ودالعز
30-05-2010, 05:59 AM
هذا المقال منشور بجريدة الشرق الاوسط في يوم 30 اغسطس 2003 العدد9041
غياب المحاسبة وقلة الخبرة أديا إلى مقتل المئات وفقدان عدد من طائرات الأسطول
محمد بدر الدين مصطفى *
في صباح مبكر من يوم الثامن من يوليو (تموز) صعقت الساحة السودانية بنبأ أليم حملته الأجزاء المتناثرة لطائرة الخطوط الجوية السودانية (سودانير) من طراز 737، في رحلة عودتها من مدينة بورتسودان الساحلية على البحر الأحمر، وحمل النبأ ايضا مصرع 116 مسافرا على متنها هم جميع ركابها ما عدا طفل رضيع نجا من الحادث بترت ساقه فيما بعد واصيب بحروق جسيمة، بالاضافة الى أضرار مروعة.
ولا يكاد المرء يحصي الدروس الأليمة ذات التكلفة الباهظة التي لا تقدر بثمن التي خلفها الحادث، واثقال الحزن الذي ألم بالأسر التي فقدت في برهة صغيرة من الزمن 5 من اعضائها. وفي هذا التحقيق يكشف كاتبه محمد بدر الدين مصطفى، طيار سابق وخبير في علوم الطيران، انه من خلال تأمله في الحوادث التي ألمت بشركة الخطوط السودانية منذ نصف قرن وحتى الآن، وصل الى قناعة بأن «الجهل والاهمال وضعف القدرات والاستهتار هي وراء تلك المصائب». ورصد التحقيق 10 حوادث معلنة وعددا آخر من غير المعلن عنه وقعت لطائرات الشركة خلال الفترة المذكورة، مؤكدا انها بالنسبة لحجم التشغيل وعدد الطائرات تعد نسبة مرتفعة جدا.
إذ ان سجل الخطوط الجوية السودانية حافل بحوادث كثيرة جدا في مدى نصف القرن الماضي، فإن ملاحقة اسباب الخطأ والتحقيق في ملابسات الحوادث ومحاسبة المسؤولين عنه والذي يبلغ في كثير من شركات الطيران المسؤولة وقف المخطئ تماما عن أي عمل متعلق بالطيران ـ مهما يكن ـ «كابتن» طيار أو مساعدا أو ملاحا أو مهندسا أو فنيا كان، بل ان ادارات بأكملها تذهب غير مأسوف عليها اذا اثبتت التحقيقات ضلوعها أو مسؤوليتها عما وقع.
* ان الطيران علم واضح راسخ، صحيح ليس فيه كثير تقديرات وظنون، وصناعته المطتورة يوما بعد يوم، هي احدث ما توصل اليه الانسان في القرن الاخير بعد الثورة الصناعية الثانية وما عملته من تطور كبير في كل مجال، خاصة اذا اتصل بحياة الانسان وسلامته وصحته، بل وبقائه حيا، وهو من البداهة للإنسان الطبيعي عامة وللإنسان المتدين خاصة ان كل اديان الانسان تجعل حياته مصلحة كبرى لا تدانيها إلا مصلحة ايمانه أو مفسدة كفره، لكن على النقيض تماما فقد نجا المسؤولون عن الاخطاء والجرائم وهربوا بجرائمهم دون عقوبة في الشركة السودانية وهذا هو التفسير الواضح الوحيد لعدد الحوادث الكثيرة في سجلها مقارنة بحجم تشغيلها وعدد طائراتها المحدود جدا، فالذي يخطئ يبقى ويترقى في الوظيفة ويتاح له الاهمال وان يكرر اخطاءه، بل تشجع ويشجع غيره على عدم الاكتراث واللامبالاة، فكل الطيارين الذين تورطوا في تلك الحوادث ما زالوا يعملون في الشركة ويكررون اخطاءهم القاتلة ويتولون مناصب فنية وادارية تقتضي مراقبة الآخرين ومحاسبتهم ومعاقبتهم وكيف يكون ذلك لا ندري، فإن فاقد الشيء لا يعطيه، بل ان الشركة ظلت تتوسع في استيعاب الطيارين على أسس خاطئة تأكيدا لعدم التقدير لسلامة ركابها وإلا كيف تفسر توظيفها لمن لم يدربوا على قيادة طائرة بأكثر من محرك واحد عند حصولهم على رخصة ممارسة الطيران التجاري، علما بأنه ليس هناك من بين طائراتها ما هي ذات محرك واحد، ومن بين أولئك للأسف الشديد اثنان من طاقم الطائرة المتحطمة.
علما ان معرفة الطيار بقوانين Asymmertic - Flying واساسيات علم نظريات الطيران Aerodynamics هي باختصار ما يفرق بين الحياة والموت لهؤلاء الركاب وقد كان!.
بل وكيف ولماذا عاد بعض الكباتن لدى الخطوط الجوية السودانية العريقة من مدينة «تولوز» الفرنسية مسقط رأس طائرة «الايرباص» بخفي حنين عندما بعثوا للتدريب على طائرة «ايرباص» A310/ A300؟ ثم لماذا بعثوا بعد ذلك الى الاردن لمنحهم شهادات «اكمال» لقيادة الطائرة نفسها، وما الذي تعطيه دولة من العالم الثالث عجزت عنه المؤسسة التي صنعت الطائرة نفسها.
* الحادث الأخير
* أما اذا تأملنا الحادث الاخير لطائرة البوينج 737 في بورتسودان والذي تمخض عن تلك المأساة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه بداهة هو أين الخطأ؟! هل هو في الكابتن قائد الطائرة أو بالأحرى في الطاقم أم في الطائرة نفسها وهي مُسَخَّرة لا تملك من امر نفسها شيئا؟، فإن أي طائرة في علم الطيران ينبغي ان تهبط بسلام في مكان حدوث الخلل الاضطراري ما دام لها جناحان وسليمة الاجزاء وكل المطلوب من طاقمها هو الاخذ في الاعتبار وزن الطائرة والارتفاع والأهم السرعة، أما اذا سهى الطيار عن مؤشراته واهمها مؤشر السرعة مع الوزن الثقيل الزائد الذي يسم رحلات الخطوط الجوية السودانية فهو الموت المحقق ولا ريب وقد كان.
إن التدريب على الطيران بمحرك واحد معطل هو أمر روتيني يمر به الطيار كل فترة محددة ربما يمكن وصفه بالأمر «العادي» عندما يتوقف أحد محركات طائرة ذات محركين تختلف الحقائق من الطائرة ذات محركات بمراوح وبمحركات «نفاثة» والاخيرة اسهل في التعامل معها لسببين وهما قوة المحركات وقلة الـ DRAG، بل نجد في حالة الطائرة السودانية 737 انها تتسم بجسم صغير بالنسبة لمحركاتها ويسمى Power - To - Weight - Ratio فهي مشهورة ومعروفة بسرعتها، خصوصا عند الاقلاع وتمتاز ايضا بسرعة الارتفاع، وذلك لقوة محركاتها نسبة لحجمها، ونجد ان السلبية الوحيدة في هذا النوع من المحركات هي ارتفاع تكلفة التشغيل ما يعرف بـ Direct - Operating - Cost وهو يدعى Pure Jet والذي طور في الموديلات الحديثة من الطائرة نفسها أخيرا.
فكل المطلوب إذاً من الطيار أو قائد الطائرة الـ 737 هذه في اطار التعامل مع الايروديناميكيا ان يحفظ جسم الطائرة طائرا على خط مستقيم وان يزيد سرعته وان استطاع الارتفاع، حسب وزنه وما بمحركه من قوة.
ولكن دعني أسأل سؤالا موضوعيا آخر يتعلق بديناصورات الخطوط الجوية السودانية، هل يعقل ان يحوز شخص فوق السبعين على شهادة طبية من الدرجة الاولى First Class Medical Certificate وهي الحد الأدنى لممارسة الطيران التجاري لأي طيار.
ربما كان ذلك ممكنا لو كان متوسط عمره (1000 عام) كنبي الله نوح.
وسؤال آخر خطير جدا وهو لماذا تختفي كل حين وآخر الأوراق والأصول المتعلقة بالطيارين وتواريخ ميلادهم وأعمالهم التي تفيد صلاحية الشخص المعين للعمل وفقا لعمره، خاصة اذا كان العمل هو الطيران، الذي يسلم فيه الناس حياتهم صغارا وكبارا أو احيانا حكومات بأكملها. وسؤال آخر الى كل مسافر يدفع قيمة تذكرة سفره ويستعمل طائرة الخطوط الجوية السودانية، من الذي يضمن لك الجودة؟ ماذا تعرف عن الطائرة التي انت عليها؟ ماذا تعرف عن طاقم الطائرة وتأهيله؟ والذي كنت قد سلمته وأسرتك أرواحكم؟.
ان كثرة الحوادث المعلنة وغير المعلنة في سجل شركة الخطوط الجوية السودانية وتنوعها وتماثلها ليقتضي طرح الأسئلة الواضحة للحصول على اجوبة واضحة، لأن الطيران كما اسلفنا علم يضع سلامة الذين يتعاملون معه فوق كل اعتبار.
لذلك تجب محاسبة المسؤولين حتى لا يتكرر الخطأ على نحو افدح وافظع، وقبل ان اتجاوز هذه الفقرة أود ان اعود بذاكرة الخطوط الجوية السودانية الى عام 1982، حيث فقدت الشركة طائرة بوينج 707-348C برقم تسجيل ST-AIM كانت قد حازت عليها قبل وقت قليل من الحادث وهي في رحلة عودة من جدة اثناء موسم الحج وقد ورد في تقرير الحادث ما نصه: «لقد هبطت الطائرة في النيل»! والسؤال الذي يطرح نفسه بداهة لماذا؟ والسؤال الأكثر حرجا ما الذي حدث لقائد الطائرة وأين هو اليوم؟ لقد مر الحادث مثل سوابقه بغير محاسبة وقائد الطائرة اصبح واضحى وصار مديرا للعمليات للشركة، بل واصبح شريك له آخر من نفس طاقمه مديرا لقسم يتعلق بالسلامة الجوية في مفارقة مبكية؟!.
ان حادثة الطائرة السودانية التي هبطت في النيل بدلا من مدرج المطار الكائن على مرمى بصر الكابتن لا يشبه الا حادثة هبوط طائرة أخرى لشركة سودانية أخرى وهي من طراز 707-351C في بحيرة (موانزا) بجمهورية تنزانيا، فقد جثت مثل اختها على المياه بدلا من المطار الذي هو على بعد امتار والقاسم المشترك في كلا الحادثتين ان كلا القائدين ممن ضمتهم سجلات الخطوط الجوية السودانية.
* أسئلة بلا إجابات
* سؤال آخر في سلسلة حوادث الشركة السودانية التي ظلت بلا اجابة ولا محاسبة، والاجابة واضحة مثل شمس الخرطوم وهي لماذا خسرت الخطوط السودانية في 1998/7/16 طائرة بوينج 737 اثناء هبوطها في مطار الخرطوم؟ ان الذي حدث ببساطة هو ان طاقم الطائرة الميمونة قد اتخذ قرارا بعد الاقلاع مباشرة بالعودة للمطار لاكتشافه مشكلة تخص Hydroalic System، وعند الهبوط انفجرت اطارات الطائرة وعند ذلك ظنا من الطاقم بأنها المحركات فقاموا بفصل نظام عكس دفع المحركات علما بأن هناك مؤشرات لكل محرك داخل الكبينة تعكس حالته مما أدى الى اسراع الطائرة الى خارج المدرج، حيث قضى عليها ودمرت تماما وخسرت الشركة طائرة أخرى. نرجو ان نجد اجابة عن سؤالنا هذا لماذا حدث ما حدث؟
سؤال آخر لأجهزة شركة الخطوط الجوية السودانية يثير الدهشة وهو ما الذي حدث عند اقلاع احد الطيارين الاماجد لدى الشركة من ما يعرف بالـ Taxi way وهو ممر يؤدي الى المدرج اي Runway؟ وهل يعرف ذلك الكابتن كيف هو شكل المدرج أو الـ Runway أو كيف يبدو شكل الـ Taxi way؟ ان القدر الطبيعي في مثل هذه السابقة لو لطف الله هو التصادم مع طائرة أخرى في الجو قادمة أو مغادرة من ذلك المطار الاوروبي مما أذهل موظفي برج المراقبة في ذلك المطار وقال أحدهم على الفور لذلك الكابتن Sir You Just Took off from ataxiway أي رد كان من ذلك «الكابتن»؟ لا أدري؟.
وفي حادث آخر لا يقل عجبا اقلعت من مطار الخرطوم طائرة (فوكر 27) وارتدت فور اقلاعها في وضع مقلوب بوجه المقدمة الى الارض بدلا من السماء، وذلك عند تسلم القيادة مساعد الكابتن واقلع بها مرة أخرى، لكن ليس قبل ان يرتطم جزؤها الخلفي بأرض المدرج ومرة أخرى تسعف الاقدار تلك الأرواح فلا تنفجر الطائرة، لكن تحال الى المعطوبات. والسؤال: هل ذلك بسبب ضعف تأهيل الطاقم أم بأسباب من الطائرة نفسها؟ وبالطبع فإن اللاعب الرديء دائما يلقي باللوم على ادواته؟
حادث آخر في سجل ناقلنا القومي يثير الاشمئزاز أكثر مما يثير الأسف، وقع لطائرة فوكر 27 ـ 600 في يونيو (حزيران) 2002 رقم مسلسل ST-SSD اثناء التدريب على وضع اضطراري إلا ان الاقدار شاءت ان يقع الاضطرار فعلا وكانت النتيجة ان الكابتن الذي كان يدرب مساعده ـ خالف أصول التدريب وعلم الطيران عندما عجز ان يحسن التصرف بالاقلاع مرة أخرى والعودة للهبوط بأمان ـ ولكن هل يعلم ذلك الكابتن المدرب بأنه كان ممكنا ان يفعل ذلك واذا كان يعلم لماذا لم يفعل ذلك واذا لم يكن يعلم فلماذا هو مدرب وطيار في الخطوط الجوية السودانية؟ نسيت ان اذكر بأن مصير الطائرة كان ان صارت (خردة) بعد ان انفجرت اطاراتها من جراء الضغط الشديد على الفرامل وخروجها خارج المدرج من كسر عجلاتها ودمرت محركاتها وجسمها. لماذا؟
وما هذا الا احد المسامير في نعش «سودانير» وما أكثرها؟
وفي هذا الاطار أود ان اتوجه بالسؤال الى «كابتن» ظل يعمل في شركة الخطوط الجوية السودانية منذ عام 1967 عن حادثة الـ DC-3 الذي وقع في يوم 1967/2/21 اذ ارتطمت الطائرة بسقف منزلين قبل ان تسقط على سور مقابر فاروق وتوفي فيها الكابتن حينئذ وهو كندي الجنسية ونجا المساعد الذي كان تحت التدريب وهو نفس الكابتن الذي أتوجه له بالسؤال عن الذي حدث في ذلك اليوم؟ والتقارير بين ايدينا اليوم.
لقد بعثت حادثة طائرة بورتسودان والعدد الكبير من القتلى كل الاسئلة الملحة المعطلة امام الشركة السودانية ولا يجدي مع ذلك التصرف البسيط بيع الشركة ومطاراتها وطاقمها الى مستثمر سوداني أو اجنبي، اذ تظل فيروسات الأمراض كلها جاهزة للطفرة الى الكائن الجديد على غرار الشركة الاميركية التي تدعى Value Jet التي ساءت سمعتها فغيرت اسمها وشعارها وسوقت نفسها مرة أخرى وهي تحمل ذات الجراثيم.
بل الذي يجري هو فتح الملفات وطرح الاسئلة واصدار الحكم وانزال العقوبات، فحياة الانسان ليست عبثا وانا على اتم استعداد لمواجهة مسؤولي الخطوط الجوية السودانية على أي منبر لاثبات المقولات ولفضح حججهم ولا اريد إلا الاصلاح ما استطعت.
اني اعيد واكرر انه لم يكن هناك ثمة مبرر واحد يتيح لي ان اتفهم ما جرى في داخل كابينة طائرة بورتسودان ذلك الصباح المحزن مع علمي التام بمواصفات الطائرة تلك، لأن المواجهة العلمية لكل الطوارئ واضحة وممكنة، وهناك طيار ثالث كان داخل الكابينة مما قد يسهل تقسيم المهام واداءها.
* تقصير وإهمال
* ما حدث في تقديري هو نتيجة منطقية للتقصير والفوضى العلمية والعملية التي وسمت عمل الشركة ولا تزال، فلم نسمع بعد الحادثة باستقالة وزير الطيران أو مدير شركة الخطوط الجوية السودانية علما بأنهم قد اعترفوا بالخطأ على نحو علمي واضح وصحيح يحمدون عليه، ولم يكلف مدير الشركة نفسه حتى بعقد مؤتمر صحافي يوضح فيه لأسر الضحايا ما الذي حدث؟ وهذه مفارقة لا تشبه إلا مفارقة تصريح مدير شركة سيكان للتأمين عثمان الهادي، الذي ذكر ان تعويضات ضحايا الطائرة المنكوبة تتراوح بين 8 آلاف دولار الى 60 ألف دولار، علما بأن كل الشركات العالمية تلتزم بمبلغ 75 ألف دولار، ويكفي ان ننظر الى أي تذكرة سفر على أي خطوط عالمية للتأكد من ذلك، أو ان الانسان السوداني اقل ثمنا وارخص قيمة من كل نظرائه بني البشر؟ ارجو ألا يكون هذا هو قصد المدير المحترم ولا فهم شركة الخطوط الجوية السودانية.
سؤال أخير يجب علينا كباحثين عن الحقيقة ان نطرحه وهو: من الذي يحاسب شركة الخطوط الجوية السودانية اذا كان هناك من يحاسبها؟ وأين الطيران المدني من كل ذلك ومن الذي يحاسب الطيران المدني؟ وأين وزير الطيران؟ ومن الذي يحاسبه؟
* كابتن وخبير في علوم الطيران
غياب المحاسبة وقلة الخبرة أديا إلى مقتل المئات وفقدان عدد من طائرات الأسطول
محمد بدر الدين مصطفى *
في صباح مبكر من يوم الثامن من يوليو (تموز) صعقت الساحة السودانية بنبأ أليم حملته الأجزاء المتناثرة لطائرة الخطوط الجوية السودانية (سودانير) من طراز 737، في رحلة عودتها من مدينة بورتسودان الساحلية على البحر الأحمر، وحمل النبأ ايضا مصرع 116 مسافرا على متنها هم جميع ركابها ما عدا طفل رضيع نجا من الحادث بترت ساقه فيما بعد واصيب بحروق جسيمة، بالاضافة الى أضرار مروعة.
ولا يكاد المرء يحصي الدروس الأليمة ذات التكلفة الباهظة التي لا تقدر بثمن التي خلفها الحادث، واثقال الحزن الذي ألم بالأسر التي فقدت في برهة صغيرة من الزمن 5 من اعضائها. وفي هذا التحقيق يكشف كاتبه محمد بدر الدين مصطفى، طيار سابق وخبير في علوم الطيران، انه من خلال تأمله في الحوادث التي ألمت بشركة الخطوط السودانية منذ نصف قرن وحتى الآن، وصل الى قناعة بأن «الجهل والاهمال وضعف القدرات والاستهتار هي وراء تلك المصائب». ورصد التحقيق 10 حوادث معلنة وعددا آخر من غير المعلن عنه وقعت لطائرات الشركة خلال الفترة المذكورة، مؤكدا انها بالنسبة لحجم التشغيل وعدد الطائرات تعد نسبة مرتفعة جدا.
إذ ان سجل الخطوط الجوية السودانية حافل بحوادث كثيرة جدا في مدى نصف القرن الماضي، فإن ملاحقة اسباب الخطأ والتحقيق في ملابسات الحوادث ومحاسبة المسؤولين عنه والذي يبلغ في كثير من شركات الطيران المسؤولة وقف المخطئ تماما عن أي عمل متعلق بالطيران ـ مهما يكن ـ «كابتن» طيار أو مساعدا أو ملاحا أو مهندسا أو فنيا كان، بل ان ادارات بأكملها تذهب غير مأسوف عليها اذا اثبتت التحقيقات ضلوعها أو مسؤوليتها عما وقع.
* ان الطيران علم واضح راسخ، صحيح ليس فيه كثير تقديرات وظنون، وصناعته المطتورة يوما بعد يوم، هي احدث ما توصل اليه الانسان في القرن الاخير بعد الثورة الصناعية الثانية وما عملته من تطور كبير في كل مجال، خاصة اذا اتصل بحياة الانسان وسلامته وصحته، بل وبقائه حيا، وهو من البداهة للإنسان الطبيعي عامة وللإنسان المتدين خاصة ان كل اديان الانسان تجعل حياته مصلحة كبرى لا تدانيها إلا مصلحة ايمانه أو مفسدة كفره، لكن على النقيض تماما فقد نجا المسؤولون عن الاخطاء والجرائم وهربوا بجرائمهم دون عقوبة في الشركة السودانية وهذا هو التفسير الواضح الوحيد لعدد الحوادث الكثيرة في سجلها مقارنة بحجم تشغيلها وعدد طائراتها المحدود جدا، فالذي يخطئ يبقى ويترقى في الوظيفة ويتاح له الاهمال وان يكرر اخطاءه، بل تشجع ويشجع غيره على عدم الاكتراث واللامبالاة، فكل الطيارين الذين تورطوا في تلك الحوادث ما زالوا يعملون في الشركة ويكررون اخطاءهم القاتلة ويتولون مناصب فنية وادارية تقتضي مراقبة الآخرين ومحاسبتهم ومعاقبتهم وكيف يكون ذلك لا ندري، فإن فاقد الشيء لا يعطيه، بل ان الشركة ظلت تتوسع في استيعاب الطيارين على أسس خاطئة تأكيدا لعدم التقدير لسلامة ركابها وإلا كيف تفسر توظيفها لمن لم يدربوا على قيادة طائرة بأكثر من محرك واحد عند حصولهم على رخصة ممارسة الطيران التجاري، علما بأنه ليس هناك من بين طائراتها ما هي ذات محرك واحد، ومن بين أولئك للأسف الشديد اثنان من طاقم الطائرة المتحطمة.
علما ان معرفة الطيار بقوانين Asymmertic - Flying واساسيات علم نظريات الطيران Aerodynamics هي باختصار ما يفرق بين الحياة والموت لهؤلاء الركاب وقد كان!.
بل وكيف ولماذا عاد بعض الكباتن لدى الخطوط الجوية السودانية العريقة من مدينة «تولوز» الفرنسية مسقط رأس طائرة «الايرباص» بخفي حنين عندما بعثوا للتدريب على طائرة «ايرباص» A310/ A300؟ ثم لماذا بعثوا بعد ذلك الى الاردن لمنحهم شهادات «اكمال» لقيادة الطائرة نفسها، وما الذي تعطيه دولة من العالم الثالث عجزت عنه المؤسسة التي صنعت الطائرة نفسها.
* الحادث الأخير
* أما اذا تأملنا الحادث الاخير لطائرة البوينج 737 في بورتسودان والذي تمخض عن تلك المأساة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه بداهة هو أين الخطأ؟! هل هو في الكابتن قائد الطائرة أو بالأحرى في الطاقم أم في الطائرة نفسها وهي مُسَخَّرة لا تملك من امر نفسها شيئا؟، فإن أي طائرة في علم الطيران ينبغي ان تهبط بسلام في مكان حدوث الخلل الاضطراري ما دام لها جناحان وسليمة الاجزاء وكل المطلوب من طاقمها هو الاخذ في الاعتبار وزن الطائرة والارتفاع والأهم السرعة، أما اذا سهى الطيار عن مؤشراته واهمها مؤشر السرعة مع الوزن الثقيل الزائد الذي يسم رحلات الخطوط الجوية السودانية فهو الموت المحقق ولا ريب وقد كان.
إن التدريب على الطيران بمحرك واحد معطل هو أمر روتيني يمر به الطيار كل فترة محددة ربما يمكن وصفه بالأمر «العادي» عندما يتوقف أحد محركات طائرة ذات محركين تختلف الحقائق من الطائرة ذات محركات بمراوح وبمحركات «نفاثة» والاخيرة اسهل في التعامل معها لسببين وهما قوة المحركات وقلة الـ DRAG، بل نجد في حالة الطائرة السودانية 737 انها تتسم بجسم صغير بالنسبة لمحركاتها ويسمى Power - To - Weight - Ratio فهي مشهورة ومعروفة بسرعتها، خصوصا عند الاقلاع وتمتاز ايضا بسرعة الارتفاع، وذلك لقوة محركاتها نسبة لحجمها، ونجد ان السلبية الوحيدة في هذا النوع من المحركات هي ارتفاع تكلفة التشغيل ما يعرف بـ Direct - Operating - Cost وهو يدعى Pure Jet والذي طور في الموديلات الحديثة من الطائرة نفسها أخيرا.
فكل المطلوب إذاً من الطيار أو قائد الطائرة الـ 737 هذه في اطار التعامل مع الايروديناميكيا ان يحفظ جسم الطائرة طائرا على خط مستقيم وان يزيد سرعته وان استطاع الارتفاع، حسب وزنه وما بمحركه من قوة.
ولكن دعني أسأل سؤالا موضوعيا آخر يتعلق بديناصورات الخطوط الجوية السودانية، هل يعقل ان يحوز شخص فوق السبعين على شهادة طبية من الدرجة الاولى First Class Medical Certificate وهي الحد الأدنى لممارسة الطيران التجاري لأي طيار.
ربما كان ذلك ممكنا لو كان متوسط عمره (1000 عام) كنبي الله نوح.
وسؤال آخر خطير جدا وهو لماذا تختفي كل حين وآخر الأوراق والأصول المتعلقة بالطيارين وتواريخ ميلادهم وأعمالهم التي تفيد صلاحية الشخص المعين للعمل وفقا لعمره، خاصة اذا كان العمل هو الطيران، الذي يسلم فيه الناس حياتهم صغارا وكبارا أو احيانا حكومات بأكملها. وسؤال آخر الى كل مسافر يدفع قيمة تذكرة سفره ويستعمل طائرة الخطوط الجوية السودانية، من الذي يضمن لك الجودة؟ ماذا تعرف عن الطائرة التي انت عليها؟ ماذا تعرف عن طاقم الطائرة وتأهيله؟ والذي كنت قد سلمته وأسرتك أرواحكم؟.
ان كثرة الحوادث المعلنة وغير المعلنة في سجل شركة الخطوط الجوية السودانية وتنوعها وتماثلها ليقتضي طرح الأسئلة الواضحة للحصول على اجوبة واضحة، لأن الطيران كما اسلفنا علم يضع سلامة الذين يتعاملون معه فوق كل اعتبار.
لذلك تجب محاسبة المسؤولين حتى لا يتكرر الخطأ على نحو افدح وافظع، وقبل ان اتجاوز هذه الفقرة أود ان اعود بذاكرة الخطوط الجوية السودانية الى عام 1982، حيث فقدت الشركة طائرة بوينج 707-348C برقم تسجيل ST-AIM كانت قد حازت عليها قبل وقت قليل من الحادث وهي في رحلة عودة من جدة اثناء موسم الحج وقد ورد في تقرير الحادث ما نصه: «لقد هبطت الطائرة في النيل»! والسؤال الذي يطرح نفسه بداهة لماذا؟ والسؤال الأكثر حرجا ما الذي حدث لقائد الطائرة وأين هو اليوم؟ لقد مر الحادث مثل سوابقه بغير محاسبة وقائد الطائرة اصبح واضحى وصار مديرا للعمليات للشركة، بل واصبح شريك له آخر من نفس طاقمه مديرا لقسم يتعلق بالسلامة الجوية في مفارقة مبكية؟!.
ان حادثة الطائرة السودانية التي هبطت في النيل بدلا من مدرج المطار الكائن على مرمى بصر الكابتن لا يشبه الا حادثة هبوط طائرة أخرى لشركة سودانية أخرى وهي من طراز 707-351C في بحيرة (موانزا) بجمهورية تنزانيا، فقد جثت مثل اختها على المياه بدلا من المطار الذي هو على بعد امتار والقاسم المشترك في كلا الحادثتين ان كلا القائدين ممن ضمتهم سجلات الخطوط الجوية السودانية.
* أسئلة بلا إجابات
* سؤال آخر في سلسلة حوادث الشركة السودانية التي ظلت بلا اجابة ولا محاسبة، والاجابة واضحة مثل شمس الخرطوم وهي لماذا خسرت الخطوط السودانية في 1998/7/16 طائرة بوينج 737 اثناء هبوطها في مطار الخرطوم؟ ان الذي حدث ببساطة هو ان طاقم الطائرة الميمونة قد اتخذ قرارا بعد الاقلاع مباشرة بالعودة للمطار لاكتشافه مشكلة تخص Hydroalic System، وعند الهبوط انفجرت اطارات الطائرة وعند ذلك ظنا من الطاقم بأنها المحركات فقاموا بفصل نظام عكس دفع المحركات علما بأن هناك مؤشرات لكل محرك داخل الكبينة تعكس حالته مما أدى الى اسراع الطائرة الى خارج المدرج، حيث قضى عليها ودمرت تماما وخسرت الشركة طائرة أخرى. نرجو ان نجد اجابة عن سؤالنا هذا لماذا حدث ما حدث؟
سؤال آخر لأجهزة شركة الخطوط الجوية السودانية يثير الدهشة وهو ما الذي حدث عند اقلاع احد الطيارين الاماجد لدى الشركة من ما يعرف بالـ Taxi way وهو ممر يؤدي الى المدرج اي Runway؟ وهل يعرف ذلك الكابتن كيف هو شكل المدرج أو الـ Runway أو كيف يبدو شكل الـ Taxi way؟ ان القدر الطبيعي في مثل هذه السابقة لو لطف الله هو التصادم مع طائرة أخرى في الجو قادمة أو مغادرة من ذلك المطار الاوروبي مما أذهل موظفي برج المراقبة في ذلك المطار وقال أحدهم على الفور لذلك الكابتن Sir You Just Took off from ataxiway أي رد كان من ذلك «الكابتن»؟ لا أدري؟.
وفي حادث آخر لا يقل عجبا اقلعت من مطار الخرطوم طائرة (فوكر 27) وارتدت فور اقلاعها في وضع مقلوب بوجه المقدمة الى الارض بدلا من السماء، وذلك عند تسلم القيادة مساعد الكابتن واقلع بها مرة أخرى، لكن ليس قبل ان يرتطم جزؤها الخلفي بأرض المدرج ومرة أخرى تسعف الاقدار تلك الأرواح فلا تنفجر الطائرة، لكن تحال الى المعطوبات. والسؤال: هل ذلك بسبب ضعف تأهيل الطاقم أم بأسباب من الطائرة نفسها؟ وبالطبع فإن اللاعب الرديء دائما يلقي باللوم على ادواته؟
حادث آخر في سجل ناقلنا القومي يثير الاشمئزاز أكثر مما يثير الأسف، وقع لطائرة فوكر 27 ـ 600 في يونيو (حزيران) 2002 رقم مسلسل ST-SSD اثناء التدريب على وضع اضطراري إلا ان الاقدار شاءت ان يقع الاضطرار فعلا وكانت النتيجة ان الكابتن الذي كان يدرب مساعده ـ خالف أصول التدريب وعلم الطيران عندما عجز ان يحسن التصرف بالاقلاع مرة أخرى والعودة للهبوط بأمان ـ ولكن هل يعلم ذلك الكابتن المدرب بأنه كان ممكنا ان يفعل ذلك واذا كان يعلم لماذا لم يفعل ذلك واذا لم يكن يعلم فلماذا هو مدرب وطيار في الخطوط الجوية السودانية؟ نسيت ان اذكر بأن مصير الطائرة كان ان صارت (خردة) بعد ان انفجرت اطاراتها من جراء الضغط الشديد على الفرامل وخروجها خارج المدرج من كسر عجلاتها ودمرت محركاتها وجسمها. لماذا؟
وما هذا الا احد المسامير في نعش «سودانير» وما أكثرها؟
وفي هذا الاطار أود ان اتوجه بالسؤال الى «كابتن» ظل يعمل في شركة الخطوط الجوية السودانية منذ عام 1967 عن حادثة الـ DC-3 الذي وقع في يوم 1967/2/21 اذ ارتطمت الطائرة بسقف منزلين قبل ان تسقط على سور مقابر فاروق وتوفي فيها الكابتن حينئذ وهو كندي الجنسية ونجا المساعد الذي كان تحت التدريب وهو نفس الكابتن الذي أتوجه له بالسؤال عن الذي حدث في ذلك اليوم؟ والتقارير بين ايدينا اليوم.
لقد بعثت حادثة طائرة بورتسودان والعدد الكبير من القتلى كل الاسئلة الملحة المعطلة امام الشركة السودانية ولا يجدي مع ذلك التصرف البسيط بيع الشركة ومطاراتها وطاقمها الى مستثمر سوداني أو اجنبي، اذ تظل فيروسات الأمراض كلها جاهزة للطفرة الى الكائن الجديد على غرار الشركة الاميركية التي تدعى Value Jet التي ساءت سمعتها فغيرت اسمها وشعارها وسوقت نفسها مرة أخرى وهي تحمل ذات الجراثيم.
بل الذي يجري هو فتح الملفات وطرح الاسئلة واصدار الحكم وانزال العقوبات، فحياة الانسان ليست عبثا وانا على اتم استعداد لمواجهة مسؤولي الخطوط الجوية السودانية على أي منبر لاثبات المقولات ولفضح حججهم ولا اريد إلا الاصلاح ما استطعت.
اني اعيد واكرر انه لم يكن هناك ثمة مبرر واحد يتيح لي ان اتفهم ما جرى في داخل كابينة طائرة بورتسودان ذلك الصباح المحزن مع علمي التام بمواصفات الطائرة تلك، لأن المواجهة العلمية لكل الطوارئ واضحة وممكنة، وهناك طيار ثالث كان داخل الكابينة مما قد يسهل تقسيم المهام واداءها.
* تقصير وإهمال
* ما حدث في تقديري هو نتيجة منطقية للتقصير والفوضى العلمية والعملية التي وسمت عمل الشركة ولا تزال، فلم نسمع بعد الحادثة باستقالة وزير الطيران أو مدير شركة الخطوط الجوية السودانية علما بأنهم قد اعترفوا بالخطأ على نحو علمي واضح وصحيح يحمدون عليه، ولم يكلف مدير الشركة نفسه حتى بعقد مؤتمر صحافي يوضح فيه لأسر الضحايا ما الذي حدث؟ وهذه مفارقة لا تشبه إلا مفارقة تصريح مدير شركة سيكان للتأمين عثمان الهادي، الذي ذكر ان تعويضات ضحايا الطائرة المنكوبة تتراوح بين 8 آلاف دولار الى 60 ألف دولار، علما بأن كل الشركات العالمية تلتزم بمبلغ 75 ألف دولار، ويكفي ان ننظر الى أي تذكرة سفر على أي خطوط عالمية للتأكد من ذلك، أو ان الانسان السوداني اقل ثمنا وارخص قيمة من كل نظرائه بني البشر؟ ارجو ألا يكون هذا هو قصد المدير المحترم ولا فهم شركة الخطوط الجوية السودانية.
سؤال أخير يجب علينا كباحثين عن الحقيقة ان نطرحه وهو: من الذي يحاسب شركة الخطوط الجوية السودانية اذا كان هناك من يحاسبها؟ وأين الطيران المدني من كل ذلك ومن الذي يحاسب الطيران المدني؟ وأين وزير الطيران؟ ومن الذي يحاسبه؟
* كابتن وخبير في علوم الطيران