محمد عبد الله عبدالقادر
26-01-2010, 12:00 AM
على جريدة الراي العام وتحقيق للصحفية سلمى سلامة كتبت بعنوان
العودة الى نقطة الصفر
مغتربون بلا رصيد
أحس بشئ من الرهبة في نفسه وهو يهم بمغادرة مطار وطنه، طافت في خياله صور القرية وكيف كان يلهو تحت شجرة (النيم) مع أقرانه واللحظات التي يشدون فيها الرحال الى المدرسة وساعة التحاقه بالجامعة ويوم تخرجه واستلامه لورقة ملفوفة بسلفان أحمر بعناية فائقة .. شريط من الذكريات قطعه صوت المضيفة قبل ان تترك (محمد أحمد) لخياله ودموع الفراق تترقرق في عينيه، لحظتها احس بأن مشواره مع الغربة قد بدأ وان رحلته مع الحنين للأهل والوطن مجهولة النهاية.. ولكن بين احزانه ارتسمت ابتسامة على شفتيه حين تذكر بأنه اصبح (مغترباً) والانظار تتجه نحوه والآمال معلقة عليه في تغيير الحال الى وضع أفضل.
(الرأي العام) التقتهم بعد العودة وفي دفاتر المغترب والاغتراب والدولة كان هذا التحقيق!!
----
المصيدة الخضراء
موسى محمد حامد وقع تاريخ خروجه من السودان عام 1985م قرر العودة النهائية في العام 2004م طوعاً حين لوحت فكرة الاستقرار بخاطره فانهى عمله في مجال الترجمة بوزارة الدفاع السعودية بعد ان ذاق مع ابنائه رغد العيش وهم من كانوا يحثونه على الرجوع شوقاً لوطن شاهدوه عبر التلفاز عندما كانت الصورة أجمل، هكذا كان يحدثني موسى عن عودته وهو جالس داخل أحد مكاتب جهاز المغتربين كانت تعتصره المرارة في حديثه وكنت ابحث في مظهره عن شئ من نعيم الاغتراب ولكنه واصل حديثه ليجيب على اسئلتي التي لم القها عليه فقال ان العودة فاجئته بما لم يكن في الحسبان فالمناخ جاف في كل مناحي الحياة والصورة عكس ما شاهدناها عبر التلفاز.. قضى موسى (4) سنوات وهو يبحث عن وظيفة اضطر خلالها لبيع (4) قطع اراضي سكنية في ارقى المواقع وهي كانت حصاد عمره فكل يوم كان يمنى نفسه بوظيفة ولكن حصاد عمره ذاب كما يذوب الثلج على الماء فصار يقول ان قرار العودة لاي مغترب في ظل الظروف التي عاشها وغيره يعتبر قراراً فاشلاً ووصف الشاشة البلورية التي كانوا يسمونها بالخضراء وبالمصيدة لما تخفيه من حقائق وراء ما تعرضه من مشاريع وتنمية وغيرها من المغريات. على الرغم من مرارة الغربة والعودة التي عاشها المواطن موسى إلا ان ذلك لن يثنيه عن قول ان الوطن ليس له مقابل، ولكلٍ منا حق على الآخر وعلى الدولة ان تنتبه لاوضاع المغتربين العائدين وتعمل على استقرارهم.
تاه الطريق
(6) سنوات لا يزال المهندس الشاب - محمد اسحاق- يبحث عن وظيفة بعد عمر قضاه في الاغتراب وعاد بحصاد انفقه في البحث عن وظيفة تركته يحدثنا عن معانته ولكن دموعه سبقت حديثه، كانت نظراته مصوبة نحو الارض حتى لا يدرك احد ملامحه الحزينة لم يستطع ان يخفي نبرات صوته المتحشرجة وهو يتحدث عن رحلته عن خارج الوطن، فقال خرجت منذ العام 1991م للعمل في احدى الدول العربية في مجال تخصصي «هندسة الكهرباء» وبما انني سافرت بدون عقد عمل لم اجد وظيفة في التخصص الذي احمله حتى انقضى عام بدون عمل وبمعاونة الاخوة عملت في بعض الاشغال التي لا تتناسب مع المستوى الاكاديمي، وكنت اظنه سيكون حلاً مؤقتاً واخذت السنوات تمر دون ان اجد وظيفة في مجال تخصصي خفت من الرجوع «ايد ورا وايد قدام).
(31) عاماً من عمري مرت وانا تائه في الطريق أجزمت بعدها بالعودة النهائية للوطن لم اكن ادري بأن العقبات هي اول المرحبين بي حين توجهت بشهاداتي للبحث عن وظيفة بالتخصص الذي اصبح على الورق فوجدت نفسي ملاحقاً بضريبة الوطن غير النقدية (الخدمة الوطنية) دفعت الضريبة واليأس كان بعيداً عن قلبي وعدت الكرة مرة أخرى فعلمت انني خارج شبكة التوظيف لانني تجاوزت السن القانونية للفوز بوظيفة حكومية فأين لي بالخاص وانا لا اعرف له طريقاً.. الندم واليأس وكل عوامل التحطيم المعنوية اعيشها في صمت وانا ألعن اليوم الذي غادرت فيه السودان والذي عدت اليه .
عودة الى الصفر
رفض ان تنشر قصته باسمه او نأخذ له صورة مع اسرته في منزله فاستجبنا لرغبته انه (ع.م) الذي هاجر في نهاية سبعينيات القرن الماضي للعمل في احدى دول النفط العربية لم يزر خلالها السودان إلا في نهاية الثمانينيات وكانت زيارة خفيفة حيث عاد ادراجه مواصلاً العمل، خلال اقامته كان يرسل لاسرته بانتظام وطلب من والده ان يشتري له قطعة ارض سكنية وارسل له المبلغ المطلوب، بعد فترة وجيزة زفت اليه اسرته خبر عثورها على عروس تناسبه وزفت اليه ست الحسن والجمال التي حطت رحالها الى حيث يقيم تغمرها سعادة الفوز بقلب مغترب. مرت السنوات وكون (ع.م) اسرة تعيش منعمة برغد العيش .. وفي يوم وليلة تبدل الحال واخذت العاصفة طريقها نحو عمل الوالد عندما نشب خلاف بينه وبين كفيله الذي ابقاءه قسراً في العمل مقيداً بالتزامات تمنعه من الرجوع لوطنه، ظل (ع.م) هكذا الى ان جاء اليوم الذي عاد فيه لوطنه حيث لا شئ يعينه واسرته بعد ان وجد قطعة الارض التي اشتراها ان والده باعها عندما مر بضائقة مالية، لم يجد مأوى يحميه غير منزل والده الذي بدأ يشعر بالندم، حاول مساعدة ابنه ففتح له بقالة يسترزق منها بعد انخراط الابناء في المدارس هكذا بدأ (ع. م) حياته من الصفر.
عائدون من ليبيا ودول الخليج وغيرها بسنوات اغتراب متفاوتة وحصاد عمر لا يتناسب مع سنوات هجرتهم الطوعية، وثمة اتهامات عديدة يصف المغتربون الدولة بأنها محصل جبايات فقط لذا كان لا بد لنا من طرق ابواب اهل الشأن.
الدولار الطائر
في جهاز شؤون السودانيين العاملين بالخارج وهي الجهة المنوط بها شأن المغترب السوداني التقينا د. كرم الله علي عبد الرحمن نائب الأمين العام لجهاز المغتربين مشخصاً مشكلة المغترب السوداني حين وصفها بأنها مشكلة ثقافية مرتبطة بسلوكيات المغترب السوداني وهي تختلف عن سلوكيات اي مغترب في دولة أخرى وليس حقيقة ان تفضيل السوداني اكثر من غيره مرتبط بما يقال عن خصائص السوداني وميزاته. وان ذلك وراءه حقيقة اخرى هو ان المغترب السوداني شخص استهلاكي يساعد حتى في حركة السوق في الدولة المقيم بها وبالتالي لا يرهق الدولة بتحويل عملات اجنبية للخارج بعكس مغتربي دول أخرى لديهم نظرية «الدولار الطائر» وهي تعني ان اي دولار لا يطير الى بلادهم هو خسارة، وقال اذا نظرنا الى دولة مثل مصر ودور المغتربين في الاقتصاد المصري تجده يمثل ركيزة اساسية اهم من دخل قناة السويس مما جعل الحكومة المصرية اكثر اعترافاً بهذا الدور وتعتبر الدولار الذي يأتيها من المغترب بالدولار الصفري بمعنى انه يأتي مقابل «صفر» وان قيمته اكبر من عائد الصادرات، بينما تجد ان المغترب السوداني وراء ازمة الدولار الذي يختلف سعره في السوق من السعر الرسمي نتيجة لافتقار تحويلات المغتربين، مفارقة وضع المغترب السوداني نفسه فيها ففي مصر ارتبطت تحويلات المغتربين حسب الدولة فكان الترتيب هكذا السعودية - ليبيا وبالترتيب بقية الدول فليبيا التي تأتي في المرتبة الثانية في التحويلات لمصر تجدنا نقوم بترحيل السودانيين منها بعد ان عجزوا عن سداد تكاليف العودة.
شراكة مفخخة
الى وقت ظل جهاز المغتربين متهماً بأنه محصل جبايات ولكن د. عبد الرحمن ينفي تلك التهمة معللاً بقوله بأنه مهما يكن الرأي السلبي او الايجابي تجاه تلك المؤسسة فان المغترب السوداني لا يرى اي ضمان لاستثماراته افضل منها، والشاهد على ذلك هو تجربة المساهمة في شركات المهاجر، ان كل ما هو مطلوب شفافية اكثر وخدمة افضل لاجتذاب مدخراتهم.
وقال ان تجربة المغترب على المستوى الفردي لضمان العودة والمرتبطة بالسكن والاعاشة ذاقوا فيها الامرين، بل في فترة من الفترات تضرروا من الشراكة حتى مع الدولة مثل ما حدث في فترة ما قبل الانقاذ حين اشتركوا مع احدى الوزارات في مشروعين الاول كان لاستيراد بصات والثاني كان لحل ازمة الزيوت والبترول ولكن ضاعت اموال المغتربين في هذين المشروعين هباء، هذا بخلاف اموالهم التي ضاعت من قبل سماسرة الاراضي والمقاولين.
أهداف رمادية
لم تكن التوقعات في محلها حسبما رأى عبد الرحمن بأن عودة المغتربين سوف تزيد الازمة الاقتصادية ولكن ما حدث هو العكس ظل المغتربون متمسكين بالبقاء في دول الاغتراب حتى لو كان ذلك بدون عمل وان سبب ذلك هو مفهوم الاغتراب بانه غاية فالمعادلة هكذا:أطباء يهاجرون للعمل في تربية مواشي ومهندس يعمل سائقاً وقد يتفاجأ بأن تعديل المهنة غير متاح والعودة اصعب فيضطر للبقاء لسنوات ومن ثم العودة بدون رصيد بسبب الاهداف غير المحددة والرمادية.
من يضئ الطريق؟
من يضئ طريق المغتربين المعتم بظلمة اليأس والاحباط؟ د. عبدالرحمن يرى بأن جهاز المغتربين وحده ليس كافياً لانارة الطريق لان هنالك سياسات كثيرة يفترض فيها الترابط حتى يحدد خط سير المغتربين ، كما يجب مراعاة التعامل مع السودانيين الذين يحملون جنسيات اخرى بأن لا يعاملوا باعتبارهم اجانب فهذا قد يؤدي الى بقائهم في دولة المهجر كما يمكن ربط المغترب بفترة زمنية محددة خاصة للموظفين فهي مجدية لحد ما لأن افتقار هذا العامل ادى الى هجرة خيرة الناس واصبح لديهم تراكم خبرات والدولة لا تستفيد منها وهي في أمس الحاجة إليها وتعتبر اكبر خسارة «هجرة العقول».
ظاهرة اجتماعية
الدكتور اشرف محمد آدم استاذ علم الانثربيولجي وعلم الاجتماع السياسي بجامعة النيلين شرح لنا ظاهرة المغترب والاغتراب في السودان بقوله ان لا احد يستطيع ان يشكك في حب السودانيين لسودانيتهم والشواهد على ذلك كثيرة، ولكن هنالك متناقضات ظهرت في سلوك السودانيين في علاقتهم بالوطن والتزامهم تجاه الآخر خارج الوطن، بمعنى ان معظم الذين اختاروا الاغتراب كوسيلة لتحسين الاوضاع المعيشية كان خروجهم من السودان مبني على ضعف احساسهم وارتباطهم بالوطن فمنهم من يضع بعض المبررات بأن السودان بلد طارد ولا يحترم آدمية الانسان ومنهم من عللها بالاوضاع السياسية لذلك اختاروا الاقامة في دول الاغتراب مع مورابة صفحة السودان علماً بأن ظاهرة اغتراب السودانيين بلغت ذروتها في سبعينيات القرن الماضي ولم يكن لديهم الاستعداد بالمساهمة في الاقتصاد القومي عن طريق دفع الضرائب والتحويلات البنكية مع تصاعد المبالغ الضريبية التي تفرضها عليهم الدولة، وما هو أسوأ في حالة المغترب السوداني هو ان المغترب لا تكون لديه خطة لتوفير المال وتحديد زمن معين للعودة للسودان واستثمار هذه الاموال لذلك نجد ان اكثر الذين انجزوا هم من تمكنوا من شراء منزل أو قطعة ارض.
مظاهر بذخية
يقول أشرف بان المغترب السوداني خرج وليس في نيته العودة وان الاغتراب في حد ذاته يمثل لهم طريقة حياة، بمعنى انهم حاولوا ان يعيشوا حياتهم الجديدة بكل ما توفره الامكانيات المادية في تلك الدول حتى الذين تزوجوا اصطحبوا اسرهم لذلك فكرة توفير المال لم تكن من الافكار الرئيسية، الى جانب المظاهر البذخية التي تصاحب زيارة المغترب لاسرته في الاجازات للسودان اضافة الى مراسم زواج المغتربين الذين ظهروا في اغنيات البنات في حقبة زمنية معينة حتى افسدوا على الشباب الذين لم يغتربوا فرصة الزواج، وتناسي هؤلاء المغتربون ان وجودهم في دول الاغتراب مرتبط بعقودات لا بد ان تنتهي يوماً ما لذلك نجد ان معظم الذين قرروا العودة رجعوا بخفي حنين ويعانون من الامراض البدنية والنفسية نتيجة لضغط الغربة من ناحية وانهم عادوا كما ذهبوا من ناحية أخرى الى جانب عدم تأقلم زوجاتهم وابناؤهم مع ظروف السودان، لذلك اعتقد على الذين يحاولون الاغتراب ان يغيروا افكارهم وسلوكهم الاستهلاكي الى اسلوب توفير واليقين بالعودة مرة أخرى الى أرض الوطن.
أخيراً:
قبل ان اطوي صفحة المغترب السوداني اطل رئيس الجالية السودانية بمنطقة الدمام بالمملكة العربية السعودية عبر برنامج تلفزيوني وهو يحث جهاز المغتربين على توفير سكن شعبي وصندوق لدعم ابناء المغتربين الطلاب وحل معضلة قبولهم بالجامعات، وبعده تحدث بعض المغتربين عن سنوات اغترابهم ويناشدون الجهاز للنظر لبعض الاسر التي ترغب في العودة وهي لا تستطيع الى ذلك سبيلاً، هكذا كانوا يتحدثون عبر التلفاز.. فمن يستمع؟!
العودة الى نقطة الصفر
مغتربون بلا رصيد
أحس بشئ من الرهبة في نفسه وهو يهم بمغادرة مطار وطنه، طافت في خياله صور القرية وكيف كان يلهو تحت شجرة (النيم) مع أقرانه واللحظات التي يشدون فيها الرحال الى المدرسة وساعة التحاقه بالجامعة ويوم تخرجه واستلامه لورقة ملفوفة بسلفان أحمر بعناية فائقة .. شريط من الذكريات قطعه صوت المضيفة قبل ان تترك (محمد أحمد) لخياله ودموع الفراق تترقرق في عينيه، لحظتها احس بأن مشواره مع الغربة قد بدأ وان رحلته مع الحنين للأهل والوطن مجهولة النهاية.. ولكن بين احزانه ارتسمت ابتسامة على شفتيه حين تذكر بأنه اصبح (مغترباً) والانظار تتجه نحوه والآمال معلقة عليه في تغيير الحال الى وضع أفضل.
(الرأي العام) التقتهم بعد العودة وفي دفاتر المغترب والاغتراب والدولة كان هذا التحقيق!!
----
المصيدة الخضراء
موسى محمد حامد وقع تاريخ خروجه من السودان عام 1985م قرر العودة النهائية في العام 2004م طوعاً حين لوحت فكرة الاستقرار بخاطره فانهى عمله في مجال الترجمة بوزارة الدفاع السعودية بعد ان ذاق مع ابنائه رغد العيش وهم من كانوا يحثونه على الرجوع شوقاً لوطن شاهدوه عبر التلفاز عندما كانت الصورة أجمل، هكذا كان يحدثني موسى عن عودته وهو جالس داخل أحد مكاتب جهاز المغتربين كانت تعتصره المرارة في حديثه وكنت ابحث في مظهره عن شئ من نعيم الاغتراب ولكنه واصل حديثه ليجيب على اسئلتي التي لم القها عليه فقال ان العودة فاجئته بما لم يكن في الحسبان فالمناخ جاف في كل مناحي الحياة والصورة عكس ما شاهدناها عبر التلفاز.. قضى موسى (4) سنوات وهو يبحث عن وظيفة اضطر خلالها لبيع (4) قطع اراضي سكنية في ارقى المواقع وهي كانت حصاد عمره فكل يوم كان يمنى نفسه بوظيفة ولكن حصاد عمره ذاب كما يذوب الثلج على الماء فصار يقول ان قرار العودة لاي مغترب في ظل الظروف التي عاشها وغيره يعتبر قراراً فاشلاً ووصف الشاشة البلورية التي كانوا يسمونها بالخضراء وبالمصيدة لما تخفيه من حقائق وراء ما تعرضه من مشاريع وتنمية وغيرها من المغريات. على الرغم من مرارة الغربة والعودة التي عاشها المواطن موسى إلا ان ذلك لن يثنيه عن قول ان الوطن ليس له مقابل، ولكلٍ منا حق على الآخر وعلى الدولة ان تنتبه لاوضاع المغتربين العائدين وتعمل على استقرارهم.
تاه الطريق
(6) سنوات لا يزال المهندس الشاب - محمد اسحاق- يبحث عن وظيفة بعد عمر قضاه في الاغتراب وعاد بحصاد انفقه في البحث عن وظيفة تركته يحدثنا عن معانته ولكن دموعه سبقت حديثه، كانت نظراته مصوبة نحو الارض حتى لا يدرك احد ملامحه الحزينة لم يستطع ان يخفي نبرات صوته المتحشرجة وهو يتحدث عن رحلته عن خارج الوطن، فقال خرجت منذ العام 1991م للعمل في احدى الدول العربية في مجال تخصصي «هندسة الكهرباء» وبما انني سافرت بدون عقد عمل لم اجد وظيفة في التخصص الذي احمله حتى انقضى عام بدون عمل وبمعاونة الاخوة عملت في بعض الاشغال التي لا تتناسب مع المستوى الاكاديمي، وكنت اظنه سيكون حلاً مؤقتاً واخذت السنوات تمر دون ان اجد وظيفة في مجال تخصصي خفت من الرجوع «ايد ورا وايد قدام).
(31) عاماً من عمري مرت وانا تائه في الطريق أجزمت بعدها بالعودة النهائية للوطن لم اكن ادري بأن العقبات هي اول المرحبين بي حين توجهت بشهاداتي للبحث عن وظيفة بالتخصص الذي اصبح على الورق فوجدت نفسي ملاحقاً بضريبة الوطن غير النقدية (الخدمة الوطنية) دفعت الضريبة واليأس كان بعيداً عن قلبي وعدت الكرة مرة أخرى فعلمت انني خارج شبكة التوظيف لانني تجاوزت السن القانونية للفوز بوظيفة حكومية فأين لي بالخاص وانا لا اعرف له طريقاً.. الندم واليأس وكل عوامل التحطيم المعنوية اعيشها في صمت وانا ألعن اليوم الذي غادرت فيه السودان والذي عدت اليه .
عودة الى الصفر
رفض ان تنشر قصته باسمه او نأخذ له صورة مع اسرته في منزله فاستجبنا لرغبته انه (ع.م) الذي هاجر في نهاية سبعينيات القرن الماضي للعمل في احدى دول النفط العربية لم يزر خلالها السودان إلا في نهاية الثمانينيات وكانت زيارة خفيفة حيث عاد ادراجه مواصلاً العمل، خلال اقامته كان يرسل لاسرته بانتظام وطلب من والده ان يشتري له قطعة ارض سكنية وارسل له المبلغ المطلوب، بعد فترة وجيزة زفت اليه اسرته خبر عثورها على عروس تناسبه وزفت اليه ست الحسن والجمال التي حطت رحالها الى حيث يقيم تغمرها سعادة الفوز بقلب مغترب. مرت السنوات وكون (ع.م) اسرة تعيش منعمة برغد العيش .. وفي يوم وليلة تبدل الحال واخذت العاصفة طريقها نحو عمل الوالد عندما نشب خلاف بينه وبين كفيله الذي ابقاءه قسراً في العمل مقيداً بالتزامات تمنعه من الرجوع لوطنه، ظل (ع.م) هكذا الى ان جاء اليوم الذي عاد فيه لوطنه حيث لا شئ يعينه واسرته بعد ان وجد قطعة الارض التي اشتراها ان والده باعها عندما مر بضائقة مالية، لم يجد مأوى يحميه غير منزل والده الذي بدأ يشعر بالندم، حاول مساعدة ابنه ففتح له بقالة يسترزق منها بعد انخراط الابناء في المدارس هكذا بدأ (ع. م) حياته من الصفر.
عائدون من ليبيا ودول الخليج وغيرها بسنوات اغتراب متفاوتة وحصاد عمر لا يتناسب مع سنوات هجرتهم الطوعية، وثمة اتهامات عديدة يصف المغتربون الدولة بأنها محصل جبايات فقط لذا كان لا بد لنا من طرق ابواب اهل الشأن.
الدولار الطائر
في جهاز شؤون السودانيين العاملين بالخارج وهي الجهة المنوط بها شأن المغترب السوداني التقينا د. كرم الله علي عبد الرحمن نائب الأمين العام لجهاز المغتربين مشخصاً مشكلة المغترب السوداني حين وصفها بأنها مشكلة ثقافية مرتبطة بسلوكيات المغترب السوداني وهي تختلف عن سلوكيات اي مغترب في دولة أخرى وليس حقيقة ان تفضيل السوداني اكثر من غيره مرتبط بما يقال عن خصائص السوداني وميزاته. وان ذلك وراءه حقيقة اخرى هو ان المغترب السوداني شخص استهلاكي يساعد حتى في حركة السوق في الدولة المقيم بها وبالتالي لا يرهق الدولة بتحويل عملات اجنبية للخارج بعكس مغتربي دول أخرى لديهم نظرية «الدولار الطائر» وهي تعني ان اي دولار لا يطير الى بلادهم هو خسارة، وقال اذا نظرنا الى دولة مثل مصر ودور المغتربين في الاقتصاد المصري تجده يمثل ركيزة اساسية اهم من دخل قناة السويس مما جعل الحكومة المصرية اكثر اعترافاً بهذا الدور وتعتبر الدولار الذي يأتيها من المغترب بالدولار الصفري بمعنى انه يأتي مقابل «صفر» وان قيمته اكبر من عائد الصادرات، بينما تجد ان المغترب السوداني وراء ازمة الدولار الذي يختلف سعره في السوق من السعر الرسمي نتيجة لافتقار تحويلات المغتربين، مفارقة وضع المغترب السوداني نفسه فيها ففي مصر ارتبطت تحويلات المغتربين حسب الدولة فكان الترتيب هكذا السعودية - ليبيا وبالترتيب بقية الدول فليبيا التي تأتي في المرتبة الثانية في التحويلات لمصر تجدنا نقوم بترحيل السودانيين منها بعد ان عجزوا عن سداد تكاليف العودة.
شراكة مفخخة
الى وقت ظل جهاز المغتربين متهماً بأنه محصل جبايات ولكن د. عبد الرحمن ينفي تلك التهمة معللاً بقوله بأنه مهما يكن الرأي السلبي او الايجابي تجاه تلك المؤسسة فان المغترب السوداني لا يرى اي ضمان لاستثماراته افضل منها، والشاهد على ذلك هو تجربة المساهمة في شركات المهاجر، ان كل ما هو مطلوب شفافية اكثر وخدمة افضل لاجتذاب مدخراتهم.
وقال ان تجربة المغترب على المستوى الفردي لضمان العودة والمرتبطة بالسكن والاعاشة ذاقوا فيها الامرين، بل في فترة من الفترات تضرروا من الشراكة حتى مع الدولة مثل ما حدث في فترة ما قبل الانقاذ حين اشتركوا مع احدى الوزارات في مشروعين الاول كان لاستيراد بصات والثاني كان لحل ازمة الزيوت والبترول ولكن ضاعت اموال المغتربين في هذين المشروعين هباء، هذا بخلاف اموالهم التي ضاعت من قبل سماسرة الاراضي والمقاولين.
أهداف رمادية
لم تكن التوقعات في محلها حسبما رأى عبد الرحمن بأن عودة المغتربين سوف تزيد الازمة الاقتصادية ولكن ما حدث هو العكس ظل المغتربون متمسكين بالبقاء في دول الاغتراب حتى لو كان ذلك بدون عمل وان سبب ذلك هو مفهوم الاغتراب بانه غاية فالمعادلة هكذا:أطباء يهاجرون للعمل في تربية مواشي ومهندس يعمل سائقاً وقد يتفاجأ بأن تعديل المهنة غير متاح والعودة اصعب فيضطر للبقاء لسنوات ومن ثم العودة بدون رصيد بسبب الاهداف غير المحددة والرمادية.
من يضئ الطريق؟
من يضئ طريق المغتربين المعتم بظلمة اليأس والاحباط؟ د. عبدالرحمن يرى بأن جهاز المغتربين وحده ليس كافياً لانارة الطريق لان هنالك سياسات كثيرة يفترض فيها الترابط حتى يحدد خط سير المغتربين ، كما يجب مراعاة التعامل مع السودانيين الذين يحملون جنسيات اخرى بأن لا يعاملوا باعتبارهم اجانب فهذا قد يؤدي الى بقائهم في دولة المهجر كما يمكن ربط المغترب بفترة زمنية محددة خاصة للموظفين فهي مجدية لحد ما لأن افتقار هذا العامل ادى الى هجرة خيرة الناس واصبح لديهم تراكم خبرات والدولة لا تستفيد منها وهي في أمس الحاجة إليها وتعتبر اكبر خسارة «هجرة العقول».
ظاهرة اجتماعية
الدكتور اشرف محمد آدم استاذ علم الانثربيولجي وعلم الاجتماع السياسي بجامعة النيلين شرح لنا ظاهرة المغترب والاغتراب في السودان بقوله ان لا احد يستطيع ان يشكك في حب السودانيين لسودانيتهم والشواهد على ذلك كثيرة، ولكن هنالك متناقضات ظهرت في سلوك السودانيين في علاقتهم بالوطن والتزامهم تجاه الآخر خارج الوطن، بمعنى ان معظم الذين اختاروا الاغتراب كوسيلة لتحسين الاوضاع المعيشية كان خروجهم من السودان مبني على ضعف احساسهم وارتباطهم بالوطن فمنهم من يضع بعض المبررات بأن السودان بلد طارد ولا يحترم آدمية الانسان ومنهم من عللها بالاوضاع السياسية لذلك اختاروا الاقامة في دول الاغتراب مع مورابة صفحة السودان علماً بأن ظاهرة اغتراب السودانيين بلغت ذروتها في سبعينيات القرن الماضي ولم يكن لديهم الاستعداد بالمساهمة في الاقتصاد القومي عن طريق دفع الضرائب والتحويلات البنكية مع تصاعد المبالغ الضريبية التي تفرضها عليهم الدولة، وما هو أسوأ في حالة المغترب السوداني هو ان المغترب لا تكون لديه خطة لتوفير المال وتحديد زمن معين للعودة للسودان واستثمار هذه الاموال لذلك نجد ان اكثر الذين انجزوا هم من تمكنوا من شراء منزل أو قطعة ارض.
مظاهر بذخية
يقول أشرف بان المغترب السوداني خرج وليس في نيته العودة وان الاغتراب في حد ذاته يمثل لهم طريقة حياة، بمعنى انهم حاولوا ان يعيشوا حياتهم الجديدة بكل ما توفره الامكانيات المادية في تلك الدول حتى الذين تزوجوا اصطحبوا اسرهم لذلك فكرة توفير المال لم تكن من الافكار الرئيسية، الى جانب المظاهر البذخية التي تصاحب زيارة المغترب لاسرته في الاجازات للسودان اضافة الى مراسم زواج المغتربين الذين ظهروا في اغنيات البنات في حقبة زمنية معينة حتى افسدوا على الشباب الذين لم يغتربوا فرصة الزواج، وتناسي هؤلاء المغتربون ان وجودهم في دول الاغتراب مرتبط بعقودات لا بد ان تنتهي يوماً ما لذلك نجد ان معظم الذين قرروا العودة رجعوا بخفي حنين ويعانون من الامراض البدنية والنفسية نتيجة لضغط الغربة من ناحية وانهم عادوا كما ذهبوا من ناحية أخرى الى جانب عدم تأقلم زوجاتهم وابناؤهم مع ظروف السودان، لذلك اعتقد على الذين يحاولون الاغتراب ان يغيروا افكارهم وسلوكهم الاستهلاكي الى اسلوب توفير واليقين بالعودة مرة أخرى الى أرض الوطن.
أخيراً:
قبل ان اطوي صفحة المغترب السوداني اطل رئيس الجالية السودانية بمنطقة الدمام بالمملكة العربية السعودية عبر برنامج تلفزيوني وهو يحث جهاز المغتربين على توفير سكن شعبي وصندوق لدعم ابناء المغتربين الطلاب وحل معضلة قبولهم بالجامعات، وبعده تحدث بعض المغتربين عن سنوات اغترابهم ويناشدون الجهاز للنظر لبعض الاسر التي ترغب في العودة وهي لا تستطيع الى ذلك سبيلاً، هكذا كانوا يتحدثون عبر التلفاز.. فمن يستمع؟!