admin
27-12-2004, 08:50 PM
السودان الذي لا تعرفونه (1)
جعفر عباس
معظم العرب لا يعرفون عن السودان إلا أنه بلد فيه نهر اسمه النيل، وبه حركة تمرد يقودها شخص اسمه جون قرنق، وأن قرنق هذا شيوعي وعميل لإسرائيل وأمريكا وكوستاريكا،.. ثم ظهر فيه قوم اسمهم الجنجويد يحاربون عناصر متمردة في مكان اسمه دارفور.. وفوق هذا فالسودان ارتبط بمساندة الإرهاب ويواجه عقوبات من الأمم المتحدة والولايات المتحدة.. باختصار فإن الانطباع العام لدى العرب هو أن السودان بلد في طور التشكيل ويعاني من مشاكل "التسنين"، ولا يذكر اسمه إلا مقرونا بمأساة من نوع أو آخر.. وما لا يعرفه الكثيرون هو أن السودان من بين دول قليلة في العالم الثالث تشكلت حدودها الحالية في عشرينات القرن التاسع عشر.. فقد أرسل محمد علي باشا حاكم مصر ابنه إسماعيل باشا على رأس جيش جرار لفتح بلاد السودان، وجاءنا جيشه في منطقة النوبة ففتحنا له كوبري (جسر) وقلنا له ربنا يسهل عليك، أي إننا لم نقاومه ولم نتصد له بسبب الاحتكاكات المستمرة التي كانت بيننا وبين جيراننا العرب إلى الجنوب منا، وبسبب أننا لم نغفر للعرب أنهم أسقطوا الدولة النوبية التي ظلت مسيطرة على المنطقة الممتدة من جنوب مصر وحتى جنوب مدينة الخرطوم لعدة قرون.. ووصل الجيش التركي إلى ديار قبيلة الشايقية وواجه مقاومة شرسة، وفوجئ الأتراك بأن هناك امرأة (مهيرة بنت عبود) وسط جيش الشايقية تشحذ هممهم للقتال بل وتسهم في المعركة، وبداهة فقد انتصر الجيش النظامي التركي على الجيش الشايقي القبلي وزحف الأتراك جنوبا إلى ديار الجعليين، وهم وإلى يومنا هذا من أكثر أهل الأرض شجاعة وبسالة، وفيهم الكثير من طباع جورج بوش، بمعنى أنهم يشهرون السلاح أولا ثم يفكرون في العواقب تالياً،.. وكان إسماعيل باشا شابا متغطرسا، وجلس قبالة ملك الجعليين وكان يحمل اسم "نمر" وصار يعدد مطالبه: نريد كذا ألف حصان وكذأ ألف رجل (ليلتحقوا بجيشه) وكذا مئة رطل من الذهب.. فقال له (الملك) نمر إن تلك الطلبات تعجيزية وإن أهل المنطقة لا طاقة لهم بها، فانفعل الباشا وضرب نمر بغليونه (البايب) فشهر حراس ملك الجعليين سيوفهم ولكن (نمر) أومأ إليهم بعدم الإقدام على أي حماقة، بل وابتسم للباشا وقال له: طلباتك أوامر.. وسنقدم لك أكثر مما طلبته، فأنتم ضيوفنا وشرفتونا ونورتونا.. وعلي بالطلاق أنت وجيشك معزومون عندي في العشاء لتعرف مكانتك عندنا، ثم التفت إلى مساعديه وأصدر الأوامر بنحر مئات الثيران والخراف، وفي المساء أقيمت وليمة ضخمة.. وانتظم الجند الأتراك في حلقات تتوسطها جفان بها تلال من اللحوم، وقام أعوان ملك الجعليين بتوفير الخمور بكميات تجارية، وبينما الجند في حالة انتشاء وانبساط بعد شهور من الحروب والسفر عبر الصحاري وبينما الخمر تلعب برؤوسهم كان الجعليون يضربون سورا من الشوك والحطب حولهم،.. وجاءت لحظة كان فيها إسماعيل باشا وكافة جنوده في حالة انعدام وزن، وعندئذ أشعل الجعليون النار في السور الشوكي وملأت الأفق رائحة الشواء.. فقد احترق إسماعيل باشا وكافة أفراد جيشه، ومن نجا من النار مات بسيوف الجعليين.. طبعا جاء جيش تركي آخر وارتكب مذابح بشعة في ديار الجعليين ولكن نمر وأعوانه كانوا قد هربوا إلى الحدود الحبشية.. وكان التصدي للغزو التركي مخاض ميلاد الروح الوطنية في سودان اليوم.
جعفر عباس
معظم العرب لا يعرفون عن السودان إلا أنه بلد فيه نهر اسمه النيل، وبه حركة تمرد يقودها شخص اسمه جون قرنق، وأن قرنق هذا شيوعي وعميل لإسرائيل وأمريكا وكوستاريكا،.. ثم ظهر فيه قوم اسمهم الجنجويد يحاربون عناصر متمردة في مكان اسمه دارفور.. وفوق هذا فالسودان ارتبط بمساندة الإرهاب ويواجه عقوبات من الأمم المتحدة والولايات المتحدة.. باختصار فإن الانطباع العام لدى العرب هو أن السودان بلد في طور التشكيل ويعاني من مشاكل "التسنين"، ولا يذكر اسمه إلا مقرونا بمأساة من نوع أو آخر.. وما لا يعرفه الكثيرون هو أن السودان من بين دول قليلة في العالم الثالث تشكلت حدودها الحالية في عشرينات القرن التاسع عشر.. فقد أرسل محمد علي باشا حاكم مصر ابنه إسماعيل باشا على رأس جيش جرار لفتح بلاد السودان، وجاءنا جيشه في منطقة النوبة ففتحنا له كوبري (جسر) وقلنا له ربنا يسهل عليك، أي إننا لم نقاومه ولم نتصد له بسبب الاحتكاكات المستمرة التي كانت بيننا وبين جيراننا العرب إلى الجنوب منا، وبسبب أننا لم نغفر للعرب أنهم أسقطوا الدولة النوبية التي ظلت مسيطرة على المنطقة الممتدة من جنوب مصر وحتى جنوب مدينة الخرطوم لعدة قرون.. ووصل الجيش التركي إلى ديار قبيلة الشايقية وواجه مقاومة شرسة، وفوجئ الأتراك بأن هناك امرأة (مهيرة بنت عبود) وسط جيش الشايقية تشحذ هممهم للقتال بل وتسهم في المعركة، وبداهة فقد انتصر الجيش النظامي التركي على الجيش الشايقي القبلي وزحف الأتراك جنوبا إلى ديار الجعليين، وهم وإلى يومنا هذا من أكثر أهل الأرض شجاعة وبسالة، وفيهم الكثير من طباع جورج بوش، بمعنى أنهم يشهرون السلاح أولا ثم يفكرون في العواقب تالياً،.. وكان إسماعيل باشا شابا متغطرسا، وجلس قبالة ملك الجعليين وكان يحمل اسم "نمر" وصار يعدد مطالبه: نريد كذا ألف حصان وكذأ ألف رجل (ليلتحقوا بجيشه) وكذا مئة رطل من الذهب.. فقال له (الملك) نمر إن تلك الطلبات تعجيزية وإن أهل المنطقة لا طاقة لهم بها، فانفعل الباشا وضرب نمر بغليونه (البايب) فشهر حراس ملك الجعليين سيوفهم ولكن (نمر) أومأ إليهم بعدم الإقدام على أي حماقة، بل وابتسم للباشا وقال له: طلباتك أوامر.. وسنقدم لك أكثر مما طلبته، فأنتم ضيوفنا وشرفتونا ونورتونا.. وعلي بالطلاق أنت وجيشك معزومون عندي في العشاء لتعرف مكانتك عندنا، ثم التفت إلى مساعديه وأصدر الأوامر بنحر مئات الثيران والخراف، وفي المساء أقيمت وليمة ضخمة.. وانتظم الجند الأتراك في حلقات تتوسطها جفان بها تلال من اللحوم، وقام أعوان ملك الجعليين بتوفير الخمور بكميات تجارية، وبينما الجند في حالة انتشاء وانبساط بعد شهور من الحروب والسفر عبر الصحاري وبينما الخمر تلعب برؤوسهم كان الجعليون يضربون سورا من الشوك والحطب حولهم،.. وجاءت لحظة كان فيها إسماعيل باشا وكافة جنوده في حالة انعدام وزن، وعندئذ أشعل الجعليون النار في السور الشوكي وملأت الأفق رائحة الشواء.. فقد احترق إسماعيل باشا وكافة أفراد جيشه، ومن نجا من النار مات بسيوف الجعليين.. طبعا جاء جيش تركي آخر وارتكب مذابح بشعة في ديار الجعليين ولكن نمر وأعوانه كانوا قد هربوا إلى الحدود الحبشية.. وكان التصدي للغزو التركي مخاض ميلاد الروح الوطنية في سودان اليوم.