العاقب مصباح
22-10-2010, 10:29 AM
http://img228.imageshack.us/img228/9749/espoir17ou.jpg
بعمره الذى يقبع فى الحادية والخمسين, ما زال يكافح ويلعن الأمل الذى حدثه به يوماً محاميه حين أدخلوه لأول مرة إلى السجن , كانت قسماته تائهة تماماً لدرجة أنك لا تفهم أحزين هو أم سعيد , تستطيع أن تفهم من ملامحه شيئاً واحداً , أنه غير مبال بما يحدث حوله , الجميع تظهر على ملامحهم أحداث اليوم والأيام السابقة والقادمة , فقط هو من يعش بلا ملامح ,, رجل بلا ملامح تماماً ,أو قل , بملامح أقرب ما تكون إلى الرتابة .
كان هو الشخص الوحيد القابع فى السجن , لم يكن بسبب جريمة إرتكبها , ولكن حظه العاثر جعل منه مجرماً , حظ أنه غريب عن هنا , الغرباء ينالون جزاءهم أكثر من المعتاد , هكذا كان يؤمن .
يقع السجن فى أطراف المدينة , تتعالى جدرانه الإسمنية السميكة بصورة تمنع الهاربين من التفكير , مجرد التفكير فى إيجاد وسيلة للهرب . الجنود الذين يحرسون السجن يزيدون عن الخمسين بقليل , يتناوبون فى الحراسة ويعزفون موسيقاهم ويدخنون , وتصرف لهم الرواتب , بل وفى أحايين أخرى تتم ترقيتهم بناء على عملهم الذى يقومون به . كانت جدران السجن مطلية باللون الأحمر القاتم , وكانت غرفه الثمانية والعشرون مرصوصة فوق بعضها وكأنهم يريدون تكديس السجناء فوق بعضهم البعض دون الشعور بأن السجناء أيضاً يحتاجون لمتنفس , مثلهم وبقية البشر أيضاً , البشر الذين لا يُخطئون , توجد فتحات صغيرة يتناول بها السجناء أكلهم وشربهم , وبعض البريد بعد أن يقرأه رئيس السجن ويحذف ما يريده ويترك فى بعض الأحايين فقط السطر الأول .
السجين الوحيد منذ 15 عاماً لم يكن يشكو سوء المعاملة , ولم يكن أيضاً يذكر حسنها , فالأمر لا يحتمل الشكوى والتضجر ولا الشكر .
كان اليوم الاول لدخوله السجن يبدو سخيفاً بعض الشئ , إذ تم سجنه بناء على بلاغ كاذب بالإعتداء على زوجة أحد المقربين من ضابط الشرطة , أعتداء دون أدلة , لأنه لم يكن موجوداً حين وقعت الواقعة تلك , كان اليوم الأول لوصوله إلى هناك هو اليوم التالى لوقوع الجريمة , ولأنه الغريب الوحيد فلابد من أنه هو الفاعل , أبناء المدينة دوماً شرفاء ولا يفعلون الذنوب , تمت محاكمته محاكمة عادلة , كانت المحاكمة عادلة لدرجة أن رئيس القضاء هناك كلف محامياً متواضعاً ومبتدئاً للدفاع عنه ., وأودع فى السجن وسط شعور بالتأفف من الحضور , فقط محاميه هو الوحيد الذى لم يتأفف لعلمه بأن ما قام به من دفاع كان كفيلاً له بأن يأخذ مبلغاً محترماً من المحكمة نفسها . وأودع كأول سجين فى السجن الجديد , بل وقل السجين الوحيد الذى سيظل فى السجن , لأنه فقط غريب عن هنا .
حكم عليه بالسجن لعام كامل , وبعد شهور ثلاث كانت هنالك جريمة سرقة , سرق المتجر الذى يقبع بجوار منزل ضابط السجن , ولم يتم العثور على الجانى , الجانى لابد أن يكون غريباً . ولما لم يكن هنالك من أحد غيره فقد تم توجيه التهمة له , حاول الإعتراض على هذا الإتهام ولكن دون جدوى , المحامى الذى دافع عنه فى المرة الأولى ها هو قد أتى يحمل حقيبته السوداء وبيده كومة أوراق لا يعلم كنهها , وتمت المحاكمة على عجل , سنة أخرى له تُضاف لما تبقى من عقوبته السابقة , نزلت دموعه بشدة حين ذاك , إذا لاح فى خياله قرب إنتهاء عقوبته ولكن الوقت يزداد إتساعاً قبل السفر وإطلاق السراح , محاميه قال له فى هذه المرة أيضاً :- لا تيأس سأقوم بعمل إستناف , وسيُطلق سراحك , سمع منه هذه الجملة فى المرة الأولى التى دخل فيها السجن ولم يدرى أقام بعمل إستئناف أم لا , بالتأكيد لم يقم بذلك لأنه لم يُدعى للمحاكمة مرة أخرى .
كان يفقه القانون جيداً , ولكن لأنه غريب لم تتح له فرصة إبداء وجهة نظره الخاصة , كان يعلم جيداً بحتمية توفر أدلة , بضرورة وجوده فى موقع الجريمة , للجريمة أركان ولم تكتمل فى مثل حالته , ولكن ما عرفه عن القانون لم يكن كافياً لكى تدرأ التهمة عنه , لأنه بصراحة , غريب , والغريب ليس لديه فرصة ان يقول شيئاً .
لم يمض إسبوع حتى حدثت مشاجرة فى إحدى البنايات , على إثرها توفى أحدهم , لم يكن المتوفى غريباً , كان من أهل البلدة , ولم يتم العثور على الجانى , كان هنالك شاهد واحد , وحين سأله القاضى عن الشخص الذى قام بالقتل , قال بدون تردد :- إنه الغريب , أُحضر الغريب من السجن المجاور لقاعة المحكمة , وأحضر المحامى أيضاً , تم توجيه التهمة إليه , ودون إعطاء فرصة الدفاع له , فقط المحامى قام ليتحدث كالعادة ويطلب من عدالة المحكمة تخفيف العدالة مراعاة لحالة الجانى وكيله , أصدر القاضى حكمه بالقصاص من الجانى أو السجن 5 سنوات , كان السجن أخف وطأة على الأقل من الموت شنقاً هكذا قال المحامى فى نفسه , أختار المحامى بدلاً عنه السجن , ولكنه طمأن الغريب بأنه سيقوم بعمل إستئناف كما فى كل مرة , وتم ترحيله للسجن .
لم يكن يسمح للسجين بالتحدث مع مع الجنود المكلفين بالحراسة , لأنه فقط غريب , كانت الأيام تمر مثقلة على كاهله , كان ينوء بكل يوم يمر , لم يكن يفعل شيئاً فى زنزانته , ولم يُسمح له بفعل شئ لأنه فقط غريب .
أحد الذين يبحثون عن فرصة للتقرب من الحاكم بثه خبر أن هنالك ثمة من يفكرون للقيام بثورة , ثورة تقضى على حكمه , ثورة تسعى للتخريب , وبث الزعر والهلع بين سكان المدينة الآمنون , كلف الحاكم الكثير من العيون لكى تبحث فى أمر الثورة , ومن هو قائدها .؟ بعد بحث مضنى لم يجدوا إثراً لذلك الخبر , ولكن العودة للحاكم بقرار أنهم لم يجدوا أحداً ليثور سيكون خطأ لا يُغفر , هنالك حل واحد فقط , إنه هو بعينه , الغريب .
حينها أمر الملك بأن يتم القبض على الغريب , تحركت قوة مسلحة من الشرطة للقيام بالأمر , أعلن حظر التجول فى ذلك اليوم , هدأت المدينة تماماً , فقط صوت العسكر هو ما كان يتحرك بدباباتهم وسياراتهم المدرعة , تحركت جميعها صوب السجن , وقامت بتشكيل نفسها على مجموعات للقبض على الرجل الثائر , كان هو بداخل زنزانته أُقتيد بكل بساطة , بل لو لم يُطلب منه ذلك لتحرك صوب الشارع وأستأجر عربة لتقله إلى المحكمة , المكان الوحيد الذى يعرفه فى هذه المدينة , تحركت سيارات الشرطة وكل سيارة بها عدد من الجنود يتحدثون بأجهزتهم اللا سلكية بأنهم قد قبضوا على الجناة , وهم فى طريقهم للمحكمة , لم يكن ثمة جناة , فقط كان الغريب .
قاعة المحكمة مكتظة أكثر من ذى قبل , حضر الناس بأعداد هائلة لرؤية ذاك الشخص الى ينوى القيام بثورة , إى قوة يمتلكها عقل كهذا ,,؟ هم يحكمهم نفس الحاكم منذ سنوات تجاوزت الأربعين سنة , ولم يشكو من شئ ولم يتمردوا فكيف تجاسر ذلك الغريب للقيام بهذا الأمر , حقاً إنه شخص منتحر من يفكر فى ذلك بل ويستحق العقاب .
عند دخوله للمحكمة وجد أن محاميه يقف فى نفس مكانه , بيده حقيبته السوداء اللامعة , وكومة أوراق قديمة , هى نفسها الأوراق تلك لم يشأ تغييرها حتى , رغم مرور تلك السنوات .
تلا القاضى عليه جريمته , ودون أن يتحدث المحامى هذه المرة تحدث الغريب , أقر بانه هو من فعل كل شئ فى المدينة , وأن الثورة كانت ستقوم لولا جهود حراس الحاكم الشرفاء , وإنه نادم على فعلته ( هذه الجملة كان يقولها محاميه ) وإنه يستحق العقوبة , الندم وحده لن يفيد فى شئ , لابد من حكم يُصدر وإلا سيفقد وظيفته بسبب غريب أصدر القاضى حكمه بسجنه 20 سنة , أخبره المحامى كعادته بانه سيقوم بعمل إستئناف فقط يجب عليه ان لا ييأس , أومأ الغريب برأسه موافقاً على شئ لن يحدث أبداً .
ذهب الغريب ناحية بوابة المحكمة طائعاً , وأتجه ناحية العربة التى تعود أن يُحمل فيها , ولكن رجال الشرطة مخلصون فى عملهم , أخذوه وأحاطوا به , ولم يدروا أن الغريب لن يفكر فى الهرب , فقط لأنه غريب .
تجاوزت السنوات التى يمكن ان يقضيها فى السجن حدود الزمن الذى كان مسموحاً له بالحلم , كانت الأحلام قصيرة , قصيرة كأعمار الغرباء , أصبح هو والسجن صديقين مقربين , لم يكن يشكو من طول فترة سجنه , ولا عن شوقه لزوجته , فقط كانت ستكون عقوبته أخف وطأة لو أنه تحمل أن يكون معها فى غرفة نوم واحدة . غير أنه بين الفينة والأخرى يتذكرها , تطوف بخياله , رغم العذاب الذى كان يجده منها غير أن لها بعض الصفات الجميلة , على الأقل كانت جميلة جداً فى مظهرها الخارجى . تُرى كيف سيكون حالها الآن ؟ هل ستكون متزوجة بذلك الموظف البدين ؟ آءمل ذلك , فغيابى عنها ذنب ليس يغتفر .
حين أدخلونى السجن بسبب مطالبتى بالعدالة , وأن يحاكم الغريب بالصورة التى تضمن حقوقه كإنسان كان هو الوحيد الذى رحب بى فى السجن , إذ لم يكن ثمة سجين آخر , جاورته فى الزنزانة المقابلة له , ولم يسمح لى بأن أكون معه فى نفس الزنزانة , فقط لأنه غريب , الغرباء يجب أن لا يختلطوا بنا نحن .
أُتيحت لى فرصة أن ألتقيه مرة واحدة , كان ضابط السجن فى مزاج عال هذه المرة , كنت قد حاولت معه كثيراً أن يسمح لى بالجلوس سوياً مع الغريب , قلت له أننى أبحث عن الحقيقة , حقيقة أن هنالك جرائم أخرى ستُرتكب , ولابد من أن نجد الجانى , وإذا لم يكن الغريب هو الجانى فلابد من وجود جناة آخرين , المدينة أضحت ملأى بالغرباء ولابد من إيجاد طريقة نملأ بها السجن أيضاً , ألا تُريد يا رئيس السجن أن تمتلئ زنازينك بهم , إنه لفخر لك , لابد أن يمتلئ , خُلقت السجون لتمتلئ لا لتبقى فارغة إلا من غريب وانا فقط , أسمح لى , وسأساهم فى ذلك , أبناء المدينة دوماً متحدون , ليس كالغرباء .
حينما لمحنى الغريب أقترب منه إرتسمت فى وجهه غائب الملامح بعض الإبتسامة , الإبتسامة التى لم أرها فيه طيلة المحاكمات التى حضرتها معه, حينها حيانى قائلا:- محامى العزيز , أرجو ان تكون أتيت ومعك الإستئناف الذى وعدتنى به كثيراً , أم أتيت لتضاعف على العقوبة , عقوبة السجن التى لم أهتم بها , ضع فى ذهنك ان الأمر لم يعد يهمنى سواء بقيت هنا للأبد أو خرجت الآن , ليس لدى ما أخسره , لأننى ببساطة غريب عن هنا , والغرباء لا يهتمون بشئ .
قلت له إذ ذاك :- صدقنى يا موكلى العزيز , لقد قمت بجميع الإستئنافات التى وعدتك بها , ولأنى أعلم أنك لن تصدقنى فى شئ فقد إحتفظت بها دون ان أقدمها للقاضى , لأنى بصراحة أكبر أود أن أتأكد من أنك لست من قام بهذه الأفعال , بينى وبين نفسى مقتنع ببراءتك , ولكن لأنك غريب عن هنا فلابد من وجود دليل كاف , وجودك فى السجن ليلة الجرائم التى قمت بها لا يعفيك من المسئولية عنها , لأنك ببساطة غريب عن هنا , والغرباء يفعلون كل شئ , كل شئ , حتى الثورات التى تعمل على الإستيلاء على نظام الحكم .
:- هل تقصد يا محامى العزيز إنك تشك فى قيامى بجميع تلك الأمور حتى وانا فى السجن ؟
:- وهل هنالك ما يمنع الشخص من إرتكاب جريمة ما حتى وهو فى السجن ؟
:- أعطنى إذاً دليلاً يُثبت على التُهمة .
:- يجب عليك أن تُعطنى أنت دليلاً يدرأ عنك التهمة .
:- محامى العزيز , أود أن أُخبرك سراً , ويمكنك أن تبوح به لأفضل انا فى السجن , ويمكنك أن تجعله حبيس أُذنيك لأفضل أنا فى السجن أيضاً , فالأمر سيان ولا يعنى بأى حال من الأحوال زيادة فى الأيام التى سأقضيها هنا أو خارجاً من هنا , أعترف لك يا محامى العزيز أننى من فعلت كل ذلك .
:- كيف , أرجوك لا تدعنى أصدقك !!!!
:- لك الحرية فى أن تصدقنى او أن تكذبنى , إننى غريب , غريب عن هنا , وعن عالمك , إننى لست كما تتوهم شخصاً مسالماً , بل انا كتلة من الشر , الشر الذى يقع فيها الجميع , أو يقع على الجميع , إننى لست بغريب عن مدينتك , بل غريب حتى من نفسى , عمرى ربما يتعدى المئات , ولكنى أتحول من شخص إلى آخر , قبل هذا اود أن أشكرك كثيراً لأنك لم تدافع عنى كما يجب .
هل تشكرنى على عدم القيام بما يتطلبه منى ضميرى إنك شخص غريب بالفعل , أكمل بالله عليك ولا تدع عقلى ينفجر أمامك الآن .
ترتسم على وجه الغريب إبتسامة رضا عن نفسه .
:- حسناً , هل ترى ذلك الشخص القابع فى الزاوية تلك , إنه من قام بالإعتداء على زوجة ضابط السجن , إنه يجلس هنا منذ فعلته تلك على الرغم من إنكم لم تحاكموه , أفعاله هى من حاكمته وجعلته يدخل إلى هنا , طوعاً لا قسراً , وهو سعيد إنه هنا لكى يُطهر نفسه من الآثام التى علقت به .
:- ولكننى لا أرى احداً سواك فى الغرفة هذه ولا حتى السجن بأكمله . لا أحد هنا صدقنى ولا تدعنى أفقد عقلى مثلك .
إننى لم أفقد عقلى يا محامى العزيز , يمكنك أن تبدأ الإستماع لصوته الآن , إنه يئن تحت ضغط عقله الباطن , يمكنك ان تسمع إن أصغيت جيداً , ولكن دعك من هذا , وانظر لذلك الشخص الذى يروح ويجئ هل تراه ؟؟
:- لأ أرى شيئاً صدقنى .
:- لا عليك , سترى بعد حين , إنه هو نفسه السارق الذى قام بسرقة المتجر المجاور لمنزل رئيس السجن , ألا ترى ندمه على فعلته تلك , إنه يستحق جزاءه , ولكن دعك منه , ستكون صديقه المقرب بعد حين .
بدأ المحامى يرتجف وعينيه تكادان تشتعلان من الذى يقوله موكله , كان حتى وقت قريب يعتقد بأن الغريب شخص برئ , ولكن الآن على الأقل إنه شخص مجنون , والمجنون يمكن أن يفعل كل شئ , كل شئ .
:- محامى العزيز , هل لتعرف من أنت ؟؟؟
:- نعم يا موكلى العزيز , إننى ذلك الشخص تماماً , الشخص الآخر فينى , الشخص الذى يمثل الشر . بل وأقول لك شيئاً , ربما أنت نفسك لن تصدقنى , إننى هنا لأننى أنا من حاولت القيام بالثورة تلك , الثورة التى تريد الإستيلاء على نظام الحكم وخلع الحاكم , الثورة التى أرادت أن تقوم بعمليات تخريب فى المدينة كلها , أتيت من نفسى لأتلقى عقابى , رغم أنهم لا يعرفون , هل كنت تعرف هذا يا موكلى العزيز .؟؟
:- نعم أعرف , أعرف تماماً , أنك انت , لأنك مثلى تماماً غريب عن هنا , والغرباء يفعلون كل شئ , وأعلم أيضاً انك أختفيت من عالمك لقد مت يا موكلى العزيز ولكنك تسكننى , لقد قرأت نبأ موتك فى آخر مرة ذهبت فيها لمحاكمة , رأيت الصحف مهتمة بك جداً , وفى أغلب الظن أنك مت أثناء تفكيرك فى عمل الثورة وانك تسكننى لأننى غريب , والغرباء يسكنون بعضهم البعض بطريقة تجعلك لا تصدقنى وبطريقة تجعلك لا تفكر حتى فى عمل إستئناف , لأنك تعلم أننى من فعلت ذلك , وأنك أنت من تفعل بعضاً منى .
بعمره الذى يقبع فى الحادية والخمسين, ما زال يكافح ويلعن الأمل الذى حدثه به يوماً محاميه حين أدخلوه لأول مرة إلى السجن , كانت قسماته تائهة تماماً لدرجة أنك لا تفهم أحزين هو أم سعيد , تستطيع أن تفهم من ملامحه شيئاً واحداً , أنه غير مبال بما يحدث حوله , الجميع تظهر على ملامحهم أحداث اليوم والأيام السابقة والقادمة , فقط هو من يعش بلا ملامح ,, رجل بلا ملامح تماماً ,أو قل , بملامح أقرب ما تكون إلى الرتابة .
كان هو الشخص الوحيد القابع فى السجن , لم يكن بسبب جريمة إرتكبها , ولكن حظه العاثر جعل منه مجرماً , حظ أنه غريب عن هنا , الغرباء ينالون جزاءهم أكثر من المعتاد , هكذا كان يؤمن .
يقع السجن فى أطراف المدينة , تتعالى جدرانه الإسمنية السميكة بصورة تمنع الهاربين من التفكير , مجرد التفكير فى إيجاد وسيلة للهرب . الجنود الذين يحرسون السجن يزيدون عن الخمسين بقليل , يتناوبون فى الحراسة ويعزفون موسيقاهم ويدخنون , وتصرف لهم الرواتب , بل وفى أحايين أخرى تتم ترقيتهم بناء على عملهم الذى يقومون به . كانت جدران السجن مطلية باللون الأحمر القاتم , وكانت غرفه الثمانية والعشرون مرصوصة فوق بعضها وكأنهم يريدون تكديس السجناء فوق بعضهم البعض دون الشعور بأن السجناء أيضاً يحتاجون لمتنفس , مثلهم وبقية البشر أيضاً , البشر الذين لا يُخطئون , توجد فتحات صغيرة يتناول بها السجناء أكلهم وشربهم , وبعض البريد بعد أن يقرأه رئيس السجن ويحذف ما يريده ويترك فى بعض الأحايين فقط السطر الأول .
السجين الوحيد منذ 15 عاماً لم يكن يشكو سوء المعاملة , ولم يكن أيضاً يذكر حسنها , فالأمر لا يحتمل الشكوى والتضجر ولا الشكر .
كان اليوم الاول لدخوله السجن يبدو سخيفاً بعض الشئ , إذ تم سجنه بناء على بلاغ كاذب بالإعتداء على زوجة أحد المقربين من ضابط الشرطة , أعتداء دون أدلة , لأنه لم يكن موجوداً حين وقعت الواقعة تلك , كان اليوم الأول لوصوله إلى هناك هو اليوم التالى لوقوع الجريمة , ولأنه الغريب الوحيد فلابد من أنه هو الفاعل , أبناء المدينة دوماً شرفاء ولا يفعلون الذنوب , تمت محاكمته محاكمة عادلة , كانت المحاكمة عادلة لدرجة أن رئيس القضاء هناك كلف محامياً متواضعاً ومبتدئاً للدفاع عنه ., وأودع فى السجن وسط شعور بالتأفف من الحضور , فقط محاميه هو الوحيد الذى لم يتأفف لعلمه بأن ما قام به من دفاع كان كفيلاً له بأن يأخذ مبلغاً محترماً من المحكمة نفسها . وأودع كأول سجين فى السجن الجديد , بل وقل السجين الوحيد الذى سيظل فى السجن , لأنه فقط غريب عن هنا .
حكم عليه بالسجن لعام كامل , وبعد شهور ثلاث كانت هنالك جريمة سرقة , سرق المتجر الذى يقبع بجوار منزل ضابط السجن , ولم يتم العثور على الجانى , الجانى لابد أن يكون غريباً . ولما لم يكن هنالك من أحد غيره فقد تم توجيه التهمة له , حاول الإعتراض على هذا الإتهام ولكن دون جدوى , المحامى الذى دافع عنه فى المرة الأولى ها هو قد أتى يحمل حقيبته السوداء وبيده كومة أوراق لا يعلم كنهها , وتمت المحاكمة على عجل , سنة أخرى له تُضاف لما تبقى من عقوبته السابقة , نزلت دموعه بشدة حين ذاك , إذا لاح فى خياله قرب إنتهاء عقوبته ولكن الوقت يزداد إتساعاً قبل السفر وإطلاق السراح , محاميه قال له فى هذه المرة أيضاً :- لا تيأس سأقوم بعمل إستناف , وسيُطلق سراحك , سمع منه هذه الجملة فى المرة الأولى التى دخل فيها السجن ولم يدرى أقام بعمل إستئناف أم لا , بالتأكيد لم يقم بذلك لأنه لم يُدعى للمحاكمة مرة أخرى .
كان يفقه القانون جيداً , ولكن لأنه غريب لم تتح له فرصة إبداء وجهة نظره الخاصة , كان يعلم جيداً بحتمية توفر أدلة , بضرورة وجوده فى موقع الجريمة , للجريمة أركان ولم تكتمل فى مثل حالته , ولكن ما عرفه عن القانون لم يكن كافياً لكى تدرأ التهمة عنه , لأنه بصراحة , غريب , والغريب ليس لديه فرصة ان يقول شيئاً .
لم يمض إسبوع حتى حدثت مشاجرة فى إحدى البنايات , على إثرها توفى أحدهم , لم يكن المتوفى غريباً , كان من أهل البلدة , ولم يتم العثور على الجانى , كان هنالك شاهد واحد , وحين سأله القاضى عن الشخص الذى قام بالقتل , قال بدون تردد :- إنه الغريب , أُحضر الغريب من السجن المجاور لقاعة المحكمة , وأحضر المحامى أيضاً , تم توجيه التهمة إليه , ودون إعطاء فرصة الدفاع له , فقط المحامى قام ليتحدث كالعادة ويطلب من عدالة المحكمة تخفيف العدالة مراعاة لحالة الجانى وكيله , أصدر القاضى حكمه بالقصاص من الجانى أو السجن 5 سنوات , كان السجن أخف وطأة على الأقل من الموت شنقاً هكذا قال المحامى فى نفسه , أختار المحامى بدلاً عنه السجن , ولكنه طمأن الغريب بأنه سيقوم بعمل إستئناف كما فى كل مرة , وتم ترحيله للسجن .
لم يكن يسمح للسجين بالتحدث مع مع الجنود المكلفين بالحراسة , لأنه فقط غريب , كانت الأيام تمر مثقلة على كاهله , كان ينوء بكل يوم يمر , لم يكن يفعل شيئاً فى زنزانته , ولم يُسمح له بفعل شئ لأنه فقط غريب .
أحد الذين يبحثون عن فرصة للتقرب من الحاكم بثه خبر أن هنالك ثمة من يفكرون للقيام بثورة , ثورة تقضى على حكمه , ثورة تسعى للتخريب , وبث الزعر والهلع بين سكان المدينة الآمنون , كلف الحاكم الكثير من العيون لكى تبحث فى أمر الثورة , ومن هو قائدها .؟ بعد بحث مضنى لم يجدوا إثراً لذلك الخبر , ولكن العودة للحاكم بقرار أنهم لم يجدوا أحداً ليثور سيكون خطأ لا يُغفر , هنالك حل واحد فقط , إنه هو بعينه , الغريب .
حينها أمر الملك بأن يتم القبض على الغريب , تحركت قوة مسلحة من الشرطة للقيام بالأمر , أعلن حظر التجول فى ذلك اليوم , هدأت المدينة تماماً , فقط صوت العسكر هو ما كان يتحرك بدباباتهم وسياراتهم المدرعة , تحركت جميعها صوب السجن , وقامت بتشكيل نفسها على مجموعات للقبض على الرجل الثائر , كان هو بداخل زنزانته أُقتيد بكل بساطة , بل لو لم يُطلب منه ذلك لتحرك صوب الشارع وأستأجر عربة لتقله إلى المحكمة , المكان الوحيد الذى يعرفه فى هذه المدينة , تحركت سيارات الشرطة وكل سيارة بها عدد من الجنود يتحدثون بأجهزتهم اللا سلكية بأنهم قد قبضوا على الجناة , وهم فى طريقهم للمحكمة , لم يكن ثمة جناة , فقط كان الغريب .
قاعة المحكمة مكتظة أكثر من ذى قبل , حضر الناس بأعداد هائلة لرؤية ذاك الشخص الى ينوى القيام بثورة , إى قوة يمتلكها عقل كهذا ,,؟ هم يحكمهم نفس الحاكم منذ سنوات تجاوزت الأربعين سنة , ولم يشكو من شئ ولم يتمردوا فكيف تجاسر ذلك الغريب للقيام بهذا الأمر , حقاً إنه شخص منتحر من يفكر فى ذلك بل ويستحق العقاب .
عند دخوله للمحكمة وجد أن محاميه يقف فى نفس مكانه , بيده حقيبته السوداء اللامعة , وكومة أوراق قديمة , هى نفسها الأوراق تلك لم يشأ تغييرها حتى , رغم مرور تلك السنوات .
تلا القاضى عليه جريمته , ودون أن يتحدث المحامى هذه المرة تحدث الغريب , أقر بانه هو من فعل كل شئ فى المدينة , وأن الثورة كانت ستقوم لولا جهود حراس الحاكم الشرفاء , وإنه نادم على فعلته ( هذه الجملة كان يقولها محاميه ) وإنه يستحق العقوبة , الندم وحده لن يفيد فى شئ , لابد من حكم يُصدر وإلا سيفقد وظيفته بسبب غريب أصدر القاضى حكمه بسجنه 20 سنة , أخبره المحامى كعادته بانه سيقوم بعمل إستئناف فقط يجب عليه ان لا ييأس , أومأ الغريب برأسه موافقاً على شئ لن يحدث أبداً .
ذهب الغريب ناحية بوابة المحكمة طائعاً , وأتجه ناحية العربة التى تعود أن يُحمل فيها , ولكن رجال الشرطة مخلصون فى عملهم , أخذوه وأحاطوا به , ولم يدروا أن الغريب لن يفكر فى الهرب , فقط لأنه غريب .
تجاوزت السنوات التى يمكن ان يقضيها فى السجن حدود الزمن الذى كان مسموحاً له بالحلم , كانت الأحلام قصيرة , قصيرة كأعمار الغرباء , أصبح هو والسجن صديقين مقربين , لم يكن يشكو من طول فترة سجنه , ولا عن شوقه لزوجته , فقط كانت ستكون عقوبته أخف وطأة لو أنه تحمل أن يكون معها فى غرفة نوم واحدة . غير أنه بين الفينة والأخرى يتذكرها , تطوف بخياله , رغم العذاب الذى كان يجده منها غير أن لها بعض الصفات الجميلة , على الأقل كانت جميلة جداً فى مظهرها الخارجى . تُرى كيف سيكون حالها الآن ؟ هل ستكون متزوجة بذلك الموظف البدين ؟ آءمل ذلك , فغيابى عنها ذنب ليس يغتفر .
حين أدخلونى السجن بسبب مطالبتى بالعدالة , وأن يحاكم الغريب بالصورة التى تضمن حقوقه كإنسان كان هو الوحيد الذى رحب بى فى السجن , إذ لم يكن ثمة سجين آخر , جاورته فى الزنزانة المقابلة له , ولم يسمح لى بأن أكون معه فى نفس الزنزانة , فقط لأنه غريب , الغرباء يجب أن لا يختلطوا بنا نحن .
أُتيحت لى فرصة أن ألتقيه مرة واحدة , كان ضابط السجن فى مزاج عال هذه المرة , كنت قد حاولت معه كثيراً أن يسمح لى بالجلوس سوياً مع الغريب , قلت له أننى أبحث عن الحقيقة , حقيقة أن هنالك جرائم أخرى ستُرتكب , ولابد من أن نجد الجانى , وإذا لم يكن الغريب هو الجانى فلابد من وجود جناة آخرين , المدينة أضحت ملأى بالغرباء ولابد من إيجاد طريقة نملأ بها السجن أيضاً , ألا تُريد يا رئيس السجن أن تمتلئ زنازينك بهم , إنه لفخر لك , لابد أن يمتلئ , خُلقت السجون لتمتلئ لا لتبقى فارغة إلا من غريب وانا فقط , أسمح لى , وسأساهم فى ذلك , أبناء المدينة دوماً متحدون , ليس كالغرباء .
حينما لمحنى الغريب أقترب منه إرتسمت فى وجهه غائب الملامح بعض الإبتسامة , الإبتسامة التى لم أرها فيه طيلة المحاكمات التى حضرتها معه, حينها حيانى قائلا:- محامى العزيز , أرجو ان تكون أتيت ومعك الإستئناف الذى وعدتنى به كثيراً , أم أتيت لتضاعف على العقوبة , عقوبة السجن التى لم أهتم بها , ضع فى ذهنك ان الأمر لم يعد يهمنى سواء بقيت هنا للأبد أو خرجت الآن , ليس لدى ما أخسره , لأننى ببساطة غريب عن هنا , والغرباء لا يهتمون بشئ .
قلت له إذ ذاك :- صدقنى يا موكلى العزيز , لقد قمت بجميع الإستئنافات التى وعدتك بها , ولأنى أعلم أنك لن تصدقنى فى شئ فقد إحتفظت بها دون ان أقدمها للقاضى , لأنى بصراحة أكبر أود أن أتأكد من أنك لست من قام بهذه الأفعال , بينى وبين نفسى مقتنع ببراءتك , ولكن لأنك غريب عن هنا فلابد من وجود دليل كاف , وجودك فى السجن ليلة الجرائم التى قمت بها لا يعفيك من المسئولية عنها , لأنك ببساطة غريب عن هنا , والغرباء يفعلون كل شئ , كل شئ , حتى الثورات التى تعمل على الإستيلاء على نظام الحكم .
:- هل تقصد يا محامى العزيز إنك تشك فى قيامى بجميع تلك الأمور حتى وانا فى السجن ؟
:- وهل هنالك ما يمنع الشخص من إرتكاب جريمة ما حتى وهو فى السجن ؟
:- أعطنى إذاً دليلاً يُثبت على التُهمة .
:- يجب عليك أن تُعطنى أنت دليلاً يدرأ عنك التهمة .
:- محامى العزيز , أود أن أُخبرك سراً , ويمكنك أن تبوح به لأفضل انا فى السجن , ويمكنك أن تجعله حبيس أُذنيك لأفضل أنا فى السجن أيضاً , فالأمر سيان ولا يعنى بأى حال من الأحوال زيادة فى الأيام التى سأقضيها هنا أو خارجاً من هنا , أعترف لك يا محامى العزيز أننى من فعلت كل ذلك .
:- كيف , أرجوك لا تدعنى أصدقك !!!!
:- لك الحرية فى أن تصدقنى او أن تكذبنى , إننى غريب , غريب عن هنا , وعن عالمك , إننى لست كما تتوهم شخصاً مسالماً , بل انا كتلة من الشر , الشر الذى يقع فيها الجميع , أو يقع على الجميع , إننى لست بغريب عن مدينتك , بل غريب حتى من نفسى , عمرى ربما يتعدى المئات , ولكنى أتحول من شخص إلى آخر , قبل هذا اود أن أشكرك كثيراً لأنك لم تدافع عنى كما يجب .
هل تشكرنى على عدم القيام بما يتطلبه منى ضميرى إنك شخص غريب بالفعل , أكمل بالله عليك ولا تدع عقلى ينفجر أمامك الآن .
ترتسم على وجه الغريب إبتسامة رضا عن نفسه .
:- حسناً , هل ترى ذلك الشخص القابع فى الزاوية تلك , إنه من قام بالإعتداء على زوجة ضابط السجن , إنه يجلس هنا منذ فعلته تلك على الرغم من إنكم لم تحاكموه , أفعاله هى من حاكمته وجعلته يدخل إلى هنا , طوعاً لا قسراً , وهو سعيد إنه هنا لكى يُطهر نفسه من الآثام التى علقت به .
:- ولكننى لا أرى احداً سواك فى الغرفة هذه ولا حتى السجن بأكمله . لا أحد هنا صدقنى ولا تدعنى أفقد عقلى مثلك .
إننى لم أفقد عقلى يا محامى العزيز , يمكنك أن تبدأ الإستماع لصوته الآن , إنه يئن تحت ضغط عقله الباطن , يمكنك ان تسمع إن أصغيت جيداً , ولكن دعك من هذا , وانظر لذلك الشخص الذى يروح ويجئ هل تراه ؟؟
:- لأ أرى شيئاً صدقنى .
:- لا عليك , سترى بعد حين , إنه هو نفسه السارق الذى قام بسرقة المتجر المجاور لمنزل رئيس السجن , ألا ترى ندمه على فعلته تلك , إنه يستحق جزاءه , ولكن دعك منه , ستكون صديقه المقرب بعد حين .
بدأ المحامى يرتجف وعينيه تكادان تشتعلان من الذى يقوله موكله , كان حتى وقت قريب يعتقد بأن الغريب شخص برئ , ولكن الآن على الأقل إنه شخص مجنون , والمجنون يمكن أن يفعل كل شئ , كل شئ .
:- محامى العزيز , هل لتعرف من أنت ؟؟؟
:- نعم يا موكلى العزيز , إننى ذلك الشخص تماماً , الشخص الآخر فينى , الشخص الذى يمثل الشر . بل وأقول لك شيئاً , ربما أنت نفسك لن تصدقنى , إننى هنا لأننى أنا من حاولت القيام بالثورة تلك , الثورة التى تريد الإستيلاء على نظام الحكم وخلع الحاكم , الثورة التى أرادت أن تقوم بعمليات تخريب فى المدينة كلها , أتيت من نفسى لأتلقى عقابى , رغم أنهم لا يعرفون , هل كنت تعرف هذا يا موكلى العزيز .؟؟
:- نعم أعرف , أعرف تماماً , أنك انت , لأنك مثلى تماماً غريب عن هنا , والغرباء يفعلون كل شئ , وأعلم أيضاً انك أختفيت من عالمك لقد مت يا موكلى العزيز ولكنك تسكننى , لقد قرأت نبأ موتك فى آخر مرة ذهبت فيها لمحاكمة , رأيت الصحف مهتمة بك جداً , وفى أغلب الظن أنك مت أثناء تفكيرك فى عمل الثورة وانك تسكننى لأننى غريب , والغرباء يسكنون بعضهم البعض بطريقة تجعلك لا تصدقنى وبطريقة تجعلك لا تفكر حتى فى عمل إستئناف , لأنك تعلم أننى من فعلت ذلك , وأنك أنت من تفعل بعضاً منى .