلاً يكاد يقتل هماً .. لانسان اصبح غريباً عنهم ، يتابع أحوالهم في صمت قاتل .. ..
لاتزال الدنيا في تغيرها واحوال الناس في تبدلها عبر الزمن ... ولكن الزمن توقف عند "الفاتح" من تلك الليلة السوداء المشؤومة التي غيرته ... ولايزال ينتظر الامل في عجز وصمت وحزن .. وموت عبر الحياة ...... ..
ربي اني مسنى الضر وانت ارحم الراحمين ......
الكاتب
لم تكن من ضمن خياراته ان يتحول الى ذلك الانسان ...
ومنذ نعومة اظفاره وهو يرفل في ثياب الرعاية الابوية الصادقة تلك التي اسبلت عليه بوافر من فيض الحنان والاهتمام ..و لأن الصبي اليافع كان قد بلغ من النباهة والتميز مازاد من شعلة الحب في داخل قلب ابويه .
وترعرع بين ظهراني الابوين الحنونين حتى بلغ مبلغه عند أبيه الذي تنبأ له بفطنةٍ جلية وذكاء متقد ، زادت من رعاية الاب وأثارت انتباهه ولمست مواطن الحنان الذي لم ينفك ان يتحول الى شرارة لاتنبض قواها ولاتتناقص ابدا .
مرت الايام وينتقل الفتى من مرحلة دراسية الى أخرى وبكل جدارة تصدق تنبؤات الاب الذي زاد انبهاره وولعه بانجازات الفتى التي ذاع صيتها في المكان فكثر اعجاب معلميه به وامتلأت ملفات الفتى بشهادات التقدير والتفوق والتميز وتزيلت دفاتره بكلمات الشكر والثناء والانبهار وسجلت تقدير مدرسيه واعجابهم المستمر بمايحققه الفتى من تقدم في كل مجالات الدراسة .
ولم تكن صلة الاب بشيوخه من اهل التصوف بعيدة عن ابنه فكان قد سماه " الفاتح " تيمناً بحبه لشيخه واثباتاً لصلة المريد وقربته لاهل الطريقة " السمانية " وتبريكاً للفتى كما ذهب اليه اعتقاد الوالد العاشق لاهل التجريد من شيوخ التصوف .
تتسارع خطى الزمان وتتمر الليالي والايام ويشتد عود الفتى ليبلغ سن الرجولة فتتكون شخصيته وتعلو همته في ادارك النبوغ والريادة مستمداً قوته من اعجاب والديه وتشجيعهم المستمر وممن كان حوله من الاهل والخلان والاصدقاء والمعارف ويصبح الابن بين ليلة وضحاها ذو رأي ومشورة وصاحب مبادارات ومحل ثقة كل من عرفه ممن حوله فكان اذا ماتكلم سُمع واذا ماأشار كانت لمشورته ورأيه احترام السامعين وقبول المشورين .
ولما لمع نجمه وسطعت اخباره بين معارفه ، كان لابد لكل هذا التميز أن يتوج بانجاز يثلج صدر والديه ويثبت للجميع ان ظنهم فيه لم يكن هباءً ، فقد أحرز درجة كبيرة في امتحانات الشهادة السودانية أهلته لدخول " أميز كلية " وهي كلية الطب ليبدأ شق طريقه الجديد في دنيا الحياة الجامعية ، وبالفعل لم يكن رصيده في الحقل الجامعي أقل تميزاً من المراحل الدراسية السابقة فقد كانت مسرحاً لإبداعاته وتميزه ايضاً خاصة وأنه لفت انتباه محاضريه بنقاشاته المستفيضة وملاحظاته الدقيقة في كل مايسأل عنه ويناقش فيه ، وكان ايضاً مرجعاً لزملائه ونظرائه اللذين لطالما قصدوه في كل حائرة تلم بهم وكل مادة صعب عليهم فهمها فكان هو من يشرح لهم ويعوض عليهم مافات منهم من المحاضرات والجلسات حتى ولو كان هو احد من فاتتهم المحاضرة ، فلقد سبق اقرانه في قوة ذكائه ودقة ملاحظته وسرعة فهمه واستيعابه .
لم تغب العاطفة عن مسرح حياته ولم تكن احلام الشباب وثورة الحب بعيدة عن كيانه فقد ملكت لبه وأسرت خياله وحولته الى العاشق الشاعر في تناغم فذٍ أظهر تكاملاً لعاطفة وعقلٍ يندر مايوجد لهما مثيل في التوافق ، فتكونت لديه مشاعر الوله حتى اشتد عشقه وولهه فكتب القصائد ونظم الاشعار لمن تربعت بين ثنايا قلبه ، حتى ان انتقائه لمعشوقته لم يكن عادياً فلأنه لم يبغي يوماً إلا الريادة ولم يرتض يوماً الا التميز فقد كانت معشوقته فتاةً مميزة وخاصة لطالما كانت محط أنظار الزملاء من نظرائه في كلية الطب ، فتسابق الكثيرون يطلبون ودها حين تكاثر طلابها من اهل الهوى ، الا انه كان من فاز بقلبها واهتمامها فاولاها مايولي العاشق لمعشوقته وسقاها من كأس الحب حتى امتلك قلبها وحاز على شغف فؤادها فصارت له وصار لها . فترجما قصةَ عشقٍ تحدثت عنها أروقة الجامعة وتناقلت اخبارها الالسن فلفتت أنظار القاصي والداني من طلابها وحازت على إهتمام الرواة والقاصة من أهل الحكايات وسرعان ماتحولت الى قصة الجامعة الاولى.
ظروف الحياة وأحوالها لم تكن تغيب عن ناظري الفتى فقد كان الوالد يشركه في ادارة دفة الحياة واثقاً في قدراته في تصريف الامور وقيادة المنزل بالرغم من أنه لم يكن الأكبر سناً فينال استحقاق انابة والده المغترب بعيداً ، الا ان نبوغ الفتى أهًله لتقلد منصب النائب الاول بعد الاب فاحترف تصريف شئون عائلته الصغيرة فجعله الوالد ايضاً على مال الاسرة لادارتها وتسييرها وفق ماتتطلبه الظروف المحيطة ، فكان لذلك الاثر الكبير في تكوين شخصيته القيادية وبروز قدراته في ادارة المسؤليات بالرغم من يفاعة سنه وانشغاله بدراسته .
لم يكن لكل هذا الزخم الانساني الفريد الذي مثل شخصيته المميزة أن يغيب عنه حب الترف والوجاهة والتأنق فكان لجزيل عطاء والده الاثر الذي انعكس جلياً في هيئته ولباسه وزينته فاختار اندر الثياب وارقى الحلل وامتلك النفيس من الثياب والنادر من المقتنيات حتى ازداد تميزاً لفت اليه الانظار الفاحصة والأعين المتفحصة فكثر من حوله الحساد والمشتغلين بأسرار الناس واحوالهم ممن لاهم لهم الا امعان النظر في أحوال البشر ، فنفث الشيطان في أعوانه من انسهم وجنهم فأورد النبل والسهام الحاسدة على الفتى الأعزل من اسلحة التحصن ، فحاكت له العيون المتلبسة بأنفس المتشيطنة سهماً قاتلاً ودسته خلف اظهارها والفتى الأعزل لايعي مقدار ماينتظره من اقدار واحوال .
..........
يدلهم ليل ذلك الصباح الشتائي البارد ، فيغيم سواداً ويتقلب الفتى ليلة ذلك اليوم المشؤوم وهو في مهجعه ,, يراود النوم الذي جافاه قسراً ويتسوله طلباً لراحة جسده المريض بالحمى ، وتنطلق اصوات الغربان تشق استار الليل ومااسودها من ليلة انكشف فيها قناع الشيطان ليشحذ سهمه تجاه الفتى ، ..... وينطلق السهم مع اعلى نبرة صوت مرعبٍ لغراب اسود .. فيشق استار الظلام ويعبر في السماء فيمخر عبابها فتمتلئ دموع العصافير المرتعبة والتي كانت ترقب السهم الاسود وهو يمر في السماء وفي جنح الليل وقد اعتادت أن ترى سهماً أسوداً كل ليلة يطارد فريسة في كل يوم ، ولاتدري الى اين يسقط هذا السهم المسموم ، فبكت على حال من سيصيبه السهم وسألت الله ان يستر ويرحم .. ويسهل العواقب على المصاب .
لم ينم الفتى تلك الليلة فلم يعد يدري ماذا اصابه من حال ، فقد غاب الظلام ولم ينم الفتى ليلته بل وماذا حدث ... لماذا كل هذا الالم الذي يعتري جسدي .. تسائل وتسائل لكنه لم يستطع ان يجد الاجابة فقد بلغ الامر وانتشر سم العين الحاسدة فيه فلم يذق من يومها طعم الراحة أو الاطمئنان .
اسودت الدنيا في عينيه واستيقظ ليلتها على انسان أخر لايعرف من هو ،، استيقظ على عالم يختلف عن ذلك العالم الوردي الذي عرفه وعاش فيه وأحبه وتمسك بالوان الجمال فيه ، وبدا كأنه انسان أخر من كوكب أخر لايعرف شيئاً عن العالم الذي استيقظ فيه ، فبات كانه لم يألف الناس يوماً .. وانكب على نفسه منطوياً... زاهداً في رؤية الناس وغاب اليوم بعد اليوم والاخر تلو الاخر حتى ألف عالمه الفردي وتقمص دور الغريب واندس قسراً موصداً ابواب غرفته وحياته ( التي كانت يوماً تسمى حياة ) على نفسه ، حاول أهله اثناءه من انطواءه ومساعدته في التخلص ممااصابه حينما ظنوا انها وعكة لن يدوم اثرها كثيراً ، ولم يكن احد يعلم انها ستكون رحلة طويلة طوووويلة .. في عالم النسيان وعالم الغربة ، .
وتمر أيام الفتى ويزداد بعداً عن عالمه الحقيقي وتشتد عليه الاحوال وتتبدل ، فينتشر السم الاسود في جسده ليغيره الى جسد مريض هزيل ، فتجحظ أعينه وتموت افكاره وطموحاته وتقبر أحلامه في طيات مرضه وتحمله الهموم وتتلاعب به كما الرياح اليمنة واليسرى فتقذفه رياح التغيير وتهوي به في مكان سحيق ليعيش سنوات طوال . . مع المرض والقلق والخوف والفزع والارتباك فيصاحب الليل ويناجي الصمت .. وتسهر اعينه الليل وينام نهاره ويغيب عن الناس ... وتتغير اوصافه لمن عرفه فتبكي اعين من يراه قبل مصابه وتدمع من فرط حزنها على حاله ... التي لايصدق من راها ...
ويمتحن والديه واخوته فيه .. فتصيب الوالدين امراض الحزن ،، ويهرع الوالد اليه ويقف أمامه و بين يديه بعد أن عاد من غربته الطويلة ليسأله قائلاً والدموع تسبق كلماته ( أين انت يابني !!! ) يسأل عن ابنه الذي لطالما فرح به وفخر به وسعد بنجاحاته وتميزة وطموحه وراقبه يوماً بعد يوم ولكنه لايجد مجيباً ..!!! .... دموعه تكاد تفتك به ... والام الحنون ترتجف من شدة هولها ومصابها لكنها تكتمها في قلبه المكلوم أملاً في شفائه ، وتمر رحلة طويلة من الدقائق والساعات والشهور والسنوات وتتغير الايام وتتبدل احوال الناس وتتغير الدنيا باكملها ويكبر الصغار ، ويتخرج زملائه ويتفرقون في ارجاء البسيطة كل مضى الى حياته وتقدم في دراسته حتى اصبح منهم المتخصصين في كل مجالات الطب ، مخلفين ورائهم قصة قديمة ، لايكادون يذكرونها الا كذكريات من الشباب الاول، .... وهو ... أين هو ... انه لايزال غريباً ... تدثر بلباس مهترئ ... وتغيرت ملامحه فلايكاد يعرفه أحد .....غير والديه المكلومين واخوته الذين فرقتهم الايام والسنوات وذهبوا ليعيشوا حياتهم ويشقوا طريقهم مع ازواجهم وزوجاتهم ... وتركوا ورائهم مجبرين جرحاً غائراً وحزناً قاتلاً يكاد يقتل هماً .. لانسان اصبح غريباً عنهم ، يتابع أحوالهم في صمت قاتل .. ..
لاتزال الدنيا في تغيرها واحوال الناس في تبدلها عبر الزمن ... ولكن الزمن توقف عند "الفاتح" من تلك الليلة السوداء المشؤومة التي غيرته ... ولايزال ينتظر الامل في عجز وصمت وحزن .. وموت عبر الحياة ...... ..
ربي اني مسنى الضر وانت ارحم الراحمين ......
الكاتب