المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عثمان البشري في حوار قديم متجدد (منقول)



انة المجروح
06-06-2009, 11:00 PM
]مهمة الشاعر أن يكون عاطلاً عن أى شئ سوى الجمال. http//hope112007.maktoobblog.com
هذه هي مهمته الأساسية

قبل فترة سقط الشاعر عثمان بشرى من الطابق العاشر بإحدى بنايات القاهرة وعندما سألناه عن ذلك قال: (كُنت مُرهقاً، أردت أن أسقط في السرير، فسقطت في الهاوية)، حدثنا عثمان بلسان تلك الهاوية، عن أعماله وحياته التي يحياها ضد كل أشكال المؤسسة وقص الأجنحة، كما يقول، متجولاً في الكبت والحرية ثملاً بطريقته في الوجود، طريقة الكائن الخلوي، يائساً يتحدث بطاقة يأسه: (كلما أيأس، كلما أتفتَّح وأجبُّ نفسي)، وهو يشهد طباعة كتابيه الجديدين الجزء الثاني من (الكائن الخلوي)، ومجموعة أشعاره الدارجة (توما)، من مطابع القاهرة، يقول: (بين وجهي وقلبي فصامٌ رقيق، يستلذُّ أساساً بعبث الكون) فكيف سنعبر هذا الفصام؟
حوار: أحمد النشادر، مأمون التلب لـ Sudanese INK
في كتابك الذي يمثل الجزء الثاني من (الكائن الخلوي) والذي نحن بصدده الآن، لاحظنا إرتفاع نبرة ساخطة رافضة حيث تقول في أحد النصوص (أبول على كل شئ)، هذه النبرة لم تكن بهذا الوضوح في الجزء الأول من الكتاب الذي إمتصت فيه الموسيقى مثل هذه النبرات، هل واقع ذاتك وما حولك يزداد وضوحاً في الإنحلال أم ماذا؟
حسب حالة العبث الكوني الذي صار أكثر شراسة، وضراوة في كل دروب الحياة، مضافاً إليه أشكال القبح السياسي، والقبح الإجتماعي ، والسقوف التي أملتها وقائع تطور تكنولوجي، وتطور الجريمة نفسها في حيثيات وجودنا البسيط، فمن البديهي بالنسبة لي كواحد ممن يعيشون هذا الواقع ويحسونه، أن يترجم هذا الواقع وجوده داخل النص، وبحكم إحتكاكي الخشن بواقع الحياة فأنا من أكثر الناس معايشة لهذا الواقع، والحضور الغنائي للنص في الكائن الخلوي الثاني موجود وما أختلف هو شكل تناول المفردة نفسها، بحكم شراسة الواقع، وبإختصار في جملة أخيرة كما يقول علماء النفس (من غير الطبيعي أن تكون طبيعياً في زمن غير طبيعي)، فالسخط والرفض في النص مماثل لحركة الحياة اليومية.
نريد أن نعود لفترة القاهرة التي كنت فيها ناشطاً سياسياً، والآن إن جاز التعبير يعود عثمان لقواعده الشعرية المحضة، نريد أن نسألك على ضوء هذه الأصعدة التي تقلَّبتَ فيها،والخبرة بالحياة والكتابة، ما هي مهمة الشاعر؟
هذا سؤال لطيف، مهمة الشاعر بحكم شوفي الشخصي المحض، أن يكون عاطلاً عن أى شئ سوى الجمال. هذه هي مهمته الأساسية.
كيف كانت معايشتك لهذا الكتاب الجديد، نريد أن نتقاسم معك جزء من هذه المعايشة ما أرتبط بها في ذهنك والفترة التي كتبت فيها النصوص، وموقع هذا الكتابة من تجربتك الشعربية ككل؟
هذه النصوص كُتَبت في فترات متباعدة، فـ(المزالق) مثلاً كُتبت بين ثلاثة مدن أسمرا وأديس وموقابي، وكان واقع الحياة السياسية في السودان ينبئ بإنهيار كامل للإنسان بحكم شوفي كخارج عن الدائرة، لأن هذا الموقع أعطاني أفضلية رؤية دائرة الواقع السياسي كاملة وبصورة أفضل، حيث كُنت أمارس نوعاً من الهواية السياسية في تلك الفترة ولم أكن سياسياً مُحترفاً، عملت من خلال الإعلام في إذاعة التحالف وإذاعة أسمرا نفسها، وفي صحيفة الخرطوم التي كانت تصدر من الخارج، كنت أرى بشكل جيد الواقع السوداني الذي كان فائراً بشجارٍ غير موفَّق على الصعيد الإنساني، شجار أطرافه التجمع الوطني الديمقراطي والمعارضة الداخلية والحكومة، وشكل الرهان الذي كان نضالنا من أجله متمثلاً في وجود الحركة الشعبية داخل أضابير السياسة السودانية، وماهو التحول الممكن من مشاركة الحركة الشعبية في القرار السياسي، ومن ثم كنتُ أكثر صدقاً مع كتابتي بحكم التماس المباشر مع الواقع السياسي والإجتماعي، في ذلك الوقت.

بهذا المعنى، هل تعتقد أن ماكتبته في الكائن الخلوي رهين لحظته أم تظل له إمكانية الفكاك؟
سينفك منها بالتأكيد، فهو ليس رهيناً للحظة، بإعتبار أن النص أصلاً قابلٌ لكل أزمنته القادمة ولأنه يرى أكثر، فالنص شايفٌ إلى أبعاد عميقة، وكما يقول في كتابه( عالياً عالياً، مثل شهيق الحسرة) محمد عبد القادر سبيل أن آماد الشعر الشوفية أعمق وأبعد، وأنه ينكتب الآن لكنه يستطيع أن يقرأ لمليون سنة قادمة، وبالتأكيد كل الشعر الحقيقي هكذا؛ صالحٌ لكل الأزمنة.
في الفترة التي بدأت فيها الكتابة كانت مسيرة الشعر في السودان بادئة في الإنفتاح أكثر على ماهو معرفي، أما الآن فمسيرة الشعر مُخترقة أكثر من أي وقتٍ مضى بالشك، الشك في تعريف الشعر والإنسان نفسه، ومخترقة بأشكال معرفية اخرى كالفلسفة والنقد والتشكيل والمسرح والموسيقى، فأين تقف تجربتك من كل هذا؟
يقول كانط بأن الإحساس قبل الشعور باعتبار أن الإحساس بدهي والشعورمادي، بمعنى آخر أن الإحساس موجود في الإنسان بصورة غير ملموسة أما الشعور فهو مادي، ممكن اللمس، النص وأنا اكتبه في فترات سحيقة منذ الثمانينات وبحكم التراكم الخبروي إضافة للقراءات المضطردة. دخلت حقل الفلسفة من باب الهواة فكان تأثيرها علىَّ واضحاً جداً منذ (بارنويا الصعود إلى باطن الأرض، للدم رائحة بلون العصافير، هجرة الروح، شجراً نسير إلى ذاتنا، يذهبون هكذا) نصوص كانت بحجم أن تقرأ فيما هو غيبي ووجودي وما ورائي، وتبحث في سؤال ماوراء الإنسان وماوراء الفهم وما وراء الطبيعة، وكانت تحفر بشكل أركيولجي عملي في السؤال الغامض جداً (من الله؟) و( لماذا أنت، لماذا أنا، لماذا الذات، لماذا الروح لماذا الإحساس بالأشياء الثقيلة تلك التي تسمى الإنسان (كائن)، لماذا (كائن)؟، ونصوصي كانت تحفر في هذه الأسئلة وهنالك مقطع من بارنويا الصعود يرد إلى ذاكرتي على وجه التحديد:
(وأنا أحققني
لأفضح من رماني بالحقيقة أول الأشياء،
علمني بأن دمي فلاة الريح،
والأجساد ورطتها نزوع الفعل،
ثم أقهرني لأدرك بالطريقة ذاتها
أني نهار الرؤية العليا،
وليل الإنفلات الصمت،
رماد إيها الوطن المُصفَّدُ بالبعيد وبالعبيد،
وقابل لعذابك الأهلي ثالوث المغامرة العنيفة،
رجلٌ وإمرأة ودين)
ثالوث عنيف، لذلك كان لابد للنص أن يهبش هذه الثلاثة تابوهات، ومن هنا أرى أن النص كان قادراً على التواجد في مثل هذه الأشياء بالتحديد.
رغم الغنائية التي تنتظم كتابتك، يسميك البعض (يائساً بامتياز) على الأقل من الدخول في السيستم الصارم للمؤسسات،والحياة المهندمة، وتوصف بأنك تعيش حياة بوهيمية تضمن لك التجول في الشوارع الصديقة والعدوة والتجول في الناس والأصدقاء والحرية والكبت على حدٍ سواء، ما أريد أن أعرفه أين يقع هذا من كتابتك؟
شوف، إذا كان النص الدارجي أو الفصيح وأنا لا أميز بينهما من ناحية كتابتي لهما، فالنص الفصيح يؤدي دوره بغنائيته وكل جماليته، كذلك الدارج( الذي أجد نفسي فيه بشكل خاص) بحكم إمتلاكي لقاموس ضخم جداً من الدارجة السودانية بشقيها الهامشي والمركزي (إذا جاز التعبير)، ما يعني أنني عبرت بعيداً في بقاع السودان كما يقول أحد الأصدقاء (العابر الهائل بنعالٍ من ريح)، وطأت قدماى أرض كل فلاة في السودان شماله وجنوبه شرقه وغربه، وبالتالي كونت قاموسية أعطتني قدرة التمطي في النص الدارج تمطي في الشوف والكتابة، لكن بحكم هذا العبور الهائل وأنا في صبا باكر جداً، حاولت المؤسسة تحجيمي وقص أجنحتي فقلت لهم (sorry، أنا شاعر) فليس لي أكثر من أكون شاعر، أنا قصيدة مُتحركة ينبغي أن تكون في كل الأماكن، فالمؤسسة حاولت لكنها فشلت، كذلك الأسرة حاولت وفشلت. وقد كتبت لوالدي رحمه الله نصاً صغيراً وضعته على مكتبه في وريقة صغيرة ( أنا خلقت طائراً، وينبغي أن أعيش طائراً، لاتحدني أمكنة ولا أزمنة) وذهبت عاماً كاملاً خارج إطار الأسرة والمؤسسة وعندما عدتُ قال لي : (إفعل ما بدا لك، ولكن أعلم أنه سيأتي يوم تكون فيه مقصوص الأجنحة) واليوم أنا كذلك مقصوص الأجنحة لكن مع ذلك أفرفر، وقادر على ذلك.

هل تتعامل مع اليأس كطاقة كما يقول بذلك جان جينيه؟
اليأس عندي طاقة دائمة، لا تنضب على الإطلاق، كُلُّما أيأس كُلُّما أتفتَّح، وأزدهر وأجبُّ نفسي، كُلُّما يحدث نوع من القنوع واليأس والإحباط وأنا أسميه (الإنحباط)، الذي هو درجة أعلى من الإحباط، الإنحباط يشبه الإنفعال الذي هو عكس الإفتعال، فأنا أنحبط ولا أيأس، والإنحباط فعل دائم التوليد للحركة والمعارف، فهي طاقة دائمة سقطت من الطابق العاشر من إحدى عمارت القاهرة هنالك مئات الروايات عن ذلك السقوط فيعضهم يقول أنك حاولت الإنتحار والبعض الآخر يقول أنك كُنت تقُرأ مقالة سيئة فسقطت عن طريق الخطأ حيث كنت تريد أن تقذف تلك المقالة، فما الذي حدث؟
هنالك رواية سأقولها لك لم يحدثني بها أحد وهي نتاج معايشتي الشخصية لما حدث، كنت أصحح المسودة الأخيرة لكتاب الكائن الخلوي الجزء الأول، ولابد من تسليمه الساعة الثامنة صباحاً، وأنا أصلاً أعاني من مشكلة في مسألة النوم فمركز النوم داخلي نُسفَ منذ فترة بعيدة، جراء التكالب والتقتيل والتقليم، فاصبحت لا أنوم إلا بمساعدة الكيمياء، والكيمياء طبعاً لها غفلتها وتغفيلها، فغفيت أثناء تصحيح الكتاب فسقط مني، وحاولت أن أسقط على السرير فسقطت في الهاوية.
إذن ما الذي تبقَّى من تلك السقطة؟
تبقَّى فصل كامل من رواية إسمها (حلم أعلى شمال الجسد، جسدٌ في جنوب الخيال) فصل كامل إسمه السقوط عشت فيه ميثولوجيا غريبة جداً، عشتها تماماً بكل تفاصيلها هي سحر واقعي، في تلك السقطة حيث تم إنفصال للروح لوقت مؤقت، تم موت شبه إكلينيكي وأنا ساقط على الأرض، عبرت الماوراء وذهبت إلى ذلك البرزخ، فرأيت ذلك العالم وقابلت الموتى وقابلوني بترحيب، في آخر المطاف كان هنالك كائن ضخم جداً خاطبني قائلاً: وصلتَ، فرددتُ: لا، وصرخت ومع تلك الصرخة إستيقظت. وهذا جزء من فصل السقوط في رواية غنائية ذات لغة ثالثة، لغة منتخبة، وذات شعر، فيها حنين وخوف ومأسور، وفيها مثال حي لواقع الإنسان المقهور، فيها فلسفته، وفيها الشظايا داخل وجدان الشعب السوداني جراء الكبت الذي مورس عليه طيلة سنوات الإنقاذ، وفيها مشروع ضخم جداً إسمه مشروع الشباب المتهالك، اليائسين المحبطين والمنحبطين، يغنون لايدرون متى يمكن أن تصل هذه الأغنية إلى نهايتها، غنوا حلمهم الأبدي في أن يعيشوا حياتهم بحرية كاملة وديمقراطية وفهم إنسان متكامل، حبيبة، وطن، بيت، عمل، مأوى. وفيها حديث عن الإنسان اللامنتمى داخل وطنه، وكما يقول غونتر غراس في الطبل الصفيح: (قيل لي منذ البدء أن يؤكد الإنسان أن زمن الأبطال قد ولَّى، قد إنمحت الشخصية الإنسانية، ولقد صار الأنسان وحيداً، وفقد أيضاً حقه في التمتُّع بحريته، لقد صار جموعاً تعاني من الوحدة بلا أسمٍ وبلا بطولة). فالرواية تعاملت مع هذا الوضع أيضاً، فالرواية متكاملة، وقد عشت تفاصيلها، فيها شخوص وكائنات لاتزال تعيش بيننا وتعاني من الهجر والسلوى والحنين، تعاني من مرض إسمه (الإنحباط من كل شئ) حتى الأسرة، حتى الحبيبة، حتى ما هو وطن، هذا هو ما تبقى من السقوط.
هل مات الشعر؟
لم يمت الشعر، طالما أننا موجودون، طالما هنالك متلقي جيد، متلقي صاحب أذن مهذَّبة، طالما نه لايزال هنالك حياء وحياة، طالما لا تزال في الإنسان خصوبة. وهنالك شعراء حقيقيون قادمون رأيتهم، الآن في السودان، لكن ليس هنالك فُرَص ولا منابر حقيقية، حتى المنابر الموجودة تمارس التهشيم والتهميش مقصود لذاته، ليؤسس منبرية صالونية شللية ثقافية، يريد أن يؤسس لهذا المفهوم، وهذا الآن موجود والأمثلاة كتيرة ولا أريد أن أذكر أسماءاً، أو أخوض فيها.

لنعود بك إلى الجزء الثاني من الكائن الخلوي، مالذي تطرحه هذه التجربة الكتابية الجديدة على تجربتك القديمة من أسئلة أو إجابات؟
سؤال جميل، في الجزء الأول من الكائن الخلوي، سألت عن ماورائيات حياة الإنسان، أما الآن فنص الكائن الخلوي الجديد يشتغل على فلسفة الوجود اليومي للحياة، فلسفة المعاش والهموم، الحبيبة والوطن، الأخلاق، المُجتمع، السياسة، الإقتصاد، النصوص صارت أكثر حدِّة ونصاعة، خاليةً من اليقين، وليس فيها تهويم كما في الكائن الخلوي الأول، تهويم بمعنى أن سبر أغوار غيبية، أما الكائن الخلوي الثاني يقدم واقعه المادي الملموس فمثلاً هذا المقطع: ( لقد تمترسنا في الأنوية بالطول والعرض، حتى نفكك طلسم ما بدا من حضور، على كل جوعٍ، غذاء الذي باعنا للمتاهات درَّبنا أن نلفَّ على بعضنا وندور، فمعذرةً ياهوى لم يُحالفنا الحُب، كي نقرأ اللوحة من زاوية الآخر الضد لا الآخر الـ(معَ)) فالنص ناصع وشايف الواقع بتفاصيله وآلياته كُلها، بمادياته، برهاناته السياسية والثقافية والإجتماعية بسقوفه الإجتماعية بمؤسساته بشظايا التجربة كلها. التجربة الحياتية منذ 18 عام.
لاحظنا أنك تتحدث عن (الكائن الخلوي الجزء الأول) ككاتب مُهَوِّم، هل تقلل من قيمته في مواجهة الجزء الثاني منه، والذي وصفته بالنصاعة الواقعية، أم أنك تنظر إليه كنوع من العتبة، بحيث يحاول المرء سبر نفسه أولاً لتنصع رؤيته للواقع؟
ليس هنالك تغليب، ولكنني أراه بالضبط سُلَّماً للوصول إلى الآن، سُلَّم حقيقي لكنه لولبي، والتعرجات التي فيه سببها قراءة الواقع من موقع فلسفي ووجودي وسياسي، ولولبيته أتاحت للجزء الثاني منه أن يكون واضحاً، واضح وأكيد، لكنه لم يزل يبحث في الكائن الخلوي القديم عن الكائن الخلوي الحديث، والكائن الخلوي القديم يبحث في إسقاطاته الإيجابية على الكائن الخلوي الحديث، بمعنى آخر الكائن الخلوي القديم كان عبارة عن مادة خام والكائن الخلوي الجديد فكَّك هذه المادة الخام، وأحالها إلى كُتل واضحة بعد أن كانت كُتلاً غامضة، كتل غامضة وجوديا وغامضة بالمعنى الصِرف للكلمة.
هل يمكن أن نُسمي المادة التي حللت الكائن الخلوي الأول (المادة الخام)، هل يمكن أن نسميه التجربة، أو الحياة؟
بالضبط، هي تجربة مع سبق الإصرار في محاولته تفكيك نفسه، الكائنة في تفاصيل الحياة اليومية، دعني أستعير مفردة بُشرى الفاضل وأقول طفابيع الحياة اليومية.
تجربتك طويلة مع الشعر المُغنَّى، نريد أن نسألك عن علاقة الغناء بالشعر من العمق الذي تقف فيه اظلان بالنسبة لكليهما؟
عبرت بشكل هائل أقاليم السودان وأقانيمه كما ذكرت سابقاً، بالتالي شفتُ (الغُنا الجد) في أقاليم السودان وتخومه البعيدة جداً، قابلت مثلاً شخصاً في أحد أقاليم الجزيرة، مزارع يكتب غناءاً غريباً جداً إذا حضر إلى الخرطوم سيهزها، ويرزُّ في ساحتها، وآخرين في البطانة وكردفان وفي الشرق صادفت غناءاً كوِّن وجداني، فوجدت نفسي داخل قاموس كثيف بفلكلور عالي جداً مما أعطى النص عندي مساحة غناء عالية ليس غناء فقط، إنما غناءاً وترانيم تصل أحياناً إلى حد الآيات الشعرية(إذا جاز التعبير) فالغناء موجود في النص الدارجي أكثر من الفصيح.
كيف عشت تجربة أشعارك المغناة؟
ما حدث لي مع فرقة ساورا قلب الموازين ففي السابق عادة كان الفنان هو من يظهر الشاعر، لكن بحكم ظهوري قبل ساورا بمجموعتي(توما)، وعندما غنتها ساورا أظهرت ساورا للجمهور، وأصبحت شهرة ساورا مربوطة بتوما أكثر من أي شئ آخر، ومنحتني مساحة التعامل مع آخرين، وتحديداً كل ماهو ديمقراطي في مشهد الغناء السوداني فقد تغنى لي عاطف أنيس، عامر الجوهري، عُمرخليل، عُمر محجوب، الموصلي، الهادي الجبل، سيف الجامعة، وكثيرين. حالياً سيصدر إلبوم لعاطف أنيس يبه سبع أغاني من نصوصي، وهي نصوص كتبته في الفترة بين 89و91وتغنى بها عاطف أنيس في مُنتدى الديم. وهي نصوص بها درجة عالية من الغنائية. كما تغنى لي أبو ذر عبد الباقي.

خلال الحوار ذكرت إنعتاقك من المؤسسات بمافيها مؤسسة الأسرة وفي نفس الوقت أنت صاحب ولع عنيف بأمك إمتد إلى نصوصك الشعرية، فكيف تعمل هذه الطريقة الغريبة في الحنين (إن جاز التعبير)؟
هذا صحيح، ويرجع السبب لظهور مايسمونه النبوغ الشعري في الصبا الباكر، وعلى إثره كنا أنا وعشة بُشرى (أُمي) نؤسس لمنتدى شعري في البيت، نجمع له أولاد الأخوال والخالات حول الزلابية باللبن كل خميس ونقرأ عليهم أنا وعائشة أشعارنا، وذلك ما منحني إحساس أخوة وصداقة أكثر من إحساسي بأمومتها، فهي حبيبتي ولم تكن أكثر من حبيبتي، ولم أكن أدعوها إلا (خالتي عشة) والخالة عندنا في السودان أحنَّ من الأم، فالأم لاتظهر لك محبتها حتى لاتغتر، أما الخالة فتظهر كل حنانها، وبالتالي كان حنيني تجاهها حنين إبن لخالته أو لحبيبته ، حتى في الشعر عندما أكُتب النص تكون حاضرة وموجودة أثناء الكتابة أراها أثناء الكنابة وهي تقول لي (لا، الحتة دي ما كدا، المفردة دي دا ما محلها خُتها هنا) فوجودها في النص كان وجوداً طبيعياً، بإعتبار أنني جينياً أحمل جرثومة شعرها. وقد كتبت لي وأنا في الثانوية:
(الليل كِبر حولي وهدا
أوقدت جمر الشوق بنار قلبي الصِدا
وكتبت ليك جوَّابي دا
أقرا السطر تاني وكمان
أقرا الجواب، كُل الجواب، بالشكل دا
قُبَّال تلات ليلات مضت
أسمعلك الباب اتفتح
أتخيلك داخل علي
شن الحصل معقول هو دا
أتخيلك صديت مشيت ياساجي في درب العتامير الخلا
دارك مشيت خليتا من مارُحت ما قالت هلا
الله اليحفظك، اليغتيك، اليَخُم حاسدك بَلاَ).

يسري الياس
07-06-2009, 11:33 PM
انة المجروح
تهويني تلك الحوارات الفلسفية
خاصة حينما تكون مع رجل عميق يحمل نكهة مختلفة

شكرا عزيزي