مشاهدة النسخة كاملة : خواطر سودانية - جعفر عباس
admin
06-02-2005, 02:13 AM
جولة سودانية (1)
جعفر عباس
سأحدثكم لبضعة أيام عن السودان، وقد سبق لي كتابة 3 مقالات بعنوان "السودان الذي لا تعرفونه"، وحديثي هذه المرة يأتي من منطلق أن معظم العرب يكادون لا يعرفون شيئا يذكر عن السودان سوى بعض المعلومات المستهلكة مثل أنه أكبر الدول العربية مساحة، وأن به نهر النيل وأن عاصمته الخرطوم، وأن بعض سكانه جنجويد (عرب) وبعضهم أفارقة، وغالبيتهم جنجفارقة (مزيج من الجنجويد والأفارقة) ومن طريف واقع الخريطة السودانية أن أجزاءه المتاخمة للدول العربية وبالتحديد مصر والسعودية ليسوا عربا بالمرة، فالقبائل البجاوية في شرق السودان، في المنطقة المطلة على البحر الأحمر حاميون مسلمون، ويتكلمون لغة خاصة بهم عمرها آلاف السنين، وقبيلة الهدندوة هي أكبر تلك القبائل، وتستطيع أن تعرف ما إذا كان الرجل الذي تراه من على بعد ثلاثة كيلومترات هدندويا أم لا، بشعر رأسه، فالهدندوي يحمل على رأسه كل نصيبه من الشعر من يوم مولده إلى يوم مماته،.. بعبارة أخرى فإن الهدندوي يتميز بكثافة الشعر وتجد على رأسه مشطا خشبيا ذا ست أو سبع أسنان يسمى الخُلال، يستخدمها في "نكش" شعره حتى يصبح أكبر من حجم رأسه، وربما لهذا السبب أسماهم رديارد كيبلينغ شاعر الإمبراطورية البريطاني "فازي وازي".. ومن مفردات اللغة الهدندوية واسعة الانتشار كلمة "دبايوا"، وتقوم مقام "السلام عليكم"، وهناك قاسم مشترك بين البجاويين والايرلنديين فكل شخص يبدأ اسمه ب "أو" .. مثل أوهنري وأوهاري وأوكونور حتما ذو أصل ايرلندي، ومن الأسماء البجاوية واسعة الانتشار أسماء مثل أوهاج، أوشيك، أونور.. ولأن المرأة البجاوية منتجة فإن لها مكانة خاصة في المجتمع، وتجد الكثيرين من الهدندوة يحملون أسماء تدل على احترام إحدى سيدات العائلة، ومنها أبو آمنة وأبو عائشة وأبو نورة.. وأهم شيء في حياة الهدندوي بعد عائلته هو "عدة القهوة"، ففي الحل والترحال (وهم في معظمهم رحل يربون الإبل، والإبل البجاوية معروفة لدى العرب منذ آلاف السنين.. قال الشاعر الواجد قديم: ألا كل ماشية الخيزلى/ فدى كل ماشية الهيدبي/ وكل نجاةٍ بجاوية/ خنوف وما بي حُسن المِشى).. فهو يصنع قهوته بنفسه سواء كان مسافرا على ظهر ناقة أو حافلة.. ومن أغاني البجة الشعبية المعروفة في السودان واحدة يقول مطلعها: فنجان جبنة بي شمالو/ يساوي الدنيا بي مالو،.. ومعناه أن فنجان الجبنة (وهي الكلمة السودانية للقهوة وجاءت الكلمة من إبريق القهوة المصنوع محليا والذي يحمل ذات الاسم) .. ذلك الفنجان في اليد "الشمال" للهدندوي تساوي الدنيا بكل ما فيها من مال.. والبجة يتكلمون لغة عربية مكسرة، بدرجة أن ينطقوا النصف الأول من الشهادة "لا إله إلا الله" هيلا هيلا الله، وهي لا تختلف كثيرا عن نطق معظمنا لعبارة إن شاء الله "إنشاللا"، والبجاويون العاملون في مجال تربية البهائم، يحملون السيف أينما ذهبوا رغم أنهم قوم مسالمون... ولكن ربنا يستر .. فهناك حركتان بجاويتان مسلحتان في شرق السودان لديهما مطالب لا تختلف كثيرا عن مطالب أهل دارفور وجنوب السودان.. والمشكلة هي أن أعضاء هاتين الحركتين، تخلوا عن تقاليد قبائلهم واستبدلوا السيوف بالبنادق والمدافع، والأمل كبير في أن الحكومة ستتوصل إلى اتفاق معهم قبل أن تجد واشنطن ذريعة للتدخل في شرق السودان أيضا.
admin
06-02-2005, 02:13 AM
خواطر سودانية (2)
جعفر عباس
قلت بالأمس إن المناطق السودانية المتاخمة للدول العربية وبالتحديد السعودية ومصر، غير ناطقة بالعربية، ففي الشرق المطل على البحر الأحمر نجد البجة، وهم "شعب" عريق يتألف من عدة قبائل، وفي الشمال المتاخم لمصر نجد النوبيين الذين أنتمي إليهم وهم أصحاب واحدة من أعرق الحضارات في التاريخ، والآثار المنتشرة من شمال الخرطوم إلى شمال أسوان في مصر شاهدة على ذلك.. والنوبيون أيضا حاميون (وأخشى أن يفسر جورج بوش الثاني هذا على أنه دليل على معاداتهم للسامية) وهم أيضا "شعب" وعرق وإثنية وليسوا قبيلة، بل إن القبلية غير معروفة في منطقة النوبة، رغم أن لغتهم انقسمت إلى ثلاث لهجات بينها قواسم كثيرة مشتركة، وهم كما قلت في مقال سابق غير النوبة المقيمين في إقليم جنوب كردفان الملاصق لجنوب السودان، والذين رفع بعضهم السلاح إلى جانب جون قرنق، وشملت اتفاقية السلام الأخيرة منطقتهم ببنود تعطيها وضعية خاصة.. ولأن النوبيين والبجة يرتكبون جرائم بشعة بحق اللغة العربية، فإن أهل السودان الأوسط يؤلفون عنهم مئات النكات سنويا: في أحد المقاهي سأل الجرسون نوبيا قال إنه يريد "هاجة (حاجة) بارد": آيسكريم ؟ فرد النوبي: مش آيس، فبسبب العجمة حسب أن الجرسون يسأله: عايز (آيس) كريم؟ فنحن ننطق حرف العين ألفا والزاي سينا، وهكذا فإن اسم عزالدين يصبح عندنا "إس الدين) وزينب عبد العزيز تصبح سينب أبد الأسيس.. وبالمناسبة فإن كل السودانيين يسمون المشروبات الباردة "حاجة باردة".. تماما كما يقول الخليجيون: أعطنا شي بارد! وكما أن للبجة في شرق السودان أسماء مميزة فإن لأهلي النوبيين أسماء مميزة، والغريب في الأمر هو أن الأسماء النوبية البحتة وقف على النساء، فالرجال النوبيون يحملون أسماء "إسلامية" وعربية ولكنهم يتميزون باحتكار أسماء مثل دهب (بالدال) وصالح وعبدو وداود (النوبيون ينطقون صالح.. سالي لأن حرف الصاد يسبب لهم التهابات في الحلق والغدة النخامية)، ولا وجود لحرف (صوت) الحاء في اللغة النوبية، فيستبدلونه بالهاء أو الياء، فمحمد عن النوبيين إما مهمد أو ميمد.. أما الأسماء النسائية النوبية التي لا تزال شائعة فمنها: هجلة، فرين، دارا، جوقة (يعني من تمارس مهنة الطحن) وشيره (ويعني الماشطة)، مياسة (وليست له صلة بالكلمة العربية ماس يمس ومنها مياسة القد)، وجاره (بفتح الراء ولا صلة له بجارة العربية المشتقة من الجوار)، وأليسا.. (ولا صلة لهذا الاسم بأي أنثى تمارس الشخلعة عبر التلفزة الفضائية)، وهُوللا (وهو ليس تحريفا لاسم خوله العربي كما يحسب البعض).
واللغة النوبية سهلة التراكيب والتعلم، رغم أنها لم تعد مكتوبة، فليس فيها تذكير وتأنيث وليست بها "مثنى".. مثلا: إر (بكسر الألف تعني المخاطب المفرد "أنت" ذكرا كان أم أنثى) في حين أن "أُر" بضم الألف ترمز إلى الجماعة المخاطبين.. وقياسا على هذا ف "أَي" بفتح الألف هي ضمير المتكلم المفرد "أنا" ووضع ضمة على الألف يجعلها بصيغة الجمع.. شيء آخر يميز النوبيين: هم الوحيدون الذين لم تشهد منطقتهم ظهور تنظيمات سياسية جهوية مناطقية أو انفصالية.. ليس لأنهم وحدويون ولكن (وهذا سر بيننا) لأنهم يعتبرون السودان بأكمله ملكا لهم، ويعتبرون بقية السكان ضيوفا "دمهم تقيل" طالت إقامتهم وليس من حسن الأدب طردهم.
admin
06-02-2005, 02:14 AM
خواطر سودانية (3)
جعفر عباس
كل عام وأنتم بخير، ويفترض أنني اليوم في السودان، وهذا ما يفسر هذا المسلسل الذي تقرؤون حلقته الثالثة اليوم، فمنذ اللحظة التي أقرر فيها السفر إلى السودان، ولا شغل لي سوى كل ما يتعلق بالأهل والوطن عموما، وسأحاول قدر جهدي التحدث عن جوانب لا يعرفها العرب بصفة عامة عن السودان وأهله، وكان المقالان الأخيران في هذه السلسلة يتعلقان بالتركيبة السكانية، ولا أزعم أنني متبحر في هذا الموضوع، فالحديث عن القبائل السودانية أصعب من الحديث عن الأحزاب السياسية في العراق المعاصر.. ولا أعرف على وجه التحديد كم قبيلة في السودان: ربما ألف أو أكثر وربما بضع مئات، ولكنني أعرف أن هناك أكثر من مائة لغة في السودان، معظمها في جنوب السودان، الذي تعتبر أكبر قبائله هي الدينكا الذين ينتمي إليهم العقيد الدكتور جون قرنق دي مبيور الذي كان حتى قبل عشرة أيام "متمردا خائنا خارجا وعميلا لإسرائيل وأمريكا" وسيصبح خلال أسابيع صاحب الفخامة النائب الأول لرئيس جمهورية السودان، فسبحان مقلب الأحوال والدينكا يتسمون بطول الذراعين والساقين ومتوسط طول الدينكاوي متران، ومن ثم فقد أنجبوا أفضل لاعبي كرة السلة في تاريخ السودان، ومنهم مانوت العملاق الذي لعب في دوري السلة الأمريكي وصار مليونيرا.. ورحل عن دنيانا شاعر سوداني كبير اسمه صلاح أحمد إبراهيم، الذي كتب قصيدة يهجو فيها شخصا اسمه "مكاوي" ويتهمه بالوصولية والانتهازية: سبحان الله .. أخونا مكاوي/ من بعد خمولٍ.. صار جليسا للوزراء/ ويداه كساقي دينكاوي/ تمتد إلى كل الأشياء!! وهناك في جنوب السودان قبائل ذات ثقل كبير مثل النوير والشلك والزاندي واللاتوكا والتبوسا والأنواك.. ولمعظمهم علامات (وسم) في الوجوه، يحدد الانتماء القبلي، فبعضهم يعقد جلد الجبهة على هيئة كرات صغيرة من اللحم فتجد فوق حاجبيه صفا من تلك الكرات، بينما البعض يكسر بعض الأسنان الأمامية للذكر إيذانا بدخوله عالم الرجولة (وهو ما يعادل الختان عند قبائل الشمال المسلمة).. وقبيلة أخرى يرسم أفرادها على جباههم خطوطا متوازية.
ذلك النوع من الوسم كان شائعا في شمال السودان حتى ستينات القرن الماضي، ولكن على الخدود، فتجد شخصا على خده ثلاثة خطوط رأسية (111) فتعرف أنه بجاوي أو نوبي، أما الشايقية فكانت الخطوط الثلاثة عندهم أفقية، وقبيلة الجعليين اشتهرت بالوسم (نسميه في السودان الشلوخ لأنها تكون بشلخ الخد بشفرة حادة) على هيئة حرف اتش الإنجليزي أو حرف تي الانجليزي.. والغريب في الأمر أن ذوي الشلخات الإنجليزية هؤلاء هم الأكثر اعتزازا بعروبتهم ويدعون الانتماء إلى بيت النبوة وأن جدهم هو العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم.. وذات مرة داعبتهم وقلت إن هناك روايات تنفي نسبهم إلى العباس وتنسبهم إلى أبو نواس،.. ومنذ يومها وأنا ممنوع من دخول منطقتهم التي تقع شمال الخرطوم.. الجعليون لا يتحملون الهزار والغشمرة في ما يتعلق بحسبهم ونسبهم، ولهم ثارات وغارات ملحمية تؤكد اعتزازهم واعتدادهم بأنفسهم.. وإذا تم تقسيم السودان - لا قدر الله - فسنقيم دولة نوبية ونعيد الجعليين إلى أرض "أجدادهم" في الحجاز،.. ولكن وبما أنهم شديدو الذكاء فقد يطالبون بتوطينهم في المنطقة الشرقية في السعودية حيث "أرامكو" بزعم أن أحد أجدادهم استقر بها في طريقه إلى العراق... وعلى أهل الشرقية أن يقنعوهم بأن جدهم استقر في الفلوجة في العراق.
admin
06-02-2005, 02:15 AM
العيد الخرطومي (1)
جعفر عباس
أعتذر عن توقفي عن الكتابة لبضعة أيام، فقد كنت في السودان الشقيق، لزيارة أمي وأهلي وقضاء عيد الأضحى معهم، وشاء القضاء ان أصل إلى الخرطوم في مساء يوم العيد نفسه، بعد أن اضطربت حساباتي وحسابات غيري بعد أن أعلن في "اللحظات الأخيرة" أن العيد سيكون يوم الخميس (قبل الماضي)، وليس الجمعة كما كنا نتوقع، وفي مطار الخرطوم لم أجد أثرا للسلام الذي ظل حديث وسائل الإعلام على مدى نحو شهرين: دخلت صالة القادمين وأحسست بأن الحرب التي انتهت في جنوب البلاد، ستشتعل في المطار، فقد كان في الصالة مئات الأشخاص، وكل مجموعة منهم تتعارك مع حفنة من الموظفين الذين يرتدون ملابس شركات الطيران.. وأول ما فكرت فيه هو الهرب من المطار، وكانت هناك طائرة إثيوبية جاثمة على مقربة من صالة القدوم واقترحت على أم الجعافر أن نطلب اللجوء السياسي في إثيوبيا فرارا من جحيم المطار، ولكنها كانت أكثر عقلانية وقالت إن عليّ أن أستغل سواد بشرتي وأعلن عبر المايكروفون الداخلي أنني عضو في الحركة الشعبية لتحرير السودان التي يتزعمها الدكتور جون قرنق وأضمن بذلك أنه ما من شخص سيتجرأ على الاقتراب مني.. وبينما نحن منزوون في ركن في الصالة اقترب مني جماعة أعرفهم يعملون في قطر والكويت والإمارات، ولم أستبشر خيرا بذلك، فقد كانت عيونهم تقدح شررا.. السوداني - بصفة عامة - طيب ومسالم، ولكنه ما إن يغضب (وهو عموما سريع الاشتعال) حتى يتحول إلى وحش كاسر!.. وقف الجماعة قبالتي، ولم يقولوا كل عام وأنت بخير أو أي صيغة من صيغ التحية المتعارف عليها، بل انفجروا بصوت واحد: شايف المساخر والبهدلة دي؟ يعجبك حالنا؟ قلت لهم في أدب شديد إنني لست عضوا في أي حزب سياسي ولست مسؤولا عن اتفاقية السلام ولا فشل أو نجاح مشاريع التنمية،.. وإنني أيضا من المهمشين الذين لا كلمة لهم في أي شأن من شؤون البلاد! ولكنهم قاطعوني بفظاظة: سلام إيه وزفت إيه؟ وصلنا البلاد منذ يومين ولكن أمتعتنا لم تصل وصلينا صلاة العيد بملابس مستعارة.. بل إن أهلنا استقبلوا العيد بملابس قديمة لأننا كنا قد وعدناهم بملابس جديدة وجميلة، وضاع نصف إجازاتنا ونحن نأتي إلى المطار بحثا عن أمتعتنا! أكتب عن هذا العبث! قلت لهم: بالتأكيد أتيتم الخرطوم على متن طائرات عربية! قالوا: نعم،.. قلت: "تستأهلوا يا أغبياء".. مما بين نحو ثلاثين شركة طيران عربية هناك فقط اثنتان أو ثلاث تحترم ركابها وتعاملهم كبشر.. أنا شخصيا أفضل أن أسافر إلى الخرطوم عن طريق جوهانسبيرج لتفادي التعامل مع شركات طيران عربية معينة!.. على كل حال ربك ستر ووصلت أمتعتي وغادرت المطار في زمن قياسي لا يتجاوز الأربع ساعات.. وكانت حركة المرور سلسة ووصلنا البيت الذي يبعد عن المطار بنحو عشرين كيلومترا بعد ساعة ونصف الساعة.. وكنت من قبل أحسب أن دول الخليج هي الرائدة عالميا في مجال الفوضى المرورية، ولكن - وبدون فخر - فإننا في السودان نتفوق عليها في هذا المجال، وربما نأتي في المرتبة الثانية بعد لبنان حيث لا يعترف أحد بإشارات المرور.
admin
06-02-2005, 02:16 AM
العيد الخرطومي (2)
جعفر عباس
رغم أن طائرتنا غادرت الدوحة في موعدها صباح يوم عيد الأضحى الماضي، إلا أنني لم أصل بيتنا إلا في نحو الثامنة مساء.. يعني لو سافرت إلى نيويورك لقضاء العيد هناك لوصلت إلى الفندق في مدة أقصر من تلك التي تطلبها سفري من الدوحة إلى بيتنا في الخرطوم، وكان ذلك لأن شركات الطيران العربية نقلت آلاف الركاب إلى الخرطوم بدون أمتعتهم فاقتحموا المطار واحتلوه محتجين، وتلك من بشائر التحول الديمقراطي عندنا: حرية الاحتجاج باتت مكفولة، ولكن شركات الطيران العربية تبقى "عربية"، سميكة الجلد لا يؤثر فيها احتجاج أو شكوى! وبمجرد لقاء الأهل كان تعب الرحلة قد زال.. وعلى طول الطريق من المطار إلى البيت كانت رائحة الشواء تتسلل إلى خياشيمي حتى حسبت أن الخرطوم بأكملها تحولت إلى مطعم للباربكيو (وهو اسم الدلع للحم المشوي.. لاحظ أن كلمة شواء أخف على اللسان والأذن من باربكيو ولكن للعولمة أحكام!)،.. ودخلت على أمي وكان العتاب والبكاء ثم الأوامر الديكتاتورية المعتادة بعد أن وضعوا صينية الطعام أمامي: خذ هذه.. وهذه.. وتناول شيئا من هذا الصحن وذاك! قلت لها: شبعت يا يو (أمي باللغة النوبية)، وليس في بطني مكان للمزيد من الطعام،.. ولكنها قررت أنني "هيكل عظمي" وبحاجة إلى تغذية جيدة، وهذا موال سمعته مئات المرات.. ثم أمرت بالشربوت، وهو منقوع التمر ويشربونه في السودان في عيد الأضحى بزعم أنه يمنع الاضطرابات الهضمية التي يسببها الإكثار من اللحم! طيب يا أمي، لماذا تسببين لي اضطرابات هضمية (وأنا مش ناقص) ثم تسقينني ما يمنعها (بعد حدوثها)؟ لا فائدة من مثل هذا المنطق مع أمي لأنها لم تسمع بالعولمة أو كوندوليسا رايس التي صارت وزيرة خارجية الولايات المتحدة منذ بضعة أيام وقالت إن أول زيارة خارجية لها ستكون إلى السودان.. طبعا بغرض أن تُرينا العين الحمراء! وربما كان الشربوت يزيل عسر الهضم عند البعض ولكنه يسبب لي أشياء لا أتمناها حتى لأرييل شارون،.. وشربت الشربوت ورجلي فوق رقبتي، ولزمت دورة المياه لثلاثة أيام لأن قولوني متحضر ومتعولم ولا يقبل الأشياء "البلدية".
وكان أجمل ما في عيدي الخرطومي هو أنني لم أشاهد التلفزيون قط ولم أقرأ جريدة.. وناشرو الصحف في السودان حساسون ومتحضرون ويحترمون مشاعر الجمهور ولهذا فإن الصحف السودانية توقفت عن الصدور خمسة أيام متتالية، مما ساعد على تهدئة قولوني، فالشربوت إذا اجتمع مع وسائل الإعلام تكون النتيجة كارثة هضمية.. يا للسعادة: 8 أيام لا تسمع فيها خطبة لزعيم عربي ولا تعرف ماذا فعل الله بإياد علاوي ولا حنان عشراوي، ولا تسمع مريم نور وهي تتكلم عن فوائد وجبة الفطور بالبيتي فور.. والأهم من كل ذلك أن تستمتع بالتوقف عن الكتابة.. تنام وتصحو دون أن تفكر في "موضوع" أو مدخل لمقال.. واستمتعت أيضا بالحديث المتواصل باللغة النوبية بعد أن كاد لساني يصدأ من ممارسة الكتابة والكلام بلغات "أجنبية".. وأقول لكم ما قلته عشرات المرات في الخرطوم خلال العيد: كريق آنجا نَلَنا .. وهي دعاء نوبي بأن يعيد الله العيد عليكم وأنتم أحياء.
admin
06-02-2005, 02:16 AM
العيد الخرطومي (3)
جعفر عباس
لم أكن سعيدا فقط بلقاء أمي في الخرطوم في عيد الأضحى، بل سعدت أيضا بلقاء حماتي التي هي أم زوجتي، فهي سيدة فاضلة طيبة القلب، لا تحشر أنفها في أي شأن يخص الآخرين، بل هي منحازة إلى جانبي في مواجهة أم المعارك (أم الجعافر)،.. بعبارة أخرى هي نقيض شخصية الحماة النمطية "الحشرية"، وأعتقد أن "الحماة" عموما مظلومة، لأن هناك اعتقادا شائعا بأنها سبب المشاكل بين الزوجين، والغريب في الأمر أن الغالبية تصور أم الزوجة على أنها الأكثر شراسة وشرا، مع أن أم الزوج (في مجتمعاتنا على الأقل) هي الأكثر ميلا للتسلط، ومعاملة الزوجة بقسوة من منطلق أن لحم أكتافها من خير الزوج،.. وسأشرح للذين واللواتي يشكون من الحموات طريقة مضمونة للتخلص منهن دون التعرض للملاحقة القضائية، وهذه الطريقة توصلت إليها امرأة صينية اسمها لي لي، تزوجت عن حب، وبسبب ظروف زوجها المادية وجدت نفسها تعيش مع حماتها في بيت واحد، ولم يكن يمر عليها يوم دون أن تدخل في ملاسنة أو مشاجرة مع أم زوجها، حتى فاض بها الكيل، ولجأت إلى أحد أقاربها ويدعى هوانج، وكان بارعا في العلاج بالأعشاب، وطلبت منه مساعدتها في التخلص من حماتها التي جعلت حياتها بؤسا مقيما، وأبلغها هوانج بأنه يعرف نوعا من السموم يقضي على من يتناوله في دقائق، ولكنه نصحها بعدم استخدامه لأن الشبهات ستحوم حولها فور وفاة حماتها، ونصحها باستخدام سم بطيء المفعول، يؤدي إلى الوفاة بعد عدة أشهر إثر تراكمه في الجسم، وشرح لها كيف تضيف ذلك السم إلى طعام وشراب حماتها بجرعات صغيرة محسوبة، وكي تبعد عن نفسها أي شبهة بعد وفاة الحماة بالسم البطيء، لأن جميع الجيران والأهل يعرفون انعدام الود بينها والحماة، نصح هوانج الزوجة بأن تقوم بتطبيع العلاقات مع حماتها، وتتحمل إساءاتها وتبتسم في وجهها وتحسن معاملتها.
وعادت لي لي إلى البيت سعيدة بالسم الذي سيقضي على حماتها النقناقة بعد بضعة أشهر، وكلما صاحت الحماة: هاتي شاي يا بنت يا مقصوفة الرقبة، ردت عليها بابتسامة: حاضر يا ستي، يا نور عيني، يا بعد قلبي وكبدي (وهي تقول سرا: الله يهري كبدك ويوقف قلبك)، ثم وضعت قليلا من السم في الشاي وقدمته لأم زوجها وهي تنحني أمامها في أدب، وظلت لي لي على هذا المنوال نحو ثلاثة أشهر، لاحظت خلالها أن حماتها صارت، تستجيب لأدبها وتهذيبها المتكلف وتعاملها بلطف، وبمرور الأيام صارت العلاقة بينهما ودية، وصارتا تعاملان بعضهما البعض برفق ومودة غير متكلفة، بل إن لي لي أحست بأنها صارت تحب حماتها وتتمنى لها الخير، فهرعت من ثم إلى هوانج لتطلب منه المساعدة في إبطال مفعول السموم التي أعطتها لحماتها على مدى عدة أشهر، وشرحت له كيف أنها صارت تبادل حماتها حبا بحب،.. ضحك هوانج وقال لها إن خلطة الأعشاب التي أعطاها لها كي تسمم حماتها كانت في واقع الأمر "فيتامينات مقوية" وأضاف: السم كان في عقلك يا لي لي، وها أنت قد عرفت أن الكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة تلين الصخر فعودي إلى بيتك مطمئنة إلى أنك تخلصت من السم الذي كاد يقضي على حياتك الزوجية.
أبوبكرحامد
06-02-2005, 04:59 AM
تشكر يا أبوبكر محمد المبارك على هذه الروائع ، وفى انتظار المزيد.
مع مودتى
ود الماذون
aborawan
06-02-2005, 05:13 AM
تشكرات للادارة
خالد حمد موسى
06-02-2005, 06:58 AM
مشكوراستاز ابوبكر علي هزة الروائع..
ولك كل الــــــــود والاحـــــــــــترام.....
زيكو منيب
06-02-2005, 08:38 AM
مشكوراستاز ابوبكر علي هزة الروائع..
ولك كل الــــــــود والاحـــــــــــترام.....
admin
08-02-2005, 08:18 PM
مشكورين جميعا على المرور
HaSsOoN
09-02-2005, 06:50 AM
يديك العافيه استاد ابوبكر على الروائع والابداعات الرنانه واتحفنا بالمزييييييييد
بابكر
09-02-2005, 11:16 AM
تشكرات للادارة [/QUOTE]
حسن سادة
23-04-2007, 11:01 PM
القومة ليك يا برانتود ويا من تلهج عسلاً مقطراً
فتسعد القلوب الحياري وتمحو الأحزان العالقة
ويقيني إن خواطرك الشيقة تجعل الأبكم
يتشدق بكلمات الإعجاب لهذه الدرر التي تنثرها هاهنا
" بنجد أَجَوقا بَنجَا ،،، مُمُركَا بنجكري"
Powered by vBulletin® Version 4.2.5 Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir