osamafadl
01-01-2010, 03:42 PM
حالنا في الغربة
نحن في هذه البلاد كرجلٍ فقير ضعيف البصر, يسير في طريقٍ وعرٍ في ليلةٍ ظلماء. بينما كان يتحسس خطاه في حذر وقعت دراهمه في كومة من الأوساخ. إنكب يبحث عنها بين القاذورات فأصابه ما أصابه, وبعد جهدٍ وعناء حصل على قليل من تلك الدراهم التي لا تكفي لثمن صابونة تطهر جسده من تلك القاذورات. أمّا ما تبقى من دراهم ـ وهي ثمن قوته وقوت أهله ـ ظل عالقاً بين الأشواك والأوساخ والطين, فاضطر أن يحمل كومة الطين كي ينقيها ليحصل على دراهمه الباقية. ظل يمشي طول الليل وهو يحمل ذلك العبء الثقيل متحملاً طعنات الشوك الذي علق بالطين فأدمى يديه ورائحة القاذورات التي أزكمت أنفه وبلل الطين الذي لطخ ثيابه, حتى أشرقت الشمس فجلس يلتقط أنفاسه ثم بدأ في دقةٍ يفتت الطين كي يستخرج منه الدراهم. فضل لوقت طويل يفتت كومة الطين التي لم يكن في داخلها سوى درهمان. ثم جمع ما فتته وأعاد عملية البحث مرةٍ ومرتين وثلاث, دون جدوى.
إذن هذا هو حالنا كحال المستجير من الرمضاء بالنار عندما تركنا أوطاننا لغيرنا, وبدلاً من أن نقاتلهم ونخرجهم من حيث أخرجونا عملنا بمبدأ ( ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها). ها نحن مشتتون هنا وفي كل بقاع الأرض نحاول أن ننقي دراهمنا من الطين والأوساخ, فقد وقعت قيمنا ومبادئنا في مشوار غربتنا في تلك الكومة من أوساخ اللا دين وقاذورات حرية اللواط والربا ووحل وطين التحلل الإجتماعي باسم التحرر وأدمت أشواك العنصرية أجسادنا وأرواحنا. كان الأجدر بنا أن نصبر ونصابر ولا ندع بلادنا لمن لا يخاف الله ولا يرحمنا, لكننا آثرنا الهروب وتركنا الجهلة والمتاجرين بالدين يعيثون فساداً حتى أوصلوا البلاد إلى الحضيض بعد أن سرقوا ثرواتها وخربوا نظام التعليم وأفقروا المؤسسات التربوية. شردوا خيرة الكفاءات الوطنية. أساءوا لدول الجوار وغير الجوار, استعدوا الكل مخبئين وراء شعارات فضفاضة عفي عليها الدهر.
درهمان فقط ما سنحصل عليه في آخر المطاف. إن أحسنا النية وتوكلنا على المولى عز وجل ثم عملنا واضعين نصب أعيننا أن نحسن العمل لأنّ الله سيرى عملنا ورسوله, كانت في الدرهمين بركة. فإذا أنفقنا درهماً فيما رزقنا الله دون النظر إلى من فضّل الله علينا في الرزق أغنانا الله مما في هذه البلاد من الطيبات من الإستقرار والحرية وانطبق علينا قوله تعالى ( الذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف) أمّا الدرهم الثاني فهو أولادنا. إن حافظنا عليهم وأحسنا تربيتهم كانوا لنا عوناً وربما سبباً في النجاة من النار بدعوة ولدٍ صالح تكون لأحدنا إذا انقطع عمله بعد الممات عملاً في ميزان حسناته.
العيش في وسط ثقافي متميز تختلف ثقافة المحيط عنه اختلافاً شاسعاً يكون أحياناً كلعبة المشي على الحبل التي يؤديها في السيرك لاعب ماهر, يظل يتمايل يميناً ويساراً حتى يصل إلى نهاية الحبل. هكذا يعيش المهاجرون من بلاد المشرق, المتمسكون بعاداتهم وقيمهم فينجح بعضهم في الوصول إلى بر الأمان وتحقيق الأهداف المنشودة من هجرتهم, بينما يترنح البعض يميناً ويساراً, حتى إذا سقط عن الحبل تكسرت عظامه وضاعت قيمه وتلاشت عاداته وثقافته لأنّه لا توجد تحت الحبل شبكة أمان تتلقاه كما في السيرك.
كلما مرّ يوم علينا في الغربة ازدادت صعوبة الرجوع إلى الوراء والعودة لأوطاننا وازدادت حاجتنا للبقاء هنا, إن لم يكن من أجلنا فمن أجل فلذات أكبادنا, وإن بقيت قلوبنا معلقة بذكرياتٍ وماضٍ قضيناه هناك بين الأحبة. نكبر ويكبر معنا الشوق والحنين لأماكن لم تعد كما كانت عندما غادرناها. حتى أولئك الطيبين الذين تركناهم وراءنا غيرت الظروف القاسية ملامحهم كما تغير الرياح والعواصف الرملية ملمس الصخور الجبلية, وكما تترك عوامل التعرية بصماتها على السهول والوديان ترك الزمان وجوره على ملامح أهلنا شروخاً وندبات يصعب أن تبرأ وتطيب.
سيظل هؤلاء الطيبون ينتظرون عودتنا ويدعون الله أن يرد غربتنا وهم يحلمون بجمعة الأحباب ليغمروننا بحنانهم. أمّا نحن سنظل مترددين بين البقاء هنا لتحقيق مكاسب أوهمنا أنفسنا بأنها لن تتحقق في أوطاننا وبين العودة لتأدية ما علينا من واجب ومسئولية وإن كانت النتيجة التضحية والتنازل عن أمورٍ دنيوية من أجل تحقيق أهداف سامية, ثم نكتشف بعد فوات الأوان أنّ التضحية والتنازلات التي نقدمها هنا أكبر بكثير من تلك التي كان يجب أن نقدمها في أوطاننا. كم هو مؤلم أن نعرف أنّ مرور السنوات في هذه البلاد الباردة أدّى إلى برودة مشاعرنا وقسوة قلوبنا وشيئاّ فشيئا بدّل طباعنا حتى أصبحنا نستنكر بعض الأمور التي كنا بالأمس القريب جزءاً منها ونقبل أموراً كنّا نستنكرها.
للحديث بقية
اسامة يوسف عبيد فضل
نحن في هذه البلاد كرجلٍ فقير ضعيف البصر, يسير في طريقٍ وعرٍ في ليلةٍ ظلماء. بينما كان يتحسس خطاه في حذر وقعت دراهمه في كومة من الأوساخ. إنكب يبحث عنها بين القاذورات فأصابه ما أصابه, وبعد جهدٍ وعناء حصل على قليل من تلك الدراهم التي لا تكفي لثمن صابونة تطهر جسده من تلك القاذورات. أمّا ما تبقى من دراهم ـ وهي ثمن قوته وقوت أهله ـ ظل عالقاً بين الأشواك والأوساخ والطين, فاضطر أن يحمل كومة الطين كي ينقيها ليحصل على دراهمه الباقية. ظل يمشي طول الليل وهو يحمل ذلك العبء الثقيل متحملاً طعنات الشوك الذي علق بالطين فأدمى يديه ورائحة القاذورات التي أزكمت أنفه وبلل الطين الذي لطخ ثيابه, حتى أشرقت الشمس فجلس يلتقط أنفاسه ثم بدأ في دقةٍ يفتت الطين كي يستخرج منه الدراهم. فضل لوقت طويل يفتت كومة الطين التي لم يكن في داخلها سوى درهمان. ثم جمع ما فتته وأعاد عملية البحث مرةٍ ومرتين وثلاث, دون جدوى.
إذن هذا هو حالنا كحال المستجير من الرمضاء بالنار عندما تركنا أوطاننا لغيرنا, وبدلاً من أن نقاتلهم ونخرجهم من حيث أخرجونا عملنا بمبدأ ( ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها). ها نحن مشتتون هنا وفي كل بقاع الأرض نحاول أن ننقي دراهمنا من الطين والأوساخ, فقد وقعت قيمنا ومبادئنا في مشوار غربتنا في تلك الكومة من أوساخ اللا دين وقاذورات حرية اللواط والربا ووحل وطين التحلل الإجتماعي باسم التحرر وأدمت أشواك العنصرية أجسادنا وأرواحنا. كان الأجدر بنا أن نصبر ونصابر ولا ندع بلادنا لمن لا يخاف الله ولا يرحمنا, لكننا آثرنا الهروب وتركنا الجهلة والمتاجرين بالدين يعيثون فساداً حتى أوصلوا البلاد إلى الحضيض بعد أن سرقوا ثرواتها وخربوا نظام التعليم وأفقروا المؤسسات التربوية. شردوا خيرة الكفاءات الوطنية. أساءوا لدول الجوار وغير الجوار, استعدوا الكل مخبئين وراء شعارات فضفاضة عفي عليها الدهر.
درهمان فقط ما سنحصل عليه في آخر المطاف. إن أحسنا النية وتوكلنا على المولى عز وجل ثم عملنا واضعين نصب أعيننا أن نحسن العمل لأنّ الله سيرى عملنا ورسوله, كانت في الدرهمين بركة. فإذا أنفقنا درهماً فيما رزقنا الله دون النظر إلى من فضّل الله علينا في الرزق أغنانا الله مما في هذه البلاد من الطيبات من الإستقرار والحرية وانطبق علينا قوله تعالى ( الذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف) أمّا الدرهم الثاني فهو أولادنا. إن حافظنا عليهم وأحسنا تربيتهم كانوا لنا عوناً وربما سبباً في النجاة من النار بدعوة ولدٍ صالح تكون لأحدنا إذا انقطع عمله بعد الممات عملاً في ميزان حسناته.
العيش في وسط ثقافي متميز تختلف ثقافة المحيط عنه اختلافاً شاسعاً يكون أحياناً كلعبة المشي على الحبل التي يؤديها في السيرك لاعب ماهر, يظل يتمايل يميناً ويساراً حتى يصل إلى نهاية الحبل. هكذا يعيش المهاجرون من بلاد المشرق, المتمسكون بعاداتهم وقيمهم فينجح بعضهم في الوصول إلى بر الأمان وتحقيق الأهداف المنشودة من هجرتهم, بينما يترنح البعض يميناً ويساراً, حتى إذا سقط عن الحبل تكسرت عظامه وضاعت قيمه وتلاشت عاداته وثقافته لأنّه لا توجد تحت الحبل شبكة أمان تتلقاه كما في السيرك.
كلما مرّ يوم علينا في الغربة ازدادت صعوبة الرجوع إلى الوراء والعودة لأوطاننا وازدادت حاجتنا للبقاء هنا, إن لم يكن من أجلنا فمن أجل فلذات أكبادنا, وإن بقيت قلوبنا معلقة بذكرياتٍ وماضٍ قضيناه هناك بين الأحبة. نكبر ويكبر معنا الشوق والحنين لأماكن لم تعد كما كانت عندما غادرناها. حتى أولئك الطيبين الذين تركناهم وراءنا غيرت الظروف القاسية ملامحهم كما تغير الرياح والعواصف الرملية ملمس الصخور الجبلية, وكما تترك عوامل التعرية بصماتها على السهول والوديان ترك الزمان وجوره على ملامح أهلنا شروخاً وندبات يصعب أن تبرأ وتطيب.
سيظل هؤلاء الطيبون ينتظرون عودتنا ويدعون الله أن يرد غربتنا وهم يحلمون بجمعة الأحباب ليغمروننا بحنانهم. أمّا نحن سنظل مترددين بين البقاء هنا لتحقيق مكاسب أوهمنا أنفسنا بأنها لن تتحقق في أوطاننا وبين العودة لتأدية ما علينا من واجب ومسئولية وإن كانت النتيجة التضحية والتنازل عن أمورٍ دنيوية من أجل تحقيق أهداف سامية, ثم نكتشف بعد فوات الأوان أنّ التضحية والتنازلات التي نقدمها هنا أكبر بكثير من تلك التي كان يجب أن نقدمها في أوطاننا. كم هو مؤلم أن نعرف أنّ مرور السنوات في هذه البلاد الباردة أدّى إلى برودة مشاعرنا وقسوة قلوبنا وشيئاّ فشيئا بدّل طباعنا حتى أصبحنا نستنكر بعض الأمور التي كنا بالأمس القريب جزءاً منها ونقبل أموراً كنّا نستنكرها.
للحديث بقية
اسامة يوسف عبيد فضل