المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شيخ الأزهر والتطبيع.. محاولةٌ للفهم وليس التبرير



عمران حسن
14-07-2009, 03:14 AM
لا يُعتقد أن شيخ الأزهر في سقطاته التطبيعية المتكررة كان ينفذ سياسة مفروضة من قِبَل الدولة؛ حيث يتعامل النظام في مصر مع التطبيع بسياسة "الباب الموارب"، فليس هناك قرار بالمنع أو بالتصريح، وباستثناء وزارة الخارجية المحكومة بالقواعد الدبلوماسية والبروتوكولية، يُترك الأمر ـ في حدود معينة ـ لميول واتجاهات كل مسئول، فمثلًا وزارة الزراعة التي شكَّلت "البوابة الذهبية" لأنصار التطبيع في عهد "يوسف والي" لم تعُد كذلك في عهد سلفه الليثي أو الوزير الحالي أمين أباظة، وفي ذات السياق لا مجال للقول بأن الشيخ طنطاوي يتحرك ـ في طريقه هذا ـ مدفوعًا بعلاقات مع دوائر أمريكية وصهيونية تسعى لاختراق الأزهر، قلعةِ الإسلام السني، وإسقاطه في "وحل التطبيع"، فالرجل، بخلفياته وسماته الشخصية، أبعد ما يكون عن تلك المزالق الوعرة.

إذن فما الذي يدفع شيخ الأزهر للإصرار على المضيِّ قدمًا في مسلسل التطبيع؟، فمن استقبال الحاخام الأكبر والسفير الإسرائيلي في القاهرة في مكتبه بالمشيخة، إلى مصافحته الشهيرة مع الرئيس الإسرائيلي، سفَّاح قانا، شيمون بيريز في مؤتمر حوار الأديان والحضارات بنيويورك نوفمبر الماضي، وأخيرًا جلوسه مع بيريز على مائدة واحدة خلال مؤتمر حوار الأديان في كازاخستان مطلع يوليو الجاري.. كل هذه الخطوات وغيرها أثارت انتقادات عنيفة بوجه الشيخ، الذي ـ بدوره ـ ردَّ بقسوة وعصبية على منتقديه، متهمًا إياهم بـ "الجبن" و"الجنون" و"الجهل".

محاولة للفهم

الإجابة على هذا السؤال، يمكن تقسيمها إلى شقين؛ الأول يتعلق بموقف بعض مؤسسات الدولة، التي تتعامل مع ملف التطبيع باعتباره أحد أوراق القوة التي تمتلكها مصر في علاقتها مع إسرائيل، حيث تعتقد هذه المؤسسات أن ربط إسرائيل بشبكة من العلاقات الاقتصادية والثقافية والسياسية سوف يجعلها بحاجة دائمة للقاهرة، مما يحِدُّ من مواقفها المتشددة، كما أنه يمكن للنظام المصري استخدام التلويح بقطع تلك الشبكة أو جزء منها لِلَجْمِ أي سلوك إسرائيلي غير مقبول. ويرى هؤلاء في اتفاقية تصدير الغاز خير مثال على ذلك، فكون شبكة الكهرباء الإسرائيلية تعتمد بشكل شبه كامل على الغاز المستورد من مصر، وفقًا لاتفاق طويل الأمد، سوف يجعل إسرائيل تراجع نفسها كثيرًا قبل الإقدام على أي خطوة تؤثر على علاقتها بمصر؛ خوفًا من تعرض هذه الإمدادات للخطر.

وفي هذا السياق، فإن هذه الجهات ربما ترى في الخطوات التطبيعية لشيخ الأزهر أحد الأوراق التي يمكن اللعب بها، فإسرائيل بحاجة إلى المكانة الرمزية الرفيعة لمنصب شيخ الأزهر لدى كافة المسلمين، خاصة أهل السنة، كي تمرِّرَ مشاريعَهَا التطبيعية، فموقف أي عالم دين مسلم معارض للتطبيع سوف يَضْعُفُ كثيرًا بفعل صور شيخ الأزهر المتكررة مع بيريز وغيره من الحاخامات الإسرائيليين، كما أن مسئولي أي دولة عربية أو إسلامية يمكنهم الاتكاء على مواقف شيخ الأزهر لتبرير خطواتهم التطبيعية. وبالطبع فإنه كان بمقدور الشيخ رفض ذلك المنطق، لكن يبدو أن الرجل، حين عُرض عليه الأمر، تعامل معه باعتباره خطًّا سياسيًّا للدولة يجب الالتزام به، خاصة أنه ـ ورغم المكانة السامية للمنصب الذي يشغله وتأثيره العابر للحدود ـ يعتبر نفسه موظفًا حكوميًّا.

الوعي الغائب

أما الشق الثاني من إجابة السؤال، فيتعلق بشخصية الشيخ طنطاوي ذاته، فالرجل يُعد نموذجًا لعالم الدين التقليدي، الغارق في المحلية، حيث نشأ في إحدى قرى محافظة سوهاج، بصعيد مصر، الذي يصفه الكثيرون بـ"منفى المغضوب عليهم من موظفي الحكومة"، وواصل تعليمه حتى عُيِّنَ مدرسًا بكلية أصول الدين في أسيوط، أيضًا بصعيد مصر، ثم عميدًا للكلية، ومنها مفتيًا للبلاد عام 1986، ثم شيخًا للأزهر عام 1996، وخلال هذه الفترة لم يعرف للشيخ أي نشاط سياسي أو ثقافي أو فكري، خارج نطاق تخصصه الأكاديمي، حيث يُعد من علماء التفسير المعتبرين، ويعتبر كتابه "التفسير الوسيط للقرآن" من المراجع القيمة، كما حظيت رسالته للدكتوراه: "بنو إسرائيل في القرآن والسنة"، بإشادة وتقدير واسعَيْن.

ومع أن تولِّي مناصب مثل الإفتاء أو شيخ الأزهر يتطلب قدرًا من الوعي السياسي والتكوين الفكري والثقافي، بجانب التمكُّن من ناصية العلم الشرعي، إلا أن الشيخ طنطاوي لم يبذل أي جهد يُذكر في هذا الشأن، وكان منطِقُهُ في ذلك أنه عالم دين وليس رجل سياسة، وهو منطق لا يصمد أمام أي مناقشة جادة، فافتقاد عالم الدين، خاصة من يتصدى للفتوى، للوعي السياسي يجعله عرضة للتوظيف السياسي من جانب رجال السياسة والحكم، وهو ما حدث مرارًا في السنوات الأخيرة، ولا يجوز تبريره بحسن النوايا أو بعدم إجادة لعبة السياسة. ومن المفارقة هنا أن افتقاد الشيخ للإلمام بتعقيدات الواقع السياسي، جعل مواقفه وفتاويه المتماسة مع عالم السياسة والحكم تخرج ـ أحيانًا ـ بصورة فجَّة، مما قلل من تأثيرها المنتظر، وأساء للشيخ والدولة ولمكانة مشيخة الأزهر دفعة واحدة.

نموذج معاكس

ويُعد الدكتور علي جمعة، مفتي مصر، هو النقيض تمامًا لشيخ الأزهر فيما يتعلق بالوعي السياسي، وهو ما مكَّنه مرارًا من تجنُّب "فخاخ" الفتاوى المسيسة التي نصبتها له الدولة أو المعارضة على حد سواء، فعندما سُئل الرجل عن حكم تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل، قام ـ أولًا ـ بعرض وجهتي النظر، المؤيدة بدعوى وجود اتفاقيات مع إسرائيل والمعارضة لكونها دولة معتدية دون ترجيح لإحداهما، ثم طالب بالاطلاع على نص الاتفاقية التي تنظم عملية التصدير قبل إصدار الحكم الشرعي.

وعندما أراد وزير الصحة استدراجه لفتوى تمنع العمرة بسبب أنفلونزا الخنازير، أعاد المفتي الكرة لملعب الوزير، مؤكدًا أن الفقيه يبني حكمه في مثل هذه القضايا اعتمادًا على رأي الخبراء المتخصصين، وهم هنا الأطباء الثقات، فإذا ما قطع هؤلاء بوقوع الضرر، لا يملك المفتي إلا النزول على رأيهم. وبغض النظر عن تأييد ما انتهى إليه المفتي في فتواه من عدمه، فإنه لا يمكن إنكار ما عكسته بنْية الفتوى وصياغتها المحكمة من وعي سياسي وإدراك فكري لتعقيدات الواقع وتشعباته، وهو ما مكنه من تجنيب دار الإفتاء لمزالق التوظيف السياسي، التي كثيرًا ما تورط فيها الشيخ طنطاوي، ولو بحسن نية.

عناد وعصبية

وفاقم من تأثير الأمر العصبيةُ المفرطة التي تتصف بها شخصية شيخ الأزهر، مما جعل مواقفه من منتقديه قاسية للغاية؛ حيث لم يوفر الشيخ في ردوده اتهامات من قبل "الجنون" و"الجبن" و"الجهل"، وكان التشنج وتوزيع الاتهامات يمينًا ويسارًا هو السمت الغالب على تصريحاته، وحتى مع منتقديه من علماء الأزهر، كان في غاية العنف؛ حيث لاحق البعض قضائيًّا، وعندما حصل على أحكام بسجنهم رفض التنازل عنها، وهو ما حدث مع الدكتور يحيى إسماعيل، وكيل جبهة علماء الأزهر، كما أحال الشيخ بعض منتقديه من علماء الأزهر إلى لجان تحقيق وتأديب انتهت بفصلهم من عملهم.

وإذا كانت البساطة والتواضع من صفات شيخ الأزهر، التي يؤكدها المقربون منه، فإن "العناد" هو ما وجده المختلفون معه، فكلما تصاعدت أصواتهم المعارِضة كلما مضى في طريقه قُدمًا، ونادرًا ما يلجأ الشيخ طنطاوي إلى فتح حوار مع مخالفيه، وهو ما يدفعهم لتصعيد نبرة الانتقادات، وقد سارت الأمور فيما يتعلق بالتطبيع على هذا المنوال؛ فالشيخ ـ على ما يبدو ـ يردُّ على انتقادات المعارضين بشكل عملي من خلال المزيد من الخطوات التطبيعية، والتي تأتي خارجة عن أي سياق أو مبرِّر، على غرار ما حدث في مؤتمر كازاخستان، حيث لا مبرر أو منطق في المشاركة، ولا يمكن القول إن كازاخستان استخدمت نفوذها لدى الدولة للضغط على شيخ الأزهر لحضور المؤتمر!!.

مكاسبُ إسرائيلية

الخطير في الأمر أن توريط الأزهر في التطبيع مع إسرائيل عبر بوابة حوار الأديان والحضارات، وسواء كان ذلك بفعل سياسات ضيقة لبعض مؤسسات الدولة أو مدفوعًا بـ"عناد" الشيخ طنطاوي ورغبته في "إغاظة" خصومه، يخصم بالأساس من صورة الأزهر ومكانته داخليًّا وعالميًّا، بينما تُعد إسرائيل هي الرابح الوحيد من ذلك، فهي ترسخ صورتها المزعومة كدولة يهودية، مع أنها كيان استيطاني قام على نهب أراضي الآخرين، كما أنها بذلك تنتزع اعترافًا غير مباشر بكونها ممثلًا لليهود في العالم، فضلًا عن أن فكرة الحوار الثلاثي تتضمن دلالات خطيرة تشير إلى أن المنطقة تنقسم على أساس ديني إلى ثلاث كتل، مسلمة ومسيحية ويهودية، وهو مدخل تفكيكي يضرب فكرة الدولة العربية في الصميم.

وإذا سلمنا جدلًا بأن الشيخ يشارك في تلك المؤتمرات كي لا يترك الساحة ممهدة أمام الإسرائيليين، فهل شيخ الأزهر هو المؤهَّل لخوض مناظرة سياسية مع عجوز سياسي بوزن شيمون بيريز؟، وهل من مهام الشيخ القيام بمثل هذا الدور؟، فشيمون بيريز وبعدما فشل في الترويج للتطبيع من مدخل الاقتصاد، يريد هذه المرة ممارسة هوايته المفضلة لكن من مدخل ديني، رغم كونه علمانيًّا. ومن اللافت أن حاخام إسرائيل الأكبر قام خلال كلمته أمام مؤتمر كازاخستان برفع صورة للجندي الإسرائيلي الأسير في غزة جلعاد شاليط، مطالبًا بصفته رجل دين بحق زيارته، كما وصف حركة حماس بـ"المتطرفة التي تختطف الدين"، وهو ما قوبل بصمت مطبق من قبل شيخ الأزهر وغيره من العلماء المسلمين.